مائة مبحث ومبحث في ظلال دعاء أبي حمزة الثمالي

الشيخ جبّار جاسم مكّاوي

مائة مبحث ومبحث في ظلال دعاء أبي حمزة الثمالي

المؤلف:

الشيخ جبّار جاسم مكّاوي


المحقق: عبدالحليم عوض الحلّي
الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: بنياد پژوهشهاى اسلامى آستان قدس رضوى
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-971-683-1
الصفحات: ٤٥٧

وعن الإمام الصادق عليه السلام قوله : كسبُ الحرام يَيبنُ في الذرّية (١).

وقال الإمام الكاظم عليه السلام : فيما قاله الله سبحانه لعبده داود : يا داود ، إنّ الحرام لا ينمى ، وإن نمي لم يُبارَك له فيه ، وما أنفقه لم يُؤجَر عليه ، وما خلّفه كان زادَه إلى النار (٢).

وورد في حديث شريف عن أمير المؤمنين عليه السلام عن بعض الأعمال التي تورث الفقر ، نذكر قسماً منها لطول الحديث : تركُ نسيج العنكبوت في البيت يورث الفقر ، والبول في الحمّام يورث الفقر ، والأكل على الجنابة يورث الفقر ، والتخلّل بالطرفاء «أي تنظيف ما بين الأسنان بعود من شجرة الطرفاء» ، والتمشّط من قيام يورث الفقر ، وترك القمامة في البيت يورث الفقر ، واليمين الفاجرة تورث الفقر ، والزنا يورث الفقر ، وإظهار الحرص يورث الفقر ، والنوم ما بين العشاءين يورث الفقر ، والنوم قبل طلوع الشمس يورث الفقر ، وترك التقدير في المعيشة يورث الفقر ، وقطيعة الرحم يورث الفقر ، واعتياد الكذب يورث الفقر ، وكثرة الاستماع إلى الغناء يورث الفقر.

ثمّ قال عليه السلام : ألا أنبّئكم بما يزيد الرزق؟ .. الجمع بين الصلاتين يزيد في الرزق ، والتعقيب بعد الغداة وبعد العصر يزيد في الرزق ، وصلة الرحم تزيد في الرزق ، وكَشح الفِنا يزيد في الرزق ، ومواساة الأخ في الله يزيد في الرزق ، والبكور في طلب الرزق يزيد في الرزق ، والاستغفار يزيد في الرزق ، واستعمال الأمانة يزيد في الرزق ، وقول الحقّ يزيد في الرزق ، وإجابة المؤذّن يزيد في الرزق ، وترك الكلام في الخلاء يزيد في الرزق ، وترك الحرص يزيد في الرزق ، وشكر المنعم يزيد في الرزق ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ نفسه ٥ : ١٢٥ / ح ٤.

٢ ـ نفسه ٥ : ١٢٥ / ح ٧.

١٨١

واجتناب اليمين الكاذبة يزيد في الرزق ، والوضوء قبل الطعام يزيد في الرزق ، وأكل ما يسقط من الخوان يزيد في الرزق (١) ، كلّ هذه تزيد في الرزق.

يُرجى من القارئ العزيز مراجعة كتابنا الموسوم «في ظلال دعاء كميل : صفحة ١٣٤ فما بعدها» للاستزادة ممّا ذكرناه.

ونرجو كذلك مراجعة «تفسير الميزان» للمرحوم السيّد الطباطبائيّ قدس سره ـ المجلّد الخامس ، للاطلاع على حديث طويل فيه يخبر النبيّ صلى الله عليه وآله سلمان المحمّديّ رضي الله عنه عن أشراط الساعة (٢) ، ففيه النفع الكبير إن شاء الله تعالى ، ونسأله الدعاء.

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين المعصومين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الخصال : ٥٠٤ / ح ٢.

٢ ـ تفسير الميزان ٥ : ٣٩٤ ـ ٤٠١.

١٨٢

المبحث الخامس والعشرون : في شرائط قبول الأعمال

قال عليه السلام : وَقَدْ قَصَدْتُ اِلَيْكَ بِطَلِبَتي ، وَتَوَجَّهْتُ اِلَيْكَ بِحاجَتي ، وَجَعَلْتُ بِكَ اسْتِغاثَتي ، وَبِدُعائِكَ تَوَسُّلي مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقاق لاِسْتِماعِكَ مِنّي ، وَلَا اسْتيجاب لِعَفْوِكَ عَنّي.

يتوجّه الداعي عليه السلام إلى ربّه بلسان حال الحاجة التي هي منزل من منازل الرحمة الإلهيّة ، أنّه توجّه مُحتاج إلى غنيّ بيده جميع الأمور ، وكلّ مفاتيح الكنوز ، وأنّه مصدر كلّ خير وكرامة ، وإحسان وإفضال ، وأنّه سبحانه مُغْني كلّ فقر ، ومُعزُّ كلّ ذليل ، ومفرّج كلّ سقم برحمته ، ومؤمن كلّ خائف.

أنظر إليه عليه السلام فيما يناجي ربّه في مناجاة المفتقرين في الصحيفة السجّاديّة : فيا مُنتهى أمل الآمِلين ، ويا غايةَ سُؤْلِ السائلين ، ويا أقصى طَلِبةِ الطالبين ، ويا أعلى رغبةِ الراغبين ، ويا وليَّ الصالحين ، ويا أمانَ الخائفين ، ويا مُجيبَ دعوةِ المضطرّين ، ويا ذُخرَ المُعدَمين ، ويا كنزَ البائسين ، ويا غياثَ المستغيثين ، ويا قاضيَ حوائجِ الفقراءِ والمساكين ، ويا أكرمَ الأكرمين ، ويا أرحم الراحمين.

لك تَخَضُّعي وسُؤالي ، وإليك تَضَرُّعي وابتهالي ، أَسألُك أن تُنيلَني من رَوح رضوانك ، وتُديمَ علَيَّ نِعمَ امتنانِك ، وها أنا ببابِ كرمِك واقف ، ولِنفحاتِ بِرِّك

١٨٣

متعرِّض ، وبِحَبلِك الشديد مُعتَصِم ، وبِعُروتِك الوثقى مُتمَسّك. إلهي ارحمْ عبدَك الذليل ، ذا اللسانِ الكليل ، والعملِ القليل ، وامنُنْ عليه بطَوْلِك الجَزيل ، واكْنُفْه تحتَ ظِلِّك الظَّليل ، يا كريمُ ، يا جميل ، يا أرحمَ الراحمين (١).

ثمّ يتوجّه عليه السلام إلى ربّه بالتوسّل الذي هو أحد مفاتيح أبواب الرحمة الإلهيّة ، وأحد الشفعاء إلى ساحة الربوبيّة ، فهو يتوسّل إلى الله ربّه ، ويتوسّل بكلّ ما يُقرِّب إليه تبارك وتعالى من : نبيّ ، أو وليّ ، أو عملٍ صالح ، لقد أناخ عليه السلام ركابه في ساحة الرجاء ، وحطّ رحله بِفِناء دار الكريم الجواد.

ويقول عليه السلام في مناجاة المتوسّلين : يا مَن لا يَفِدُ الوافدونَ على أكرمَ مِنه ، ولا يَجِدُ القاصدون أرحمَ منه ، يا خيرَ مَن خلا به وحيد ، ويا أعطفَ من آوى إليه طريد ، إلى سَعِة عَفوك مَدَدتُ يدي ، وبِذَيلِ كرمِك أعلقتُ كفّي ، فلا تُولِني الحرمان ، ولا تُبْلِني بالخيبةِ والخُسران ، يا سميعَ الدعاء ، يا أرحمَ الراحمين (٢).

الإنسان كائن مركّب من جسد يعود إلى عالم الشهادة ، وروح تنتهي إلى عالم الغيب ، والجسد له أمراضه وطبّه ، كذلك الروح لها أمراضها وأدواؤها ، والإنسان كيان قائم بين قوّتين تتجاذبانه : جند الرحمان الذي قوامه العقل والفطرة والملائكة الموكّلين به ، وجند الشيطان المتمثّلين بالشهوات والأهواء والشياطين.

وقد شرّع الله سبحانه للإنسان الأحكام والقوانين التي ترسم له سبيل سعادتَيه الدنيويّة والأُخرويّة ، وآتاه موهبة الاختيار ليشقَّ الطريق القويم بحرّية ، ويسلك السبيل بإرادة (لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ) (٣) ، وتكونَ لله الحجّة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الصحيفة السجّادية : ٤١٦ / الدعاء ١٩٢.

٢ ـ نفسه : ٤١٤ / الدعاء ١٩١.

٣ ـ الأنفال : ٤٢.

١٨٤

البالغة.

إنّ الأعمال العباديّة التي أمر الشارع المقدّس بتأديتها هي مراقٍ للكمال ودرجاتٌ للقرب من ساحة الربوبيّة الفيّاضة بالخير والكرم والمواهب ، وهي موائد مبذولة لكلّ من شاء أن ينال منها رزقاً ، كلّ بحسب استعداداته ، وبهذا يسير الإنسان في خطّ تكامليّ ، يبتدئ من عالم واطئ إلى عالم أرقى من الطهارة والإشراق والنوارنيّة.

وقد جعل الله تعالى الإخلاص في العمل أهمّ شرائط قبول الأعمال ، والمراد من الإخلاص في العقائد هو التمسّك بعقيدة التوحيد التي يهتف بها كلّ جزء من أجزاء الكون بلسان الحال قبل لسان المقال مؤذّناً أن : لا إلهَ إلّا الله.

أمّا الإخلاص في الأعمال فالمراد به الإتيان بالعمل الخالص الذي لا يُراد به غير وجه الله تعالى ، وللإخلاص معطياته الدنيويّة والأُخرويّة ، وله آثار وضعيّة لا يعقلها إلّا العالِمون العارفون بالله تعالى ، فقد ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله قوله : ما أخلص عبد لله عزّ وجلّ أربعين صباحاً ، إلّا جَرَت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه (١) ، وجاء عن الإمام عليّ عليه السلام قوله : بالإخلاص يكون الخلاص (٢).

وسلوك هذا الطريق من أظهر مصاديق الجهاد الأكبر الذي ميدانه النفس. أمّا موانع قبول الأعمال فأصلها حبّ الدنيا الذي ورد في الحديث أنّه رأس كلّ خطيئة (٣) ، فقد يكون : الرياء ، والعجب ، والحسد ، والحقد ، وسوء الخلق من موانع قبول الأعمال ، نعوذ بالله من جميع ذلك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ عيون أخبار الرضا عليه السلام ٢ : ٦٩ / ح ٣٢١.

٢ ـ الكافي ٢ : ٤٦٨ / ح ٢.

٣ ـ نفسه ٢ : ٣١٥ / ح ١.

١٨٥

أمّا حبّ الدنيا فهو على قسمين :

١. حبّ الدنيا المحمول على نحو الموضوعيّة ، وهذا معناه الانشداد إلى زخارفها وغواياتها وشهواتها وهو معنى سلبيّ مذموم.

٢. حبّ الدنيا المحمول على نحو الطريقيّة ، وهو معنى إيجابيّ يُراد به استغلال الإنسان للفترة الزمنيّة التي وهبها الله له لتحقيق مرضاة الله ، بسلوك طريق العبادة ، وفعل الخيرات والمبرّات ، وتعظيم شعائر الله ، وبذل الغالي والنفيس لوجهه الكريم ، فهنا تكون الدنيا مزرعةً للآخرة ، وجسراً إلى الجنّة ، وتكون مَتْجَر الأولياء ، وكنز العرفاء ، وميدان النصر على الهوى والشيطان لبلوغ ولاية الله.

قال أمير المؤمنين عليه السلام في قول الله عزّ وجلّ : (وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) : لا تَنسً صحّتَك وقوّتك وفراغك وشبابك ونشاطك أن تطلبَ بها الآخرة (١).

وهؤلاء السالكون قد أفاض الله عليهم مواهبه ، فعصمهم من الشيطان وسلطانه ، وخيله ورَجِله وأتباعه ، قال تبارك وتعالى : (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ هَـٰذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) (٢).

وإذا وصل الإنسان إلى هذه المرتبة فإنّ اليسير من عبادته خير من الكثير من عبادة غيره ، فالقبول أكثر التصاقاً بالنوع دون الكمّ ، وهناك فارق بين الإجزاء والقبول ، فقد يؤدّي الإنسان صلاته أو صومه ويكون أداؤه مجزئاً ومُبْرئاً للذمّة ، ولكن لا يترتّب عليه ثواب ، أمّا القبول فالمراد منه ترتّب الثواب على العمل على نحو

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ معاني الأخبار : ٣٢٥ ، والآية في سورة القصص : ٧٧.

٢ ـ الحجر : ٣٩ ـ ٤٢.

١٨٦

الجزاء ، قال الله سبحانه وتعالى : (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّـهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (١).

وقال الإمام الصادق عليه السلام : مرّ بي أبي «أي الباقر عليه السلام» وأنا بالطواف ، وأنا حَدَثٌ ، وقد اجهتدتُ في العبادة ، فرآني وأنا أتصابُّ عرقاً ، فقال : يا جعفرُ يا بُنيّ ، إنّ الله إذا أحبّ عبداً أدخله الجنّة ، ورضيَ منه باليسير (٢).

وقبول الأعمال وترتّب الثواب عليها يتناسب طردياً مع الإقبال الروحيّ ، وحضور القلب حين العمل ، فإنّ العبد ليرفع له من صلاته نصفها ، أو ثلثها ، أو ربعها ، أو خمسها ، فما يرفع له إلّا ما أقبل منها بقلبه.

وروي عنه عليه السلام أيضاً أنّه قال : إنّي لَأُحبّ للرجل المؤمن منكم إذا قام في صلاته أن يُقْبل بقلبه إلى الله تعالى ، ولا يشغله بأمر الدنيا ، فليس من مؤمنٍ يُقبل بقلبه في صلاته إلى الله إلّا أقبل الله إليه بوجهه ، وأقبل بقلوب المؤمنين إليه بالمحبّة بعد حبّ الله إيّاه (٣).

وقال عليه السلام : من صلّى ركعتين يعلم ما يقول فيهما ، انصرف وليس بينه وبين الله ذنب إلّا غفره له (٤).

ومن علامات قبول الأعمال العباديّة أنّها تُقاس بمقدار آثارها على باطن الإنسان وسريرته ، وتصرّفاته وسلوكه وأخلاقه ، فقد سأل أحدهم الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام قائلاً : يا ابن رسول الله ، كيف أعلم أنّ صلاتي قد قُبِلت؟ فقال عليه السلام : إذا كانت تَنهاك عن الفحشاء والمنكر.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ المائدة : ٢٧.

٢ ـ الكافي ٢ : ٨٦ / ح ٤.

٣ ـ الأمالي للمفيد : ١٥٠ / ح ٧.

٤ ـ ثواب الأعمال : ٤٤.

١٨٧

وورد عن الإمام الصادق عليه السلام قوله : مَن أحبّ أن يعلم ما له عند الله ، فَلْيعلم ما لله عنده (١).

والعارفون بالله يعلمون أنَّ غاية عبادة الله لا تُدرك أبداً ، فتراهم يَسعَون بكلّ طاقاتهم ومشاعرهم إلى الله ، ولسان حالهم يقول : سبحانك اللّهمّ ما عبدناك حقّ عبادتك.

قال رسول الله صلى الله عليه وآله : قال الله تبارك وتعالى : يتّكلِ العاملون على أعمالهم التي يعملونها لثوابي ، فإنّهم لو اجتهدوا وأتعبوا أنفسهم [أعمارهم] في عبادتي ، كانوا مقصّرين غير بالغين في عبادتهم كنه عبادتي فيما يطلبون عندي من كرامتي ، والنعيم في جنّاتي ، ورفيع الدرجات العلى في جواري ، ولكن برحمتي فَلْيثقوا ، وفضلي فَلْيرجوا ، وإلى حسن الظنّ بي فليطمئنّوا (٢).

وكان أئمّة أهل البيت عليهم السلام ، واقتداءً بجدّهم المصطفى صلى الله عليه وآله ، إذا قاموا إلى الصلاة ، كأنّ أحدهم ساق شجرة لا يتحرّك منه شيء إلّا ما حرّكت الريح منه ، وكانوا يصلّون صلاة مودِّعٍ يخاف أن لا يعود إليها.

وقد نهانا الشارع المقدّس عن العُجب فإنّه آفة الأعمال ، وَعَدَّ ذلك على لسان الشرع من المهلكات ، والمراد منه أنّ الإنسان تعجبه نفسه ، ويستكثر عمله ، ويصغّر ذنبه في عينه ، ويتّكل على عمله ناسياً حاجته إلى رحمة الله.

قال الله سبحانه لنبيّه داود : يا داود بشّر المذنبين ، وأنذر الصدّيقين ، قال عليه السلام : يا ربّ ، كيف أبشّر المذنبين ، وأُنذر الصدّيقين؟! قال سبحانه : يا داود ، بشّر المذنبين أنّي أقبل التوبة وأعفو عن الذنب ، وأنذر الصدّيقين ألّا يُعجَبوا بأعمالهم ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ المحاسن : ٢٥٢ / ح ٢٧٦.

٢ ـ الكافي ٢ : ٧١ / ح ١.

١٨٨

فإنّه ليس عبد أنصبُه للحساب إلّا هلك! (١)

والعبادة تُقسَّم ثلاثة أقسام :

الأوّل : ما هو قلبيّ باطنيّ محض لا يطّلع عليه سوى الله عالم الغيب والشهادة : كالتوحيد والإخلاص ، والإيمان بالنبوّة والإمامة والمعاد ، أو الحبّ والرضى عن الله ، وغيرها من الاعتقادات الحقّة التي ثبت وجوبها في مدارك الشريعة السمحة الغرّاء.

الثاني : ما هو خارجيّ : كالصلاة والحجّ والجهاد والصدقات ، وإقامة شعائر الله ونحوها.

الثالث : ما هو اجتماعيّ ، كالعلاقات المجامليّة القائمة بين أفراد المجتمع إذا أُريد بها وجه الله ، مثل : زيارة المريض ، ودفن الميّت ، وإنقاذ الغريق ، وإغاثة الملهوف ، وإعانة المحتاج ، وحفظ النفس المحترمة.

والأعمال العباديّة التي يُرجى لها القبول يجب أن تكون مشروطة بالنيّة ، والمراد من النيّة في العباديّات هو القصد والإرادة باعتبار القربة. أمّا في غير العباديّات كالتوصّليّات فيكفي قصد ذات الفعل ، ولو لم يكن بعنوان الامتثال.

جاء في مبحث سابق : أنّ عبادة الأفراد تكون عن ثلاث غايات : قسم يعبد الله خوفاً ، وتلك عبادة العبيد ، وقسم يعبد الله طمعاً وتلك عبادة الأُجراء أو التجّار ، وقسم يعبد الله حبّاً أو شكراً ، وتلك عبادة الأحرار ، وهذا القسم لا يتسنّى إلّا للأوحديّ العارف من البشر ، كالنبيّ صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين سلام الله عليه وأئمّة أهل البيت عليهم السلام.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ٣١٤ / ح ٨.

١٨٩

وأمّا عبادة الله طمعاً في الجنّة ، وخوفاً من النار ، وطلباً للتوسعة في الرزق ، أو لقضاء حاجة ، أو لدفع عدوّ أو ضرر ، فإنّ هذا لا ينافي الداعي القربيّ إلى الله تعالى ، لأنّ الإتيان بتلك العبادة هو الوسيلة لنيل تلك المطالب ، ولكنّه لا يرقى إلى درجة الإخلاص.

وقد جاء الشارع المقدّس بأحكام إرشاديّة ، تدعو إلى ما حكم به العقل والفطرة ، مثل : حُسن العدل وقُبح الظلم ، ووجوب شكر المنعم ، ومثل برّ الوالدين وحرمة عقوقهما.

وهناك أحكام مولويّة تأسيسيّة خارجة عن دائرة العقل البشريّ ، تكفّل الشارع برسمها وتحديدها وضبط صغرياتها ، كالصلاة وحدودها ، والحجّ وأحكامه ، والصوم ومقوّماته وشرائطه.

في جواز قضاء العبادات عن الأموات

لعلّ سائلاً يسأل فيقول : إنّ الله تعالى يقول في محكم كتابه : (وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ) (١) ، فكيف أفتى الفقهاء في كبتهم بجواز قضاء فوائت الميّت ، من صلاة أو صوم أو حجّ ، وربّما أمر بها الشارع على نحو الوجوب ، كما في الولد الأكبر الذكر إذا فات والدَه ذلك؟ يضاف إلى ذلك عدّة تساؤلات أُخرى :

١. كيف يحصل تمشّي قصد القربة من النائب ، والعمل العباديّ موقوف عليه ، علماّ أنّ معظم صلاة النيابة مثلاً موقوف على أخذ الأُجرة ، إذ يندر أن يؤدّي النائب العبادات عمّا في ذمّة الميّت من باب الإحسان والتبرّع؟

وكيف يصل الثواب إلى الميّت عن عمل لم يقم به ، ولم يتحقّق فيه مبدأ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ النجم : ٣٩.

١٩٠

الطاعة منه؟

٢. هل الثواب المترتّب على العبادة استحقاق أم تفضّل من الله على عباده؟

نقول : إنّ مسألة قضاء فوائت الميّت من المسائل التعبديّة الثابتة ، وقد أُقيم عليها الدليل الشرعيّ ، وإنّ النائب يؤدّي تلك العبادات بداعي القربة ، لا بداعي أخذ المال ، أمّا المال فيُؤخذ بأيّ عنوان خارجيّ كالوفاة بالعقد ، أو على فعل بعض المقدّمات أو على نحو الهبة وغيرها.

وأمّا مسألة الثواب المترتّب على العبادة ، هل هو تفضّل أم استحقاق؟ فنذكر فيها ما قاله بعض الأعلام : قال المرجع الديني السيّد أبو القاسم الخوئيّ قدس سره في «المستند» : إنّ الثواب المترتّب على الأعمال ، في باب الطاعات والعبادات ، ليس هو من قبيل العوض والأجر الثابتين في المعاملات من العقود والإيقاعات ، كي يكون المطيع مستحقّاً على الله ثواب عمله كما يستحقّه العامل ، وإنّما هو تفضّل محض ، ولطف بحت ، فإنّه سبحانه له الملك وله الامر ، لا يسأل عمّا يفعل وهم يُسألون ، فإن شاء تفضّل على عبده المسكين وجعله مشمولاً لعنايته ، وإلّا فلا ، وعليه فلا مانع من تفضّله تعالى على المنوب عنه كالنائب وحصول التقرّب لكليهما. أمّا النائب فَلِصدور الفعل العباديّ منه قاصداً للتقرّب ، وأمّا المنوب عنه فلإضافة النائب العمل إليه في إتيانه مِن قِبله بقصد تفريغ ذمّته.

فإنّ هذا المقدار من الإضافة يكفي لكونه ـ أي المنوب عنه ـ مشمولاً للتفضّل وحصول التقرّب من الله كما لا يخفى ، بل ورد في بعض الأخبار : وإنّ الكفّار أيضاً ينتفعون بعمل الحيّ لهم ، وذلك بتخفيف العذاب عنهم ، ولا محذور في ذلك

١٩١

على مبنى الالتزام بمسلك التفضّل في باب الثواب! (١)

وقد ورد في الحديث النبويّ الشريف أنّ عيسى عليه السلام مرّ بصاحب قبر يعذّب ، ثمَّ مرّ عليه من قابل «أي بعد عام» ، فإذا هو لا يُعذّب ، فقال عليه السلام : يا ربّ ، مررتُ بهذا القبر عامَ أوّل ، فكان يُعذّب ، ومررتُ به العام فإذا هو ليس يعذّب! فأوحى الله إليه أنّه أدرك «أي بلغ الحلم» له ولدٌ صالح ، فأصلح طريقاً ، وآوى يتيماً ، فلهذا غفرتُ له بما فعل ابنُه (٢).

ونعود إلى المرجع الفقيه السيّد عبد الأعلى السبزواريّ قدس سره لننقل رأيه من «مهذّب الأحكام» حيث قال : لا ريب في ترتّب الثواب على العبادة ، وهل هو بالاستحقاق أو التفضّل؟ قال : بكلّ قائل ، واستدلّ كلّ منهما بأدلّة ، والحقّ سقوط النزاع من أصله ، لأنّ أصل جعل الاستحقاق إنّما هو من الله تعالى تفضّلاً منه عزّ وجلّ على عباده ، فيكون أصل هذا الحقّ مجعولاً فيه لمصالح كثيرة ، فمن قال بالاستحقاق نظر إلى نفس الحقّ المجعول ، ويصحّ له التمسّك بالأدلّة الظاهرة في الاستحقاق ، ومَن قال بالتفضّل نظر إلى منشأ الجعل الذي هو تفضّل منه تعالى (٣).

والحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين المعصومين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ مستند العروة الوثقى ٥ : ٢٥٣.

٢ ـ الكافي ٦ : ٣ ـ ٤ / ح ١٢ ، الأمالي للصدوق : ٤١٤ / ح ٨ ـ المجلس ٧٧.

٣ ـ مهذّب الأحكام ٦ : ١١٥.

١٩٢

المبحث السادس والعشرون : التوبة والعفو والمغفرة

يُرجى من القارئ العزيز مراجعة مبحث التوبة والاستغفار في كتابنا الموسوم بـ «أضواء على دعاء الافتتاح» (١) وكتابنا الآخر الموسوم بـ «في ظلال دعاء كميل» (٢) ، فسوف يجد مبتغاه إن شاء الله تعالى ، ونزيد في ذلك بما يتّسع له المجال فنقول : التوبة رجوعان من الله إلى العباد ، ورجوع واحد من العبد إلى الله ، ويمكن ملاحظة هذا التسلسل :

١ ـ التوفيق الإلهي والتسديد الربّاني للعبد للتوجّه بالتوبة عن الذنب.

٢ ـ رجوع العبد عن ذنبه بالندم والاستغفار وترتيب الآثار.

٣ ـ قبول التوبة ، والمغفرة والسَّتر على الذنب.

وقيل في التوبة : إنّها ترك الذنب لقبحه ، والندم على ما فرّط منه ، والعزيمة على ترك المعاودة ، وتدارك ما أمكنه تداركه بالإعادة (٣) ، وبهذا تكمل شرائط التوبة.

قال تعالى : (وَتُوبُوا إِلَى اللَّـهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٤).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ أضواء على دعاء الافتتاح : ٢٤ ـ ٢٧.

٢ ـ في ظلال دعاء كميل : ١٣٤ ـ ١٧٣.

٣ ـ شرح أصول الكافي للمازندراني ١ : ٢٧٧.

٤ ـ النور : ٣١.

١٩٣

وقيل في العفو : إنّه ترك العقوبة (١) ، ومحو الذنب بأن لا يبقى له أثر في النفس. وقيل في المغفرة : الستر والتغطية (٢) ، وسوف نتحدّث بإسهاب حول هذه المفاهيم.

والتوبة : ضدّ الإصرار ، والمراد منها الرجوع عن الذنب ، ويترجم ذلك الموقفَ الندمُ قولاً وفعلاً واعتقاداً ، وهذا الندم يُحْدث الإشراق الروحيّ ، ويكشف الحجب الضاربة على آفاق القلب ، وينير السريرة ، ويقوّي البصيرة ، وهذا الندم ثمرة من ثمار التأرجح بين الخوف والرجاء ، وهو يوثّق أواصر الحبّ بين العبد وخالقه.

وهنا يعود الإنسان إلى السبيل الذي رسمه له الله عزّ وجلّ ، ليمارس مسيرته في التقرّب منه سبحانه ، فإنّ التوبة ثورة روحيّة لتطهير النفس من الرين والرذائل والصفات المذمومة التي تحجب الإنسان عن ربّه ، وحجاباً يكون من الآثار الوضعيّة للذنوب والمعاصي ، والندم يبعث العزم ويقوّي الإرادة على عدم العود إلى الذنب في المستقبل ، وعلى الإنسان أن يتدارك ما فاته بالاستغفار ، أو قضاء الفوائت العباديّة ، أو إرجاع حقوق الغير مثلاً ، ولنا عودة إلى الموضوع إن شاء الله تعالى.

يقول صاحب «جامع السعادات» قدس سره : كلّ فرقة من العباد لهم توبة ، فتوبة الأنبياء من اضطراب السرّ ، وتوبة الأولياء من تلوين الخطرات ، وتوبة الأصفياء من التنفيس ، وتوبة الخاصّ من الاشتغال بغير الله ، وتوبة العامّ من الذنوب ، ولكلّ واحد منهم معرفة وعلم في أصول توبته ومنتهى أمره.

ثمّ يقول قدس سره : وعلى هذا ، فما ورد من استغفار الأنبياء والأوصياء وتوبتهم إنّما هو

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ أحكام القرآن للجصّاص ٣ : ٥٠ ، مفردات غريب القرآن : ٣٤٠.

٢ ـ لسان العرب ٥ : ٢٥.

١٩٤

ترك دوام الذكر ، وغفلتهم عن مقام الشهود والاستغراق لأجل اشتغالهم بالمباحات ، لا عن ذنوب كذنوبنا ، لتعاليهم وتقدّسهم عن ذلك.

قال الإمام الصادق عليه السلام : إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله كان يتوب إلى الله ويستغفره في كلّ يوم وليلة مائة مرّة من غير ذنب ، إنّ الله تعالى يخصّ أولياءه بالمصائب ليأجرهم عليها من غير ذنب (١). كذنوبنا ، فإنّ ذنبُ كلِّ أحد إنّما بحسب قَدْره ومنزلته عند الله ، وبمضمونه أخبار أُخر (٢). انتهى.

ولربّما كان النبيّ صلى الله عليه وآله باعتباره الأسوة الحسنة لكلّ مسلم يمارس عمليّة الاستغفار تواضعاً لله جلّ وعلا (٣).

إنّ التوبة واجبة عقلاً ونقلاً ، وقد ثبت وجوبها العقليّ من باب وجوب دفع الضرر المحتمل ، ومن باب لزوم رجوع العبد الآبق إلى مولاه ، وثبت وجوبها في الكتاب والسنّة والإجماع بما لا خلاف فيه.

إنّ التوبة تطلق على من اقترف الذنب ومارس المعصية فعلاً ، فقد ورد في الأثر عن النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله قوله : إنّما شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي ، أمّا المحسنون فما عليهم من سبيل (٤). ويفترض في تحقّق التوبة رجوع العبد عن ذنبه نادماً.

أمّا الذي لم يمارس الذنب فيقع تحت عنوان المتّقين أو المحسنين وليس التائبين. والذين مارسوا الذنوب ، ثمّ عجزوا عن فعلها بسبب كبر السنّ أو الضعف

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ٤٥٠ ح ٢.

٢ ـ جامع السعادات ٣ : ٥١.

٣ ـ يراجع : سفينة البحار ٣ : ٥٠٧ ـ ٥١٠ ، فهناك بحث مفصَّل حول عصمة الأنبياء والأوصياء عليهم السلام وعدم تناقضها مع الاستغفار.

٤ ـ الأمالي للصدوق : ١٦ / ح ٤ ـ المجلس الثاني.

١٩٥

أو الفقر مثلاً ، فهل تصحّ منهم التوبة؟ نعم ، تصحّ التوبة عمّا يماثل تلك الذنوب والجرائم ، لأنّ باب التوبة مفتوح ، ورحمة الله تسع كلّ شيء ، ولأنّ التوبة صادرة عن علم ويقين بأنّ الذنوب التي قارفها تُبعده عن ساحة القرب الإلهيّ ، ولو كان قادراً عليها في الحال فإنّ ورعه وتقواه ومعرفته سوف تصدّه وتمنعه من المقارفة.

إنّ ظُلْمة النفس وكدورة القلب الحاصلة بعد اقتراف الذنب ، تنمحي بحرقة الندم ولوعة الأسف ، وبمجاهدة النفس على ترك المعاصي والاستباق إلى الخيرات ، وقد سُميّ ذلك على لسان الروايات بالجهاد الأكبر.

وقد أُمِرنا بالتوبة النصوح التي هي من أعظم مصاديق التوبة وأرقاها مرتبة ، قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّـهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) (١) ، فالآية تشير إلى تكفير الذنب بالتوبة النصوح ، وكلّ «عسى» من الله واجبة على ما يقوله أساطين الفنّ وأرباب الصناعة (٢).

أمّا المراد بالتوبة النصوح فهي التوبة المتّصفة بالتوجّه النفسيّ الخالص ، البعيد من كلّ غرض خارجيّ ، كالخوف والطمع أو السلطان وغيرها ، وهي التوبة المنبعثة عن وعي وبصيرة وعلم يمنع صاحبه من العود إلى الذنب ، ويدلّ على ذلك ما ورد عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام في بيان معنى التوبة النصوح ، قال عليه السلام : يتوب العبد من الذنب ثمّ لا يعود فيه (٣).

وروي عن النبيّ صلى الله عليه وآله قوله : أن يندم العبد على الذنب الذي أصاب ، فيعتذر إلى

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ التحريم : ٨.

٢ ـ التبيان للطوسيّ ٥ : ١٨٩.

٣ ـ الكافي ٢ : ٤٣٢ / ح ٣.

١٩٦

الله ، ثمّ لا يعود إليه كما لا يعود اللبن إلى الضرع (١).

وورد عن الإمام الصادق عليه السلام قوله في التوبة النصوح أن يكون باطن الرجل كظاهره وأفضل (٢).

وروي أنّ أحد الشبّان جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله يبكي بكاء الثكلى على ولدها ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله : ما يبكيك يا شاب؟ قال : كيف لا أبكي وقد ارتكبت ذنوباً إن أخذني الله عزّ وجلّ ببعضها أدخلني نار جهنم ، ولا أراني إلّا سيأخذني بها ولا يغفر لي أبداً. وكلّما ذكر الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله للشاب ذنباً ، قال الشاب : إنّ ذنبي أعظم منه ، فقال الارسول الأعظم صلى الله عليه وآله : ويحك ألا تخبرني بذنب واحد من ذنوبك!

قال : بلى أخبرك. إنّي كنت أنبش القبور سبع سنين ، أخرج الأموات ، وأنزع الأكفان ، فماتت جارية من بعض بنات الأنصار ، وعندما دفنت ذهبت إلى قبرها ونبشته وجرّدتها من أكفانها ، ثمّ جامعتها وتركتها عارية مكانها.

فقال الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله : تنحّ عنّي يا فاسق. فذهب الشاب فأتى المدينة ، وتزوّد منها ثمّ أتى بعض جبالها فتعبّد فيها ، وليس مُسْحاً ، وَغَلَّ يديه جميعاً إلى عنقه ونادى : يا ربّ ، هذا عبدك بهلول بين يديك مغلول ، يا ربّ ، أنت الذي تعرفني ، وزلَّ منّي ما تعلم سيّدي يا ربّ ، إنّي أصبحت من النادمين ، وأتيت نبيّك فطردني وزادني خوفاً ، فأسألك باسمك وجلالك وعظمة سلطانك أن لا تخيّب رجائي ، سيّدي ولا تبطل دعائي ، ولا تؤيسني من رحمتك.

ولم يزل هكذا أربعين ليلة حتّى تاب الله عليه ، ولمّا جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وأصحابه ليبلغوه ، فإذا هم بالشاب قائم بين صخرتين ، مغلولة يداه إلى عنقه ، وقد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الدر المنثور ٦ : ٢٤٥.

٢ ـ معاني الأخبار للصدوق : ١٧٤ / ح ٣.

١٩٧

اسودّ وجهه ، وتساقطت أشفار عينيه من البكاء ، فدنا رسول الله صلى الله عليه وآله منه فأطلق يديه من عنقه ، ونفض التراب عن رأسه وقال : يا بهلول ، أبشر فإنّك عتيق الله من النار (١).

أمّا مقوّمات التوبة النصوح فهي :

١ ـ العلم بقبح الذنب وضرره.

٢ ـ الندم والأسف على ما صدر منه.

٣ ـ العزم على عدم العود ، وترتيب الآثار العمليّة للتوبة.

ومسألة اجتناب المعاصي ، وقضيّة التوبة منها بعد الاقتراف تختلف من شخص لآخر ، حسب درجة إيمانه ، إنّ الإيمان درجات ومراتب ، وقد ورد في الأخبار أنّها تزيد على سبعين مرتبة ، فالمؤمن العارف ، والمؤمن الذي بدرت منه المعصية يقعان تحت عنوان الإيمان ، ولكن شتّان بين شجرة النخيل وشجرة الورد.

فعلى المؤمن أن يحاسب نفسه ، ويطهّر قلبه بالتوبة ، ويكثر من العبادات والطاعات التي تقرّبه إلى الله قبل أن يرين الذنب على قلبه ، فيُختَم عليه أو يطبع عليه ، أو يُصبح قلبه مقلوباً منكوساً فيكون في عداد الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً ، وهذا لا يجد القدرة والطاقة على كشف تلك الظلمات وإزالة الكدورات ، بل لعلّ الموت يأخذه بغتة قبل المبادرة إلى التوبة.

وقد ورد في الحديث الشريف أنّ أكثر صياح أهل النار من التسويف ، فما هلك

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ القصّة مذكورة مفصّلاً في أمالي الصدوق : ٩٧ / ح ٧٦.

١٩٨

من هلك إلّا بالتسويف (١) ، والتسويف هو تأجيل التوبة وتأخيرها حتّى لاتَ حينَ مَناص.

إنّ الإنسان في هذه الدنيا واقع بين قوّتين عظيمتين في تأثيرهما على سيرة الإنسان ومصيره ، فهو واقع بين : قوّة العقل الملائكيّة التي تدعوه إلى الطاعة ، وبين قوّة الهوى الشيطانيّة التي تدعوه إلى التمرّد على الله ، واتّباع خطوات الشيطان. وبالمجاهدة الصادقة الواعية يستطيع الإنسان الانقياد لقوى العقل ، ويُخضع الأهواء ، ويسيطر على النزوات ، وبكبت الشهوات المُرْدية ، ليزداد قرباً من ربّه ، وبهذا تَرجح كفّة حسناته على كفّة سيئاته ، ويفوز بالجنّة التي أعدّها الله لعباده المتّقين.

إنّ عمر الإنسان هو رصيده الفعلي الذي يقوده إلى مفترق طريقين : الجنّة أو النار ، فكلّ دقيقة يمكن أن تُستغَلّ في طاعة من الطاعات ، ولو بتسبيحة تكون له رصيداً أخرويّاً يقوده إلى الجنّة ، وقد ورد في بعض العبارات أنّ أبواب عبادة الله بعدد أنفاس الخلائق (٢) ، وهذه من الموائد الالهيّة المبذولة لكلّ طاعم.

ويمكن أن تستغلّ في معصية ، ولو بنظرة خاطئة لتقوده إلى النار.

روي أنّ سليمان عليه السلام طار على بساطه ، ومعه قوّاده وجنده على كراسٍ من ذهب ، وكانت الطير تُظلّلهم ، فرآه فلّاح فتعجّب من ذلك المُلك العظيم فقال : لقد أُوتي ابن داود مُلكاً عظيماً! فنقلت الريح قوله إلى أُذن سليمان عليه السلام ، فنزل سليمان وقال لذلك الفلّاح : إنّما مشيتُ إليك لئلّا تتمنّى ما لا تَقْدر عليه. ثمّ قال له : لَتسبيحةٌ واحدةٌ يَقْبلها الله خيرٌ مِمّا أُوتيَ آل داود.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ جامع السعادات ٣ : ٥٨ ـ ٥٩.

٢ ـ حقائق الإيمان للشهيد الثاني : ١٧٤.

١٩٩

وفي حديثٍ آخر : لأنّ ثواب التسبيحة يبقى ، ومُلك سليمان يَفنى (١).

وقيل إنّ الدنيا لو كانت من ذهب يفنى ، وكانت الآخرة من خزف يبقى ، لكانت الآخرة خيراً من الدنيا ، فكيف والآخرة ذهب يبقى؟! ٢

إنّ الإنسان التائب وافد على ضيافة الله الذي هو أصل كلّ كرم ، ومنبع كلّ جود ، والله سبحانه يفرح بتوبة عبده ، وكيف لا يفرح والإنسان أثر من آثار بديع صنعه!

فقد نُقل عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قوله : إنّ الله تعالى أشدُّ فرحاً بتوبة عبده من رجل أضلَّ راحلته وزاده في ليلة ظلماء فوجدها ، فالله أشدّ فرحاً بتوبة عبده من ذلك الرجل براحلته حين وجدها (٣).

وعن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قوله : إذا تاب العبد توبةً نصوحاً ، أحبّه الله فستر عليه في الدنيا والآخرة.

فقيل : وكيف يستر عليه؟ قال عليه السلام : يُنسي مَلَكَيه ما كَتَبا عليه من الذنوب ، ويوحي إلى جوارحه : اكتمي عليه ذنوبه ، ويُوحي إلى بقاع الأرض : اكتُمي ما كان يعمل عليكِ من الذنوب. فيلقى اللهَ حين يلقاه وليس شيء يشهد عليه بشيء من الذنوب (٤).

وقد أبدع الحسن بن هاني أبو نؤاس حيث قال في إحدى زهديّاته :

مَن أنا عندَه حتّى إذا

أذنبتُ لا يَغفرُ لي ذنبي؟!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ مستدرك الوسائل ٥ : ٣٢٣.

٢ ـ محاسبة النفس للكفعميّ : ١٥٧ ، شرح نهج البلاغة ١٩ : ٢٩٠.

٣ ـ الكافي ٢ : ٤٣٥ / ح ٨.

٤ ـ نفسه ٢ : ٤٣٠ ـ ٤٣١ / ح ١ باب التوبة.

٢٠٠