مائة مبحث ومبحث في ظلال دعاء أبي حمزة الثمالي

الشيخ جبّار جاسم مكّاوي

مائة مبحث ومبحث في ظلال دعاء أبي حمزة الثمالي

المؤلف:

الشيخ جبّار جاسم مكّاوي


المحقق: عبدالحليم عوض الحلّي
الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: بنياد پژوهشهاى اسلامى آستان قدس رضوى
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-971-683-1
الصفحات: ٤٥٧

ومن لوازم هذه المرتبة الإيمانيّة : التحلّي بمكارم الأخلاق ، وجميل الصفات : والرضى والتسليم لِقَدَر الله وقضائه ، واحتساب الصبر عنده ، والزهد ، والحبّ في الله والبغض في الله.

أُنظر قوله تعالى : (وَقَالَ مُوسَىٰ يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّـهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ) (١) ، فسياق الآية تقول : إنّ موسى عليه السلام أمرهم بالتوكّل الذي هو من ثمرات الإيمان ، ولكنِ اشترَطَ في هذا الإيمان أن يكون صادراً عن إيمان حقيقيّ خالص.

لاحظ هذا التسلسل رجاءً :

الإسلام الخالص يقود إلى الإيمان ، هذا الإيمان بدوره يقود إلى التوكّل ، وقد وعد الله سبحانه هؤلاء المؤمنين بالفوز والرضوان في مقامِ عند مَليكٍ مقتدر :

قال الله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَـٰئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (٢).

د) المرتبة الرابعة :

١. الإسلام : وهنا يكون الإنسان بين يدي ربّه كالميّت بين يدي غاسله يقلّبه كيف يشاء ، ومن لوازمه التسليم المطلق لله تسليماً هو ترجمة عمليّة لحقّية المُلك الذي ليس وراءه استقلال عن الله جلّ وعلا ، المُلك الذي يفرض مطلق الكبرياء والربوبيّة لله وحده. ولا ينال هذه المرتبة إلّا من وفّقهم الله وسدّد خطاهم ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ يونس : ٨٤.

٢ ـ المؤمنون : ١ ـ ١١.

٢٢١

فشملهم بمواهبه وفيوضاته ، وغمرهم بألطافه وعناياته ، وتكاد أن تكون هذه الحالات ممّا باركتها العناية التكوينيّة قبل التشريعيّة ، فلولا هذه الإفاضات والعنايات لا يصلون إلى هذه المرتبة.

قال تعالى : (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا) (١).

٢. الإيمان : وهؤلاء هم الذين استجمعوا صفات الكمال في جميع أحوالهم ، فهم لا يرون غير الله ، ولا يعبدون غير الله ، مُبرَّؤون من الشرك الخفيّ ، وهم لا يرون لشيء تأثيراً بغير الله ، ولا يحزنهم أمر ، ولا يفرحون بنعمة ، فالأمر كلّه لله سبحانه وتعالى.

قال تعالى : (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّـهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) (٢).

ويمكن تقريب المعنى فنقول : إنَّ المرتبة الأُولى مثل المرحلة الابتدائيّة ، والثانية مثل المرحلة المتوسّطة ، والثالثة مثل المرحلة الثانويّة ، والرابعة مثل المرحلة الجامعيّة ، وهذه المرتبة يمكن أن نطلق عليها اليقين.

قال أمير المؤمنين عليه السلام : لَأَنسِبنَّ الإسلامَ نسبةً لم يَنْسِبْها أحد قبلي. الإسلام هو التسليم ، والتسليم هو اليقين ، واليقين هو التصديق ، والتصديق هو الإقرار ، والإقرار هو الأداء ، والأداء هو العمل (٣).

إنّ أداء التكاليف العباديّة وإتيان الأعمال الصالحة من صفات المؤمنين ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ البقرة : ١٢٨.

٢ ـ يونس : ٦٢ ـ ٦٣.

٣ ـ نهج البلاغة : الحكمة ١٢٥ ، الأمالي للصدوق : ٢٨٧ / ح ٤ ـ المجلس ٥٦ ، خصائص الأئمّة : ١٠٠.

٢٢٢

أُنظر هذا التسلسل :

الإقرار «المعرفة» ، ثمّ التصديق ، ثمَّ اليقين ، ثمّ التسليم ، ثمّ الإسلام المطلق الذي وصف الله به أنبياءه عليهم السلام.

قال الإمام السجّاد عليه السلام : الزهد عشرة أجزاء ، أعلى درجة الزهد أدنى درجة الورع ، وأعلى درجة الورع أدنى درجة اليقين ، وأعلى درجة اليقين أدنى درجة الرضى (١).

أُنظر هذا التسلسل :

الزهد ، ثمّ الورع ، ثمّ اليقين ، ثمّ الرضى.

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله المعصومين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ٦٢ / ح ١٠.

٢٢٣

المبحث التاسع والعشرون : في اليقين

قال الديلميّ في «إرشاد القلوب» ما نصّه : فأوّل مقامات الإيمان : المعرفة ، ثمّ التصديق ، ثمّ اليقين ، ثمّ الإخلاص.

الإيمان اسم لهذه الأُمور كلّها ، فأوّلها النظر بالفكر في الأدلّة ونتيجة المعرفة ، فإذا حصلت المعرفة لزم التصديق ، وإذا حصل التصديق والمعرفة وُجِد اليقين ، فإذا صحّ اليقين انهالت أنوار السعادة في القلب بتصديق ما وعد به الله تعالى من رزق في الدنيا وثواب في الآخرة ، وخشعت الجوارح من مخافة ما توعّد به الله جلّ وعلا من العقاب ، فقامت بالعمل ، وانزجرت عن المحارم ، وحاسب العقلُ النفسَ على التقصير في الذكر والتنبيه على الفكر ، فأصبح صاحب هذا الحال نطقهُ ذِكراً ، وصمته فكراً ، ونظره اعتباراً. واليقين يدعو إلى قصِرَ الأمل ، وقصر الأمل يدعو إلى الزهد ، والزهد ينتج النطق بالحكمة لخلوّ البال من هموم الدنيا ، لقوله عليه السلام : من زهد في الدنيا استراح قلبه وبدنه ، ومن رغب فيها تعب قلبه وبدنه (١).

فلا يبقى له نظر إلّا إلى الله ، ولا رجوع إلّا إليه ، كما مدح الله سبحانه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ إرشاد القلوب : ١٢٥ ـ الباب ٣٧ في اليقين.

٢٢٤

إبراهيم عليه السلام بقوله : (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ) (١).

يعني رَجَاعٌ إلى الله ، لا نظر له للدنيا ، وعلى قدر يقين العبد يكون إخلاصه وتقواه ، وهذه الأحوال الصحيحة توجب لصاحبها حالاً يراها بين اليقظة والنوم ، ويحصل باليقين ارتفاع معاوضات الوساوس النفسيّة لأنّه رؤية العيان بحقائق الإيمان ، وهو أيضاً ارتفاع الريب بمشاهدة الغيب ، وهو سكون النفس دون جَوَلان الموارد ، ومتى استكمل القلب بحقائق اليقين ، صار البلاء عنده نعمة ، والرخاء مصيبة حتّى أنّه يستعذب البلاء ، ويستوحش لمطالعة العافية (٢).

أُنظر قوله تعالى : (وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) (٣).

إنّ (ملكوت) صيغة مبالغة من المُلك جاءت للتأكيد ، والمراد به السلطنة الإلهيّة المطلقة على مفاصل الكون ومفرداته ، وملكيته له سبحانه ملكاً حقيقيّاً لا زوال له ، ولا تأثير لغيره فيه ، وبعد هذه الرؤية التي كتبها الله لإبراهيم عليه السلام رفعه إلى درجة اليقين.

قال صاحب «الميزان» قدس سره ما نصّه : الآيات ـ كما ترى ـ تعلّل المُلك بالخلق ، فكون وجود الأشياء منه ، وانتساب الأشياء بوجودها وواقعيّتها إليه تعالى هو الملاك في تحقّق ملكه ، وهو بمعنى ملكه الذي لا يشاركه فيه غيره ، ولا يزول عنه إلى غيره ، ولا يقبل نقلاً ولا تفويضاً يغني عنه تعالى وينصب غيره مقامه.

وهذا هو الذي يُفسَّر به معنى الملكوت في قوله تعالى : (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ هود : ٧٥.

٢ ـ إرشاد القلوب : ١٢٥ ـ الباب ٣٧ في اليقين.

٣ ـ الأنعام : ٧٥.

٢٢٥

يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (١).

فالآية الثانية تبيّن أنّ ملكوت كلّ شيء هو كلمة «كن» ، الذي يقوله الحقّ سبحانه له ، وقوله فعله ، وهو إيجاده له (٢).

فقد تبيّن أنّ الملكوت هو وجود الأشياء من جهة انتسابها إلى الله سبحانه وقيامها به ، وهذا أمر لا يقبل الشِّرْكة ، ويختصّ به سبحانه وحده ، فالربوبيّة التي هي الملك والتدبير لا تقبل تفويضاً ولا تمليكاً انتقاليّاً ، لذلك كان النظر في ملكوت الأشياء يهدي الإنسان إلى التوحيد هدايةً قطعيّة ، كما قال تعالى : (أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّـهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) (٣).

واليقين : المراد به هنا هو العلم الواقعيّ الذي لا يشوبه شكّ ولا لبس ، قال تعالى : (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) (٤).

وإذا لاحظنا هذه الآية رأينا أنّ منصب الإمامة العامّة الإلهيّة قد ناله أُناس متّصفون بصفتين ، هما : الصبر واليقين. نرجو مراجعة بحث الإمامة في كتابنا الموسوم بـ «المباحث الميسّرة».

قال تعالى : (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ) (٥) ، وقال تعالى : (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (٦).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ يس : ٨٢ ـ ٨٣.

٢ ـ تفسير الميزان ٧ : ١٧١.

٣ ـ الأعراف : ١٨٥.

٤ ـ السجدة : ٢٤.

٥ ـ التكاثر : ٥.

٦ ـ الحجر : ٩٩.

٢٢٦

أي أثبت على عبادةِ الله وحده ، ورفضِ الأنداد والشركاء من دونه ، والتسليمِ والانقياد لله ، حتّى يُدْرِكك الموت الذي يكون فيه كلُّ غيبٍ شهادةً ، حتيث ترتفع الحُجب ، فيرى الإنسان الملائكة والجنّة والنار وغيرهما ممّا هو غائب عن عالم الحسّ ، وكان ذلك متحقّقاً للنبيّ صلى الله عليه وآله في حياته ، ومن مصاديق تحقّقه ما جرى له في رحلات الإسراء والمعراج.

واليقين الموعود هو غير اليقين الاعتقاديّ النظريّ الذي يأمر به العقل ، وقد جاءت به النبوءات من أخبار عن عالم الغيب.

قال سبحانه : (إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) (١) ، واليقين : هو مطابقة العلم للخارج الواقعيّ ، وإضافة الحقّ له للتأكيد على كونه ممّا لا يعتريه الشكّ واللَّبس والاشتباه.

وقال سبحانه : (ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ) (٢) ، والمراد بعين اليقين هو محض اليقين ، ولو أردنا أن نقرّب المعنى ، قلنا : إنّ هناك ثلاثة معان :

ـ علم اليقين : والمراد منه هو إيماننا بوجود نار أُخرويّة يُعذَّب بها أعداء الله وأصحاب الذنوب انطلاقاً من تصديقنا بالكتاب النازل من عنده تعالى ، وبما أخبر به النبيّ صلى الله عليه وآله ، والتكذيب به كفر لأنّه يقود إلى إنكار ما هو ضروريّ ، حيث إنّ هذا التكذيب ينتهي إلى تكذيب النبيّ صلى الله عليه وآله.

أمّا في مقام المشاهدة العاديّة فنقول : إنّ الدخان المتصاعد هو دليل وجود النار.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الواقعة : ٩٥.

٢ ـ التكاثر : ٧.

٢٢٧

ـ عين اليقين : وهنا حين ينتقل الإنسان من عالم الدنيا إلى عالم الآخرة ، فإنّ المشاهد التي كان يراها من باب الغيبيّات ، سيراها أمامه حاضرة شاخصة قائمة ، وهذا اليقين أعمق من اليقين النظريّ الأوّل.

أمّا في المشاهدة فلو رأينا النار متوهّجة مشتعلة فنؤمن بوجودها يقيناً.

ـ حقّ اليقين : كمَن لو دخل النارَ وقاسى أهوالها ، وتحمّل آلامها ، ولا شكّ أنّ هذا اليقين أقوى من الأوّل والثاني. وفي عالم الدنيا يكون كما لو احترق عضو من الإنسان بالنار المتوقّدة ، والله العالم.

إنّ النسبة بين العلم واليقين هي نسبة تخصيص وتعميم ، فكلّ يقين علم ، وليس كلّ علم يقيناً ، فالعلم هو عمليّة كشف الواقع ، وطريق للوصول إلى الحقائق ، وقد لا يطابق الواقع ، ومن هنا كانت الأحكام الشرعيّة التي يتوصّل إليها المجتهد في عملية الاستنباط أحكاماً ظاهريّة ، بعكس الأحكام التي تصلنا مباشرة عن النبيّ صلى الله عليه وآله وعن أئمّة أهل البيت عليهم السلام ، إذ هي أحكام واقعيّة يقينيّة قطعيّة.

أمّا اليقين فهو اعتقاد جازم ثابت يطابق الواقع من دون شبهة أو لبس ، وهو مرتبة إيمانية راقية ، تمدّ الإنسان بأسباب السعادة والرضى ، وتُكْمل النفس ، وتقوده إلى النجاة من مضلّات الفتن ، وتسير به إلى الجنّة.

وقد أشرنا في مباحث سابقة أنّ قبول العبادة وترتيب آثارها من جزاء وثواب ، يعتمد على نوع العبادة أكثر من اعتماده على كمّيتها وكثرتها.

قال الصادق عليه السلام : إنّ العمل الدائم القليل على اليقين أفضل عند الله من

٢٢٨

العمل الكثير على غير يقين (١).

وعنه عليه السلام أيضاً : إنّ الله بعدله وقسطه وجعل الرَّوْحَ والراحة في اليقين والرضى ، وجعل الهمّ والحزن في الشكّ والسَّخَط (٢).

وقال لقمان يوصي ولده : يا بُنيّ ، لا يُستطاع العمل إلّا باليقين ، ولا يعمل المرء إلّا بِقَدْر يقينه ، ولا يقصّر عامل حتّى ينقص يقينُه (٣).

وقد ورد في الرواية الشريفة : أنّ الإمام الباقر عليه السلام في صِغر سنّه سأل جابر بن عبد الله الأنصاريّ ، وقد اكتنفته عِللٌ وأسقام ، وغَلَبه ضعف الهرم : كيف تجد حالك؟ قال : أنا في حال : الفقر أحبّ إليَّ من الغنى ، والمرض أحبّ إليّ من الصحّة ، والموت أحبّ إليّ من الحياة.

فقال الإمام عليه السلام : أمّا ـ نحن أهل البيت ـ فما يَرِد علينا من الله من الفقر والغنى والمرض والصحّة والموت والحياة ، فهو أحبّ إلينا (٤).

وقد تجسّد التسليم المطلق لله تبارك وتعالى في قول الإمام عليه السلام أعلى ممّا كان بقوله جابر الأنصاري رضوان الله عليه.

إنّ الموقن بالله لا يرى لغيره سبحانه مؤثّراً في الوجود ، فالله هو المالك والخالق ، والمعطي والمانع ، وهو المسبّب وراء كلّ سبب ، وأنّ العبد لا ينال من هذه الدنيا إلّا ما كتبه الله له ، فقد رُفعت الأقلام ، وجفّت الصحف ، وهذا التوكّل على الله وهو الذي يكون أعلى مراحله اليقين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ٥٧ / ح ٣ ـ باب فضل اليقين.

٢ ـ نفسه ٢ : ٥٧ / ح ٢.

٣ ـ جامع السعادات ١ : ١١٩.

٤ ـ جامع السعادات ٣ : ٢٨٥.

٢٢٩

قال الإمام الصادق عليه السلام : ليس شيء إلّا وله حدّ ، قيل : فما حدّ التوكّل؟ قال عليه السلام : اليقين ، قيل : فما حدُّ اليقين؟ قال : ألّا تخافَ مع الله شيئاً (١).

وروي عنه عليه السلام أيضاً أنّه قال : كان قنبر غلامُ عليّ يحبّ عليّاً عليه السلام حبّاً شديداً ، فإذا خرج عليّ صلوات الله عليه خرج على أثره بالسيف ، فرآه ذاتَ ليلة فقال له : يا قنبر ، ما لك؟ قال : جئت لأمشيَ خلفك يا أمير المؤمنين ، قال : ويحك ، مِن أهل السماء تَحرسُني أم من أهل الأرض؟! فقال : لا ، بل من أهل الأرض.

فقال : إنّ أهل الأرض لا يستطيعون لي شيئاً إلّا بإذن الله من السماء ، فارجع. فرجع (٢).

ومن لوازم اليقين الخضوع المطلق ، والخشوع العميق لله سبحانه ، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه ، حبّاً له وشكراً ، وفراغ القلب من شواغل الدنيا وزخارفها ، والعوم في بحار العرفان التي تقود أهل الإيمان إلى خالق الأكوان ، وهؤلاء من النزر القليل الذين صفت نفوسهم من الرذائل والأخلاق المذمومة.

وقد ذكرت لنا كتب السيرة والتاريخ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله صلّى بالناس الصبح ، فنظر إلى حارثة بن مالك ، وهو شابّ في المسجد ، وكان يخفق ويهوي برأسه ، مصفرّاً لونه ، وقد نحف جسمه ، وغارت عيناه في رأسه.

فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله : كيف أصبحت يا فلان؟ قال : أصبحتُ يا رسول الله موقناً.

فعَجِب رسول الله صلى الله عليه وآله من قوله وقال : إنّ لكلّ يقينٍ حقيقة ، فما حقيقة يقينك؟ فقال : إنّ يقيني يا رسول الله هو الذي أحزنني ، وأسهر ليلي ، وأظمأ هواجري ، فعَزَفَت

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ٥٧ / ح ١ ـ باب فضل اليقين.

٢ ـ نفسه ٢ : ٥٩ / ح ١٠ باب فضل اليقين.

٢٣٠

نفسي عن الدنيا وما فيها ، حتّى كأنّي أنظر إلى عرش ربّي وقد نُصِب للحساب ، وحُشِر الخلائق لذلك وأنا فيهم ، وكأنّي أنظر إلى أهل الجنّة يتنعّمون في الجنّة ويتعارفون ، وعلى الأرائك متّكئون ، وكأنّي أنظر إلى أهل النار وهم فيها معذّبون مُصْطَرِخون ، وكأنّي أسمع الآنَ زفير النار يدور في مسامعي.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله لأصحابه : هذا عبدٌ نَوَّر الله قلبه بالإيمان.

ثمّ قال صلى الله عليه وآله له : إلزمْ ما أنت عليه ، فقال حارثة : أُدع لي يا رسول الله أُرزَقَ الشهادة معك. فدعا له رسول الله صلى الله عليه وآله ، فلم يلبث أن خرج في بعض غزوات النبيّ صلى الله عليه وآله فاستُشهِد بعد تسعة نفر وكان هو العاشر (١).

فهنا صحّ يقين هذا العبد ، فأطلعه الله على بعض أسراره ، وكشف له بعض مغيّباته.

يُرجى من القارئ العزيز ملاحظة هذا التسلسل للوصول إلى اليقين :

المعرفة تقود إلى التصديق ، والتصديق يقود إلى اليقين ، واليقين يقود إلى الإخلاص.

وهؤلاء الموقنون من أصحاب المقامات السامية ، والكرامات العجيبة ، وهذا التجرّد عندهم بسبب العبادة والانقطاع والإخلاص ، جعلهم ينالون بعض مراتب الولاية في التكوين ، فترى بعضهم يسير على الماء ، وآخر يعالج أخطر الأمراض المستعصية بمجرّد اللمس والدعاء.

روي أنّ أحدهم قال للنبيّ صلى الله عليه وآله : رُويَ أنّ عيسى بن مريم كان يسير على الماء ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ٥٣ / ح ٢ ـ باب حقيقة الإيمان واليقين.

٢٣١

فقال صلى الله عليه وآله : لو زاد يقينُه لمشى على الهواء (١).

وهذه المراتب الإيمانيّة الراثية لا تتأتّى بالعلوم النظريّة والكسبيّة فقط ، بل برياضة النفس ومجاهدتها ، وصقلها وتربيتها وفق المناهج التي رسمها الشرع الحنيف والقائمون عليه من أهل العصمة الكرام.

ورد في الآثار المعتبرة أنّ موسى عليه السلام سأل الله تعالى أن يدلّه على أعبدِ أهلِ الأرض ، فأرشده الله تعالى أن يذهب إلى ساحل بحر فيرى هناك أعبدهم.

فجاء موسى عليه السلام ومعه جَبرئيل عليه السلام فلم يجد أحداً إلّا رجلاً هو أبرص وأجذم ومُقعَد ، فقال موسى لجبرئيل : أين ذلك الرجل؟

قال : هو هذا يا نبيّ الله.

فقال موسى : كنت أُحبّ أن أراه صوّاماً قوّاماً.

فقال جبرئيل : أُنظر إنّي مأمور بأخذ كريمتيه ـ يعني عينيه ـ فانظر ماذا يقول. فأشار جبرئيل عليه السلام إلى عينيه فسالتا على خَدَّيه ، فأخذ الرجل يقول : يا ربّي متّعتني بهما حيث شئت ، وسلبتني إيّاهما حيث شئت ، وأبقيت لي فيك طول الأمل يا بارُّ يا وَصُول.

فتعجّب موسى عليه السلام وأقبل إليه ، قال : يا عبد الله ، أنا رجل مجاب الدعوة ، إنْ شئتَ دعوتُ الله لشفائك.

فقال : لا ، إنّ ما يختاره لي ربّي أَحبُّ إليّ ممّا تختاره لي نفسي.

فقال له موسى عليه السلام : سمعتك تقول : يا بارُّ يا وصول.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ مصبح الشريعة : ١٧٧ ، مستدرك الوسائل ١١ : ١٩٨ / ح ١٦.

٢٣٢

قال : نعم ، إنّ ربّي هو البارُّ بي ، وهو الذي يصلني حيث ليس في هذه القرية غيري يعبده (١).

وقلنا في مباحث سابقة : إنّ الذنوب والمعاصي تشكّل رَيناً وحجاباً على القلب فتشوّش عنده الرؤيا ، ولكن حين تُصقَل النفس ، وتطهر من الأرجاس المعنويّة ، وتتّصف بالكمال ، وتتحلّى بمكارم الخصال ، فإنّ الله يفيض عليها من مواهبه ما يكشف لها ما غاب عن الأبصار.

قال النبيّ صلى الله عليه وآله : لو لا أنّ الشاطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماوات والأرض (٢).

قال سلام بن المستنير : كنت عند أبي جعفر «الإمام الباقر» عليه السلام ، فقال له حُمران ابن أعيَن : أُخبرِك ـ أطال الله بقاءَك لنا وأمتَعَنا بك ـ أنّا نأتيك ، فما نخرج من عندك حتّى تَرِقَّ قلوبنا ، وتَسْلوَ أنفسنا عن الدنيا ، ويَهُون علينا ما في أيدي الناس من هذه الأموال ، ثمّ نخرج من عندك ، فإذا صِرْنا مع الناس والتُّجار أحبَبْنا الدنيا.

فقال عليه السلام : إنّما هي القلوب ، تصعب مرّةً ومرّةً تسهل.

ثمّ قال أبو جعفر عليه السلام : أما إنّ أصحاب محمّد صلى الله عليه وآله قالوا : يا رسول الله ، نخاف علينا من النفاق!

فقال صلى الله عليه وآله : ولِمَ تخافون ذلك؟ قالوا : إذا كنّا عندك فذكّرتَنا ورغّبتنا ، وَجِلْنا ونَسِينا الدنيا ، وزَهِدنا حتّى كأنّا نعاين الآخرةَ والجنّة والنار ونحن عندك ، فإذا خرجنا من عندك ودخلنا هذه البيوت ، وشَمَمنا الأولاد ورأينا العيال والأهل ، يكاد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ مستدرك سفينة البحار ٤ : ١٥١.

٢ ـ رسائل الشهيد الثاني : ١٣٨ ، بحار الأنوار ٦٠ : ٣٣٢.

٢٣٣

أن نُحَوَّلَ عن الحالِ التي كنّا عليها عندك ، وحتّى كأنّا لم نكن على شيء ، أفتَخاف علينا أن يكون ذلك نفاقاً؟

فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله كلّا ، إنّ هذه خطوات الشيطان فيُرغّبهم في الدنيا ، واللهِ لو تدومون على الحالة التي وَصَفتُم أنفسكم لَصافحَتكم الملائكة ، ومَشَيتم على الماء ، ولولا أنكم تُذنبون فتستغفرون الله لَخلَق اللهُ خلقاً حتّى يُذنبوا ثمّ يستغفروا الله فيغفر اللهُ لهم. إنّ المؤمن مُفتَّنٌ توّاب ، أما سمعتَ قول الله عزّ وجلّ : (إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)؟! (١)

وقال النبيّ صلى الله عليه وآله : يا عليّ ، إنّ اليقين أن لا تُرضيَ أحداً على سَخَط الله ، ولا تَحْمَدَنّ أحداً على ما آتاك الله ، ولا تَذُمّنَّ أحداً على ما لم يُؤْتِك الله ، فإنّ الرزق لا يَجرُّه حِرصُ حريص ، ولا يصرفه كُرُه كاره ، فإنّ الله عزّ وجلّ بحكمته وفضله جعل الرَّوحَ والفَرَجَ في اليقين والرضى ، وجعل الهمّ والحزن في الشكّ والسُّخط ، إنّه لا فقرَ أشدُّ من الجهل (٢).

وورد في الآثار المعتبرة أنّ الصحابيّ الجليل عمّار بن ياسر قال في صفّين : اللهمّ إنّك تعلم أنّي لو أعلم رضاك في أن أقذف بنفسي في هذا البحر لفعلت ، اللهمّ إنّك تعلم أنّي لو أعلم أنّ رضاك في أن أضع ظبة سيفي في بطني ، ثمّ أنحني عليه حتّى يخرج من ظهري لفعلت ، اللهمّ إنّي أعلم ممّا علّمتني أنّي لا أعمل عملاً اليوم هذا هو أرضى لك من جهاد هؤلاء الفاسقين (٣).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ٤٢٤ / ح ١ ، والآية في سورة البقرة : ٢٢٢.

٢ ـ التوحيد للصدوق : ٣٧٥ ـ ٣٧٦ / ح ٢٠.

٣ ـ شرح نهج البلاغة ٥ : ٢٥٣ ، وقعة صفّين : ٣٢٠.

٢٣٤

واليقين يقود إلى مرتبة أرقى وهي الإخلاص ، والإخلاص هو روح العبادة ، وقوام الإيمان والإقبال على الله ، والإخلاص يكون إمّا في أصل التوحيد ، وإمّا في أصل الأعمال العباديّة.

وقد ورد في الأحاديث المستفيضة ما يشير إلى أهميّة الإخلاص ، منها : قول النبيّ صلى الله عليه وآله : ما أخلص عبد لله عزّ وجلّ أربعين صباحاً إلّا جرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه (١).

وقال أمير المؤمنين عليه السلام : بالإخلاص يكون الخلاص (٢).

وعن النبيّ صلى الله عليه وآله قال : من قال : لا إلهَ إلّا اللهُ مخلصاً دخل الجنّة ، وإخلاصه أن يحجزه لا إله إلّا الله عمّا حرّم الله عزّ وجلّ (٣).

وقال الإمام الجواد عليه السلام : أفضل العبادة الإخلاص (٤). وقال الإمام الصادق عليه السلام : وأدنى مقام المخلص في الدنيا السلامة من جميع الآثام ، وفي الآخرة النجاة من النار والفوز بالجنّة (٥).

يقول السيّد عبد الأعلى السبزواريّ : الخلوص والإخلاص لله تعالى في الأعمال والحالات ، كجواز سفر إلهيّ للسياحة في عوالم الغيب وإتيان التحف منها إلى عالم الشهادة وبحسب مراتب الإخلاص وظرفيّة المخلص هذا مقام عالٍ جداً ، ولذا تواترت نصوص الفريقين بما مضمونه : أنّ السعي في زيادة كيفيّة الأعمال

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ عيون أخبار الرضا عليه السلام ٢ : ٦٩ / ح ٣٢١ ـ الباب ٣١.

٢ ـ الكافي ٢ : ٤٦٨ / ح ٢.

٣ ـ معاني الأخبار : ٣٧٠ / ح ٢.

٤ ـ تفسير الإمام العسكريّ عليه السلام : ٣٢٩ / ح ١٨٦ ، عدّة الداعي : ٢١٩.

٥ ـ رسائل الشهيد الثاني : ١٢٥ ، بحار الأنوار ٦٧ : ٢٤٥ / ح ١٨ ـ عن : مصباح الشريعة : ٥٣.

٢٣٥

أحسن من السعي في زيادة كمّيّتها ، وأنّ السعي في تصحيح العقائد والأخلاق أهمّ من السعي في تكثير الأعمال (١).

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله المعصومين الطاهرين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ مهذّب الأحكام ٦ : ١٠٣.

٢٣٦

المبحث الثلاثون : في الرزق

قال عليه السلام : اَللّهُمَّ اَنْتَ الْقائِلُ وَقَوْلُكَ حَقٌّ ، وَوَعْدُكَ صِدْقٌ : (وَاسْأَلُوا اللَّـهَ مِن فَضْلِهِ) ، (إِنَّ اللَّـهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) ، وَلَيْسَ مِنْ صِفاتِكَ يا سَيّدي اِنْ تَأمُرَ بِالسُّؤالِ وَتَمْنَعَ الْعَطِيَّةَ ، وَاَنْتَ الْمَنّانُ بِالْعَطِيّاتِ عَلى اَهْلِ مَمْلَكَتِكَ ، وَالْعائِدُ عَلَيْهِمْ بِتَحَنُّنِ رَأْفَتِكَ.

هذا المقطع من الدعاء فيه التماسٌ توسّلي ، فالداعي يقول لربّه بأنّه أمر عباده بالسؤال ووعد بالإجابة.

قال تعالى : (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (١) ، وليس من صفات الخالق القدير ، والملك الكريم أن يُخلف وعده ، وها هو يسأل الله من فضله ، إذ هو مصدر كلّ خير ونعمة ، ومصدر كلّ عطاء ورحمة.

والمنّان : ذو المنّة ، وهي النعمة الثقيلة ، وذلك في الحقيقة لا يكون إلّا لله تعالى.

والنصّ القرآنيّ الشريف : (وَاسْأَلُوا اللَّـهَ مِن فَضْلِهِ) ، (إِنَّ اللَّـهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) ، هو لسان حال الكتاب النازل من عند الله تعالى أنزله هدىً ونوراً وموعظة للمتّقين ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ غافر : ٦٠.

٢٣٧

ولم يكن الاستدلال بآية واحدة ، بل كان بآيتين.

وقد قال تعالى : (وَاللَّـهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (١) ، وقال سبحانه : (اللَّـهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ) (٢) ، وقال تبارك وتعالى : (وَلَوْ بَسَطَ اللَّـهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَـٰكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) (٣) ، وورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله قوله : سلوا الله من فضله ، فإنّ الله يحبّ أن يُسأل (٤).

والفضل أشمل من الرزق ، والنسبة بينهما عموم وخصوص ، وساحته أوسع ، وميدانه أكبر ، إذ يشمل المواهب الإلهيّة والفيوضات إضافة إلى المادّيات التي يقوم بها الإنسان الفرد ، والإنسان الأُمّة.

أمّا الرزق : فكلّ ما ينتفع به الناس في بقائه من مأكل ومشرب ، وملبس ومسكن ومنكح ، وولد وعلم وقوّة ، وغير ذلك (٥).

أمّا الفضل فيستعمل في الإنعام على الغير بما هو زائد عن حاجة ذلك المنعم ، وهذا المعنى لا ينطبق انطباقاً حقيقيّاً على غير الله سبحانه.

فإذا أنعم الإنسان على غيره ومنحه الفضول من متاعه فهو متفضّل عليه ، ولكن هذا التفضّل قد يكدّره المنّ والأذى والانقطاع ، وهذا التفضّل يكون لله وحده بالأصالة ، ولغيره بالامتداد والإذن.

قال تعالى مخاطباً نبيّه الأعظم في قضيّة زيد بن حارثة : (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ البقرة : ٢١٢.

٢ ـ العنكبوت : ٦٢.

٣ ـ الشورى : ٢٧.

٤ ـ سنن الترمذيّ ٥ : ٢٢٥ ح ٣٦٤٢.

٥ ـ تفسير الميزان ١٨ : ٣٧٥.

٢٣٨

اللَّـهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) (١).

فأراد الله سبحانه أن يوجّه العباد إلى ساحة كرمه وفضله ، فيسلكوا السبل والأسباب الموصلة إلى خزائنه التي لا تنفد ، والمراد بفتح خزائن الله هو السعي في طلب الرزق الحلال من أسبابه.

قال تعالى : (أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (٢).

إنّ الله وحده هو الرازق الحقيقيّ بالأصالة ، وإذ عُدّ غيره رازقاً فبالامتداد والإذن ، ويكون الرازق هنا وسيطاً بين يد الله الفيّاضة بالجود والكرم ، وبين عباد الله من ذوي الحاجة. فالرزق رزقه ، والعطاء عطاؤه واقعاً ، وهو القائل عزّ من قائل : (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ) (٣).

والرزق من الناحية التكوينيّة لا يُنسب إلّا لله سبحانه ، إذ هو مصدر كلّ خير وعطاء ، ولا يكون إلّا خيراً محضاً ، حيث لا يمكن نسبة المعصية وأسبابها المباشرة إلى الله العليّ العظيم ، ثمّ كيف يُحاسَب العاصي على ذلك؟

أمّا من ناحية التشريع ، فإنّ إرادة الإنسان واختياره يجعلانه على مفترق طريقين ، فقد يُحوِّل الرزق والطاقات الماليّة والقوى والقابليات إلى مصادر الخير والطاعة ، وكسب الثواب ، أو يحوّلها إلى طاقات للإفساد والمعاصي ، فالإنسان هنا يخلق الفعل من جانبَيِ الطاعة والمعصية ، ليكون المسؤول الذي تُلقى عليه الحجّة البالغة.

والرزق الإلهيّ مجموعة من المواهب والفيوضات المحضة ، يهبها الله

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الأحزاب : ٣٧.

٢ ـ المؤمنون : ٧٢.

٣ ـ الحجر : ٢١.

٢٣٩

لمخلوقاته من دون استحقاق ، ومن دون فرض ، ومن دون عوض ، وإذا فهمنا معنى الوجوب من ظاهر بعض الآيات الشريفة ، فبما أوجبه هو سبحانه على نفسه من باب رحمته وعطفه ورأفته ، وهذه الواجبات تسمّى «الواجبات اللُّطفيّة».

قال تعالى : (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّـهِ رِزْقُهَا) (١).

يقول صاحب «الميزان» قدس سره : ومن هنا يظهر أنّ للإنسان المرتزق بالمحرّمات رزقاً مقدَّراً من الحلال بنظر التشريع ، فإنّ ساحته تعالى منزّهة من أن يجعل رزق إنسان حقّاً ثابتاً على نفسه ، ثمّ يرزقه من وجه الحرام ، ثمّ ينهاه عن التصرّف فيه ويعاقبه عليه (٢).

وكما أنّ الرحمة الإلهيّة تكون على أقسام : فهناك رحمة عامة شاملة لجميع أفراد الإنسان من مؤمن وكافر ، وبرّ وفاجر ، وصالح وطالح ، وهناك رحمة خاصّة بالمؤمنين ، وهذه هي المواهب والآلاء التي تقودهم إلى طريق سعادتهم الأبديّة ونجاتهم الدائمة.

وهناك رحمة لخصوص الخصوص ، وهي النعم الكبرى على من أخلصهم الله تعالى لنفسه ، واجتباهم لغيبه ممّن آتاهم العصمة ، وأفاض عليهم النبوّة والإمامة ، وجعلهم الحجّة التامّة على جميع خلقه.

كذلك الرزق ، فمنه ما هو عامّ يشمل الجميع ، ومنه خاصّ وهو المختصّ بالكسب الحلال من موارده التي بيّنها الشرع الحنيف وارتضاها العقل السليم ، وهناك رزق لخصوص الخصوص بما آتاهم من الولاية التكوينيّة كلّ بحسب

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ هود : ٦.

٢ ـ تفسير الميزان ٣ : ١٤٠.

٢٤٠