مائة مبحث ومبحث في ظلال دعاء أبي حمزة الثمالي

الشيخ جبّار جاسم مكّاوي

مائة مبحث ومبحث في ظلال دعاء أبي حمزة الثمالي

المؤلف:

الشيخ جبّار جاسم مكّاوي


المحقق: عبدالحليم عوض الحلّي
الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: بنياد پژوهشهاى اسلامى آستان قدس رضوى
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-971-683-1
الصفحات: ٤٥٧

العفو يُرجى مِن بني آدمٍ

فكيف لا أرجوه مِن ربّي؟! (١)

وقال عفا الله عنه :

أيا مَن ليس لي منه مجيرُ

بعفوِك مِن عذابِك أستجيرُ

أنا العبد المُقرُّ بكلِّ ذنبي

وأنت السيّدُ المولى الغفورُ

فإن عذّبتَني فبِسوءِ فعلي

وإن تَغفرْ فأنت به جديرُ

أفرُّ إليك منك وأين إلّا

إليك يفرُّ منك المستجيرُ! (٢)

وصدق الله القائل : (حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّـهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّـهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (٣).

وورد في التائب توبة نصوحاً عن أهل البيت عليهم السلام أنّ التائب حبيب الله ، وأنّ التائب من الذنب كمن لا ذنب له (٤) ، وهذا المحو والستر هو العفو والمغفرة التي هي رجوع الله إلى عبده التائب.

أمّا الذي يستغفر الله بلسانه وهو مقيم على الذنب ، غير عازم على الترك ، فهو كالمستهزئ سبحانه كما في الأخبار (٥) ، وقال أحد الفضلاء : إنّ على هذا أن يستغفر من استغفاره.

إنّ التوبة إذا كانت مستجمعة لشرائطها المقبولة فهي مقبولة وفق العهد الالهيّ ، قال تعالى : (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّـهِ إِنَّ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ المصباح للكفعميّ : ٣٨٣.

٢ ـ أعيان الشيعة ٥ : ٣٨٨.

٣ ـ التوبة : ١١٨.

٤ ـ ينظر : الكافي ٢ : ٤٣٥ / ح ٩ و١٠.

٥ ـ الكافي ٢ : ٤٣٥ / ح ١٠ ، الخصال للصدوق : ٥٤٣ / ح ١٨.

٢٠١

اللَّـهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (١) ، وقال سبحانه : (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) (٢).

وورد في السنّة الشريفة مئات الأحاديث في المقام ، ففي الأثر : أنّه قال النبيّ صلى الله عليه وآله : إنّ الله تعالى يبسط يده بالتوبة لمسيء الليل إلى النهار ، ولمسيء النهار إلى الليل ، حتّى تطلع الشمس من مغربها (٣). وطلوع الشمس من مغربها كناية عن موعد ظهور الإمام المنتظر عجّل الله تعالى فرجه الشريف ، إذ عندها لا تُقبل توبة تائب ، وذلك علامة من أشراط الساعة.

وقال صلى الله عليه وآله : لو عَمِلتم الخطايا حتّى تبلغ السماء ، ثمّ ندمتم لتاب الله عليكم (٤).

وفي الحديث المشهور عنه صلى الله عليه وآله : مَن تاب قبل موته بسنة قَبِل الله توبته ، ثمّ قال : إنّ السنة لكثيرة ، من تاب قبل موته بشهر قَبِل الله توبته ، ثمَّ قال : إنّ الشهر لكثير ، من تاب قبل موته بجمعة قبل الله توبته ، ثمّ قال : إنّ الجمعة لكثير ، من تاب قبل موته بيوم قَبِل الله توبته ، ثمّ قال : إنّ يوماً لكثير ، من تاب قبل أن يعاين «أي ملك الموت» قَبِل الله توبته (٥).

وعن الإمام الباقر عليه السلام قال لأحد أصحابه : كلّما عاد المؤمن بالاستغفار والتوبة عاد اللهُ عليه بالمغفرة ، وإنّ الله غفورٌ رحيم ، يقبل التوبة ويعفو عن السّيئات ، فإيّاك أن تُقنِّط المؤمنين مِن رحمة الله (٦).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الزمر : ٥٣.

٢ ـ الشورى : ٢٥.

٣ ـ جامع السعادات ٣ : ٦٦.

٤ ـ حكاه في : جامع السعادات ٣ : ٦٧.

٥ ـ الكافي ٢ : ٤٤٠ / ح ٢.

٦ ـ نفسه ٢ : ٤٣٤ / ح ٦.

٢٠٢

وقال الصادق عليه السلام : العبد المؤمن إذا أذنب ذنباً أجّله الله سبع ساعات ، فإن استغفر الله لم يُكتَب عليه شيء ، وإن مضت الساعات ولم يستغفر كُتِبت عليه سيّئة. وإنّ المؤمن لَيذكر ذنبه بعد عشرين سنةً حتّى يستغفر ربّه فيغفر له ، وإنّ الكافر لَيَنساه من ساعته (١).

كيف نحقّق التوبة

أمّا كيف نحقّق التوبة المستجمعة للشرائط ، فلا بدّ أن ننظر إلى الذنوب والمعاصي أوّلاً ، وبهذا نشخّص الداء لِنَصف له الدواء :

١. إذا كان الإنسان قد ترك بعض الواجبات : كالصلاة والصيام والحجّ والكفّارات ونحوها ، فعليه بعد الندم والاستغفار القضاء.

ـ إذا كان مقترفاً لبعض المعاصي التي بينه وبين الله : كاستماع الغناء وشرب الخمر والزنا والكذب ، فعليه الانتهاء.

ـ أمّا حقوق الناس فلا بدّ من إعادة المغصوب أو المسروق ، أو الانقياد لأولياء الدم بالقَوَد أو قبول الدية في الدماء ، وإن أمكن الاستحلال من أصحاب الشأن في المعنويات ، وإلّا فليستغفر لأصحاب الحقّ لعلّهم يرضون عنه يوم كشف السرائر في عرصات القيامة.

ـ هناك ذنوب لا يمكن الاستحلال من أصحابها ، لأنّ ذلك يخلق الفتن والمشاحنات ، كما لو اعترف رجل لصديقه أنّه كان يخونه في فراشه مثلاً ، فهنا لابدّ من الاستغفار لذلك الصديق وإكرامه ورعايته ، فلعلّه يرضى عن ظالمه يوم القيامة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ٤٣٧ / ح ٣.

٢٠٣

ـ وأمّا ما افتراه على غيره من المؤمنين ، وما نسبه إليهم من الضلال والفسق والانحراف والسرقة وغيرها ، فلا بدّ أن يعلن عن كذبه ، ويبرّئَ ساحة المظلومين ، وإن أمكنه الاستحلال منهم فذلك خير.

والتوبة مطلوبة على كلّ حال ، فلعلّها تخفّف عن صاحبها بعض العذاب ، أو لعلّ الله سبحانه يبسط رحمته الكبرى الشاملة ، فيرضي المظلومين عن ظلميهم ، فلا ينبغي اليأس والقنوط.

إنَّ الذنوب قسمان :

١ ـ صغائر ، وهي التي أُطلق عليها القرآن اسم (اللمم) ، قال الله تعالى : (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) (١).

ويشترط في بقائها على عنوانها الأوليّ ، وهو الصغائر ، عدم الإصرار عليها ، وعدم استصغارها واستخفافها ، أو إذاعتها بين الناس والتفكّه بها والتفاخر بها ، ممّا يجعلها من باب حبّ شيوع الفاحشة. وقد ورد في الحديث الصادقيّ الشريف : لا صغيرةَ مع الإصرار ، ولا كبيرةَ مع الاستغفار (٢).

٢ ـ كبائر ، وهي التي أوعد الله عليها دخول النار ، وقد ذكر معظمَها الفقهاء في رسائلهم العملية في باب التقليد ، فلتُراجع ، فاجتناب الكبائر يكفّر الصغائر إن لم تكن عن إصرار.

قال النبيّ صلى الله عليه وآله : الصلوات الخمس والجمعة تكفّر ما بينهنّ إن اجتُنِبَت الكبائر (٣).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ النجم : ٣٢.

٢ ـ الكافي ٢ : ٢٨٨ / ح ١ ـ باب الإصرار على الذنب.

٣ ـ مسند أحمد ٢ : ٣٥٩.

٢٠٤

وقال بعضها : إنّ مسألة الكِبَر والصِّغر هي مسائل نسبيّة ، فكلّ ذنب كبير (١). وقد ورد : لا تنظر إلى صغر المعصية ، ولكن انظر إلى عظمة من عصيت (٢) ، فقد يكون الذنب كبيراً بالإضافة إلى ما هو دونه ، وصغيراً بالإضافة إلى ما هو فوقه ، فلمس المرأة الأجنبيّة صغير بالنسبة إلى الزنا ، لكنّه كبير بالاضافة إلى النظر ، ولعلّ إبهام الكبائر أو الصغائر هي مسألة تأديبيّة ، أراد الشارع المقدّس منها أن يتجنّب المكلّف جميع الذنوب والمعاصي. وقد ورد أنّ الله سبحانه أبهم اسمه الأعظم ليسأل الناس ربّهم بكلّ أسمائه الحسنى ، وأبهم ليلة القدر ليجتهدوا في العبادة في جميع ليالي القدر الثلاث من شهر رمضان.

ولا ينبغي أن تكون التوبة والاستغفار لقلقة لسان ، بل عن ندم صادق ، وعن علم بقبح الذنب ، وعن قضاء الفوائت وإرجاع حقوق الناس ، وإصلاح المحتوى الداخليّ للإنسان.

قال أمير المؤمنين عليه السلام لمن قال بحضرته : أستغفرُ الله : ثكلتك أمُّك! أتدري ما الاستغفار؟ إنّ الاستغفار درجة العِلِّيّين ، وهو اسم واقع على ستّة معانٍ : أوّلُها : الندم على ما مضى ، والثاني : العزم على ما ترك العَود عليه أبداً ، والثالث : أن تؤدّي إلى المخلوقين حقوقهم حتّى تلقى الله أملسَ ليس عليك تَبِعة ، والرابع : أن تعمد إلى كلّ فريضة عليك ضيّعتَها فتؤدّيَ حقّها ، والخامس : أن تَعمِد إلى اللحم الذي نبت على السُّحت فتُذيبَه بالأحزان حتّى تُلصِقَ الجلد بالعظم ، وينشأَ بينَهما لحم جديد ، والسادس : أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ ينظر : الخصال : ٦١٠ ـ قول الشيخ الصدوق : كلُّ ذنبٍ كبيرٌ بالإضافة إلى ما هو أصغر منه ، وصغيرةٌ بالإضافة إلى ما هو أكبرُ منه. عنه : بحار الأنوار ١٠ : ٢٢٩.

٢ ـ تاريخ بغداد ٤ : ٤٦.

٢٠٥

فعند ذلك تقول : أستغفر الله (١).

وقد قال علماء الأخلاق بصحّة التبعيض في التوبة ، كما لو كان الإنسان يمارس الزنا ويشرب الخمر ، فيتوب من الزنا ، لكنّه يبقى على شرب الخمر من غير توبة ، إنّ توبة العبد إذا استكملت شرائطها فهي مقبولة ، وإن تكرّرت مراراً وتكراراً ، فإنّ العبد معرّض للوقوع في المعصية ، وكرم الله ورحمته أوسع من ذنبه.

قال أبو جعفر الباقر عليه السلام : يا محمّد بن مسلم ، ذنوب المؤمن إذا تاب منها مغفورة له ، فَلْيعملِ المؤمن لما يَستأنف بعد التوبة والمغفرة. أما والله إنّها ليست إلّا لأهل الإيمان.

قلت : فإن عاد بعد التوبة والاستغفار من الذنوب وعاد في التوبة؟ قال عليه السلام : يا محمّد بن مسلم ، أترى العبدَ المؤمن يندم على ذنبه ويستغفر منه ويتوب ثمّ لا يقبل الله توبته؟

قلت : فإنّه فعل ذلك مراراً ، يذنب ثمّ يتوب ويستغفر.

فقال عليه السلام : كلّما عاد المؤمن بالاستغفار والتوبة عاد الله عليه بالمغفرة ، وإنّ الله غفور رحيم ، يقبل التوبة ويعفو عن السّيئات ، فإيّاك أن تُقنّط المؤمنين من رحمة الله (٢).

أقسام التائبين

أمّا أقسام نفوس التائبين فقد ذكر علماء الأخلاق أنّها أربعة :

ـ النفس المطمئنّة : وهؤلاء هم التائبون إلى الله توبة نصوحاً لا رجعة فيها إلى

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ نهج البلاغة : الحكمة ٤١٧.

٢ ـ الكافي ٢ : ٤٣٤ / ح ٦.

٢٠٦

الذنب ، وإذا عرض لهم اللمم فإنّهم يجأرون إلى بارئهم بالتوبة والاستغفار ، وقد وعد الله أُولئك بالجنّة في جواره حيث قال سبحانه : (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي) (١).

ـ النفس اللوّامة : وهؤلاء يتوبون من الذنوب والمعاصي ، كبيرِها وصغيرها ، ولكن تغلبهم شهواتهم وأهواؤهم فيقعون في المعصية ، ثمّ سرعان ما يندمون ويأسفون ويعودون إلى صراط الله القويم ، وقد غلب خيرهم على شرّهم. وقد وعدهم الله سبحانه بالوعد الحسن : (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ) (٢).

ـ النفس المسوِّلة : وهؤلاء يحتدم عندهم صراع قوى الخير وقوى الشرّ ، فيقعون في المعاصي كثيراً ، ثم يتوبون من بعضها ، أو يسوّفون التتوبة ، فإنّ توبة هؤلاء متزلزلة ، مضطربة ، متأرجحة بين الصدق والأماني الكاذبة ، وهؤلاء ممّن وصفهم الله تعالى حيث قال : (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّـهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (٣).

إنّ المؤمن مطالب بالجدّ والاجتهاد في طاعة الله ، وترك المحرّمات ، ونيل درجات القرب من الله ، ولا ينبغي احتقار الطاعات القليلة ، فإنّ القليل إذا اجتمع مع القليل صار كثيراً ، والخيط إذا ضُمّ إلى الخيط صار قماشاً ، فإيّانا والغفلةَ عن الله سبحانه وتعالى.

قال رسول الله صلى الله عليه وآله : إنّ الله عزّ وجلّ كتم ثلاثةً في ثلاثة : كتم رضاه في طاعته ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الفجر : ٢٧ ـ ٣٠.

٢ ـ النجم : ٣٢.

٣ ـ التوبة : ١٠٢.

٢٠٧

وكتم سَخَطَه في معصيته ، وكتم وليَّه في خَلْقه ، فلا يستخفّنّ أحدكم شيئاً من الطاعات ، فإنّه لا يدري في إيِّها رضاءُ الله تعالى ، ولا يستقلّنّ أحدكم شيئاً من المعاصي ، فإنّه لا يدري في أيّها سَخَطُ الله ، ولا يُزرِيَنّ أحدُكم بأحدٍ من خَلق الله ، فإنّه لا يدري أيّهم وليّ الله (١).

والتوبة كما قلنا مراتب أرقاها درجة الإنابة ، والمراد منها الرجوع إلى الله والانقطاع إليه انقطاعاً تامّاً ، سرّاً وعلناً ، قولاً وفعلاً ، نيّةً وسلوكاً ، فيكون القلب خالياً من كلّ شاغل عن الله ، وهذه غاية الإسلام حيث قال الله سبحانه في كتابه : (وأنيبوا إلى ربّكم وأسلموا له) (٢).

وقال تعالى : (واُزلفت الجنّة للمتقين غير بعيد * هذا ما توعدون لكلّ أوّابٍ حفيظ * من خشي الرّحمن بالغيب وجاء بقلبٍ منيب * ادخلوا بسلامٍ ذلك يوم الخلود * لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد) (٣).

ونعود من جديد للتأكيد على صدق التوبة ، والتثبّت من مواقفنا مع الله سبحانه ، وخلوص نيّاتنا عند الاستغفار ، فقد روي أن النبيّ صلى الله عليه وآله قال : أتدرون من التائب؟ قالوا : اللهمّ لا ، قال صلى الله عليه وآله : إذا تاب العبد ولم يُرضِ الخصماءَ فليس بتائب ، ومن تاب ولم يغيّر مجلسه وطعامه فليس بتائب ، ومن تاب ولم يغيّر رفقاءه فليس بتائب ، ومَن تابَ ولم يَزِد في العبادة فليس بتائب ، ومن تاب ولم يغيّر لباسه فليس بتائب ، ومن تاب ولم يغيّر فراشه وسادته فليس بتائب ، ومَن تاب ولم يفتح قلبَه ولم يوسّع كفَّه فليس بتائب ، ومن تاب ولم يقصّر أمله ويحفظ لسانه فليس

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ كنز الفوائد : ١٣ ، مستدرك الوسائل ٩ : ١٠٣ / ح ٢.

٢ ـ الزمر : ٥٤.

٣ ـ سورة ق : ٣١ ـ ٣٥.

٢٠٨

بتائب ، ومن تاب ولم يقدّم فضل قُوته من يديه فليس بتائب ، وإذا استقام على هذه الخصال فذاك التائب (١).

إنّ الرواية الشريفة لا تنفي أصل التوبة بل تنفي جانب الكمال فيها فالنبيّ صلى الله عليه وآله أراد أن تكون التوبة نقلة نوعيّة ، تنقل الإنسان من الظلمات إلى النور ، ومن مذموم الأخلاق إلى مكارمها ، ومن لقمة الحرام وقرين السوء إلى طيب المكسب وحسن المعاشرة مع المؤمنين ، وإعادة حقوق المظلومين ، والخروج من ولاية الشيطان إلى رحاب ولاية الله سبحانه.

والآن نعطّر أجواء هذا المبحث بهذا الحديث الشريف الذي هو من روائع أهل العصمة ، فقد ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله قوله : خلق الله تعالى تحت العرش مَلَكاً يسبّحه بجميع اللغات المختلفة ، فإذا كان ليلةُ الجمعة أمره أن ينزل من السماء إلى الدنيا ، ويطّلع إلى أهل الأرض ويقول :

يا أبناء العشرين لا تغرّنكم الدنيا ، ويا أبناء الثلاثين اسمعوا وَعُوا ، ويا أبناء الأربعين جدّوا واجتهدوا ، ويا أبناء الخمسين لا عذرَ لكم ، ويا أبناء الستّين ماذا قدّمتم في دنياكم لآخرتكم؟ ويا أبناء السبعين زرعٌ قد دنا حصاده ، ويا أبناء الثمانين أطيعوا الله في أرضه ، ويا أبناء التسعين آنَ لكم الرحيلُ فتزوّدوا ، ويا أبناء المائة أتتكم الساعة وأنتم لا تشعرون!

ثمّ يقول : لولا مشايخُ رُكَّع ، وفتيانٌ خُشّع ، وصبيانٌ رضّع ، لَصُبّ عليكم العذاب صبّاً (٢).

وأختم هذا المبحث متبرّكاً بالمناجاة الشريفة للإمام عليّ بن الحسين عليه السلام ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ جامع الأخبار : ٢٢٧ / ح ٥٧٨ ، مستدرك الوسائل ١٢ : ١٣٠ / ح ٢.

٢ ـ إرشاد القلوب : ١٩٣ ـ الباب ٥٢ ، مستدرك الوسائل ٦ : ٧٥ ح ٧.

٢٠٩

والموسومة بـ «مناجاة التائبين» :

إلهي ألبًسْتني الخطايا ثوبَ مَذلّتي ، وجَلَّلني التباعدُ مِنك لباسَ مَسْكنتي ، وأمات قلبي عظيمُ جِنايتي ، فأحْيِهِ بتوبةٍ منك يا أملي وبُغْيتي ، ويا سُؤْلي ومُنْيتي ، فَوَعزّتِك ما أجدُ لذنوبي سواك غافراً ، ولا أرى لكسري غيرَك جابراً ، وقد خضَعْتُ بالإنابة إليك ، وعَنَوتُ بالاستكانة لديك ، فإن طردتَني مِن بابِك فبِمَن ألوذ ، وإن رَدَدْتَني عن جَنابك فبِمَن أعوذ؟! فَوا أسفاهُ مِن خَجْلتي وافتضاحي ، ووالهفاهُ مِن سوء عملي واجتراحي (١) ، أسأل يا غافرَ الذنبِ الكبير ، ويا جابرَ العظمِ الكسير ، أن تَهَبَ لي مُوبقات الجرائر ، وتَستُرَ علَيّ فاضحاتِ السرائر ، ولا تُخْلِني في مشهد القيامة مِن بَرْدِ عفوِك ومغفرتِك ، ولا تُعْرِني مِن جميلِ صَفحِك وسَترِك.

إلهي ظلِّلْ على ذنوبي غَمامَ رحمتِك ، وأرسِلْ على عيوبي سحابَ رأفتِك ، إلهي هل يَرجِع العبدُ الآبق إلّا إلى مَولاه؟ أم هل يُجيرُه من سَخَطِه أحدٌ سواه؟!

إلهي إن كان الندمُ على الذنب توبة ، فإنّي وعزّتِك مِن النادمين ، وإن كان الاستغفار من الخطيئة حِطّةً فإنّي لك من المستغفرين ، لك العُتْبى حتّى ترضى.

إلهي بقدرتك عَلَيَّ تُبْ علَيّ ، وبحِلمِك عنّي اعفُ عنّي ، وبِعلمِك بيَ ارفَقْ بي.

إلهي أنت الذي فتحتَ لعبادِك باباً إلى عفوِك سمّيتَه التوبة ، فقلت : (تُوبُوا إِلَى اللَّـهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا) ، فما عذرُ مَن أغفل دخولَ البابِ بعدَ فتحِه.

إلهي إن كان قَبُحَ الذنبُ من عبدِك ، فَلْيَحسُنِ العفوُ مِن عندِك.

إلهي ما أنا بأوّلِ مَن عصاك فتُبتَ عليه ، وتعرّضَ لمعروفِك فجُدتَ عليه ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الاجتراح : الاكتساب ، قال ابن دريد : فلان جارَحَ أهله وجارحَهُ أهله ، إذا كان كاسَبَهم ، وجوارح الإنسان من هذا ، لأنّهنّ يجترحن له الخير أو الشرّ ، أي يكسب بهنّ. [ترتيب جمهرة اللغة ١ : ٢٦٩]

٢١٠

يا مجيبَ المضطرّ ، يا كاشفَ الضُّرّ ، يا عظيمَ البِرّ ، يا عليماً بما في السرّ ، يا جميلَ السِّتر ، استشفعت بِجُودِك وكرمِك إليك ، وتوسّلتُ بجَنابِك وترحّمِك لديك ، فاستجِبْ دعائي ، ولا تُخيِّبْ فيك رجائي ، وتَقبّلْ توبتي ، وكفّرْ خطيئتي ، بمنّك ورحمتك يا أرحم الراحمين (١).

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين المعصومين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الصحيفة السجّادية (ط السيّد محمّد باقر الأبطحي) : ٤٠١ ـ ٤٠٣.

٢١١

المبحث السابع والعشرون : في حُسن الظنّ

قال عليه السلام : بَلْ لِثِقَتي بِكَرَمِكَ ، وَسُكُوني اِلى صِدْقِ وَعْدِكَ ، وَلَجَائي اِلَى الْإيمانِ بِتَوْحيدِكَ ، وَيَقيني بِمَعْرِفَتِكَ مِنّي اَنْ لا رَبَّ لي غَيْرُكَ ، وَلا اِلهَ إلّا اَنْتَ وَحْدَكَ لا شَريكَ لَكَ.

يتوجّه الداعي عليه السلام في هذا المقطع إلى ربّه معبّراً عمّا يجيش في قلبه من حسن الظنّ بالله تعالى ، وهذا التوجّه هو ثمرة من ثمرات الإيمان ، وقوّة الاعتقاد ، ومن معطيات روح الإسلام التي تحثّ الإنسان على عدم اليأس والقنوط من رحمة الله ، وتخبره أنّ الله سبحانه مصدر كلّ خير وعطاء ، وأنّه خلق الإنسان ليفيض عليه رحمته ، ويغمره برأفته الشاملة.

وإنّ كلّ ما يصيب الإنسان من خير أو ابتلاء فإنّه رحمة له ، وصلاح لدينه ودنياه ، وسوف يرى عاقبة ذلك في عرصات القيامة يوم تُوفّى كلّ نفس بما كسبت وردّوا إلى الله مولاهم الحقّ.

وقد ورد على لسان الروايات أن ليس خير بعده النار بخير ، وليس شرّه بعده الجنّة بشرّ ، فالمصائب والويلات التي تصيب الإنسان سوف يقابلها الله تعالى

٢١٢

بأجر الصابرين (١).

إنّ الشريعة الإسلاميّة أمرت أبناءها أن يحسنوا الظنّ بإخوانهم المؤمنين ، وهذا من مكارم الأخلاق ، حيث ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله : ضَعْ أمر أخيك على أحسنه حتّى يأتيَك ما يَغْلبك منه ، ولا تظنّنّ بكلمة خرجت من أخيك سوءاً وأنت تَجِد لها في الخير مَحْملاً (٢).

ولا ينبغي أن نحسن الظنّ بالأشرار ومجهولي الهويّات.

فها هو سيّد البلغاء والمتكلّمين ، تلميذ القرآن ، وتلميذ الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله ، ذلك أمير المؤمنين عليه السلام يفتح أعيننا على هذه الحقيقة إذ يقول : إذا استولى الصلاح على الزمان وأهله ، ثمّ أساء رجل الظنّ برجل تَظهر منه حَوبةٌ فقد ظَلَم ، وإذا استولى الفساد على الزمان وأهله فأحسَنَ رجل الظنَّ برجل فقد غَرَّر (٣).

وعن الإمام عليّ الهادي عليه السلام ورد قوله : إذا كان زمانٌ العدلُ فيه أغلبُ من الجور ، فحرام أن يُظَنَّ بأحد سوءاً حتّى يُعلَمَ ذلك منه. وإذا كان زمانٌ الجورُ فيه أغلب من العدل ، فليس لأحد أن يظنّ بأحد خيراً حتّى يبدو ذلك منه (٤).

وعن رسول الله صلى الله عليه وآله جاء قوله : احترسوا من الناس بسوء الظنّ (٥) ، فالله سبحانه قد وعد بقبول توبة العبد الآبق ، وشموله بالتوبة والعفو والمغفرة ، ووعده أن يدخله في ولايته إذا أحسن واستقام على جادّة الحقّ والهدى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ ينظر : تحف العقول : ٨٨.

٢ ـ الكافي ٢ : ٣٦٢ / ح ٣.

٣ ـ نهج البلاغة : الحكمة ١١٤ ، غَرّر : أي أوقع نفسَه في الغَرَر ، وهو الخطر.

٤ ـ الدرة الباهرة من الأصداف الطاهرة : ٤٢ ، بحار الأنوار ٧٨ : ٣٧٠ / ح ٤ ـ عن : إعلام الدين للحسن بن أبي الحسن الديلمي.

٥ ـ مجمع الزوائد ٨ : ٨٩.

٢١٣

قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّـهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُولَـٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) ، وقال سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّـهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ) (١).

والآن نعود إلى السنّة الشريفة لنطّلع على ما أتحفنا به آل البيت من علومهم وإرشاداتهم بخصوص وجوب حسن الظنّ بالله تعالى ، وتحريم سوء الظنّ به ، فقد ورد عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قوله : أحسِنِ الظنَّ بالله ، فإنّ الله عزّ وجلّ يقول : أنا عند حُسنَ ظنِّ عبديَ الؤمن بي ، إنْ خيراً فخيراً ، وإنْ شرّاً فشرّاً (٢).

وعن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال : من حَسُنَ ظنّه بالله كان الله عند حسن ظنّه به ، ومَن رضيَ بالقليل من الرزق قَبِل الله منه اليسير من العمل (٣) ، وقال الإمام الصادق عليه السلام أيضاً : حسن الظنّ بالله أن لا ترجوَ إلّا الله ، ولا تخافَ إلّا ذنبك (٤).

وعن النبيّ صلى الله عليه وآله ورد قوله : والذي لا إله إلّا هو ، لا يَحسُن ظنُّ عبد مؤمن بالله إلّا كان الله عند ظنّ عبده المؤمن ، لأنّ الله كريم بيده الخيرات ، يَسْتَحْيِي أن يكون عبده المؤمن قد أحسن به الظنّ ، ثمّ يُخْلف ظنَّه ورجاءه ، فأحسنوا بالله الظنّ وارغبوا إليه (٥).

وقال عليه السلام كذلك : ينبغي للمؤمن أن يخاف اللهَ خوفاً كأنّه مشرف على النار ، ويرجوَه كأنّه من أهل الجنّة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ فصّلت : ٣٠.

٢ ـ الكافي ٢ : ٧٢ ح / ٣.

٣ ـ نفسه ٨ : ٣٤٧ / ح ٥٤٦.

٤ ـ نفسه ٢ : ٧٢ / ح ٤.

٥ ـ نفسه ٢ : ٧٢ / ح ٢.

٢١٤

وقال الإمام عليّ عليه السلام في وصيّة لولده محمّد بن الحنفيّة : ولا يغلبنّ عليك سوءُ الظنّ بالله عزّ وجلّ ، فإنّه لن يَدَعَ بينك وبين خليلك صلحاً (١).

وعن الإمام الصادق عليه السلام جاء قوله : إنّ آخر عبد يُؤمَر به إلى النار فيلتفت ، فيقول الله عزّ وجلّ : أعجلوه ، فإذا أُتي به قال له : عبدي ، لِمَ التفَتَّ؟ فيقول : يا ربّ ، ما كان ظنّي بك هذا ، فيقول الله جلّ جلاله : عبدي ، وما كان ظنّك بي؟

فيقول : يا ربّ ، كان ظنّي بك أن تغفر لي خطيئتي وتدخلني جنّتك ، فيقول الله : ملائكتي ، وعزّتي وجلالي وبلائي وارتفاع مكاني ، ما ظنَّ بي هذا ساعةً من حياته خيراً قطّ ، ولو ظنّ بي ساعة من حياته خيراً ما روّعته بالنار ، أجيزوا له كذبه وأدخلوه الجنّة (٢).

وعن الصادق عليه السلام قوله : يُؤتى بعبدٍ يوم القيامة ظالمٍ لنفسه ، فيقول الله تعالى له : ألم آمرْك بطاعتي؟ ألم أَنْهَك عن معصيتي؟

فيقول : بلى يا ربّ ، ولكن غلَبَت علَيّ شهوتي ، فإن تعذّبني فبذنبي ولم تظلمني. فيأمر الله به إلى النار ، فيقول : ما كان هذا ظنّي بك ، فيقول سبحانه : ما كان ظنُّك بي؟ قال : كان ظنّي بك أحسنَ الظنّ. فيأمر الله به إلى الجنّة ، فيقول الله تعالى : لقد نَفَعَكَ حُسنُ ظنّك بيَ الساعة (٣).

وعن النبيّ صلى الله عليه وآله قوله : لا يموتنَّ أحدكم حتّى يُحسنَ ظنّه بالله ، فإنّ حُسنَ الظنّ بالله ثمن الجنّة (٤).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ من لا يحضره الفقيه ٤ : ٣٨٥ ح / ٥٨٣٤.

٢ ـ ثواب الأعمال : ١٧٣.

٣ ـ المحاسن : ٢٥ ـ ٢٦ / ح ٤.

٤ ـ الأمالي للطوسيّ : ٣٨٠ / ح ٨١٤.

٢١٥

ولقد أمر الإسلام أن يكون حسن الظنّ بين المؤمنين قائماً أيضاً ، ومنع عن سوء الظنّ لأنّ ذلك من مذموم الأخلاق ، وقبيح الصفات.

قال الصادق عليه السلام : إذا اتّهم المؤمنُ أخاه انماث الإيمان من قلبه كما ينماث الملح في الماء (١).

وقال الإمام عليّ عليه السلام : أُطلبْ لأخيك عذراً ، فإن لم تجد له عذراً فالتمس له عذراً (٢).

وسئل عليه السلام : كم بين الحق والباطل؟ فقال : أربع أصابع. ووضع عليه السلام يده بين أُذنه وعينيه فقال : ما رأته عيناك فهو الحقّ ، وما سَمِعَته أُذناك فأكثره باطل (٣).

وقال رسول الله صلى الله عليه وآله : أحسنوا ظنونكم بإخوانكم تغتنموا بها صفاء القلب ونقاء الطبع (٤).

وقال الإمام علي عليه السلام : الظنّ الصواب من شيم أُولي الألباب (٥).

وعن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام قال لتلميذه محمّد بن فضيل : يا محمّد ، كُذِّبْ سمعك وبصرك عن أخيك وإن شهد عندك خمسون قَسامة ، وقال لك قولاً فصدّقه وكذّبهم ، ولا تُذيعنّ عليه شيئاً تشينه به وتهدم به مروءته فتكون من الذين قال الله عزّ وجلّ : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) (٦).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ٣٦٢ / ح ١.

٢ ـ الخصال : ٦٢٢ / ح ١٠ ـ باب الأربعمائة.

٣ ـ نفسه : ٢٣٦ / ح ٧٨.

٤ ـ مصباح الشريعة : ١٧٣ ـ عنه ، بحار الأنوار ٧٢ : ١٩٦ / ح ١٢.

٥ ـ غرر الحكم : ٣٠.

٦ ـ ثواب الأعمال : ٢٤٧ ، والآية في سورة النور : ١٩.

٢١٦

والقَسامة خمسون شاهداً ، وخمسون قسامة تكون ألفين وخمسمائة شاهد.

وعن رسول الله صلى الله عليه وآله مخاطباً الكعبة : مرحباً بالبيت ما أعظمَك وأعظمَ حرمتَك على الله ، وواللهِ لَلمؤمنُ أعظمُ حرمةً منك ؛ لأنّ الله حرّم منك واحدة ، ومن المؤمن ثلاثة : مالَه ، ودمه ، وأن يُظَنَّ به ظنَّ السوء (١).

وعن الإمام الصادق عليه السلام ورد قوله : أبى الله أن يُظَنّ بالمؤمن إلّا خيراً ، وكسرُ عظم المؤمن مَيّتاً ككسره حيّاً (٢).

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين المعصومين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ روضة الواعظين : ٢٩٣.

٢ ـ كتاب المؤمن للحسين بن سعيد : ٦٧ / ح ١٧٧ ـ الباب ٨ ما حرّم الله عزّ وجلّ على المؤمن من حُرمة أخيه المؤمن.

٢١٧

المبحث الثامن والعشرون : في الإسلام والإيمان

إنّ الإسلام والإيمان لهما مراتب مختلفة ، بعضها أرقى من بعض :

أ) المرتبة الاُولى :

١. الإسلام : المراد منه إظهار الشاهدتين ، ومن علاماته القبول الظاهريّ للأوامر والنواهي الإلهيّة ، وقد يطابق الظاهر واقع الحال وقد يخالفه. وعليه تُحقن الدماء ، وتجري المواريث والمناكح ، وهنا يكون الفرد عضواً من أعضاء المجتمع الإسلاميّ ، له ما لهم وعليه ما عليهم ، وهذه الشريحة تمثّل الغالبية العظمى من هذا المجتمع الذي نتعامل معه.

قال تعالى : (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَـٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) (١).

٢. الإيمان : وهو قول باللسان ، واعتقاد بالقلب ، وعمل بالأركان. والمؤمن هنا يعقد قلبه على الالتزام بالأوامر والنواهي الإلهيّة ، قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الحجرات : ١٤.

٢١٨

بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ) (١) ، وهذه الشريحة من المؤمنين تضمّ الغالبية الكبرى منهم.

ب) المرتبة الثانية :

١. الإسلام : في هذه الطبقة يكون الإنسان من أصحاب الورع والتقوى والإيمان بالعقائد الحقّة جملة وتفصيلاً ، وعند هؤلاء من الملكات ما يمنعهم من الانحراف والوقوع في المعاصي الكبيرة ، وتكون مسيرتهم الحياتيّة متوجّهة إلى صالح الأعمال ومكارم الخصال.

قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) (٢).

وهذه المرتبة أرقى من مرتبة الإيمان في الطبقة الأُولى ، وأهل هذه المرتبة هم العدول.

٢. الإيمان : وهذه المرتبة تؤهّل الإنسان ليكون ممّن اعتنق الاعتقادات الحقّة بوعي وبصيرة ، وصدق وإخلاص ، وممّن طهّروا أنفسهم من الشبهات والوساوس الشيطانيّة ، وممّن روّضوا أنفسهم لقبول الحقّ وإتيان الأعمال الخالصة لوجهه الكريم ، وممّن لا يتردّدون في ساحة جهاد العدوّ بالنفس والمال ، أولئك هم الصادقون مع الله ، الراضون بما كتب لهم الله.

قال تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّـهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ أُولَـٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (٣).

وهذه المرتبة عمليّة انتقال من إيمان إلى إيمان أرقى ، وأسمى وأنقى.

وقد ورد في الآثار أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله مرّ على قوم فسألهم : ما أنتم؟ قالوا : مؤمنون ، قال :

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الصفّ : ١٠ ـ ١١.

٢ ـ البقرة : ٢٠٨.

٣ ـ الحجرات : ١٥.

٢١٩

وما علامة إيمانكم؟ قالوا : نصبر على البلاء ، ونشكر عند الرخاء ، ونرضى بمواقع القضاء ، قال : مؤمنون وربِّ الكعبة (١).

ج) المرتبة الثالثة :

١. الإسلام : وفي هذه المرحلة ينعقد الحبّ الإلهيّ في قلوب هؤلاء الثلّة الصالحة ، فلا يرون غير الله ، ولا يطيعون غيره ، ولا يريدون سواه ، وهذا الإيمان مَلَكة ترفع الحرج والمعاناة في مسألة الانقياد للأوامر والنواهي الإلهيّة ، قال تعالى : (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (٢).

فالإيمان كما هو المفهوم من ظاهر الآية يقود إلى رفع الحرج ، وهذا بدوره يقود إلى الإسلام.

٢. الإيمان : وفي هذه المرتبة تسري روح العبوديّة والانقياد لله بشكل عميق وواع ، وفيه يرتقي الإنسان في سلالم الكمال والإخلاص حتّى يُباهيَ اللهُ به ملائكته.

وهذا الوصف ينطبق على أتباع الرسل ، تلك الشريحة التي فارقت الأهل والوُلْد والأموال وزخارف الحياة من أجل سيادة المبادئ ونشر العقيدة ، هؤلاء الذين قالوا لأنبيائهم ، لو أمرتُمونا أن نخوض البحر لَخُضناه معكم ، ولو أمرتمونا أن نضع بطوننا على قوائم سيوفنا لِنُخرجها من ظهورنا لَفَعلنا.

إنّ هؤلاء ينظرون إلى ربّهم ولا تحيد أعينهم عنه ، بعيداً عن الأسباب الظاهريّة ، فَهُم يَرَون قبل كلّ شيء ، وبعد كلّ شيء.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ مسكّن الفؤاد : ٧٩.

٢ ـ النساء : ٦٥.

٢٢٠