مائة مبحث ومبحث في ظلال دعاء أبي حمزة الثمالي

الشيخ جبّار جاسم مكّاوي

مائة مبحث ومبحث في ظلال دعاء أبي حمزة الثمالي

المؤلف:

الشيخ جبّار جاسم مكّاوي


المحقق: عبدالحليم عوض الحلّي
الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: بنياد پژوهشهاى اسلامى آستان قدس رضوى
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-971-683-1
الصفحات: ٤٥٧

مِنْهَا الْأَذَلَّ)؟ (١)

ولقد سمعتَ أنت وأبوك من النبيّ صلى الله عليه وآله أنّ عليّاً إمامٌ منصوب من قِبل الله على لسان نبيّه ، وأنّه مفترض الطاعة ، وأنّ قتاله بغيٌ ، وأنّه إمام بايعه كلّ المسلمين بيعة لا نظير لها في التاريخ.

إنّ المشركين كانوا يعبدون صنفين من المخلوقين :

الأوّل : عباد الله المكرمين كالملائكة ، والمقرَّبين من الرسل والأنبياء والصلحاء.

الثاني : العُتاة من الإنس والجنّ ، كفرعون ونمرود وإبليس ، وأئمّة الضلال من الأحبار والرهبان الذين بدّلوا دين الله ، وغيرهم ، قال سبحانه : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) (٢).

وقال تعالى : (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّـهِ) (٣). بل بلغت سفاهتهم إلى عبادة الحجر والشجر ، والنجوم والدوابّ.

إنّ الإنسان هو المسؤول عن نفسه ، وما يلحق به من سوء العاقبة والمآل إذا حُشر على شركه ، لأنّ المعبودين لا سلطان لهم عليه ، ولا قابليّة لديهم على إجبار أحد على عبادتهم ، لأنَّ الإنسان العاقل غير مسلوب الاختيار.

قال سبحانه في إبليس أنّه قال : (وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ المنافقون : ٨.

٢ ـ يس : ٦٠.

٣ ـ التوبة : ٣١.

٤٠١

أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (١).

لقد نشأت الوثنيّة بتعظيم الملوك والقادة بإقامة التماثيل والنُّصُبِ لهم ، ثمّ تطوّر ذلك الحبّ والتعظيم إلى عبادة ، ونتيجة هذه الممارسات الخاطئة والمقدّمات الواهمة ظنّوا أنّ آلهتهم لها الاستقلاليّة في تدبير العالم ، وأنَّ بيدها إنزال الخير وإبعاد الشرّ ، فكانوا يعبدونها لتقرّبهم إلى الله زلفى ، ولتكون شافعةً لهم عند الله بزعمهم.

ولربّما يسأل سائل فيقول : ما الفرق بين هؤلاء وبينكم عندما تستشفعون بالنبيّ وآله والصلحاء بزيارة قبورهم وتقبيل ضرائحهم والتبرّك بتربتهم ، أليس هذا من الشرك والوثنيّة؟

نقول : أنَّ مسألة الشفاعة قضيّة ثابتة في عالم التكوين القائم على سنن الأسباب والمسبّبات ، وفي عالم التشريع بالكتاب والسُّنّة ، وهذه الشفاعة بالتمكين والتخويل والتفويض لأناس لهم قرب ومكانة عند الله سبحانه ، فنحن نسأل الله بحقّهم ومكانتهم أن يقضي بعض حوائجنا مثلاً ولكننا لا نعطي الاستقلاليّة في التاثير لهؤلاء الأولياء ولا نعبدهم من دون الله سبحانه وتعالى.

قال تعالى : (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ) (٢) ، وقال سبحانه : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) (٣).

وبكلام أدقّ : إنّ الوثنيّين يعبدون غير الله ليقرّبوهم إلى الله رجاء الشفاعة ونيل المطالب ، أمّا نحن فنعبد الله ونتقرّب إليه بأحبّ خلقه إليه كوسطاء ، أو ببعض

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ ابراهيم : ٢٢.

٢ ـ الأنبياء : ٢٨.

٣ ـ المائدة : ٣٥.

٤٠٢

المقدّسات. وليت شعري هل التفت السائل إلى أنّنا نتوجّه إلى الكعبة للصلاة كوجهة وليست بيتاً نعبده من دون الله؟ ألم يلتفت أنّ المسلمين يتبرّكون بالحجر الأسود باللمس والتقبيل والدعاء عنده ، وهم لا يعبدونه من دون الله؟

وقد ورد عن عبد الرحمن بن كثير الهاشميّ ، عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنّه قال : مَرّ عمر بن الخطّاب على الحجر الأسود فقال : والله يا حَجَر ، إنّا لَنعلم أنّك حجر لا تضرّ ولا تنفع ، إلّا أنّا رأينا رسول الله صلى الله عليه وآله يحبّك فنحن نحبّك ، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام : كيف يا ابن الخطّاب! فَوَاللهِ لَيبعثنّه الله يوم القيامة وله لسان وشفتان ، فيشهد لِمَن وافاه ، وهو يمين الله في أرضه يبايع بها خلقه. فقال عمر : لا أبقانا الله في بلدٍ لا يكون فيه عليُّ بن أبي طالب (١).

إنّ جميع الأديان حاربت الشرك والوثنيّة ، وقد لاقى الرسل والنبيّون وأتباعهم القتل والتعذيب والاستهزاء والنفي والتشريد والسجون ، وإلصاق التهم الباطلة من تلك المجتمعات الفاسدة ، وقد تصدّى نبيّ الإسلام صلى الله عليه وآله وأوصياؤه لهؤلاء المشركين باللسان والقلم والسيف حتّى أظهرهم الله على المشركين.

فقام النبيّ صلى الله عليه وآله بتصحيح عقائد هؤلاء وتقويم أفكارهم ، وبذل قصارى جهده في تربيتهم على الأخلاق الفاضلة والقيم النبيلة ، والاتزام بآداب الشرع وأحكامه ، حتّى خلق منهم أمّةً كان لها شرف السبق والريادة ، وحمل الرسالة وتبليغها عن الله.

وليس الإسلام لفظة يلوكها اللسان ، بل هو عقيدة كاملة في الكون والحياة ، ينبثق منها نظامٌ صالحٌ يقود الحياة تحت راية القرآن ، وظلِّ الشريعة والدخول في

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ علل الشرائع : ٤٢٦ / ح (٨).

٤٠٣

ولاية الله. ويترتّب على ذلك سلوكٌ جديد ، وعلاقات اجتماعية شريفة قائمة على المبادئ والأخلاق السامية ، وقيام معايير جديدة تعتمد العدل والمساواة وتكافؤ الفرص ، ونبذ العصبيّات ، ومحاربة الأهواء الشيطانيّة ، والنزوات النفسيّة.

بعد عرض هذا المنهج نصل إلى بعض النتائج المهمّة ، منها :

١. أنّ الخلق والإيجاد والتأثير على نحو الاستقلال لا يكون إلّا لله وحده ، وعلى نحو الأصالة ، وإذا كان لغيره شيء فبالتفويض والتمكين والامتداد.

٢. الحكم التكوينيّ الذي يحكم الوجود وفق السنن والنواميس مختصٌّ به سبحانه.

٣. لقد فطر الله سبحانه الإنسان على قبول دعوة الحقّ ، وعلى التوجّه العباديّ الصحيح ، ومن رحمته عزّ وجلّ أنّه أراد بقاء تلك الفطرة على سلامتها ، فشرّع لها من الأحكام ما يضمن صيانتها من الانحراف والتلوّث.

قال تعالى : (١).

إذن تكون مهمّة التشريع التي هي من لوازم الربوبيّة محصورة به سبحانه ، كما هي في عالم التكوين.

قال تعالى : (وربّك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عمّا يشركون) (٢).

وقال سبحانه : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّـهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الروم : ٣٠.

٢ ـ القصص : ٦٨.

٤٠٤

النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (١).

وإذا كنّا نقول : إنّ مصادر التشريع هي الكتاب والسنّة ، فبلحاظ أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله لا ينطق عن الهوى ، إن هو إلّا وحي يُوحى ، فنفس النبيّ صلى الله عليه وآله لها من القداسة ما يؤهّلها للوصول إلى الأحكام الحقيقيّة ، ولا يعتريها الخطأ ولا النسيان ولا السهو ؛ للتسديد الإلهيّ الذي نطلق عليه العصمة.

بعد هذا نلخّص ممّا قلناه بعض النتائج ، منها :

١) كلّ حكمٍ صادرٍ من الله ، وقام عليه الدليل وفق الأدلّة التي هي من اختصاص المجتهد ، لا بدّ من العمل به والاتزام به تعبّداً ، سواء علمنا العلّة التامّة أو الحكمة أو الاقتضاء منه أم لم نعلم ، لأنّ ذلك من لوازم التوحيد الحقّ.

أنظر إلى هذه الرواية عن أبان بن تغلب قال : قلت لأبي عبد الله الصادق عليه السلام : ما تقول في رجلٍ قطع إصبعاً من أصابع المرأة ، وكم فيها؟

قال عليه السلام : عشر من الإبل ، قلت : قَطَع اثنتين؟

قال : عشرون. قلت : قطع ثلاثاً؟

قال : ثلاثون. قلت : قطع أربعاً؟

قال : عشرون. قلت : سبحان الله! يقطع ثلاثاً فيكون عليه ثلاثون ، ويقطع أربعاً فيكون عليه عشرون!

إنّ هذا هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق ، فنبرأ ممّن قاله ونقول : الذي جاء به شيطان ، فقال عليه السلام : مهلاً يا أبان ، هذا حكم رسول الله صلى الله عليه وآله ، إنَّ المرأة تقابل الرجلَ إلى ثُلث الدِّية ، فإذا بلغت الثلث رجعت إلى النصف. يا أبان ، إنّك أخذتَني بالقياس ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ يوسف : ٤٠.

٤٠٥

والسنّة إذا قيست مُحق الدين (١).

٢) كلّ حكمٍ صادرٍ عن غير الله فهو من أحكام الجاهليّة وقوانينها إذ لا يحقّ لأحد التشريع أو الوضع ، وعدَّ القرآن مَن لا يحكم بما أنزل الله كالمعطِّلين للأحكام ، وكالمشرّعين وفق أهوائهم واجتهاداتهم من الفاسقين والظالمين والكافرين.

قال تعالى : (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّـهُ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (٢) ، وقال سبحانه : (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّـهُ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٣) ، وقال عزّ شأنه : (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّـهُ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (٤).

يقول السيّد الطباطبائيّ قدس سره : وقد اختلف المفسّرون في معنى كُفْرِ مَن لم يحكم بما أنزل الله ، كالقاضي يقضي بغير ما أنزل الله والحاكم يحكم على خلاف ما أنزل الله ، والمبتدع يستنّ بغير السنّة. وهي مسألة فقهيّة ، والحقّ فيها أنّ المخالفة لحكم شرعيّ أو لأيّ أمر ثابت في الدين في صورة العلم بثبوته والردّ له توجب الكفر ، وفي صورة العلم بثبوته مع الردّ له لا توجب كفراً ولا فسقاً ، لكونه قصوراً يُعذَر فيه إلّا أن يكون قَصَّر في شيء من مقدّماته ، وليراجع في ذلك كتب الفقه (٥).

وقد أكّد الإسلام على وجوب الرجوع إلى أحكام الله والعمل بها ، وحرّم الترافع

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٧ : ٢٩٩ ـ ٣٠٠ / ح ٦.

٢ ـ المائدة : ٤٤.

٣ ـ المائدة : ٤٥.

٤ ـ المائدة : ٤٧.

٥ ـ تفسير الميزان ٥ : ٣٤٨.

٤٠٦

إلى قضاة الجور وحكّامهم إلّا مع التقيّة والخوف ، ولا يمضي حكمهم وإنْ وافق الحقّ ، فقد ورد عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام : أيَّما مؤمنٍ قدّم مؤمناً في خصومةٍ إلى قاضٍ أو سلطانٍ جائرٍ فقضى عليه بغير حكم الله فقد شَرِكه في الإثم (١).

وفي مقبولة عمر بن حنظلة قال : سألت أبا عبد الله «الصادق» عليه السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دَيْنٍ أو ميراث فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة ، أيحلّ ذلك؟

فقال عليه السلام : مَن تَحاكمَ إليهم في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطاغوت ، وما يَحكُم له فإنّما يأخذه سُحْتاً وإن كان حقّاً ثابتاً له ، لأنّه أخذه بحكم الطاغوت ، وقد أمر الله أن يُكفَرَ به.

قال الله تبارك وتعالى : (يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ) (٢).

وعن محمّد بن مسلم قال : مرّ بي أبو جعفر «الباقر» عليه السلام أو أبو عبد الله «الصادق» عليه السلام وأنا جالس عند قاضٍ بالمدينة ، فدخلتُ عليه من الغد ، فقال عليه السلام لي : ما مجلسٌ رأيتُك فيه أمس؟ قلت له : جُعلتُ فداك ، إنّ هذا القاضي لي مُكرم ، فربّما جلستُ إليه ، فقال لي عليه السلام : وما يُؤْمِنُك أن تنزل اللعنةُ فتعمَّ مَن في المجلس؟! (٣)

وعن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال : القضاة أربعة : ثلاثة في النار ، وواحد في الجنّة : رجل قضى بِجَورٍ وهو يعلم فهو في النار ، ورجل قضى بجور وهو لا يعلم فهو

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٧ : ٤١١ / ح ١.

٢ ـ نفسه ١ : ٦٧ / ح ١٠ ـ باب اختلاف الحديث ، والآية في سورة النساء : ٦٠.

٣ ـ نفسه ٧ : ٤١٠ ـ ٤١١ / ح ١.

٤٠٧

في النار ، ورجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم فهو في النار ، ورجل قضى بالحقّ وهو يعلم فهو في الجنّة. وقال عليه السلام : الحكم حكمان : حكمُ الله عزّ وجلّ ، وحكمُ الجاهليّة ، فَمَن أخطأ حكم الله حَكَم بحكم الجاهليّة (١).

وعن الإمام الصادق عليه السلام أيضاً قال : لمّا ولّى أمير المؤمنين شُرَيحاً القضاء اشترط عليه أن لا يُنفذ القضاء حتّى يَعرِضَه عليه (٢).

وعن أبي بصير قال : سمعتُ أبا عبد الله عليه السلام يقول : مَن حكم في درهمين بغير ما أنزل الله عزّ وجلّ فهو كافر بالله العظيم! (٣)

وصدق الله القائل : (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّـهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (٤).

إنّ التشريع الإلهيّ مستند إلى أصل الخلقة البشريّة والفطرة الإنسانيّة وسنن الوجود ونواميس الكون ، إذ كلّ مخلوق يسير نحو كماله المرسوم مِن قِبل خالقه العليم بما يصلحه وما يناسبه ، قال سبحانه : (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (٥).

نرجو من القارئ العزيز ـ تلافياً للإطالة ـ مراجعة مبحث التوحيد من كتابنا الموسوم بـ «المباحث الواضحة» (٦).

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين المعصومين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٧ : ٤٠٧ / ح ١.

٢ ـ نفسه ٧ : ٤٠٧ / ح ٣.

٣ ـ نفسه ٧ : ٤٠٨ / ح ٢.

٤ ـ المائدة : ٥٠.

٥ ـ المُلك : ١٤.

٦ ـ المباحث الواضحة : ١ ـ ٣٨.

٤٠٨

المبحث السادس والأربعون : في البركة

البركة : ثبوت الخير الإلهيّ في الشيء ، قال تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) (١).

المبارك : ما فيه الخير الكثير ، قال الله سبحانه : (وَهَـٰذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ) (٢) ، والمبارك موضع الخيرات ، قال تعالى : (وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا) (٣).

وورد في الحديث الشريف : لا ينقص مالٌ من صدقة (٤).

تبارك : تنبيه على اختصاص الله تعالى بالخيرات المذكورة ، قال سبحانه : (تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا) (٥).

إنّ الله سبحانه هو مصدر كلّ خير وعطاء ، والبركة معناها استقرار ذلك الخير : فقد تكون البركة بالأولاد ليبقى النسل متعاقباً ، أو يبقى بهم حُسن الذِّكر وطيبّبُ المُقام ، وقد تكون البركة في المال والطعام والشراب والوقت بحيث يعمّ نفعه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الأعراف : ٩٦.

٢ ـ الأنبياء : ٥٠.

٣ ـ مريم : ٣١.

٤ ـ مسند أحمد ١ : ١٩٣.

٥ ـ الفرقان : ٦١.

٤٠٩

ويتّسع فيكون وسيلة لسعادة المرء في الدارين ، وخير البركة ما يكون طريقاً إلى نيل مرضاة الله والقرب منه.

إنّ الإرادة الإلهيّة سبب يقع في طول الأسباب الاعتيادية لتحقيق البركة ، فتبقى سُنّة الأسباب القائمة على العمل والكدح والمحافظة على ما منَحَنا الله عزّ وجلّ إيّاه من مواهب وفيوضات.

ويحدّثنا الواقع والتاريخ عن بركة الوقت وفق سنّة الأسباب ، وكيف حلّت البركة في أعمار بعض الأعلام من الفقهاء والعلماء.

وقد وصف سبحانه القرآن النازل على نبيّه الأكرم بالبركة حيث قال : (وَهَـٰذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا) (١).

وقد ذكرنا أنَّ إنزال الكتب والشرايع من لوازم الإلوهيّة ، والإلوهيّة من لوازم الربوبيّة.

يقول السيّد الطباطبائيّ قدس سره : إنّ الأوصاف المذكورة للكتاب بقوله : مبارك مصدّق ... إلى آخره ، بمنزلة الأدلّة على كونه نازلاً من الله وليست بأدلّة ، فمِن أمارات أنّه منزل من عند الله أنّه مبارك أودَعَ الله فيه البركة والخير الكثير ، يهدي الناس للتي هي أقوم ، يهدي به اللهُ مَن اتّبع رضوانه سُبلَ السلام ، ينتفع به الناس في دنياهم باجتماع شملهم ، وقوّة جمعهم ، ووحدة كلمتهم ، وزوال الشحّ من نفوسهم والضغائن من قلوبهم ، وفشوّ الأمن والسلام ، ورغد عيشهم ، وطيب حياتهم ، وانجلاء الجهل وكلّ رذيلة عن ساحتهم ، واستظلالهم بمظلّة سعادتهم ، وينتفعون به في أخراهم بالأجر العظيم ، والنعيم المقيم (٢).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الأنعام : ٩٢.

٢ ـ تفسير الميزان ٧ : ٢٧٩.

٤١٠

وعندما نتتبّع آيات القرآن نجد أنّه قد وصف مجموعة من مخلوقات الله بالبركة ، منها : الأرض ، المسجد الأقصى ، أرض فلسطين على وجه الخصوص ، القرآن البيت الحرام ، المطر ، شجرة الزيتون ، ليلة القدر ، ووصف التحيّة بالبركة.

أمّا الأنبياء الذين ذكرهم ووصفهم بالبركة فهم : نوح ، إبراهيم ، إسحاق ، موسى وعيسى عليهم السلام.

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله المعصومين الطاهرين.

٤١١

المبحث السابع والأربعون : في الظنّ

قال عليه السلام : يا رَبِّ هذا مَقامُ مَنْ لاذَ بِكَ ، وَاسْتَجارَ بِكَرَمِكَ ، وَاَلِفَ اِحْسانَكَ وَنِعَمَكَ وَاَنْتَ الْجَوادُ الَّذي لا يَضيقُ عَفُوُكَ ، وَلا يَنْقُصُ فَضْلُكَ ، وَلا تَقِلُّ رَحْمَتُكَ ، وَقَدْ تَوَثَّقْنا مِنْكَ بِالصَّفْحِ الْقَديمِ ، وَالْفَضْلِ الْعَظيمِ ، وَالرَّحْمَةِ الْواسِعَةِ ، اَفَتَراكَ يا رَبِّ تُخْلِفُ ظُنُونَنا ، اَوْ تُخَيِّبْ آمالَنا ، كَلّا يا كَريمُ ، فَلَيْسَ هذا ظَنُّنا بِكَ ، وَلا هذا فيكَ طَمَعُنا.

يتوجّه صاحب الدعاء عليه السلام في هذا المقطع إلى ربّه عزّ وجلّ مشيراً إلى حالة الالتجاء والتعلّق والاستجارة بكرمه المطلق ، الذي يشمل البارّ والفاجر ، والمؤمن والكافر ، لقد أصبح الإنسان غارقاً في بحر كرم الله حتّى عادت هذه النعم مألوفة ، وأصبحت موائده مبذولة ، حتّى أصاب الإنسانَ سُكْرُ الغفلة ، فنسي المنعم ، وغفل أو تغافل عن وجوب شكره.

إنّ حسن الظنّ بالله باب واسع للدخول في ولاية الله ، والوصول إلى كرمه ، والقلوب المملوءة بالأمل والثقة العالية قلوب خصبة مُمْرعة بالإيمان والحبّ ، وحاشا لله أن يخيّب حسن ظنّ عبده به.

وإنّ الرجاء من لوازم المعرفة ، عن عبد الله بن سنان ، عن الإمام الصادق عليه السلام : أوحى الله عزّ وجلّ إلى داود عليه السلام : إنّ العبد من عبادي لَيأتيني بالحسنة فأُبيحه

٤١٢

جنّتي ، فقال داود عليه السلام : يا ربِّ وما تلك الحسنة؟ قال : يُدخِل على عبديَ المؤمنِ سروراً ولو بتمرةٍ ، قال داود عليه السلام : يا ربّ ، حقٌّ لِمَن عَرَفك أن لا يقطع رجاءه منك (١).

إنّ إغاثة الملهوف وإعاذة الطريد من الأخلاق العالية التي يُمدَح بها الإنسان ، وكان ذلك موضع فخر المادحين لما لها من الأثر البليغ المعبّر عن المروءة والإنصاف وكرم الطباع ، حتّى أنّ التاريخ يحدّثنا أنَّ الجراد لجأ إلى خيمة رجل عربي (٢) ، فجاء الصيّادون فقالوا له : إنّ الجراد لجأ إلى خيتمك ونريد اصطياده ، فوضع السهم في كَبِد قوسه وقال : والله لا أُمكّنكم ممّن استجار بي. فصار مضرب المثل في فضيلة الإجارة وسمّي «مُجيرَ الجَراد» (٣) ، وكرمُ الله أعظم من كلّ كرم ، وجوده أوسع من كلّ جود.

قال الشيخ المفيد : ولمّا سمع مسلم بن عقيل مجيء عبيد الله بن زياد إلى الكوفة ، ومقالته التي قالها ، وما أخذ به العرفاء والناس ، خرج من دار المختار حتّى انتهى إلى دار هاني بن عروة ، فدخلها فأخذت الشيعة تختلف إليه في دار هاني على تستُّرٍ واستخفاء من عبيد الله ، وتَواصَوا بالكتمان.

إلى أن قال : فجاء هاني حتّى دخل على عبيد الله بن زياد وعنده القوم ، فلمّا طلع قال عبيد الله : أتَتْك بخائنٍ رِجْلاه ... ثمَّ قال عبيد الله : والله لا تفارقني أبداً حتّى تأتيني بمسلم بن عقيل ، قال هاني : لا والله لا أجيئك به أبداً ، أجيئك بضيفي تقتله؟! ... فقال ابن زياد : أدنوه منّي. فأدنَوه منه ، فقال : والله لتأتيني به أو لأضربنَّ عنقك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ١٨٩ / ح ٥.

٢ ـ وهو مُدلج بن سُوَيد الطائيّ ، ذكر ذلك أيضاً : الزَّبيدي في [تاج العروس ٤ : ٣٨٩].

٣ ـ الكنى والألقاب ٣ : ١٣٢.

٤١٣

ثمَّ قال : أدنوه منّي ، فأُدني منه ، فاعترض وجهَه بالقضيب ، فلم يزل يضرب به أنفه وجبينه ووجهه وخدَّه حتّى كسر أنفه وسالت الدماء على وجهه ولحيته ، ونثر لحم جبينه وخدّه على لحيته ... ثمَّ قال : أخرجوه إلى السوق فاضربوا عنقه (١).

هذا وقد تحدّثنا في المبحث السابع والعشرين عن حسن الظنّ ، ونعود هنا لإكمال موضوع الظنّ بالتحدّث حول بعض القضايا الدقيقة التي قد تلتبس على بعض إخواننا وأبنائنا المؤمنين.

الظنّ : اسم لما يحصل عن أَمارة ، ومتى قَوِيَت أدّت إلى العلم ، ومتى ضعفت جدّاً لم يتجاوز الظنُّ التوهّم ، وقد يُراد بالظنّ اليقين ، كما في قوله تعالى : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ) (٢) ، وكذا قوله سبحانه : (وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ) (٣) ، أي : تيقّن.

وقد يأتي بمعنى العلم ، كما في قوله تعالى : (وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا) (٤) ، وقال سبحانه : (وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ) (٥) ، أي عَلِم. ويأتي بمعنى الاعتقاد والتيقّن ، كما في قوله تعالى : (وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم) (٦).

والظنّ في كثير من الأمور مذموم ، ولذلك قال تعالى : (وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا) (٧). انتهى ما قاله الراغب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الإرشاد للمفيد ٢ : ٤٥.

٢ ـ البقرة : ٤٦.

٣ ـ القيامة : ٢٨.

٤ ـ يونس : ٢٤.

٥ ـ سورة ص : ٢٤.

٦ ـ الحشر : ٢.

٧ ـ يونس : ٣٦.

٤١٤

وورد في الحديث الشريف : إيّاكم والظنّ ، فإنّ الظن أكذَبُ الحديث (١) والمراد به هو الشكّ الباطل الواهم الذي لا يستند على دليلٍ ولا مؤثّرٍ يفيد العلم.

أمّا في تعابير المناطقة فيقسَّم العلم أربع مراتب ، وهي :

١. اليقين : والمراد به التصديق على نحو الجزم من دون احتمال للوهم والتكذيب ، ويقال له التصديق اليقيني.

٢. الظنّ : والمراد به رجحان طرف العلم ، كما لو كانت النسبة ٧٠% مثلاً ، وهذا تصديق ظنّيّ.

٣. الشكّ : وهو حالة تساوي احتمال الوقوع واحتمال العدم بنسبة ٥٠% ، وهو من أقسام الجهل.

٤. الوهم : وهي حالة مرجوحيّة أحد طرفي العلم ، كما لو كانت النسبة ٥% ، وهو من أقسام الجهل.

يقول سماحة السيّد عبد الأعلى السبزواريّ قدس سره في كتاب «تهذيب الأصول» : ما كان من الاعتقاديّات يُعتبر فيه الجزم ، فلا وجه لاعتبار الظنّ فيها مطلقاً لعدم كونه من الجزم أبداً ، وكذا يعتبر فيه الاعتقاد بالواقع على ما هو عليه ، لأنّ عقد القلب شيء غير الظنّ ، فلا مورد لاعتبار الظنّ في الاعتقاديّات مطلقاً (٢).

أمّا في مجال التكليف بالفروع والأحكام الشرعيّة فيقول السيّد عزّ الدين بحر العلوم قدس سره في كتابه الموسوم بـ «التقليد في الشريعة الإسلاميّة» : من المعلوم أنّ موارد العلم واليقين لا تؤمّن للمكلَّف إحرازَ امتثال جميع التكاليف الإلزاميّة لانحصار موارده في الضروريّات كالصلاة والصوم والزكاة والحجّ وما شاكل ، فلا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الموطّأ لمالك ٢ : ٩٠٨ / ح ١٥.

٢ ـ تهذيب الأصول ٢ : ١٥٦.

٤١٥

مجال للمكلّف في مقام تخلّصه من التكاليف إلّا أن يختار أحد الطرق الثلاثة : الاحتياط ، الاجتهاد والتقليد (١).

إنّ الأحكام والفروع الشرعيّة قسمان :

١. الأحكام الواقعيّة : والدليل الدالّ عليها هو الدليل الاجتهاديّ.

٢. الأحكام الظاهريّة : والدليل الدالّ عليها هو الأدلّة الفقهيّة المعبَّر عنها بالأصول العمليّة ، وهي : الاستصحاب ، ووجوب الاحتياط ، وأصالة البراءة ، والتخيير.

وهنا نشير إلى بعض الملاحظات المهمّة :

١) إنّ الأمارات هن من الظنّ المعتبر ، وهو حجّة ، ومن الأمارات حجّية خبر الواحد في الأسانيد وحجّية الظواهر.

٢) إنّ الظنّ النوعيّ الذي يعمّ غالب الناس ونوعهم هو الحجّة المعتبرة والمعتمدة في فنّ الصناعة ، ولا عبرة بالظنّ الشخصيّ.

٣) الأمارات مُقدَّمة على الأصول العمليّة ، أي عند فقد الأمارات يرجع الفقيه إلى الأصول العمليّة ، بمعنى عند فقدان الدليل الاجتهاديّ فالمرجع هو الدليل الفقاهيّ.

٤) إنّ الأخذَ بالظنّ من جهة كونه ظنّاً مذموم عقلاً ، وهو من الخرص والتخمين ، لكنّ الأخذ بالظنّ المعتبر شرعاً حجّةٌ لاعتباره وحجّيته وإفادته القطع ، والعلم بحجّية مثل هذا الظنّ هو المرجع لاعتماده كدليل شرعيّ. لقد خرج هذا الظنّ عن القاعدة إمّا بالتخصيص أو التخصّص وفق الإذن الإلهيّ. إذن الظنّ من

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ التقليد في الشريعة الإسلاميّة : ٥٨.

٤١٦

الأمارات المعتبرة بالطرق العلميّة الثابتة.

٥) إنّ حجّية العلم ذاتيّة ، وهي ممّا يقول به العقل قبل حكم الشرع بذلك. أمّا حجّية الظنّ المعتبر فهي حجّي مولويّة شرعيّة ، وهنا نقول : إنّ حجّية العلم الثابتة هي التي تقود إلى حجّية الظنّ المعتبر كدليل شرعيّ على ثبوت الأحكام.

٦) هناك آيات قرآنية تنهى عن العمل بالظنّ ، وتندّد بالعامل به ، كقوله تعالى : (اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) (١).

وقوله سبحانه : (إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) (٢).

فهذه االآيات تنهى عن العمل بالظنّ في الأصول الاعتقاديّة ، حيث كان الأبناء يقلّدون الآباء في سيرتهم الباطلة وآرائهم الفاسدة والتعصّب الأعمى ، وهي بعيدة كلّ ال بعد عن مسائل أدلّة الفقه والأحكام.

وقوله تعالى : ينهى عن سوء الظنّ ، فإنّ حسن الظنّ أمر مندوب.

يقول السيّد الطباطبائيّ قدس سره : والمراد بالاجتناب عن الظنّ الاجتناب عن ترتيب الأثر عليه ، كأن يظنّ بأخيه المؤمن سوءاً فيرميه به ويذكره لغيره ، ويرتّب عليه سائر آثاره. وأمّا نفس الظنّ بما هو نوع من الإدراك النفسيّ فهو أمر يفاجئ النفس لا عن اختيار ، فلا يتعلّق به النهي ، اللهمّ إلّا إذا كان بعض مقدّماته اختياريّاً (٣).

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله المعصومين الطاهرين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الحجرات : ١٢.

٢ ـ يونس : ٣٦.

٣ ـ تفسير الميزان ١٨ : ٣٢٣.

٤١٧

المبحث الثامن والأربعون : مشاهد القيامة وأهوالها

قال عليه السلام : يا رَبِّ اِنَّ لَنا فيكَ اَمَلاً طَويلاً كَثيراً ، اِنَّ لَنا فيكَ رَجاءً عَظيماً ، عَصَيْناكَ وَنَحْنُ نَرْجُو اَنْ تَسْتُرَ عَلَيْنا ، وَدَعَوْناكَ وَنَحْنُ نَرْجُو اَنْ تَسْتَجيبَ لَنا ، فَحَقِّقْ رَجاءَنا مَوْلانا ، فَقَدْ عَلِمْنا ما نَسْتَوجِبُ بِاَعْمالِنا ، وَلكِنْ عِلْمُكَ فينا وَعِلْمُنا بِاَنَّكَ لا تَصْرِفُنا عَنْكَ وَاِنْ كُنّا غَيْرَ مُسْتَوْجِبينَ لِرَحْمَتِكَ ، فَاَنْتَ اَهْلٌ اَنْ تَجُودَ عَلَيْنا وَعَلَى الْمُذْنِبينَ بِفَضْلِ سَعَتِكَ ، فَامْنُنْ عَلَيْنا بِما اَنْتَ اَهْلُهُ ، وَجُدْ عَلَيْنا فَاِنّا مُحْتاجُونَ اِلى نَيْلِكَ ،

يتحدّث هذا المقطع عن حالة فريدة من التوجّه الصحيح على جَناحَي الخوف والرجاء للدخول إلى ساحة الربوبيّة ، ورأينا كيف يطرق الداعي باب ربّه الكريم لطلب المغفرة التي هي من مستلزمات الفوز برضى الله تعالى.

إنّ مسألة المعاد والحساب الأخرويّ هي الشغل الشاغل للإنسان ، لأنّ الحياة الحقيقيّة إنّما تكون بعد الانتقال من هذا العالم الفاني.

لقد تحدّثنا في المبحث الثاني والثلاثين حول العفو والرحمة الإلهيّة في عرصات القيامة وما بعدها ، والآن نتحدّث حول مشاهد القيامة وأهوالها.

إنّ القرآن الكريم أعطى الأهميّة الكبرى لقضيّة المعاد لخطورته ، بل لكونه ضرورة عقائديّة وحقيقيّة ، فقد ذكره في ما يقارب من ألف وأربعمائة موضع ، حيث

٤١٨

إنّ له أبعاداً إنسانيّة واجتماعيّة وتربويّة تشكّل الدعائم الأساسيّة للحياة. وقد أكّدت هذه الآيات أنَّ الآخرة هي دار القرار ، ودار الكمال الذي يحقّق كلّ أمنيّات الإنسان وتطلّعاته.

وأكّدت أنّ الدنيا دار ممرّ ، وما على المرء إلّا أن يأخذ ما استطاع من دار ممرّه إلى دار مقرّه ، والدنيا محطّة للتزوّد بزاد التقوى للمسافر إلى عالم الخلود ، وأكّدت الآيات والروايات أنّ نعيم الآخرة لا ينقطع ، وأنّ في الجنّة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

وأشارت الآيات والروايات إلى شدّة العذاب الأخرويّ ودوامه لأهل الكفر والمعاصي ، وذلك بعد إقامة الحجّة على الإنسان المستخلَف في الأرض ، وقد جعل الله على العبد حجّتين :

الأولى : باطنة وهي العقل ، ونعم ما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام في تعريف العقل قوله : ما عُبِد به الرحمن ، واكتُسب به الجِنان (١).

وجاء عن الإمام موسى الكاظم عليه السلام قوله : إنّ لله على الناس حُجّتَين : حجّةً ظاهرة ، وحجّة باطنة. فأمّا الظاهرةُ فالرسل والأنبياء والأئمّة عليهم السلام ، وأمّا الباطنة فالعقول (٢).

الثانية : ظاهرة ، وتتمثّل بإرسال الرسل والنبيّين مبشّرين ومنذرين ، وقد أنزل الله تعالى معهم الكتاب لئلّا يكون للناس حجّة بعد الرسل ، والرسالات السماويّة رسمت طريق الحياة الذي يضمن للإنسان الارتقاء في مدارج الكمال.

إنّ هناك رابطة بين السماء والأرض ، وبين الإنسان وخالقه ، وبين الدنيا والآخرة ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ تفسير نور الثقلين ٥ : ٣٨٢ / ح ٢٣ ـ عن : الكافي ١ : ٨ / ح ٣ ـ كتاب العقل والجهل.

٢ ـ الكافي ١ : ١٦ / ح ١١ ـ كتاب العقل والجهل.

٤١٩

وبين العمل والجزاء.

قال الله تعالى : (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (١).

وقال سبحانه : (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) (٢).

إذن فالآخرة هي دار جزاء ، وهذا الجزاء من سِنخ العمل ، قال تعالى : (جَزَاءً وِفَاقًا) (٣).

إذن لابدّ من معرفة وتشخيص العمل النافع والعمل الضارّ ، لأن المعرفة تقود إلى الخشية ، قال تعالى : (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّـهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) (٤).

يقول السيّد الطباطبائيّ قدس سره : والمراد بالعلماء العلماء بالله ، وهم الذين يعرفون الله سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله معرفةً تامّة تطمئنّ بها قلوبهم ، وتُزيل وصمة الشكّ والقلق عن نفوسهم ، وتَظهر آثارها في أعمالهم فيصدّق فعلُه قولَهم. والمراد بالخشية حينئذٍ حقّ الخشية ، ويتبعها خشوع في باطنهم ، وخضوع في ظاهرهم (٥).

وقد ورد في الحديث ما يؤيّد ذلك ، في «مجمع البيان» في قوله تعالى : (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّـهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) (٦) ، رُويَ عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال : يعني بالعلماء مَن صدّق قولُه فعلَه ، ومن لم يصدّق قولُه فعلَه فليس بعالم (٧).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الزلزال : ٧ ـ ٨.

٢ ـ البقرة : ٢٨٦.

٣ ـ النبأ : ٢٦.

٤ ـ فاطر : ٢٨.

٥ ـ تفسير الميزان ١٧ : ٤٣.

٦ ـ فاطر : ٢٨.

٧ ـ مجمع البيان في تفسير القرآن ٨ : ٦٣٥.

٤٢٠