مائة مبحث ومبحث في ظلال دعاء أبي حمزة الثمالي

الشيخ جبّار جاسم مكّاوي

مائة مبحث ومبحث في ظلال دعاء أبي حمزة الثمالي

المؤلف:

الشيخ جبّار جاسم مكّاوي


المحقق: عبدالحليم عوض الحلّي
الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: بنياد پژوهشهاى اسلامى آستان قدس رضوى
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-971-683-1
الصفحات: ٤٥٧

خسيساً ولا ضعيفاً ، بل هو من صفات النفس المحمودة.

أمّا الضعة فهي من الخِسّة والدناءة ، وهذه من الصفات الرذيلة.

والتواضع ضد الكبر ، قال تعالى : (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً) (١).

لقد ربّى الإسلام أتباعه تربية صالحة كانت الاُنموذج الأمثل ، والقدوة الحسنة في الفكر والاعتقاد والسلوك العمليّ ، لقد علّمهم الإسلام أن يتوجّهوا إلى الله سبحانه بكلّ حركاتهم وسكناتهم ومشاعرهم ، لا يأخذون عن غير السماء ، ولا يقصدون أحداً غير وجهه الكريم.

والآية الكريمة تصف هؤلاء العباد الذين أضافهم سبحانه إليه بالتواضع ، والتصرّف بتلقائية وعفوية من دون تكلّف ولا تكبّر ، أنّهم أقوياء متماسكون ، ثابتون على الحقّ والهدى عن بصيرة ، ولكنّهم أهل وقار وسكينة ، ليسوا أهل جدل وخصام ، ومهاترات واشتباكات ، ولا أهل تعنّت وتجبّر ، بل هم أرفع قدراً ، وأسمى مكانةً من النزول إلى مستوى الجهلاء والسفهاء ، قال الله تعالى : (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً).

إنّ التواضع لله وللناس من الأخلاق المطلوبة ، وقد ورد في الآثار أن تخلّقوا بأخلاق الله (٢) ، وهذه الصفات الكريمة ممّا تزيل الحُجُبَ والرّين والصدأ عن القلوب ، والقتام عن النفوس ، فتتلألأ فيها حقائق الإيمان ، وتزهر حقائق المعارف ، وتتألّق حقائق الصفات الكريمة ، وهذه القلوب كلّما طهرت وأقبلت على الله بالطاعة زادها الله قرباً إلى ساحة قداسته ، فيغمرها بالإفاضات الربانيّة ، والمواهب

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الفرقان : ٦٣.

٢ ـ بحار الأنوار ٥٨ : ١٢٩.

٨١

العرفانيّة ، ممّا لا يمكن حصوله عن طريق الكسب العادي.

قال تعالى : (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) (١).

وقال النبيّ صلى الله عليه وآله : مَن أخلص لله أربعين يوماً فَجَّر الله ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه (٢).

وقال صلى الله عليه وآله : نَضَّرَ الله عبداً سمع مقالتي فوعاها ، ثمّ بلّغها من لم يسمعها ، فَرُبَّ حامل فقهٍ غير فقيه ، وربَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه. ثلاث لا يغلُّ عليهنّ قلب امرئٍ مسلم : إخلاص العمل لله ، والنصيحة لأئمّة المسلمين ، واللزوم لجماعتهم ، فإنّ دعوتهم محيطة من ورائهم. المسلمون أخوة تتكافأ دماؤهم ، يسعى بذمّتهم أدناهم ، وهم يد على من سواهم (٣).

إنّ السير والسلوك إلى الله مهبط من مهابط الإفاضات ، ومنزل من منازل الكرامات التي هي خارج الفهم العادي والإحاطة بالحقائق ، وهذا المقام مبذول لكلّ أحد من دون منع ولا انقطاع ، ولكنّ الموانع والحجب التي ترين على القلوب هي المانع عن غدراك هذه الأنوار والأسرار الربّانية ، وهذه القلوب والنفوس ليس لها القابليّة ولا الاستعدادات ؛ لما فيها من الكدورات والخبث وركام المادّة والشهوات.

إنّ تطهير القلوب وتصفية النفوس تُحْدِثُ نقلةً نوعيّة عند الإنسان من عالم العمى إلى البصيرة ، ومن دركات الهوى إلى ارتقاء درجات الهدى ، ومن حضيض الجهل إلى مراقي العلم ، ومن ظلمات الردى إلى نور اليقين ، ومن عالم التزلزل

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ العنكبوت : ٦٩.

٢ ـ عدّة الداعي : ٢١٨ ـ عنه بحار الأنوار ٦٧ : ٢٤٩ / ح ٢٥.

٣ ـ الخصال : ١٤٩ ـ ١٥٠ / ح ١٨٢ ـ باب الثلاثة.

٨٢

والشكّ إلى عالم الثبات ، ومن عالم النَّصَب والقلق إلى عالم الراحة والهدوء والاستقرار ، وأعظم ما يُنال ذلك بالإخلاص وعبادة السرّ التي هي من حالات الصالحين.

والعلم الذي يناله هؤلاء العرفاء بالله هو من العلم الواقعي الحقيقي لا الظاهري الخاضع للاكتساب ، وقد ورد في الآثار : اتّقوا فراسة المؤمن فإنّه ينظر بنور الله الذي خُلق منه (١).

قال حمّاد : سألت أبا عبد الله الصادق عليه السلام عن لقمان وحكمته التي ذكرها الله عزّ وجلّ ، فقال عليه السلام : أما واللهِ ما أُوتي لقمان الحكمة بحَسَبٍ ولا مالٍ ولا أهل ، ولا بسطٍ في جسم ولا جمال ، ولكنّه كان رجلاً قويّاً في أمر الله ، متورّعاً في الله ، ساكتاً سكيناً ، عميق النظر ، طويل الفكر ، حديد النظر ، مستغنٍ بالعِبَر ، لم ينم نهاراً قطّ ، ولم يره أحد من الناس على بولٍ ولا غائط ولا اغتسال ؛ لشدّة تستّره وعمق نظره ، وتحفّظه في أمره.

إلى أن قال : فتعجّبت الملائكة ، من حكمته واستحسن الرحمان منطقه ، فلمّا أمسى وأخذ مضجعه من الليل ، أنزل الله عليه الحكمة فتغشّاه بها من قرنه إلى قدمه وهو نائم ، وغطّاه بالحكمة غطاءً ، فاستيقظ وهو أحكم الناس في زمانه ، وخرج على الناس ينطق بالحكمة ويبيّنها فيها.

والحديث طويل يرجى مراجعته في تفسير القمّي في تفسير قوله تبارك وتعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّـهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّـهَ غَنِيٌّ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ المحاسن ١ : ١٣١ / ح ١ ، بصائر الدرجات : ١٠٠ / ح ١ وص ٣٧٥ / ح ٤.

٨٣

حَمِيدٌ) (١).

وقد سأل بعض العلماء السيّد عبد الأعلى السبزواريّ عن رواية قائلاً : ما المقصود بهذه الرواية التي صحّ صدورها عن الإمام الصادق عليه السلام؟ فقال قدس سره : لا أشمّ من الرواية رائحة الإمام الصادق عليه السلام ، بل أشمّ منها رائحة الإمام الباقر عليه السلام ، فقال العالم : هذا الكتاب الذي بين يدَيّ ينقلها عن الإمام الصادق عليه السلام ، فقال قدس سره ائتوني بكتاب الوسائل. فاستخرج الرواية فإذا هي عن الإمام الباقر عليه السلام. والمشهور عنه قدس سره أنّه كان يصحّح الأسانيد بالمتون.

وأخبرني أحد الفضلاء (٢) قائلاً : لقد كنت في ضيق مادّي شديد ، وكنت بحاجة إلى كتاب ثمنه عشرة دنانير ، وقد بقيت أيّاماً في حيرتي هذه ، فدخلت أحد أزقّة النجف الأشرف ، فخرج المرجع الدينيّ السيّد عبد الأعلى السبزواريّ من مسجده ، فسلّمتُ عليه وقبّلتُ يديه ، فأخرج عشرة دنانير وقال : اذهب واشترِ الكتاب.

وقد خاطب الله نبيّه الأعظم صلى الله عليه وآله وأمره بالتواضع ، فقال عزّ شأنه : (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٣).

والواقع أنّ الأمر صادر إلى الأمّة ، وإنّما خوطب به النبيّ صلى الله عليه وآله تشريفاً ، باعتباره الإمام الشرعيّ لها ، والتواضع في الأصل إجلال الله ومهابته وتعظيمه ، وقد ورد أنّ : التواضع أصل كلّ شرف نفيس ومرتبة رفيعة (٤) ، ففي المنقول عنه صلى الله عليه وآله قوله : ما

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ تفسير القمّي ٢ : ١٦٢ ـ ١٦٣ ، والآية في سورة لقمان : ١٢.

٢ ـ وهو السيد عبد الستار الحسني.

٣ ـ الشعراء : ٢٥.

٤ ـ جامع السعادات ١ : ٣٦١ ، والكلمة للإمام الصادق عليه السلام.

٨٤

تواضع أحد لله إلّا رَفَعه الله (١).

وقال صلى الله عليه وآله : طوبى لمن تواضع في غير مسكنة ، وأنفق مالاً جمعه من غير معصية ، ورحم أهل الذلّة والمسكنة ، وخالط أهل الفقه والحكمة (٢).

وممّا خاطب الله به عبده موسى عليه السلام : إنّما أقبل صلاةَ مَن تواضع لعظمتي ، ولم يتعاظم على خلقي ، وألزَمَ قلبه خوفي ، وقطع نهاره بذِكْري ، وكفّ نفسه عن الشهوات من أجلي (٣).

وقال النبيّ صلى الله عليه وآله لأصحابه : ما لي لا أرى عليكم حلاوة العبادة! قالوا : وما حلاوة العبادة؟ قال صلى الله عليه وآله : التواضع (٤).

وعنه صلى الله عليه وآله : أربع لا يعطيهنّ الله إلّا من يحبّه : الصمت وهو أول العبادة ، والتوكّل على الله ، والتواضع ، والزهد في الدنيا (٥).

وروي أنّه أتى رسولَ الله مَلَكٌ فقال : إنّ الله تعالى يخيّرك أن تكون عبداً رسولاً متواضعاً ، أو مَلِكاُ رسولاً. فنظر صلى الله عليه وآله إلى جبرئيل وأومى بيده : أن التواضع ، فقال صلى الله عليه وآله : عبداً متواضعاً رسولاً ، فقال الملك : مع أنّه لا ينقصك ممّا عند ربّك شيئاً (٦).

وأوحى الله سبحانه إلى داود عليه السلام : يا داود ، كما أنّ أقرب الناس إلى الله المتواضعون ، كذلك أبعد الناس من الله المتكبّرون (٧).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ جامع السعادات ١ : ٣٥٩.

٢ ـ الأمالي للطوسي : ٥٣٩ / ح ١١٦٢.

٣ ـ نفسه : ٧٦٤ / ح ١٠٢٨.

٤ ـ جامع السعادات ١ : ٣٥٩.

٥ ـ جامع السعادات ١ : ٣٥٩.

٦ ـ الكافي ٢ : ١٢٢ / ح ٥.

٧ ـ نفسه ٢ : ١٢٤ / ح ١١.

٨٥

وروي أنّ سليمان بن داود عليه السلام إذا أصبح تصفّح وجوه الأغنياء والأشراف حتّى يجيءَ إلى المساكين فيقعد معهم ويقول : مسكين مع مساكين (١).

وعن الإمام عليّ عليه السلام : عليك بالتواضع فإنّه مِن أعظم العبادة (٢). وعن أمير المؤمنين عليه السلام : بالتواضع تتمّ النِّعم (٣).

وروي أنّ عيسى بن مريم عليه السلام قال للحواريين : لي إليكم حاجة اقضوها لي ، فقالوا : قُضيت حاجتك يا روح الله. فقام فغسّل أقدامهم ، فقالوا : كنّا نحن أحقَّ بهذا يا روح الله! فقال عليه السلام : إنّ أحقّ الناس بالخدمة العالم ، إنّما تواضعتُ هكذا لكيما تتواضعوا بعدي في الناس كتواضعي لكم. ثمّ قال عليه السلام : بالتواضع تعمر الحكمة لا بالتكبّر ، وكذلك في السهل ينبت الزرع لا في الجبل (٤).

وعن الإمام عليّ عليه السلام : إبنَ آدم ، إن كنتَ تريد من الدنيا ما يَكفيك ، فإنّ أيسر ما فيها يكفيك ، وإن كنتَ إنّما تريد ما لا يكفيك ، فإنّ كلّ ما فيها لا يكفيك (٥).

وقال الإمام الصادق عليه السلام : إنَّ في السماء ملكَينِ مُوكّلين بالعباد ، فمن تواضع لله رفعاه ، ومن تكبّر وضعاه (٦).

وعن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال : العزّ رداء الله ، والكبر إزاره ، فمن تناول شيئاً منه أكبّه الله في جهنم (٧).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ جامع السعادات ١ : ٣٦٠ ، بحار الأنوار ١٤ : ٨٣ / ح ٢٨ ـ عن : تنبيه الخواطر ١ : ٢٠٣.

٢ ـ بحار الأنوار ٧٢ : ١١٩ / ح ٥ ، مستدرك الوسائل ١١ : ٢٩٦ / ح ٤.

٣ ـ نهج البلاغة : الحكمة ٢٢٤.

٤ ـ الكافي ١ : ٣٧ / ح ٦.

٥ ـ نفسه ٢ : ١٣٨ / ح ٦.

٦ ـ نفسه ٢ : ١٢٢ / ح ٢.

٧ ـ نفسه ٢ : ٣٠٩ / ح ٣.

٨٦

وسُئل الإمام الصادق عليه السلام عن أدنى الإلحاد؟ فقال : إنّ الكبر أدناه (١).

وعن زرارة عن الباقر والصادق عليهما السلام قالا : لا يدخل الجنّةَ مَن في قلبه مثقال ذرّة من كِبر (٢).

وعن الإمام الباقر عليه السلام قال : الكبر مطايا النار (٣).

نعوذ بالله من غضب الله وسخطه ، والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ٣٠٩ / ح ١.

٢ ـ ثواب الأعمال : ٢٢١.

٣ ـ نفسه : ٢٢٢.

٨٧

المبحث الثاني عشر : بين أخلاق الله وأخلاق العبد

إنّ هذا المقطع من الدعاء الشريف يُعتبر مقدّمةً وتهيئةً للدخول إلى عرصة اللقاء القدسيَ مع الله سبحانه وتعالى ، ليقف الداعي أمام ربّه الكريم ، يسأله قضاء حاجته ، والإمام عليه السلام هنا يظهر تواضعه أمام الله الربّ العزيز القدير ، المالك ، المعطي ، الجبّار ، الغفور ، الرحيم ، يقف متجلبباً جلباب العبودية ، مؤتزراً إزار الاعتراف بالحاجة والمسكنة.

ويقارن الإمام عليه السلام بين حاله أمام عظمة ربّه الكريم الذي يُعطي مَن سأله ومَن لم يسأله تحنّناً منه ورحمة ، ولكنّ الإنسان بطبعه وتطبّعه بطيءٌ في إجابة دعوة الله سبحانه ، والاستجابة لأوامره ونواهيه ، وهو بخيل حين يستقرضه الله سبحانه وتعالى من كلّ خير هو من عنده سبحانه.

والآن نتنفّس النسيم القرآنيّ الذي يصوّر لنا هذا الإنسان بسوء دخيلته ، وانحراف هواجسه ، وتقصيره في طاعته لبارئه.

قال الله تعالى : (إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) (١).

وقال الله تعالى : (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ * وَلَئِنْ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ إبراهيم : ٣٤.

٨٨

أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ) (١).

وقال الله تعالى : (وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا) (٢) ، (وَكَانَ الْإِنسَانُ قَتُورًا) (٣) ، (وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا) (٤) ، (وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) (٥).

وقال الله تعالى : (فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ) (٦) ، (إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا) (٧) ، (إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) (٨).

وورد في الدعاء المأثور عن أهل بيت العصمة والطهارة ما يظهر هذه المقارنة بأجلى صورها :

اَللّهمّ أنتَ الربُّ وأنا المَرْبوب ، وأنتَ الخالقُ وأنَ المخلوق ، وأنتَ المالكُ وأنا المملوك ، وأنت المعطي وأنا السائل ، وأنت الرازقُ وأنا المرزوق ، وأنت القادرُ وأنا العاجز ، وأنت القويُّ وأنا الضعيف ، وأنت المُغيثُ وأنا المُستَغيث ، وأنت الدائمُ وأنا الزائل ، وأنت الكبيرُ وأنا الحقير ، وأنت العظيمُ وأنا الصغير ، وأنت المَولى وأنا العبد ، وأنت العزيزُ وأنا الذليل ، وأنت الرفيعُ وأنا الوضيع ، وأنت المدبِّرُ وأنا المُدبَّر ، وأنت الباقي وأنا الفاني ، وأنت الديّانُ وأنا المُدان ، وأنت الباعثُ وأنا المبعوث ، وأنت الغنيُّ وأنا الفقير ، وأنت الحيُّ وأنا الميّت ، تَجِدُ مَن تعذّبُ يا رَبِّ غيري ولا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ هود : ٩ ـ ١٠.

٢ ـ الإسراء : ١١.

٣ ـ الإسراء : ١٠٠.

٤ ـ الكهف : ٥٤.

٥ ـ الأحزاب : ٧٢.

٦ ـ يس : ٧٧.

٧ ـ المعارج : ١٩ ـ ٢١.

٨ ـ العاديات : ٦.

٨٩

أجد مَن يَرحَمُني غيرَك (١).

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ بحار الأنوار ٩٩ : ٢١ ـ ٢٢ / ح ١١ ـ عن : مصباح الزائر للسيّد ابن طاووس : ٢٠٣ ، بعد زيارة الإمامين الهمامين موسى الكاظم ومحمّد الجواد عليهما السلام.

٩٠

المبحث الثالث عشر : في البخل

البخل : إمساك المقتنيات عمّا لا يحقّ حبسُها عنه ، ويقابله الجود.

والبخل ضربان : بخلٌ بِقَنيّاتِ نفسه ، وبخلٌ بِقنيّات غيره ، وهو أكثر ذمّاً ، دليلنا على ذلك (١) :

قوله تعالى : (الذين يبخلون ويأمرون النّاس بالبخل) (٢).

ونقول : البخل مقابل الإعطاء والسخاء ، والبخل مذموم عقلاً وشرعاً ، والإسراف في البذل مذموم ، والمحمود هو الوسط الذي يُطلق عليه الجود والسخاء ، قال تعالى : (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كلّ البسط فتقعد ملوماً محسوراً) (٣).

والجود المطلوب شرعاً يجب أن تكون معه نيّة القربة ليعطي ثماره الأُخرويّة للمنفق ، أمّا البخل فهو من الصفات الرذيلة ، وهو فرع من أصل مبغوض ، وهو حبّ الدنيا الذي وصفه الحديث الشريف بأنّه رأس كلّ خطيئة (٤) ، بل أصله الاعتقاديّ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ مفردات غريب القرآن : ٣٨.

٢ ـ النساء : ٣٧.

٣ ـ الإسراء : ٢٩.

٤ ـ الخصال : ٢٥ / ح ٨٧ ـ باب الواحد : قال الإمام الصادق عليه السلام : حبُ الدنيا رأسُ كلِّ خطيئة.

٩١

سوء الظنّ ، لقول أمير المؤمنين عليه السلام : البخلُ بالموجود سوءُ ظنٍّ بالمعبود (١).

لقد اهتمّ الإسلام اهتماماً بليغاً بسدّ حاجات الإنسان من الجوانب المادّية ، فشرّع الزكاة والخمس والكفّارات ، وندب إلى الإنفاق والصدقات ونحوها ، وبذلك يرفع مستوى أهل الحاجة من حالة الفاقة والحرمان ، ويُنزل أهل الترف والثروات الطائلة من بروجهم ، وبذلك تحدث الحالة الوسطيّة التي تضمن المسيرة المتوازنة في مجالات الحياة ، والحالة الوسطيّة لها مراتب ودرجات ولكنّها مقبولة نفسيّاً وأخلاقيّاً.

ولا يتصوّر القارئ العزيز أنّ تشريع الحقوق الماليّة سوف يسدّ حاجة كلّ ذي حاجة ، بل هناك تشريعات مهمّة في الضمان الاجتماعيّ الذي توفّره الدولة للفرد ، والتكافل الاجتماعيّ الذي يوفّره القريب لقريبه ، والجار لجاره مثلاً ، وأمّا الذي لم تصله يد المعونة والمساعدة فالحقوق الشرعيّة تكاد تسدّ تلك الحاجة ، والأهمّ من هذا أنّ الدولة مطالبة بتوفير العمل للمواطن.

إنّ الفوارق الكبيرة ممقوتة في فهم الاجتماع ، ومذاق الشرع وقد أدّت إلى غرس الأحقاد والأضغان والحسد والصراع الطبقيّ بين أبناء المجتمع الواحد ، وقد انقسم الناس إلى فئة محرومة وفئة متخومة ، وإلى فقير وغنيّ ، ومترف ومعدم ، وقويّ وضعيف ، حتّى استطاع أصحاب المبادئ الهدّامة ، وسماسرة السياسة أن يكسبوا الفقراء والمحرومين إلى صفوفهم بعد أن لوّحوا إليهم بالرغيف الموعود ، وعندماتبعهم هؤلاء اتّباعَ الفصيل أثرَ أمّه ، وبعد أن أرهقتهم المسيرة ، وملأت أسماعَهم الهتافاتُ الفوضويّة ، انتبهوا من غفلتهم ، فإذا : (أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ غرر الحكم : ٢٧.

٩٢

يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا) (١).

ونحن لا نريد أن نقلّل من دور الرغيف وأهمّيته ، فقد ورد في الآثار لو لا الرغيف ما عُبِد الله ، وورد عن الإمام عليّ عليه السلام قوله : عَجِبتُ لِمَن لا يجدُ قُوتَ يومه كيف لا يخرج شاهراً سيفَه على الناس.

وقال النبيّ صلى الله عليه وآله : اَللّهمّ باركْ لنا في الخبز ، ولا تفرّق بيننا وبينه ، فولا الخبز ما صُمْنا ولا صَلَّينا ، ولا أدَّينا فرائضَ ربِّنا (٢).

وورد في الحديث أنّ الفقر هو الموت الأكبر (٣) ، والموت الأحمر (٤) ، وأنّه أشدّ من القتل (٥) ، وأشدّ من ابتلي به من المسلمين هم الموالون لأهل البيت عليهم السلام.

ويترتّب على البخل آثار سيّئة أخرى مقل : فتح باب الربا ، والسرقة ، والانحراف الخلقيّ وغيرها من المسالك التي تعصف بأمن المجتمع وسلامته.

قال تعالى : (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّـهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُم بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (٦).

وقال النبيّ صلى الله عليه وآله : البخل شخرة تَنبُت في النار ، فلا يَلِجُ النارَ إلّا بخيل (٧).

وقال أمير المؤمنين عليّ عليه السلام : عَجِبتُ للبخيل يستعجل الفقرَ الذي منه هَرَب ، ويفوته الغِنى الذي إيّاه طَلَب ، فيعيش في الدنيا عيشَ الفقراء ، ويُحاسَب في

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ النور : ٣٩.

٢ ـ المحاسن : ٥٨٦ / ح ٨٣.

٣ ـ نهج البلاغة : الحكمة ١٦٣ ، المحاسن : ٦٠١ / ح ١٦.

٤ ـ الكافي ٢ : ٢٦٦ / ح ٢.

٥ ـ معارج اليقين في أصول الدين : ٢٩٩ ، بحار الأنوار ٦٩ : ٤٧ / ح ٥٨ ـ عن : جامع الأخبار للسبزواريّ : ٢٩٩ / ح ٨١٦.

٦ ـ آل عمران : ١٨٠.

٧ ـ جامع السعادات ٢ : ١١٠ ، وجاء مضمونه في : تاريخ بغداد ٤ : ٣٦٠.

٩٣

الآخرة حسباَ الأغنياء (١).

وعن الإمام عليّ بن الحسين عليهما السلام قال : إنّي لَأَسْتَحْيِي مِن ربّي أن أرى الأخ من إخواني فأسأل اللهَ له الجنّة وأبخل عليه بالدينار والدرهم ، فإذا كان يومُ القيامة قيل لي : لو كانت الجنّةُ لك لكنتَ بها أبخل وأبخل وأبخل (٢).

وقال صلى الله عليه وآله : إيّاكم والشحّ ، فإنّه أهلَكَ مَن كان قبلكم ، حملهم على أن سفكوا دماءهم ، واستحلّوا محارمهم (٣).

وقال صلى الله عليه وآله : جاهلٌ سخيّ أحبُّ إلى الله من عابد بخيل ، وأدوى الداء البخل (٤).

وعنه صلى الله عليه وآله : الثلاث المهلكات : شُحٌّ مُطاع ، وهوىً مُتّبَع ، وإعجابُ المرء بنفسه (٥).

وقال صلى الله عليه وآله : خصلتان لا تجتمعان في مسلم : البخل وسوء الخلق (٦).

وعنه صلّى الله عليه وعلى أهل بيته : لا ينبغي للمؤمن أن يكون بخيلاً ولا جباناً (٧).

وقال صلى الله عليه وآله : يحلف الله بعزّته وعظمته وجلاله أن لا يَدخلَ الجنّةَ شحيحٌ ولا بخيل (٨).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ نهج البلاغة : الحكمة ١٢٦ ، خصائص الأئمّة للرضيّ : ١٠٠.

٢ ـ مصادقة الإخوان : ٤٢ / ح ١ ـ الباب ٢٥ ـ عنه : في وسائل الشيعة ١٦ : ٣٨٧ / ح ١.

٣ ـ مسند أحمد ٣ : ٣٢٣ ، صحيح مسلم ٨ : ١٨.

٤ ـ الكامل لابن عَدِيّ ٣ : ٤٠٣.

٥ ـ الخصال : ٨٤ / ح ١١ ، المجازات النبويّة : ١٩٦.

٦ ـ نفسه : ٧٥ / ح ١١٧.

٧ ـ كنز العمّال ٣ : ٤٥٤ / خ ٧٤١٥.

٨ ـ نفسه ٣ : ٤٥٢ / خ ٧٤٠٧.

٩٤

وقال صلى الله عليه وآله : ما من صباح إلّا وقد وكّل الله تعالى ملكين يناديان : اللهمّ اجعل لكلّ مُمسكٍ تَلَفاً ، ولكلّ منفقٍ خَلَفاً (١).

وأختم هذا البحث بهذه الرواية الرائعة : روي أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله كان يطوف بالبيت ، فإذا رجل متعلّق بأستار الكعبة وهو يقول : اللهمّ بحرمة هذا البيت إلّا غفرتَ لي ذنبي.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : وما ذنبك ، صِفْه لي؟ قال : هو أعظم من أن أصفه لك.

قال : ويحك ، ذنبك أعظم أم الأرضون؟ قال : بل ذنبي يا رسول الله.

قال صلى الله عليه وآله : ويحك ، ذنبك أعظم أم الجبال؟ قال : بل ذنبي يا رسول الله.

قال صلى الله عليه وآله : فذنبك أعظم أم البحار؟ قال : بل ذنبي يا رسول الله.

قال صلى الله عليه وآله : فذنبك أعظم أم السماوات؟ قال : بل ذنبي يا رسول الله.

قال صلى الله عليه وآله : ذنبك أعظم أم العرش؟ قال : بل الله أعظم وأعلى وأجلّ.

قال صلى الله عليه وآله : ويحك! فصِفْ لي ذنبك؟ قال : يا رسول الله إنّي رجل ذو ثروة من المال ، وإنّ السائل ليأتيني ليسألني فكأنّما يستقبلني بشعلة من النار.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : إليك عنّي ، لا تُحرقْني بنارك ، فوالذي بعثني بالهداية والكرامة ، لو قمتَ بين الركن والمقام ، ثمَّ صليتَ ألفَي ألف عام ، وبكيتَ حتى تجريَ من دموعك الأنهار ، وتسقيَ بها الأشجار ، ثم متّ وأنت لئيم ، لأكبّك الله في ال نار ، ويحك أما علمتَ أنَّ الله يقول : (وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ) (٢) ، (وَمَن يُوقَ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ جامع السعادات ٢ : ١١٢.

٢ ـ محمّد صلى الله عليه وآله : ٣٨.

٩٥

شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (١) ، (٢).

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الحشر : ٩.

٢ ـ جامع السعادات ٢ : ١١١ ـ ١١٢.

٩٦

المبحث الرابع عشر : في القرض

القرض : ما تعطيه لغيرك من المال بشرط أن يعيده إليك بعد أجَلٍ معلوم ، قال سبحانه وتعالى : (مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّـهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً) (١) ، وقال سبحانه : (إِن تُقْرِضُوا اللَّـهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّـهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ) (٢).

ومراد الآية بإقراض المال لله سبحانه هو الحث والترغيب على الإنفاق في سبيله تعالى.

وقد ورد في الآثار لمّا نزل قوله تعالى : ، جاء أبو الدحداح إلى النبيّ صلى الله عليه وآله فقال يا نبي الله ، ألا أرى ربنا يستقرضنا مما أعطانا لأنفسنا ، وإنّ لي أرضَين ، أحدهما بالعالية والأخرى بالسافلة ، وإنّي قد جعلت خيرها صدقة ، وكان النبيّ صلى الله عليه وآله يقول : كم من عذق مدلل لأبي الدحداح في الجنّة (٣).

عن الإمام الصادق عليه السلام : لمّا أُنزِلت هذه الآية على النبيّ صلى الله عليه وآله : (مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ البقرة : ٢٤٥.

٢ ـ التغابن : ١٧.

٣ ـ تفسير عبد الرزاق الصنعانيّ ١ / ٩٨ ، جامع البيان ٢ : ٨٠٣ / ح ٤٣٧٩.

٩٧

فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا) (١) ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله : اَللّهمّ زِدْني ، فأنزل الله تبارك وتعالى : (مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) (٢) ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : اَللّهمّ زِدْني ، فأنزل الله عزّ وجلّ عليه : (مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّـهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً) (٣) ، فَعَلِم رسول الله صلى الله عليه وآله أنَّ الكثير من الله عزّ وجلّ لا يُحصى ، وليس له منتهى (٤).

يقول سماحة السيّد عبد الأعلى السبزواريّ قدس سره في «مهذّب الأحكام» : القرض هو تمليك مال لآخر بالضمان ، والقرض من العقود الدائرة بين الناس في كلِّ عصر وزمان وكلّ مذهب ومكان ، حدّده الشارع بحدود خاصّة ، كما هو دأبه في جميع العقود المتعارفة بين الناس (٥).

والاقتراض إن كان من غير حاجة مكروه ، عن الإمام عليّ عليه السلام : إيّاكم والدَّينَ فإنّه مذلّة بالنهار ، ومَهمّة بالليل ، وقضاء في الدنيا وقضاء في الآخرة (٦).

وعن النبيّ صلى الله عليه وآله قال : الدَّين راية الله تعالى في الأرض ، فإذا أراد أن يُذلّ عبداً وضعه في عنقه (٧).

أمّا إقراض المؤمن فمندوب إليه عقلاً وشرعاً ، قال الإمام الصادق عليه السلام : القرض الواحد بثمانية عشر ، وإن مات احتُسب بها من الزكاة (٨). وعنه عليه السلام : مكتوب على

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ القصص : ٨٤.

٢ ـ الأنعام : ١٦٠.

٣ ـ البقرة : ٢٤٥.

٤ ـ معاني الأخبار : ٣٩٨ / ح ٥٤.

٥ ـ مهذّب الأحكام ٢١ : ٣٦ فما بعدها.

٦ ـ الكافي ٥ : ٩٥ / ح ١١.

٧ ـ علل الشرائع : ٥٢٩ / ح ١٠.

٨ ـ ثواب الأعمال : ١٣٨.

٩٨

باب الجنّة : الصدقة بعشرة ، والقرض بثمانية عشر (١).

وفي تفسير هذين الحديثين نرى كيف يكون القرض ثمانية عشر ، فلو أقرض أحدهم غيره درهماً ، كان له ما يساوي عشرة دراهم عند الله ، فحيث إنّ الدرهم القرض يُسترجَع فيبقى له تسعة دراهم كذخيرة أخرويّة ، وحيثما كان القرض موجوداً عند المقترض ، فله تسعة دراهم أخرى كذلك ، فيكون بعد ضمّ الذخيرتين إلى بعضهما ثمانية عشر.

فالمقرض يستفيد تسعة من الثواب بالإقراض ، وتسعة أخرى بثواب بقاء القرض عند المقترض.

وجاء عن النبيّ صلى الله عليه وآله قوله : من أقرض مؤمناً قرضاً ينتظر به مَيسورَه ، كان ماله في زكاة ، وكان هو في صلاة من الملائكة حتّى يُؤدّيَه إليه (٢).

وعنه صلى الله عليه وآله : من أقرض أخاه المسلم كان له بكلّ درهم أقرضه وزنُ جبلِ أُحد من جبال رضوى وطور سيناء حسنات ، فإنْ رفق به في طلبه يعبر به على الصراط كالبرق الخاطف اللامع بغير حساب ولا عذاب. ومن شكا إليه أخوه المسلم فلم يُقْرضه ، حرّم الله عليه أجرَ المحسنين (٣).

وقال صلى الله عليه وآله : من كشف عن مسلك كربةً من كُرب الدنيا كشف الله عنه كربة يوم القيامة ، والله في عون العبد ما كان العبد في حاجة أخيه (٤).

وورد في إنظار المُعسِر أحاديثُ كثيرة نذكر منها : قولَ النبيّ صلى الله عليه وآله : من أراد أن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٤ : ٣٣ / ح ١ ـ باب القرض.

٢ ـ ثواب الأعمال : ١٣٨.

٣ ـ نفسه : ٢٨٩.

٤ ـ شرح الأزهار ٣ : ١٧٢ ، المجموع للنوويّ ١٣ : ١٦٢.

٩٩

يُظلّه الله يومَ لا ظِلَّ إلّا ظلًّه ، (قالها ثلاثاً فهابَهُ الناسُ أن يسألوه ، فقال) فَلْيُنظِرْ مُعسراً ، أو لِيدَع له من حقّه (١).

وعن الإمام الباقر عليه السلام : يُبعَث يومَ القيامة قومٌ تحت ظلّ العرش ووجوههم من نور ... إلى أن قال عليه السلام : فينادي منادٍ : ... هؤلاء قوم كانوا يُييسّرون على المؤمنين ، ويُنظرون المعسر حتّى ييسر (٢).

وعن الإمام الصادق عليه السلام قال : صَعِد رسول الله صلى الله عليه وآله المنبر ذات يوم فحَمِد الله وأثنى عليه وصلّى على أنبيائه صلّى الله عليهم ، ثمّ قال : أيّها الناس ، ليبلّغِ الشاهدُ منكم الغائب ، ألا ومَن أنظر معسراً كان له على الله عزّ وجلّ في كلّ يوم صدقةٌ بِمِثل ماله حتّى يَستوفيَه. إلى أن قال الإمام الصادق عليه السلام : فتصدّقوا عليه بمالكم ، فهو خير لكم (٣).

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٤ : ٣٥ / ح ١ ـ باب إنظار المعسر.

٢ ـ ثواب الأعمال : ١٤٥.

٣ ـ الكافي ٤ : ٣٥ ـ ٣٦ / ح ٤ ـ باب إنظار المعسر.

١٠٠