التفسير المنير - ج ٢٤

الدكتور وهبة الزحيلي

ونوع الجزاء هو :

(أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ)؟ أي هل يستوي من يلقى في النار قسرا وقهرا لإلحاده بالآيات وتكذيبه للرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن يكون آمنا يوم القيامة من العذاب؟ وهذا استفهام بمعنى التقرير ، والمراد أن الملحدين في الآيات يلقون في النار ، وأن المؤمنين بها يأتون يوم القيامة ، فاحكموا أيها العقلاء أيّ الحالين أفضل؟!

ثم أكد التهديد للكفرة بقوله تعالى :

(اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ ، إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) اعملوا أي شيء تريدون فعله من خير أو شر ، فإن الله عالم بكم ، وبصير بأعمالكم ، ومجازيكم بحسب ما تعملون ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، وهذا وعيد وتهديد ، صرف فيه الأمر إلى التهديد ، قال الزجاج : لفظ (اعْمَلُوا) لفظ الأمر ، ومعناه الوعيد.

ثم أبان صفة أولئك الملحدين وجزاءهم فقال وهو أيضا تهديد :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ) أي إن الذين كفروا بالقرآن لما جاءهم ، وكذبوا به ، معذبون هالكون يجازون بكفرهم.

ثم أشاد بأوصاف ثلاثة للقرآن تنبيها للأنظار والعقول ، فقال :

(وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ ، لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) أي وإن القرآن الذي يلحدون فيه عزيز عن المعارضة أو الطعن ، منيع عن كل عيب ، لا يتأتى لأحد أن يأتي بمثله ، وليس لأحد أن يبطله من جميع جوانبه ، ولا يكذبه كتاب سابق قبله ، ولا لاحق بعده ، محفوظ من النقص والزيادة ، كما قال تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ ، وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [الحجر ١٥ / ٩] ، وإنه تنزيل من حكيم في أقواله وأفعاله ، محمود في

٢٤١

جميع ما يأمر به وينهى عنه ، مشكور من جميع خلقه على كثرة نعمه وأفضاله ، وأجلها بحق : تنزيل هذا الكتاب ، فهو النعمة العظمى والرحمة الكبرى ، الذي بيّن للناس طريق الهداية ، وعرفهم محذرا سبيل الغواية والضلالة.

ثم سلّى الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم على ما يناله من أذى المشركين وطعنهم في كتابه وتكذيبهم لرسالته ، وأمره بالصبر والثبات على دعوته ، فقال :

(ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ ، إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ) أي ما يقال لك من هؤلاء الكفار المشركين من وصفك بالسحر والكذب والجنون إلا مثل ما قيل للرسل من قبلك ، فإن قومهم كانوا يقولون لهم مثلما يقول لك هؤلاء ، فكما كذبت كذّبوا ، وكما صبروا على أذى قومهم لهم ، فاصبر أنت على أذى قومك لك ، وإن ربك لغفار لمن تاب إليه ، ومعاقب بعقاب مؤلم لمن استمر على كفره ، وأصر على طغيانه وعناده ، ومات كافرا ولم يتب.

ونظير الآية كثير مثل : (كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا : ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) [الذاريات ٥١ / ٣٩].

وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيّب قال : لما نزلت هذه الآية : (إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ) قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «لو لا عفو الله وتجاوزه ما هنا أحدا العيش ، ولو لا وعيده وعقابه لا تكل كل أحد».

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ أورد تعالى تهديدات أربعة متعاقبة في هذه الآيات ، فقال : (إِنَ

٢٤٢

الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا .. أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ .. اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ ..).

٢ ـ هدد الله تعالى أولا الملحد في آيات القرآن ، وهو المنحرف عن الحق إلى الباطل فقال : ليس القرآن من عند الله ، أو هو شعر أو سحر ، وحاول الصد عن سماعه بالتصفيق والتصفير واللغو والغناء ، وبدّل الكلام ووضعه في غير موضعه. موضعه.

٣ ـ الغرض من قوله : (أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ ..) التنبيه على أن الذين يلحدون في آيات الله ، يلقون في النار ، والذين يؤمنون بآيات الله يأتون آمنين يوم القيامة. وهذا هو التهديد الثاني.

٤ ـ والتهديد الثالث : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) أي بعد ما علمتم أن الملحد الكافر والمؤمن لا يستويان ، فلا بد لكم من الجزاء ، فمن اختار لنفسه طريق الكفر عوقب بالنار ، ومن اختار منهج الإيمان جوزي بالجنة.

٥ ـ والتهديد الرابع : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ ..) أي إن الذين جحدوا بالقرآن وكونه منزلا من عند الله تعالى يجازون بكفرهم ، لأن القرآن اشتمل على جميع ما يحتاج إليه الناس من العقائد الصحيحة ، والشرائع المحكمة ، والأحكام الصالحة لكل زمان ومكان.

٦ ـ ذكر الله تعالى هنا للقرآن الكريم أوصافا ثلاثة هي :

أولا ـ إنه كتاب عزيز منيع الجانب ، لا نظير له ، ولا يطعن فيه ، ولا يعارضه أحد ، كريم على الله تعالى ، محفوظ من الله سبحانه.

ثانيا ـ لا يكذبه شيء مما أنزل الله من قبل من الكتب المتقدمة كالتوراة والإنجيل والزبور ، ولا يجيء كتاب من بعده يكذبه ، ولا يستطيع أحد أن يزيد

٢٤٣

فيه أو ينقص منه ، ولا باطل فيما أخبر عنه في الماضي والمستقبل ، وما حكم بكونه حقا لا يصير باطلا ، وما حكم بكونه باطلا لا يصير حقا.

ثالثا ـ تنزيل من حكيم في جميع أحواله وأفعاله ، حميد أي محمود على ما أسدى لجميع خلقه بسبب كثرة نعمه.

٧ ـ ما يتعرض له الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من الأذى والتكذيب ، تعرض له الأنبياء والرسل السابقون عليه ، فلا بد من الصبر على الأذى ، وألا يضيق القلب بسبب الإعراض عن رسالته.

٨ ـ إن الله تعالى تام العدل ، فهو ذو مغفرة للمؤمنين التائبين ، وذو عقاب مؤلم وجيع لأعدائه الكفار الذين كذبوا رسله.

التأكيد على عروبة القرآن الكريم

(وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٤٤) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (٤٥) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٤٦))

٢٤٤

الإعراب :

(وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ الَّذِينَ) : اسم موصول مبتدأ ، وصلته (لا يُؤْمِنُونَ) وخبره جملة : (فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ) و (وَقْرٌ) : مبتدأ ، و (فِي آذانِهِمْ) خبره ، والجملة من المبتدأ والخبر خبر المبتدأ الأول.

البلاغة :

(ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌ) بينهما طباق. والاستفهام : استفهام إنكار.

(أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) استعارة ، شبّه حالهم في إعراضهم عن سماع القرآن وقبوله بحال من ينادى من مكان بعيد ، بجامع عدم السماع وعدم الفهم في كل منهما.

المفردات اللغوية :

(وَلَوْ جَعَلْناهُ) أي القرآن ـ الذّكر. (أَعْجَمِيًّا) أي كلاما لا يفهم ، سواء بلغة العرب أو العجم. (لَوْ لا) هلا. (فُصِّلَتْ آياتُهُ) بينت آياته بلغتنا ، حتى نفهمها. (ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌ) أكلام أعجمي ومخاطب عربي؟ والمقصود : الدلالة على أنهم لا ينفكون عن التعنت في الآيات كيف جاءت. (هُدىً) من الضلالة إلى الحق. (وَشِفاءٌ) من الجهل والشك والشبهة. (وَقْرٌ) ثقل ، فلا يسمعون. (وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) معمّى فلا يفهمونه ، لتعاميهم عما يريهم من الآيات.(أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) هذا تمثيل لحالهم في عدم قبولهم واستماعهم له بحال من يصيح بهم من مسافة بعيدة ، أي فهم كالمنادى من مكان بعيد لا يسمع ولا يفهم ما ينادى به.

(آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) التوراة. (فَاخْتُلِفَ فِيهِ) بالتصديق والتكذيب كما اختلف في القرآن. (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) بتأخير الحساب والجزاء للخلائق إلى يوم القيامة. (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) في الدنيا فيما اختلفوا فيه. (وَإِنَّهُمْ) أي وإن المكذبين به وهم اليهود أو الذين لا يؤمنون. (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) من التوراة والقرآن. (مُرِيبٍ) موجب للاضطراب موقع في الريبة.

(مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ) أي يعود نفع عمله لنفسه. (وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) أي يعود ضرر إساءته على نفسه. (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) أي بذي ظلم ، فيفعل بهم ما ليس له أن يفعله ، لقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) [النساء ٤ / ٤٠].

٢٤٥

سبب النزول :

نزول الآية (٤٤):

(لَقالُوا : لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ) : أخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير قال : قالت قريش : لو لا أنزل هذا القرآن أعجميا وعربيا؟ فأنزل الله : (لَقالُوا : لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ) الآية. والمراد أن نزول هذه الآية بسبب تعنت الكفار.

المناسبة :

الواقع أن سبب النزول هذا لا يقبل ، لأنه ـ كما ذكر الرازي ـ يقتضي ورود آيات لا تعلق للبعض فيها بالبعض ، مما قد يؤدي إلى الطعن في عدم انتظام القرآن ، فضلا عن ادعاء كونه معجزا. والحق أن هذه السورة من أولها إلى آخرها كلام واحد ، على ما حكى الله تعالى عنهم من قولهم : (وَقالُوا : قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ ، وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) وهذا الكلام متعلق به ، وجواب له.

والتقدير : أنا لو أنزلنا هذا القرآن بلغة العجم ، لكان لهم أن يقولوا : كيف أرسلت الكلام العجمي إلى القوم العرب؟ ويصح لهم أن يقولوا : (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ) أي من هذا الكلام. (وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) منه ، لأنا لا نفهم ولا نحيط بمعناه.

والمراد تأكيد عروبة القرآن ، إذ لو فرض نزوله بلغة أعجمية لحق للعرب أن يقولوا : لا نفهم ، أما وإنه نزل بلغتهم وبألفاظهم ، فلم يبق لهم عذر في الإعراض عنه ، وقولهم : (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ) من هذه اللغة. (وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) من تلك اللغة (١)

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٧ / ١٣٣

٢٤٦

التفسير والبيان

(وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا : لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ؟) أي لو فرض أن جعلنا هذا القرآن بغير لغة العرب أي بلغة العجم ، لقال كفار قريش : هلا بينت آياته بلغتنا حتى نفهمه ، فإنا عرب لا نفهم لغة العجم؟ وقالوا أيضا : أكلام أعجمي ومرسل إليه عربي؟

والمقصود أن القرآن عربي فلم لا يفهمونه ولا يعملون به؟! ولو نزل بلسان أعجمي لأنكروا ذلك ، وقالوا : هلا بينت آياته باللغة التي نفهمها؟ وقالوا أيضا : أكلام أعجمي والمرسل إليهم عرب؟ أي كيف ينزل كلام أعجمي على مخاطب عربي لا يفهمه؟!

ولما كان جميع القرآن عربيا في لفظه ومعناه ، ومع هذا لم يؤمن به المشركون ، دل على أن كفرهم به كفر عناد وتعنت ، كما قال عزوجل : (وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ ، فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ، ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ) [الشعراء ٢٦ / ١٩٨].

ثم أبان الله تعالى هدف القرآن الكريم وغايته ، فقال :

(قُلْ : هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ) أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين القائلين : (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ) : إن هذا القرآن هداية لقلب من آمن به ، وشفاء لما في الصدور من الشكوك والرّيب ، كما قال تعالى : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) [الإسراء ١٧ / ٨٢].

ثم أوضح موقف المشركين من القرآن الكريم ، فقال :

(وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ ، وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) أي والذين لا يصدقون بالله ورسوله ورسالته : في آذانهم صمم عن سماعه وفهم معانيه ، فهم

٢٤٧

لا يفهمون ما فيه ، ولهذا تواصوا باللغو فيه ، وهو عليهم معمّى ، لا يهتدون إلى ما فيه من البيان ، ولا يبصرون ما اشتمل عليه من براهين ومواعظ. وهذا كقوله تعالى : (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً ، صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ ، فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) [البقرة ٢ / ١٧١].

ثم أكد الله تعالى عدم استعدادهم لفهم القرآن ، فقال :

(أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) أي إن حالهم كحال من ينادى من مسافة بعيدة ، يسمع صوت من يناديه منها ، ولا يفهم أو لا يفقه ما يقال له ، لأنهم أعرضوا ولم يريدوا سماع القرآن.

ثم أوضح تعالى أن التكذيب بكتاب الله عادة قديمة في الأمم ، فقال :

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ) أي لا تستغرب يا محمد ، فتلك عادة الأمم مع أنبيائهم ، فإنهم يختلفون في الكتب المنزلة عليهم ، والمثال على ذلك : أننا أرسلنا موسى وآتيناه التوراة ، فاختلفوا فيها بين مصدّق ومكذب ، وكذّب موسى وأوذي ، فلا تأس على فعل قومك ، واصبر على الأذى ، واستعن بالله ولا تعجز ، كما قال تعالى : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) [الأحقاف ٤٦ / ٣٥].

ثم بيّن الله تعالى سبب تأخير العذاب عنهم فقال :

(وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي ولو لا ما سبق من حكم الله بتأخير العذاب والحساب عن المكذبين من أمتك إلى يوم المعاد ، لعجل لهم العذاب ، كما فعل بالأمم المكذبة ، وكما قال تعالى : (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ ، بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً) [الكهف ١٨ / ٥٨] وقال سبحانه : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ، ما تَرَكَ عَلى

٢٤٨

ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ ، وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ..) [فاطر ٣٥ / ٤٥].

ووردت آيات أخرى في تأخير العذاب مثل : (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ) [القمر ٥٤ / ٤٦] ومثل : (وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) [النحل ١٦ / ٦١].

وموجب الهلاك قائم فيهم ، فقال تعالى :

(وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) أي وإن كفار قومك لفي شك من القرآن ، موقع في الريبة والقلق ، فما كان تكذيبهم له عن بصيرة منهم لما قالوا : بل كانوا شاكين فيما قالوه ، غير متحققين لشيء كانوا فيه.

ثم حدد الله تعالى قانون الجزاء ، فقال :

(مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ ، وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ، وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) أي من عمل عملا صالحا في الدنيا ، فائتمر بأمر الله ، وانتهى عما نهى الله عنه ، فإنما يعود نفع ذلك على نفسه ، ويجازى على وفق عمله ، ومن أساء فعصى الله ، فإنما يرجع وبال ذلك عليه ، ويعاقب على جرمه ، كما قال تعالى : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) [النجم ٥٣ / ٣٩]. وعليه ، فإن آمنوا فنفع إيمانهم يعود عليهم ، وإن كفروا فضرر كفرهم يعود إليهم.

والجزاء للفريقين حق وعدل مطلق ، فلا ينقص المحسن شيئا من ثوابه ، ولا يعاقب أحدا من الناس إلا بذنبه ، ولا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه ، وإرسال الرسول إليه.

٢٤٩

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات ما يأتي :

١ ـ إن القرآن عربي ، نزل بلغة العرب ، وليس أعجميا ، فإذا ترجم إلى لغة أخرى ، لم يكن قرآنا.

٢ ـ إن نزول القرآن بلغة العرب كان بقصد التحدي ليتقرر به الإعجاز ، إذ العرب هم أعلم الناس بأنواع الكلام نظما ونثرا ، وإذا عجزوا عن معارضته ، كان من أدل الأدلة على أنه من عند الله تعالى ، ولو كان بلسان العجم لقالوا : لا علم لنا بهذا اللسان ، وإذا كان كلامه بلسانهم ولغتهم ، لا بلغة أجنبية ، فلا يعذرون بعدم الإيمان به ، ولا يصح لهم أن يقولوا : إن قلوبنا في أكنة منه ، بسبب جهلنا بهذه اللغة.

٣ ـ وهذا أمر منطقي ، لأن فهم الخطاب التشريعي أساس التكليف ، ولا يعقل كما قال تعالى. (ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ؟) أن يكون القرآن أعجميا ، والأمة المخاطبة به عربية. والعجمي : الذي ليس من العرب ، كان فصيحا أو غير فصيح. والأعجمي : الذي لا يفصح ، كان من العرب أو من العجم.

٤ ـ إن القرآن هدى للناس من الضلالة ، وشفاء لكل من آمن به من الشك والريب والأوجاع ، وكونه هدى ، لأنه دليل على الخيرات ، مرشد إلى كل السعادات ، وكونه شفاء ، لأنه إذا حصل الاهتداء تحقق الشفاء من مرض الكفر والجهل.

٥ ـ لكن غير المؤمنين بالقرآن في آذانهم صمم عن سماع القرآن ، ولهذا تواصوا باللغو فيه ، وهو عليهم عمى لا يفهمونه ولا يدركون مقاصده ، فهم أو كل واحد منهم كالمنادى له من موضع بعيد ، فهو لا يسمع النداء ولا يفهمه ، فلا خير فيه.

٢٥٠

٦ ـ إن تكذيب الأمم للرسل عادة قديمة غير جديدة في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فلقد أنزل الله التوراة على موسى عليه‌السلام ، وسمع نخبة من قومه كلام الله له ، فمنهم من آمن به ، ومنهم من كذب به ، فلا يحزنك يا محمد اختلاف قومك في كتابك ، فقد اختلف من قبلهم في كتابهم.

وقبل بعضهم هذا الكتاب ، وهم أصحابك ، ورده الآخرون ، وهم يقولون : (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ).

٧ ـ لو لا قضاء الله القديم المحكم ، وحكمه المبرم في إمهال الكفار وتأخير عذاب الاستئصال عنهم إلى يوم القيامة ، لقضي بينهم بتعجيل العذاب ، لأنهم في شك من القرآن شديد الريبة. قال الكلبي في هذه الآية : لو لا أن الله أخر عذاب هذه الأمة إلى يوم القيامة ، لأتاهم العذاب كما فعل بغيرهم من الأمم.

٨ ـ إن الجزاء من جنس العمل ، فمن أطاع الله فالثواب له ، والله عزوجل مستغن عن طاعة العباد ، ومن أساء فالعقاب عليه.

٩ ـ نفى الله تعالى الظلم عن نفسه ، قليله وكثيره ، فقال هنا : (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) وقال سبحانه : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً) [يونس ١٠ / ٤٤] وجاء في الحديث القدسي الثابت الذي أخرجه مسلم عن أبي ذر الغفاري : «يا عبادي ، إني حرّمت الظلم على نفسي ، وجعلته بينكم محرّما ، فلا تظالموا».

وأيضا فالله تعالى هو الحكيم المالك ، وما يفعله المالك في ملكه لا اعتراض عليه ، إذ له التصرف في ملكه بما يريد.

آمنت بالله

٢٥١

فهرس

الجزء الرابع والعشرين

 الموضوع

 الصفحة

وعيد المكذبين ووعد المصدقين..................................................... ٥

تزييف طريقة عبدة الأصنام وتهديدهم............................................. ١٢

مظاهر القدرة التامة والعلم الكامل لله عزوجل........................................ ١٧

واختلف العلماء في النفس والروح................................................. ٢٢

دعاء الإنسان عند الضر وجحوده عند النعمة وإعلامه بأن الرزق بيد الله............... ٢٩

مغفرة الذنوب بالتوبة وإخلاص العمل............................................. ٣٤

حال المشركين المكذبين وحال المتقين يوم القيامة..................................... ٤٢

دلائل الألوهية والتوحيد......................................................... ٤٥

نفختا الصور والفصل في الخصومات وإيفاء كل واحد حقه........................... ٥٢

أحوال أهل العقاب وأهل الثواب.................................................. ٥٨

سورة غافر..................................................................... ٥٨

تسميتها ومناسبتها لما قبلها....................................................... ٦٨

مشتملاتها..................................................................... ٦٩

مصدر تنزيل القرآن وحال المجادلين في آياته......................................... ٧١

محبة الملائكة حملة العرش للمؤمنين ونصرتهم........................................ ٧٩

اعتراف الكفار بذنوبهم وباستحقاقهم العقاب الأخروي والتذكير بقدرة................. ٨٥

الله وفضله

أوصاف أخرى هائلة رهيبة ليوم القيامة............................................ ٩٦

قصة موسى عليه‌السلام مع فرعون وهامان............................................. ١٠٢

١ ـ تعذيب بني إسرائيل والتهديد بقتل موسى.................................. ١٠٢

٢٥٢

٢ ـ قصة مؤمن آل فرعون ودفاعه عن موسى عليه‌السلام............................. ١٠٩

٣ ـ بحث فرعون عن إله موسى استهزاء به وإنكارا لرسالته........................ ١٢١

٤ ـ متابعة الرجل المؤمن نصحة لقومه......................................... ١٢٥

المناظرة بين الرؤساء والأتباع في النار............................................. ١٣٥

نصر الرسل على أعدائهم في الدنيا والآخرة....................................... ١٤٠

من دلائل وجود الله وقدرته وحكمته............................................. ١٤٦

النهي عن عبادة غير الله وسبب النهي........................................... ١٥٦

جزاء المجادلين بالباطل في آيات الله.............................................. ١٦٠

الصبر والنصر................................................................ ١٦٥

دلائل أخرى كثيرة على وجود الله ووحدانيته...................................... ١٦٩

تهديد المكذبين المجادلين في آيات الله وتركهم الشرك حين رؤية العذاب................ ١٧٢

سورة فصّلت................................................................. ١٧٩

مناسبتها لما قبلها.............................................................. ١٧٩

مشتملاتها................................................................... ١٨٠

فضلها....................................................................... ١٨١

القرآن الكريم وإعراض المشركين عنه وبشرية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم......... ١٨٣

دليل وجود الله تعالى وكمال قدرته وحكمته....................................... ١٩١

تهديد المشركين بمثل صاعقة عاد وثمود............................................ ٢٠٠

كيفية عقوبة الكفار في الآخرة.................................................. ٢٠٨

الصد عن سماع القرآن الكريم................................................... ٢١٧

ما وعد الله به أهل الاستقامة................................................... ٢٢١

الدعوة إلى الله تعالى وآداب الدعاة.............................................. ٢٢٦

الأدلة الدالة على وجود الله وتوحيده وقدرته وحكمته............................... ٢٣٣

تهديد الملحدين في آيات الله تعالى وتنزيه القرآن العظيم عن الطعن فيه................ ٢٣٨

التأكيد على كون القرآن عربياً.................................................. ٢٤٤

٢٥٣