التفسير المنير - ج ٢٤

الدكتور وهبة الزحيلي

ورأى بعض المفسرين أن المراد بالحمل : التدبير والحفظ ، والعرش أعظم المخلوقات ، ونؤمن به كما ورد.

وذكر ابن كثير أن حملة العرش اليوم أربعة ، فإذا كانوا يوم القيامة كانوا ثمانية ، كما قال تعالى : (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) [الحاقة ٦٩ / ١٧] (١).

وفائدة وصف الملائكة بالإيمان ، مع أن التسبيح والتحميد يكون مسبوقا بالإيمان : هو إظهار شرف الإيمان وفضله والترغيب فيه ، كما وصف الأنبياء في غير موضع من كتاب الله بالصلاح لذلك ، وكما عقّب أعمال الخير بقوله تعالى : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) [البلد ٩٠ / ١٧] فأبان بذلك فضل الإيمان. وفائدة أخرى هي التنبيه على أن إيمانهم كغيرهم سواء بطريق النظر والاستدلال لا غير ، لا بالمشاهدة والمعاينة (٢).

وصيغة استغفارهم للمؤمنين هي :

(رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً ، فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) أي وسعت رحمتك وعلمك كل شيء ، فاستر واصفح عن الذين تابوا عن الذنوب ، واتبعوا سبيل الله وهو دين الإسلام ، واحفظهم من عذاب الجحيم ـ عذاب النار.

قال خلف بن هشام البزار القارئ : كنت أقرأ على سليم بن عيسى ، فلما بلغت : (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) بكى ، ثم قال : يا خلف! ما أكرم المؤمن على الله ، نائما على فراشه ، والملائكة يستغفرون له.

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٤ / ٧١

(٢) الكشاف : ٣ / ٤٥ ، تفسير الرازي : ٢٧ / ٣٢

٨١

(رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ، إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ربنا وأدخلهم جنات الإقامة الدائمة التي وعدتهم بها على ألسنة رسلك ، وأدخل معهم من صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم ، بأن كان مؤمنا موحدا قد عمل الصالحات ، اجمع بينهم وبينهم ، تكميلا لنعمتك عليهم ، وتماما لسرورهم ، فإن الاجتماع بالأهل أكمل للبهجة والأنس ، إنك أنت القوي الغالب الذي لا يغالب ، الحكيم في أقوالك وأفعالك من شرعك وقدرك.

ونظير الآية : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ ، أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ، وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ، كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) [الطور ٥٢ / ٢١].

قال مطرّف بن عبد الله الشّخيّر : أنصح عباد الله للمؤمنين : الملائكة ، ثم تلا هذه الآية : (رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ) الآية ، وأغشّ عباده للمؤمنين : الشياطين.

وقال سعيد بن جبير : إن المؤمن إذا دخل الجنة ، سأل عن أبيه وابنه وأخيه ، أين هم؟ فيقال : إنهم لم يبلغوا طبقتك في العمل ، فيقول : إني إنما عملت لي ولهم ، فيلحقون به في الدرجة ، ثم قرأ سعيد بن جبير هذه الآية : (رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ ، وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ، إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

ودعاؤهم إيجابي وسلبي ، يشمل دخول الجنان ومنع العقاب ، فقال تعالى :

(وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ ، وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ ، وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي واحفظهم من العقوبات أو العذاب وجزاء السيئات التي عملوها ، بأن تغفرها لهم ، ولا تؤاخذهم بشيء منها ، وأبعد عنهم ما يسوؤهم من العذاب ،

٨٢

ومن تقيه السيئات يوم القيامة ، فقد رحمته من عذابك ، وأدخلته جنتك ، وهذا هو الفوز الساحق الأكبر الذي لا فوز أفضل منه.

وفائدة استغفار الملائكة للمؤمنين التائبين الصالحين الموعودين المغفرة وعدا لا خلف فيه : زيادة الكرامة والثواب.

فقه الحياة أو الأحكام :

يفهم من الآيات ما يأتي :

١ ـ أخبر الله تعالى عن الملائكة حملة العرش بثلاثة أشياء : التسبيح المقرون بالتحميد ، والإيمان الكامل بالله تعالى وحده لا شريك له ، والاستغفار للمؤمنين شفقة عليهم. ويلاحظ أنه قدم التسبيح والتحميد على الاستغفار ، لأن التعظيم لأمر الله مقدم على الشفقة على خلق الله.

والتسبيح : تنزيه الله تعالى عما لا يليق ، والتحميد : الاعتراف بأنه هو المنعم على الإطلاق ، والأول إشارة إلى الجلال ، والثاني إشارة إلى الإكرام ، كما قال تعالى : (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) [الرحمن ٥٥ / ٧٨].

والعرش أعظم المخلوقات ، نؤمن به ، وندع أمر وصفه لله عزوجل. لكن يجب تنزيه الله عن التحديد والتجسيم والتكييف والحصر في مكان معين.

٢ ـ احتج كثير من العلماء بهذه الآية : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ ..) في إثبات أن الملك أفضل من البشر ، لأن الملائكة لما فرغوا من الثناء على الله والتقديس ، اشتغلوا بالاستغفار لغيرهم ، وهم المؤمنون. وهذا يدل على أنهم مستغنون عن الاستغفار لأنفسهم ، وإلا لبدؤوا بأنفسهم قبل غيرهم ، بدليل قوله صلى الله عليه وآله وسلم : فيما رواه النسائي عن جابر «ابدأ بنفسك» وقوله تعالى لنبيه : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ ، وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) [محمد ٤٧ / ١٩] فأمر محمدا صلى الله عليه وآله وسلم أن يستغفر لنفسه ، ثم لغيره.

٨٣

٣ ـ تدل هذه الآية أيضا على حصول الشفاعة من الملائكة للمذنبين ، لأن الاستغفار طلب المغفرة ، والمغفرة لا تذكر إلا في إسقاط العقاب ، أما طلب النفع الزائد وهو زيادة الثواب للمؤمنين ، فإنه لا يسمى استغفارا.

٤ ـ قال أهل التحقيق : إن هذه الشفاعة الصادرة عن الملائكة في حق البشر تجري مجرى اعتذار عن زلة سبقت.

٥ ـ إن الدعاء في أكثر الأحوال يبدأ بلفظ «ربنا» كما فعل الملائكة في دعائهم : (رَبَّنا وَسِعْتَ .. رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ ..) ومن أرضى الدعاء : أن ينادي العبد ربه بقوله : «يا رب».

٦ ـ السنة في الدعاء : أن يبدأ فيه بالثناء على الله تعالى ، ثم يذكر الدعاء عقيبه ، بدليل هذه الآية ، فإن الملائكة لما عزموا على الدعاء والاستغفار للمؤمنين ، بدؤوا بالثناء ، فقالوا : (رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) وكذلك بدأ إبراهيم الخليل بالثناء أولا على الله الهادي ، الرزاق ، الشافي ، المحيي ، الغفار ، ثم قال : (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) [الشعراء ٢٦ / ٧٨ ـ ٨٣]. والعقل والأدب يدلان أيضا على هذا الترتيب.

٧ ـ وصف الملائكة الله تعالى في ثنائهم بقولهم : (رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) بثلاث صفات : الربوبية والرحمة والعلم ، والربوبية إشارة إلى الإيجاد والإبداع ، والرحمة إشارة إلى أن جانب الخير والرحمة والإحسان راجح على جانب الضر ، وأنه تعالى خلق الخلق للرحمة والخير ، لا للإضرار والشر.

٨ ـ قوله سبحانه : (رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) دليل على كونه سبحانه عالما بجميع المعلومات التي لا نهاية لها من الكليات والجزئيات.

٩ ـ اشتمل دعاء الملائكة على الخير كله وعلى أشياء كثيرة للمؤمنين وهي :

٨٤

أ ـ طلب الغفران للتائبين من الشرك والمعاصي ، الذين اتبعوا دين الإسلام.

ب ـ الوقاية من عذاب جهنم حتى لا يصل إليهم.

ج ـ إدخالهم جنات عدن ، قال عمر بن الخطاب لكعب الأحبار : ما جنات عدن؟ قال : قصور من ذهب في الجنة يدخلها النبيون والصدّيقون والشهداء وأئمة العدل.

وإدخال أقاربهم معهم أيضا من الآباء والأزواج والذريات.

د ـ إن صونهم من جزاء السيئات ، أي وقايتهم في الدنيا من العقائد الفاسدة والأعمال الفاسدة والوقاية من عذاب السيئات دليل على رحمة الله بدخول الجنة ، وتلك هي النجاة الكبيرة.

والخلاصة : إن أكمل الدعاء : ما طلب فيه ثواب الجنة ، والنجاة من النار.

اعتراف الكفار بذنوبهم وباستحقاقهم العقاب الأخروي

والتذكير بقدرة الله وفضله

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (١٠) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (١١) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (١٢) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ

٨٥

يُنِيبُ (١٣) فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (١٤) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (١٥) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (١٦) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٧))

الإعراب :

(لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ) مبتدأ وخبر ، واللام لام الابتداء ، وقعت بعد (يُنادَوْنَ) لأنها في معنى : يقال لهم.

(إِذْ تُدْعَوْنَ إِذْ) : ظرف زمان ، وعامله : إما : (لَمَقْتُ اللهِ) أو (مَقْتِكُمْ) أو (تُدْعَوْنَ) أو فعل مقدر ، تقديره : مقتكم إذ تدعون ، أي حين دعيتم إلى الإيمان فكفرتم ، وقيل : تقديره : اذكروا إذ تدعون.

(يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ يَوْمَ) : بدل منصوب من قوله (يَوْمَ التَّلاقِ) وهذا منصوب على أنه مفعول به لفعل : ينذر ، لا الظرف ، لأن الإنذار لا يكون في يوم التلاق ، وإنما يكون الإنذار به ، لا فيه. و (هُمْ بارِزُونَ) : جملة اسمية في موضع جر بإضافة (يَوْمَ) إليها.

و (لِمَنِ الْمُلْكُ) مبتدأ وخبر و (الْيَوْمَ) منصوب متعلق بمدلول قوله تعالى : (لِمَنِ الْمُلْكُ) أي لمن استقر الملك في هذا اليوم ، أو متعلق بنفس (الْمُلْكُ). أو يوقف على (الْمُلْكُ) ، ويبتدأ : (الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) أي هو مستقر لله الواحد القهار في هذا اليوم.

البلاغة :

(أَمَتَّنَا). و (أَحْيَيْتَنَا) بينهما طباق.

(فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ ..) استفهام يراد به التمني ، وأنهم يعلمون أنهم لا يخرجون.

(ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ ، وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا) بينهما مقابلة ، قابل بين التوحيد والشرك ، والكفر والإيمان.

٨٦

(وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً) مجاز مرسل ، أطلق الرزق الذي هو مسبب وأراد المطر الذي هو سبب في الأرزاق.

(يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ الرُّوحَ) كناية عن الوحي ، لأنه كالروح للجسد.

المفردات اللغوية :

(يُنادَوْنَ) يوم القيامة من قبل الملائكة ، فيقال لهم : (لَمَقْتُ اللهِ) إياكم ، وهو أشد البغض. (أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) الأمارة بالسوء. (إِذْ تُدْعَوْنَ) أي إن مقت الله حين دعيتم إلى الإيمان به في الدنيا ، فكفرتم. (أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ) إماتتين ، بأن خلقتنا أمواتا أولا ، ثم صيرتنا أمواتا عند انقضاء آجالنا ، فإن الإماتة : جعل الشيء عادم الحياة ، إما ابتداء ، أو انتقالا من الحياة إلى الموت. (وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) الإحياءة الأولى وإحياءة البعث. (فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا) بالشرك والكفر بالبعث. (فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ) نوع من الخروج من النار لنطيع ربنا. (مِنْ سَبِيلٍ) طريق ، فنسلكه. جوابهم : لا.

(ذلِكُمْ) أي العذاب الذي أنتم فيه. (بِأَنَّهُ) بسبب أنه. (إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ) عبد الله وحده دون غيره. (كَفَرْتُمْ) بالتوحيد. (وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ) يجعل له شريك في العبادة. (تُؤْمِنُوا) تصدقوا بالإشراك. (فَالْحُكْمُ لِلَّهِ) فالقضاء لله في تعذيبكم بالعذاب السرمدي. (الْعَلِيِ) عن أن يشرك به أحد من خلقه ويسوّى به. (الْكَبِيرِ) العظيم الكبير على من أشرك به بعض مخلوقاته في العبادة.

(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ) دلائل قدرته وتوحيده (وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً) أسباب الرزق وهو المطر. (وَما يَتَذَكَّرُ) يتعظ بالآيات المستقرة في الفطر والعقول. (إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) يرجع عن الشرك.

(فَادْعُوا اللهَ) اعبدوه. (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) من الشرك. (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) إخلاصكم له وشق عليهم. (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ) أي الله عظيم الصفات ، المنزه عن مشابهة المخلوقات. (ذُو الْعَرْشِ) خالقه ومالكه. (يُلْقِي الرُّوحَ) الوحي سمي روحا ، لأنه كالروح للجسد. (مِنْ أَمْرِهِ) من قوله ، وهذه أخبار ثلاثة بعد قوله : (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ). (لِيُنْذِرَ) يخوف النبي الملقى عليه الوحي الناس. (يَوْمَ التَّلاقِ) يوم اجتماع وتلاقي الخلائق للحساب أمام الله ، فإنه يوم يلتقي فيه أهل السماء والأرض والعابد والمعبود والظالم والمظلوم والأعمال والعمال.

(بارِزُونَ) ظاهرون لا يسترهم شيء ، أو خارجون من قبورهم. (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) حكاية لسؤال وما يجاب به ، يسأله تعالى ويجيب نفسه ، فهو القهار لخلقه.

٨٧

(لا ظُلْمَ الْيَوْمَ) بنقص الثواب وزيادة العقاب. (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) لا يشغله شأن عن شأن ، فيحاسب الخلائق سريعا ، يحاسب جميع الخلق في قدر نصف نهار من أيام الدنيا ، كما ورد في الحديث.

المناسبة :

بعد بيان أحوال الكافرين المجادلين في آيات الله ، بيّن الله تعالى أنهم يوم القيامة يعترفون بذنوبهم واستحقاقهم العذاب الذي ينزل بهم ، ويسألون الرجوع إلى الدنيا ، ليتلافوا ما فرط منهم.

وبعد ذكر ما يوجب التهديد الشديد للمشركين ، ذكر ما يدل على كمال قدرته وحكمته ، بإظهار البيّنات والآيات ، وإنزال الرزق من السماء ، وإلقاء الوحي على من يشاء من عباده ، لإنذار الناس بالعذاب يوم الحساب.

التفسير والبيان :

يخبر الله تعالى عن مناداة الكفار يوم القيامة وهم يتلظون في النار ، فيقول :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ : لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ ، إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ) أي تنادي الملائكة الكافرين يوم القيامة ، وهم يعذبون في نار جهنم ، فيمقتون أنفسهم ، ويبغضونها غاية البغض ، بسبب ما أسلفوا من الأعمال السيئة التي كانت سبب دخولهم إلى النار ، قائلين لهم : أيها المعذّبون أنفسهم في هذه الحالة ، إن بغض الله لكم حين عرض عليكم الإيمان في الدنيا من طريق الأنبياء ، فتركتموه وكفرتم وأبيتم قبوله ، أشد من بغضكم أنفسكم حين عاينتم عذاب النار يوم القيامة ، ففي الآية حذف وتقديم وتأخير ، أي لمقت الله إياكم حال ما تدعون إلى الإيمان فتكفرون أكبر من مقتكم أنفسكم.

٨٨

فيجيبون بقولهم :

(قالُوا : رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ، فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا ، فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) أي قال الكفار المعذبون : ربنا أمتنا مرتين ، حين كنا نطفا في أصلاب الآباء قبل الحياة الظاهرة ، وحين أصبحنا أمواتا بعد حياتنا الدنيوية ، وأحييتنا مرتين أيضا : الأولى في الدنيا ، والثانية عند البعث ، كما قال تعالى في آية أخرى : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ ، وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ، ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) [البقرة ٢ / ٢٨].

فاعترفنا بذنوبنا التي ارتكبناها في الدنيا ، من تكذيب الرسل ، والإشراك بالله وترك توحيده ، وإنكار البعث ، ولكنه اعتراف وندم في وقت لا ينفعهم فيه الندم ، فهل لنا طريق إلى الخروج من النار والرجوع إلى الدنيا ، لنعمل غير الذي كنا نعمل؟ كما قال تعالى في آية أخرى : (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ، رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا ، فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً ، إِنَّا مُوقِنُونَ) [السجدة ٣٢ / ١٢] وقال سبحانه : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ ، فَقالُوا : يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا ، وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الأنعام ٦ / ٢٧] وقال عزوجل : (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها ، فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ ، قالَ : اخْسَؤُا فِيها ، وَلا تُكَلِّمُونِ) [المؤمنون ٢٣ / ١٠٨].

فأجيبوا بالرفض مع بيان السبب ، فقال تعالى :

(ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ ، وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا ، فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ) أي أنتم هكذا على وضعكم ، وإن رددتم إلى الدار الدنيا : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) [الأنعام ٦ / ٢٨] فلا رجعة لكم ، وتظلمون في العذاب ، بسبب أنكم كنتم إذا دعي الله وحده دون غيره في الدنيا ، كفرتم به وتركتم توحيده باستمرار ، وإن يشرك به غيره من الأصنام أو غيرها ، تؤمنوا بالإشراك به وتجيبوا

٨٩

الداعي إليه ، فالحكم لله وحده دون غيره ، ولا يحكم إلا بالحق وبمقتضى الحكمة ، وهو المتعالي عن المماثل في ذاته وصفاته ، والأكبر من أن يكون له مثل أو صاحبة أو ولد أو شريك ، فقوله : (الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ) دلالة على الكبرياء والعظمة.

ثم ذكر الله تعالى ما يدل على كمال قدرته وكبريائه وعظمته ، فقال :

(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ ، وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً ، وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) الله تعالى هو الذي يظهر لكم دلائل توحيده وعلامات قدرته ، بما أودع في سمائه وأرضه من الآيات العظيمة الدالة على كمال خالقها ومبدعها ومنشئها ، وهو سبحانه الذي ينزل لكم المطر الذي يخرج به من الزروع والثمار ما هو مشاهد بالحس من اختلاف ألوانه وطعومه وروائحه وأشكاله وألوانه ، مع أنه من ماء واحد وتراب واحد ، مما يدل على قدرته وعظمة صنعه ، ولكن ما يتعظ ويعتبر بتلك الآيات الباهرة إلا من يرجع إلى ربه ، بالتأمل والتفكر والنظر في آيات الله ، ثم بالطاعة والإذعان إليه.

ولما قرر الله تعالى ما يوجب توحيده ، صرح بالمطلوب وهو الإقبال بالكلية على الله تعالى ، والإعراض عن غير الله ، فقال :

(فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ، وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) أي فأخلصوا لله وحده العبادة والدعاء ، وخالفوا المشركين في مسلكهم ومذهبهم ، ولو كره الكافرون منهجكم ذلك ، فلا تلتفتوا إلى كراهتهم ، ودعوهم يموتوا بغيظهم.

ثبت في الصحيح عن عبد الله بن الزبير أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول عقب الصلوات المكتوبات : «لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، لا حول ولا قوة إلا بالله ، لا إله إلا الله ، ولا نعبد إلا إياه ، له النعمة وله الفضل ، وله الثناء الحسن ، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ، ولو كره الكافرون».

٩٠

وروى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : «ادعوا الله تبارك وتعالى ، وأنتم موقنون بالإجابة ، واعلموا أن الله تعالى لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه».

ثم ذكر تعالى أيضا ثلاث صفات أخرى من صفات الجلال والعظمة ، فقال :

(رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ، ذُو الْعَرْشِ ، يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ، لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ) أي هو الذي يريكم آياته ، وهو رفيع الصفات ، وهو صاحب العرش ومالكه وخالقه والمتصرف فيه ، وذلك يقتضي علو شأنه وعظم سلطانه ، وهو الذي ينزل الوحي على من يريد من عباده الذين يختارهم لرسالته وتبليغ أحكامه ، وهم الأنبياء ، ليقوموا بإنذار الناس بالعذاب يوم يلتقي أهل السموات والأرض في المحشر ، ويلتقي الأولون والآخرون.

وسمي الوحي روحا ، لأن الناس يحيون به من موت الكفر ، كما تحيى الأبدان بالأرواح. والمراد بقوله : (مِنْ أَمْرِهِ) أي من شرائعه التي يوحي بها إلى أنبيائه ليمتثلوا ويسيروا في حياتهم بموجبها.

ونظائر الآية كثيرة ، مثل قوله تعالى : (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ) [النحل ١٦ / ٢] ونحو قوله سبحانه : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ، عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) [الشعراء ٢٦ / ١٩٣ ـ ١٩٥].

ومن صفات يوم القيامة أيضا ما يلي :

(يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ ، لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ ، لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) أي إن يوم التلاق هو اليوم الذي هم فيه ظاهرون لا يسترهم شيء من جبل أو أكمة أو بناء ، لاستواء الأرض ، وهم خارجون من قبورهم في العراء ،

٩١

لا يخفى على الله شيء من أعمال العباد التي عملوها في الدنيا ، سرا أو علانية ، كما في آية أخرى : (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ ، لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) [الحاقة ٦٩ / ١٨].

ويكون فيه الملك المطلق والسلطان الشامل لله الواحد الأحد ، القاهر عباده وكل شيء بقدرته ، قهرهم بالموت ، ثم بالبعث الشامل. وقد أورد هذا المعنى لتقريره في الأذهان بصورة سؤال يسأل فيه الرب تعالى ، يقول : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ)؟ أي يوم القيامة ، فلا يجيبه أحد ، فيجيب تعالى نفسه ، فيقول : (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ).

والخلاصة : ذكر تعالى هنا أربع صفات ليوم القيامة : هي كونه يوم التلاق ، وكون الخلق فيه ظاهرين جميعا أمامه لا يسترهم شيء ، وكونه يوما لا يخفي الله فيه من الأعمال شيئا ، والمقصود بذلك الوعيد ، فإنه تعالى إذا جمع الخلق ، يجازي كلا بحسبه ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، وكون الملك المطلق فيه لله عزوجل.

ثم ذكر تعالى صفة خامسة وسادسة ليوم القيامة ، تبينان صفات عدل الله في حكمه بين خلقه ، وفضله ورحمته ، فقال :

(الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ ، لا ظُلْمَ الْيَوْمَ ، إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) أي إن يوم القيامة هذا هو يوم الجزاء وثواب كل عامل بعمله ، من خير وشر ، ولا ظلم في الحكم فيه على أحد ، بنقص من ثوابه أو بزيادة في عقابه ، وإن الله سريع حسابه لعباده على أعمالهم في الدنيا ، فيحاسب الخلائق كلهم كما يحاسب نفسا واحدة كما قال تعالى : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) [لقمان ٣١ / ٢٨] وقال : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) [القمر ٥٤ / ٥٠] ولأنه تعالى لا يحتاج إلى تفكر ، ويحيط علمه بكل شيء ، فلا يغيب عنه مثقال ذرة. وذكر سرعة الحساب في هذا الموضع لائق جدا ، لأنه تعالى لما بيّن أنه لا ظلم ، بيّن

٩٢

أنه سريع الحساب ، وذلك يدل على أنه يصل إليهم ما يستحقونه في الحال.

وقد روى مسلم في صحيحة حديثا في بيان منع الظلم في الحساب عن أبي ذر رضي‌الله‌عنه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فيما يحكي عن ربه عزوجل أنه قال : «يا عبادي إني حرّمت الظلم على نفسي ، وجعلته بينكم محرّما ، فلا تظالموا ـ إلى أن قال ـ يا عبادي ، إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم ، ثم أوفيكم إياها ، فمن وجد خيرا فليحمد الله تبارك وتعالى ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه».

فقه الحياة أو الأحكام :

يؤخذ من الآيات ما يأتي :

١ ـ إن الله تعالى يحب الخير لعباده ويكره الكفر والشر لهم ، لذا كان مقته وبغضه للكفار في وقت تعذيبهم بالنار أشد من بغضهم أنفسهم في ذلك الوقت ، لأنها أوبقتهم في المعاصي.

٢ ـ احتج أكثر العلماء بآية : (رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) في إثبات عذاب القبر ، بناء على تفسير السدّي : أنهم أميتوا في الدنيا ، ثم أحياهم في القبور للسؤال ، ثم أميتوا ثم أحيوا في الآخرة. وإنما جنح إلى هذا التفسير ، لأن لفظ الميت لا ينطلق في العرف على النطفة. ولو كان الثواب والعقاب للروح دون الجسد فما معنى الإحياء والإماتة؟.

كذلك تدل هذه الآية على حصول الحياة في القبر.

٣ ـ يعترف الكفار بذنوبهم واستحقاقهم العقاب يوم القيامة ، ويندمون على ذلك ، لكن لا ينفعهم فيه الندم والاعتراف.

٤ ـ يطلب الكفار الرجوع إلى الدنيا للإيمان والطاعة ، ولكن لا رجعة لهم.

٩٣

٥ ـ إن تعذيب الكفار بسبب إعراضهم عن الإيمان بالله وبالبعث وبالرسل في الدنيا التي هي دار التكليف والعمل ، وتركهم التوحيد ، واختيارهم الشرك والمعاصي.

٦ ـ أقام الله تعالى آيات وأدلة كثيرة على وجوده وتوحيده وقدرته وحكمته ، ومنها هنا آيات السموات والأرضين وما فيهما وما بينهما من الشمس والقمر والنجوم والرياح والسحاب والبحار والأنهار والعيون والجبال والأشجار وآثار قوم هلكوا ، ومنها إنزال الرزق بإنزال المطر سبب الحياة والبركة والخير.

ويلاحظ أنه جمع في هذه الآية بين رعاية مصالح الأديان ومصالح الأبدان ، لأن بإظهار الآيات قوام الأديان ، وبإنزال الرزق من السماء قوام الأبدان.

ولكن ما يتعظ بهذه الآيات ، فيوحد الله إلا من ينيب ويرجع إلى طاعة الله ، والمعنى : إنّ لمس وإدراك دلائل توحيد الله كالشيء المستقر في العقول ، والاشتغال بالشرك وبعبادة غير الله مانع يحجب أنوار العقل والفكر ، فإذا تخلى العبد عن الشرك ، وأناب إلى الله ، زال الغطاء ، واستنار القلب ، فحصل الفوز التام ، وظهرت سبيل النجاة.

٧ ـ وكما أن من صفات كبرياء الله وإكرامه : كونه مظهرا للآيات ، منزلا للأرزاق ، فله صفات ثلاث أخرى من صفات الجلال والعظمة ، وهي كونه رفيع الصفات ، خالق العرش ومدبره ومالكه ، منزل الوحي والنبوة على من يشاء من عباده. وسمي الوحي روحا ، لأن الناس يحيون به من موت الكفر ، كما تحيا الأبدان بالأرواح ، كما تقدم.

٨ ـ ما على العباد أمام هذه الصفات العليا إلا عبادة الله وحده لا شريك له ، مخلصين له العبادة والطاعة ، حتى ولو كره الكافرون عبادة الله ، فلا تعبدوا أيها المؤمنون غيره.

٩٤

٩ ـ إنما يبعث الله الرسل لإنذار يوم البعث يوم تلاقي الخلائق جميعهم في أرض المحشر ، ويوم يكونون ظاهرين في صعيد واحد ، لا يسترهم شيء ، لاستواء الأرض ، وذلك اليوم لا يخفى على الله شيء من العباد ومن أعمالهم ، وهو اليوم الذي يظهر فيه السلطان المطلق والملك التام لله الواحد القهار ، ويقول سبحانه بعد فناء الخلق وهلاك كل من في السموات ومن في الأرض : لمن الملك في هذا اليوم؟ فلا يجيبه أحد ، فيجيب نفسه : لله الواحد القهار. وفي تفسير آخر : أن السائل غير الله ، والمجيب هم أهل المحشر ، ورجح هذا القرطبي ، فقال :

أصح ما قيل فيه : ما رواه أبو وائل عن ابن مسعود قال : يحشر الناس على أرض بيضاء مثل الفضة ، لم يعص الله جل وعز عليها ، فيؤمر مناد ينادي : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ)؟ فيقول العباد مؤمنهم وكافرهم : (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) فيقول المؤمنون هذا الجواب سرورا وتلذذا ، ويقوله الكافرون غمّا وانقيادا.

ثم أردف القرطبي قائلا : والقول الأول ظاهر جدا ، لأن المقصود إظهار انفراده تعالى بالملك عند انقطاع دعاوى المدّعين وانتساب المنتسبين ، إذ قد ذهب كل ملك وملكه ، ومتكبر وملكه ، وانقطعت نسبهم ودعاويهم. ودل على هذا قوله الحق عند قبض الأرض والأرواح وطيّ السماء : «أنا الملك ، فأين ملوك الأرض» كما في حديثي أبي هريرة وابن عمر ، ثم يطوي الأرض بشماله والسموات بيمينه ، ثم يقول : أنا الملك ، أين الجبارون ، أين المتكبرون؟! (١).

١٠ ـ ومن صفات ذلك اليوم : أن تجزى كل نفس بما كسبت من خير أو شر ، وأنه لا ظلم فيه ، فلا ينقص أحد شيئا من عمله ، وإن الله سريع الحساب ، فلا يحتاج إلى تفكر واستدلال ، لأنه تعالى العالم الذي لا يعزب عن علمه شيء ، فلا يؤخر جزاء أحد للاشتغال بغيره ، وكما يرزقهم في ساعة واحدة يحاسبهم كذلك

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٥ / ٣٠٠ ـ ٣٠١

٩٥

في ساعة واحدة. جاء في الخبر : «ولا ينتصف النهار حتى يقيل أهل الجنة في الجنة ، وأهل النار في النار».

والخلاصة : ذكر الله تعالى ست صفات ليوم القيامة : وهي كونه يوم التلاق ، وكون الخلق بارزين ظاهرين فيه ، ولا يخفى على الله منهم شيء ، ويظهر فيه الملك التام لله الواحد القهار ، وتجزى فيه كل نفس بما كسبت من خير أو شر ، ولا ظلم في الحساب الذي هو سريع الإجراء والتنفيذ وتحقيق المطلوب.

أوصاف أخرى هائلة رهيبة ليوم القيامة

(وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (١٨) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (١٩) وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٢٠) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (٢١) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٢))

الإعراب :

(وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ، ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ إِذِ) بدل من (يَوْمَ الْآزِفَةِ) الذي هو مفعول به ل (أَنْذِرْهُمْ) لا ظرف ، لأن الإنذار لا يكون يوم الآزفة. و (الْقُلُوبُ) مبتدأ ، و (لَدَى الْحَناجِرِ) خبر. و (كاظِمِينَ)

٩٦

حال من ضمير (لَدَى) أو حال من أصحاب القلوب. و : من في (مِنْ حَمِيمٍ) زائدة ، تقديره : ما للظالمين حميم ولا شفيع. و (يُطاعُ) جملة فعلية صفة ل (شَفِيعٍ).

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا .. فَيَنْظُرُوا) إما منصوب على جواب الاستفهام بالفاء بتقدير «أن» أو مجزوم عطفا على (يَسِيرُوا) و (كَيْفَ) في موضع نصب ، لأنها خبر (كانَ) و (عاقِبَةُ) : اسم كان المرفوع ، وفي (كَيْفَ) ضمير يعود على العاقبة. ويجوز جعل (كانَ) تامة ، فلا تحتاج إلى خبر ، فيكون (كَيْفَ) ظرفا ملغى لا ضمير فيه. وكذلك (كانُوا) في قوله : (الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ) يجوز فيها الوجهان ، ويكون (أَشَدَّ) إذا جعلت (كانَ) بمعنى «وقع» حالا. و (قُوَّةً) تمييز. وجملة كان واسمها وخبرها مفعول : ينظروا. و (كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) جواب (كَيْفَ).

البلاغة :

(ما لِلظَّالِمِينَ) أي الكفار ، فيه وضع الظاهر موضع الضمير للدلالة على اختصاص ذلك بهم ، وإنه لظلمهم.

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ)؟ استفهام إنكاري.

(السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) من صيغ المبالغة.

المفردات اللغوية :

(يَوْمَ الْآزِفَةِ) يوم القيامة ، سميت بها لأزوفها ، أي قربها ، يقال : أزف الرحيل يأزف أزفا : قرب (إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ) ترتفع خوفا عند الحناجر أي الحلوق ، جمع حنجرة أو حنجور كحلقوم لفظا ومعنى. (لِلظَّالِمِينَ) الكفار (كاظِمِينَ) ممتلئين غما (حَمِيمٍ) قريب نافع أو محب (وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) مشفع أي تقبل شفاعته ، ولا مفهوم للوصف : (يُطاعُ) إذ لا شفيع لهم أصلا كما قال تعالى (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ) [الشعراء ٢٦ / ١٠٠] أوله مفهوم بناء على زعمهم أن لهم شفعاء أي لو شفعوا فرضا لم يقبلوا.

(يَعْلَمُ) الله (خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) أي النظرة الخائنة ، كالنظرة الثانية إلى الحرام ، واستراق النظر إليه ، فالمراد الأعين الخائنة : وهي التي تختلس النظر إلى المحرّم وتسارقه (وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) القلوب ، أي ما تكتمه الضمائر. والجملة خبر خامس للقلوب ، للدلالة على أنه ما من خفي إلا وهو متعلّق العلم والجزاء.

٩٧

(وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِ) لأنه المالك الحاكم على الإطلاق ، فلا يقضي بشيء إلا وهو حقه (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ) يعبدون ، أي كفار مكة (مِنْ دُونِهِ) أي الأصنام (لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ) فكيف يكونون شركاء لله؟ وهذا تهكم بهم ، لأن الجماد لا يقال فيه : إنه يقضي أو لا يقضي (إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) السميع لأقوالهم البصير بأفعالهم ، وهذا تعليل وتقرير لعلمه بخائنة الأعين وقضائه بالحق ، ووعيد لهم على ما يقولون ويفعلون ، وتعريض بحال ما يدعونه من دونه.

(عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ) مآل حال الذين كذبوا الرسل قبلهم كعاد وثمود (كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) قدرة وتمكنا (وَآثاراً فِي الْأَرْضِ) من قلاع ومصانع وقصور ومدائن حصينة (فَأَخَذَهُمُ اللهُ) أهلكهم (واقٍ) حافظ يدفع عنهم السوء أو العذاب.

(بِالْبَيِّناتِ) بالمعجزات الظاهرات والأحكام الواضحة (إِنَّهُ قَوِيٌ) متمكن مما يريده غاية التمكن (شَدِيدُ الْعِقابِ) ليس هناك عقاب أشد منه.

المناسبة :

بعد بيان كون الأنبياء ينذرون الناس يوم التلاق ، أتى بأوصاف هائلة رهيبة أخرى ليوم القيامة ، لتخويف الكفار بعذاب الآخرة ، ثم خوفهم بعذاب الدنيا المماثل لإهلاك الأمم السابقة الذين كذبوا الرسل.

التفسير والبيان :

(وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ) أي خوف أيها الرسول الكفار يوم القيامة ، ليؤمنوا ويقلعوا عن الشرك ، ذلك اليوم الذي لكأن القلوب تزول من مواضعها من الخوف ، وترتفع حتى تصير إلى الحلوق ، حال كون أصحابها مكروبين ممتلئين غما.

(ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) أي وحال كون أولئك الكافرين ليس لهم قريب ينفعهم ، ولا شفيع مشفع تقبل شفاعته لهم.

والمقصود بالآية تخويف الكفار وترويعهم من شدة الخوف وأهوال يوم

٩٨

القيامة. وفي الآية إشارة إلى أن الكفار يوم القيامة يشتد خوفهم ، حتى لكأن قلوبهم لدى حلوقهم ، وفيها تصريح بعدم جدوى شفاعة الأصنام كما زعموا وتأملوا.

والقيامة وإن طال زمانها في تقدير الناس إلا أنها آتية من غير أي شك فيها ، وكل آت قريب ، كما قال تعالى : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) [القمر ٥٤ / ١] وقال جل وعلا : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ) [الأنبياء ٢١ / ١] وقال سبحانه : (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) [النحل ١٦ / ١] وقال عزوجل : (فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً ، سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الملك ٦٧ / ٢٧].

ثم أعلمهم تعالى بشمول علمه وضبطه ودقته ، فقال :

(يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) أي إن الله يعلم النظرة الخائنة التي ينظرها العبد إلى المحرّم ، ويعلم ما تسرّه الضمائر من أمور خيّرة أو شريرة ، حتى حديث النفس أو خواطر النفس. وهذا يعني أن علم الله تام محيط بجميع الأشياء جليلها وحقيرها ، صغيرها وكبيرها ، دقيقها ولطيفها ، ليحذر الناس علمه فيهم ، فيستحيوا من الله حق الحياء ، ويتقوه حق تقواه ، ويراقبوه مراقبة من يعلم أنه يراه ، فإنه تعالى يعلم العين الخائنة ، وإن أبدت أمانة ، ويعلم ما تنطوي عليه خبايا الصدور من الضمائر والسرائر ، أي مضمرات القلوب.

قال ابن عباس رضي‌الله‌عنهما في هذه الآية : هو الرجل يدخل على أهل البيت بيتهم ، وفيهم المرأة الحسناء ، أو تمرّ به وبهم المرأة الحسناء ، فإذا غفلوا لحظ إليها ، فإذا فطنوا غض بصره عنها ، فإذا غفلوا لحظ ، فإذا فطنوا غض ، وقد اطّلع الله تعالى من قلبه أنه ود أن لو اطلع على فرجها (١).

__________________

(١) رواه ابن أبي حاتم وابن أبي شيبة وابن المنذر.

٩٩

(وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِ) أي والله يحكم بالحكم العادل ، فيجازي بالحسنة الحسنة ، وبالسيئة السيئة ، ويجازي كل أحد بما يستحقه من خير أو شر.

(وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ ، إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) أي والذين يعبدونه من الأصنام من غير الله ، لا يتمكنون من القضاء بشيء ، أي فلا يحكمون بشيء ، ولا يملكون شيئا ، لأنهم لا يعلمون شيئا ، ولا يقدرون على شيء ، فالذي تجب عبادته هو القادر على كل شيء ، ولا يخفى عليه شيء ، فإن الله سميع لأقوال خلقه ، بصير بأفعالهم ، فيجازيهم عليه يوم القيامة.

وهذا وعيد لهم على أقوالهم وأفعالهم وأنه يعاقبهم عليه ، وتصريح بعدم جدوى عبادة الأصنام والأوثان والأنداد وغيرها من المعبودات ، وتهكم بهم ، لأن ما لا يوصف بالقدرة لا يقال فيه : يقضي أو لا يقضي.

هذه موجبات التخويف من عذاب الآخرة ، ثم خوفهم الله تعالى بعذاب الدنيا ، فقال :

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ، فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ ، كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ ، فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ ، وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ) أي أرشدهم الله تعالى إلى الاعتبار بغيرهم ، والمعنى : أفلم يمش هؤلاء المكذبون برسالتك يا محمد ، فينظروا مآل حال الذين مضوا من الكفار المكذبين بالأنبياء ، وما حل بهم من العذاب والنكال ، مع أنهم كانوا أشد قوة من هؤلاء الحاضرين من كفار مكة وأمثالهم ، وأبقى آثارا في الأرض ، بما عمروا فيها من الحصون والقصور ، وأقاموا من المدن والحضارات.

فأهلكهم الله بسبب ذنوبهم ومعاصيهم ، وما كان لهم من دافع يدفع عنهم العذاب ، وللكافرين أمثالها. وهذا تحذير واضح للكافرين في كل زمان بما حل بالأمم الغابرة.

١٠٠