التفسير المنير - ج ٢٤

الدكتور وهبة الزحيلي

الرؤساء الذين يدعون إلى الضلال ، فيعطي كلا منهم ما يستحقه من العذاب والنكال ، بحسب عمله وإفساده ، كما قال تعالى : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ، زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ ، بِما كانُوا يُفْسِدُونَ) [النحل ١٦ / ٨٨].

ما وعد الله به أهل الاستقامة

(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (٣١) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (٣٢))

الإعراب :

(أَلَّا تَخافُوا إِنَ) : مفسرة بمعنى أي أو مخففة من الثقيلة ، وأصله : بأنه لا تخافوا ، والهاء: ضمير الشأن.

(وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ ، نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ما) : اسم موصول ، وعائده محذوف تقديره : تدّعونه. و (نُزُلاً) : إما منصوب على المصدر ، وإما منصوب على الحال من الكاف واللام في (وَلَكُمْ). وهو جمع «نازل» كشارف وشرف ، وتقديره : ولكم فيها نازلين. والأظهر أن يكون (نُزُلاً) في هذه كقوله تعالى : (هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ) [الواقعة ٥٦ / ٥٦] لا جمع «نازل» أي ما أعدّ لهم من الجزاء ، وهو حال من (ما تَدَّعُونَ).

المفردات اللغوية :

(قالُوا : رَبُّنَا اللهُ) اعترافا بربوبيته وإقرارا بوحدانيته (ثُمَّ اسْتَقامُوا) ثبتوا وداوموا على الاستقامة في العمل الصالح والإقرار بالوحدانية ومقتضياته. وما روي عن الخلفاء الراشدين في معنى

٢٢١

الاستقامة من الثبات على الإيمان ، وإخلاص العمل ، وأداء الفرائض فجزئياتها. وقوله (ثُمَ) للتراخي عن الإقرار بالربوبية في المرتبة والفضل ، من حيث إن الإيمان مبدأ الاستقامة (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا) بما يشرح صدورهم ويدفع عنهم الخوف والحزن ، أو تتنزل بالبشرى في ثلاثة مواطن : عند الموت ، وفي القبر ، وإذا قاموا من قبورهم بألا تخافوا ولا تحزنوا ، لا تخافوا من الموت وما بعده ، ولا تحزنوا على ما خلّفتم من أهل وولد ، ونحن نخلفكم فيه ، والخوف: غم يطرأ على النفس لتوقع مكروه في المستقبل ، والحزن : غم يطرأ على النفس لفوات نفع في الماضي.

(أَوْلِياؤُكُمْ) أعوانكم في شؤونكم ، نحفظكم ونوفقكم لما فيه الخير ، ونلهمكم الرشد والحق (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) بدل ما يفعل الشيطان بالكفرة (وَفِي الْآخِرَةِ) بالشفاعة والكرامة حتى تدخلوا الجنة ، وحيثما تتعادى الكفرة وقرناؤهم (وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ) من اللذائذ (وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ) تتمنون وتطلبون ، مأخوذ من الدعاء بمعنى الطلب ، وهو أعم من الأول (نُزُلاً) ما أعدّ لهم من الجزاء الحسن ، وأصل النزل : الطعام المعدّ للضيف.

سبب النزول :

نزول الآية (٣٠):

(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ) : قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق رضي‌الله‌عنه ، وذلك أن المشركين قالوا : ربنا الله ، والملائكة بناته ، وهؤلاء شفعاؤنا عند الله ، فلم يستقيموا. وقال أبو بكر : ربنا الله وحده لا شريك له ، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم عبده ورسوله ، فاستقام.

وأخرج الترمذي والنسائي والبزار وغيرهم عن أنس بن مالك : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قرأ : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا : رَبُّنَا اللهُ ، ثُمَّ اسْتَقامُوا) قال : «قد قال الناس ، ثم كفر أكثرهم ، فمن مات عليها ، فهو ممن استقام».

المناسبة :

هذه الآية شروع في بيان أحوال المؤمنين ومصيرهم ، بعد بيان أحوال المشركين وعاقبتهم ، ليتبين الفرق بين المؤمن والكافر ، وبين الطيب والخبيث.

٢٢٢

فبعد أن أطنب الله تعالى في وعيد الكفار ، أردفه بهذا الوعد الشريف للمؤمنين ، كما هي سنة القرآن في إقران وإتباع أحدهما بالآخر ، مثل (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ، وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) [الحجر ١٥ / ٤٩ ـ ٥٠].

التفسير والبيان :

(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا : رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) أي إن الذين أقروا بربوبية الله وتوحيده ، فهو الله وحده لا شريك له ، ثم داموا على التوحيد ، فلم يلتفتوا إلى إله غير الله ، واستقاموا وثبتوا على أمر الله ، فعملوا بطاعته ، واجتنبوا معصيته ، حتى ماتوا ، وهذا يشمل التزام أحكام الشرع الحنيف في العقائد والعبادات والمعاملات والمحظورات قولا وفعلا ، لأن الاستقامة لفظ عام. وقد ذكر في حديث بعض مظاهرها ، أخرج أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال : قلت يا رسول الله ، حدثني بأمر أعتصم به ، فقال : «قل : ربي الله ، ثم استقم» قلت : يا رسول الله ، ما أكثر ما تخاف علي؟! فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بطرف لسان نفسه ثم قال : «هذا».

وكذلك ورد عن الخلفاء الراشدين تفسير الاستقامة ببعض جزئياتها ، فقال أبو بكر رضي‌الله‌عنه : استقاموا فعلا كما استقاموا قولا. وقال أيضا : (ثُمَّ اسْتَقامُوا) : لم يشركوا بالله شيئا. وقال عمر رضي‌الله‌عنه وهو يخطب على المنبر : استقاموا والله على الطريقة لطاعته ، ثم لم يروغوا روغان الثعالب. وقال عثمان رضي‌الله‌عنه : ثم أخلصوا العمل لله. وقال علي رضي‌الله‌عنه : ثم أدّوا الفرائض.

وأقوال التابعين بمعنى ما ذكر.

(تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا ، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ

٢٢٣

تُوعَدُونَ) أي تتنزل عليهم الملائكة بما يشرح صدورهم ، ويدفع عنهم المخاوف والأحزان ، كالبشارة بالنجاة في مواطن ثلاثة : عند الموت ، وفي القبر ، وعند البعث ، وإزالة الخوف من أمور الآخرة ، وإذهاب الحزن عما فاتهم من أمور الدنيا من أهل ومال وولد. وإذا أزيلت مخاوف المستقبل وأحزان الماضي ، فقد زالت المضار والمتاعب بالكلية ، وحدثت الطمأنينة والسعادة.

وتقول لهم الملائكة : أبشروا بدخول الجنة التي وعدتم بها في الدنيا على ألسنة الرسل ، فإنكم واصلون إليها ، مستقرون بها ، خالدون في نعيمها.

ثم أخبر عما تقوله الملائكة للمؤمنين ، فقال تعالى :

(نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) أي نحن المتولون لحفظكم ومعونتكم في أمور الدنيا وأمور الآخرة ، نسددكم ونوفقكم ونحفظكم بأمر الله ، وكذلك نكون معكم في الآخرة ، نؤنسكم من وحشة القبور ، وعند النفخة في الصور ، ونؤمّنكم يوم البعث والنشور ، ونجاوز بكم الصراط المستقيم ، ونوصلكم إلى جنات النعيم. وهذا من قول الملائكة أو من قول الله تعالى ، وهو في مقابلة ما ذكر سابقا في وعيد الكفار حيث قال تعالى : (وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ).

(وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ ، نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) أي ولكم في الجنة من جميع ما تختارونه من صنوف اللذات وأنواع الطيبات ، ومهما طلبتم وجدتم ، وكل ما تتمنون حصلتم عليه ، حال كونه معدا لكم ضيافة وعطاء وإنعاما ، من غفور لذنوبكم ، رحيم بكم ، رؤف بأحوالكم ، حيث غفر وستر ، ورحم ولطف. وقد تقدم أن قوله : (وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ) أعم مما سبقه.

٢٢٤

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت هذه الآيات دلالة قطعية على أن الجزاء منوط بالعمل ، فمن أقر بالربوبية والوحدانية والألوهية لله عزوجل ، واستقام على أوامر الله وطاعته ، واجتنب معاصيه وسخطه وغضبه ، له الجزاء المفضل في الدنيا والآخرة.

فتلهمه الملائكة ما تقرّ به نفسه وينشرح له صدره ، ويزيل مخاوفه ، ويبدد أحزانه ، وتقول له الملائكة الذين تتنزل بالبشارة : نحن قرناؤكم الذين كنا معكم في الدنيا ، نحفظكم ونلهمكم الحق ، وإذا كان يوم القيامة لا نفارقكم حتى ندخلكم الجنة. وهذا إما من قول الملائكة ، أو من قول الله تعالى ، والله ولي المؤمنين ومولاهم ، ومن كان الله وليه فاز بكل مطلب ، ونجا من كل مخافة.

ولكم في الآخرة كل ما تشتهيه أنفسكم من الملاذ ، ولكم كل ما تسألون وتتمنون ، رزقا طيبا ، وضيافة كريمة ، ونعمة عظيمة ، من الله الغفار الستّار لذنوب عباده التائبين ، الرحيم الرحمن الرؤوف بعباده في جميع الأحوال.

وقد دلت هذه الآية على أن كل هذه الأشياء المذكورة جارية مجرى النزل ، والكريم إذا أعطى النّزل ، فلا بد وأن يحقق السعادة للمعطي ، وتلك السعادة تحدث عند رؤية الله عزوجل والتجلي والكشف التام.

٢٢٥

الدعوة إلى الله تعالى وآداب الدعاة

(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٣) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤) وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٦))

الإعراب :

(فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ الَّذِي) : مبتدأ ، و (كَأَنَّهُ) : الخبر ، وإذا الفجائية : ظرف مكان لمعنى التشبيه ، والفاء للسببية. (وَإِمَّا) أدغمت نون «إن» الشرطية في «ما» الزائدة.

البلاغة :

(الْحَسَنَةُ) و (السَّيِّئَةُ) بينهما طباق.

(كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) تشبيه مرسل مجمل أي ذكرت أداة التشبيه وحذف وجه الشبه.

المفردات اللغوية :

(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً) أي لا أحد أحسن قولا (دَعا إِلَى اللهِ) أي دعا إلى توحيده وعبادته (وَعَمِلَ صالِحاً) فيما بينه وبين ربه من إقامة الفرائض واجتناب المنكرات (وَقالَ : إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) قال ذلك اعتزازا وتفاخرا باتخاذ الإسلام دينا ومذهبا ، وصرح أنه من المستسلمين لأمر الله ، المنقادين له ، قال أبو حيان : والظاهر العموم في كل داع إلى الله ، أي فهي عامة لمن استجمع تلك الصفات ، وقيل : نزلت في النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وقيل : في المؤذنين.

٢٢٦

(وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ) لا تستويان في الجزاء وحسن العاقبة ، و (لا) الثانية : مزيدة لتأكيد النفي ، و (الْحَسَنَةُ) ما ترضي الله ويتقبلها ، و (السَّيِّئَةُ) ما يكرهها الله ويعاقب عليها (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي ادفع وردّ السيئة حيث اعترضتك بالخصلة التي هي أحسن منها وهي الحسنة ، كمقابلة الغضب بالصبر ، والجهل بالحلم ، والإساءة بالعفو ، والمراد بالأحسن : الزائد مطلقا ، فيكون القصد منه : الحسنة التي وضع الأحسن موضعها.

(فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) إذا فعلت ذلك صار عدوك كالصديق القريب في محبته ، فالحميم : الصديق (وَما يُلَقَّاها) ما يؤتى هذه السجية ويحتملها وهي مقابلة الإساءة بالإحسان (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) لأن الصبر يحبس النفس عن الانتقام (وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) أي ما يؤتاها ويتقبلها إلا صاحب الحظ العظيم من الخير وكمال النفس.

(وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ) أي إن يصرفك وسواس من الشيطان عن الخصلة الخيّرة فاستعذ ، وأصل النزغ : النخس ، شبه وسوسة الشيطان بالنخس ، لأنها بعث على ما لا ينبغي (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) التجئ إليه من شره ولا تطعه ، وجواب الأمر محذوف : أي يدفعه عنك (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) لاستعاذتك أو قولك (الْعَلِيمُ) بنيتك وفعلك.

سبب النزول :

نزول الآية (٣٣):

(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً ..) : قال ابن عباس : هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، دعا إلى الإسلام ، وعمل صالحا فيما بينه وبين ربه ، وجعل الإسلام نحلة : وقال أيضا : هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وقالت عائشة وعكرمة ومجاهد : نزلت في المؤذنين. قال أبو حيان : وينبغي أن يتأول قولهم على أنهم ـ أي المؤذنون ـ داخلون في الآية ، وإلا فالسورة بكاملها مكية بلا خلاف ، ولم يكن الأذان بمكة ، إنما شرع بالمدينة ، والدعاء إلى الله يكون بالدعاء إلى الإسلام وبجهاد الكفار وكف الظلمة.

٢٢٧

نزول الآية (٣٤):

(فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ ..) : نزلت في أبي سفيان بن حرب ، وكان عدوّا مؤذيا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فصار وليا مصافيا.

وروي أيضا أنها نزلت في أبي جهل ، كان يؤذي النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فأمر صلى الله عليه وآله وسلم بالعفو عنه ، وقيل له : (فَإِذَا الَّذِي ..)(١).

المناسبة :

بعد بيان ما يفعله قرناء السوء من الدعوة إلى المعاصي ، ذكر الله تعالى حال أضدادهم الذين يدعون الناس إلى توحيد ربهم وطاعته ، وأبان آدابهم وأوصافهم من مقابلة السيئة بالحسنة ، والاستعاذة من شر الشيطان واللجوء إلى الله إذا حاول الشيطان صرف الإنسان عن حكم شرعه الله تعالى.

التفسير والبيان :

(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ ، وَعَمِلَ صالِحاً ، وَقالَ : إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أي لا أحد أحسن ممن اتصف بالخصال الثلاث التالية :

١ ـ الدعوة إلى توحيد الله وطاعته وعبادته ، فذلك خير ما يقوله إنسان لإنسان. وهذا نص عام يشمل كل داعية مخلص إلى الله ، سواء الداعية الأول وهو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، والمؤذنون ، والقائمون بالدعوة إلى الإسلام في كل زمان ومكان بالقول أو الخطابة أو الكتابة.

__________________

(١) أحكام القران لابن العربي : ٤ / ١٦٥١

٢٢٨

٢ ـ العمل الصالح : وهو تأدية ما فرض الله على الإنسان ، مع اجتناب ما حرّمه عليه.

٣ ـ اتخاذ الإسلام دينا ومنهجا ومذهبا ، فلا شيء أحسن منه قولا ، ولا أصح منه عقيدة ، ولا أوضح منه طريقة ، ولا أكثر من عمله ثوابا.

وبعد بيان أصول الدعوة إلى الله وتوثيق العلاقة بين العبد وربه ، ذكر الله تعالى آداب الدعاة وتحسين العلاقة بين العباد بعضهم ببعض ، فقال : (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ، ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي لا تساوي بين الفعلة الحسنة التي يرضى الله بها ويثيب عليها ، وبين الفعلة السيئة التي يكرهها الله ويعاقب عليها ، والمداراة من الحسنة ، والغلظة من السيئة. ادفع أيها الداعية من أساء إليك بالإحسان إليه ، من الكلام الطيب ومقابلة الإساءة بالإحسان ، والذنب بالعفو ، والغضب بالصبر ، والإغضاء عن الهفوات ، واحتمال المكروهات. قال عمر رضي‌الله‌عنه : ما عاقبت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه.

ثم أبان الله تعالى نتيجة الإحسان وأثره البعيد ، فقال :

(فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) أي إنك إن فعلت ذلك ، فقابلت الإساءة بالإحسان ، صار العدو كالصديق. وما أحسن هذه النتيجة أن يتحول الناس الأعداء أو الحساد إلى أصدقاء أو كالأقارب يستعان بهم عند المحنة ، بسبب الشفقة والإحسان.

(وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا ، وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) أي وما يقبل هذه الوصية ويعمل بها ، ويؤتى القدرة على هذه الخصلة وهي دفع السيئة بالحسنة إلا الذين صبروا على كظم الغيظ ، واحتمال المكروه ، والصبر شاقّ

٢٢٩

على النفوس ، وما يتقبلها ويحتملها إلا ذو نصيب وافر من السعادة في الدنيا والآخرة ، وذو حظ في الثواب والخير.

قال ابن عباس في تفسير هذه الآية : أمر الله المؤمنين بالصبر عند الغضب ، والحلم عند الجهل ، والعفو عند الإساءة ، فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان ، وخضع لهم عدوهم ، كأنه ولي حميم.

ثم ذكر الله تعالى طريق علاج الوساوس والأهواء ونزعات الشيطان ، فقال :

(وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ ، فَاسْتَعِذْ بِاللهِ ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي إن وسوس إليك الشيطان ، وحاول صرفك عن الدفع بالتي هي أحسن ، وزيّن لك أن تقابل السيئة بمثلها ، فاستعذ بالله من شره ، والتجئ إلى الله لكفه عنك ورد كيده ، فالله هو السميع لاستعاذتك منه ، والتجائك إليه ، العليم بوساوس الشيطان وبما يعزم عليه الإنسان وبصدق الطلب والرجاء.

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قام إلى الصلاة يقول فيما رواه أحمد والترمذي عن أبي سعيد الخدري : «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، من همزه ونفخه ونفثه».

ونظير الآية قوله تعالى : (خُذِ الْعَفْوَ ، وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ ، وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ. وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ ، إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا ، فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) [الأعراف ٧ / ١٩٩ ـ ٢٠١].

فقه الحياة أو الأحكام :

يؤخذ من الآيات ما يأتي :

١ ـ لا كلام أحسن من القرآن ، والدعوة إلى توحيد الله وطاعته أحسن من

٢٣٠

كل ما سواها ، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الأنموذج الأول للدعاة ، والقدوة الحسنة لهم ، كان الحسن إذا تلا هذه الآية يقول : هذا رسول الله ، هذا حبيب الله ، هذا ولي الله ، هذا صفوة الله ، هذا خيرة الله ، هذا والله أحبّ أهل الأرض إلى الله ، أجاب الله في دعوته ، ودعا الناس إلى ما أجاب إليه (١).

وقالت عائشة رضي‌الله‌عنها وعكرمة وقيس بن أبي حازم ومجاهد : نزلت في المؤذنين.

والحق أن هذه الآية كما تقدم وكما قال الحسن : عامة في كل من دعا إلى الله ، نزلت في كل مؤمن. والدعوة إلى الله : بإقامة الأدلة والبراهين القطعية على صحة العقيدة الإسلامية والشريعة الإسلامية.

٢ ـ لا بد من أن يجمع الداعية بين العمل الصالح (وهو اجتناب المحارم ، وكثرة المندوبات ، وأداء الفرائض) وبين التصريح بالاعتقاد بالله في ذلك كله ، وإخلاص العمل لوجه الله تعالى.

وقوله تعالى : (وَقالَ : إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) رد على من يقول : أنا مسلم إن شاء الله(٢).

٣ ـ هناك فرق عظيم بين الحسنة والسيئة وأثر كل منهما ، والحسنة : دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى دين الحق ، والصبر على جهالة الكفار ، وترك الانتقام ، وترك الالتفات إليهم. والسيئة : ما أظهره المشركون من الجلافة في قولهم المتقدم أوائل السورة : (وَقالُوا : قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ) وأمثلة الحسنة : قول لا إله إلا الله ، والطاعة لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، والمداراة ، والعفو ، والعلم ، وحبّ

__________________

(١) أحكام القرآن لابن العربي : ٤ / ١٦٥٠

(٢) المرجع والمكان السابق.

٢٣١

آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ونحو ذلك. وأمثلة السيئة أضداد ذلك كالشرك ، والغلظة ، والانتقام ، والفحش ، وبغض آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

٤ ـ الحكمة والسياسة في الأخلاق الاجتماعية : دفع السيئة بالإحسان ، كالكلمة الطيبة والمصافحة ، جاء في الأثر الذي رواه ابن عدي عن ابن عمر ، وهو ضعيف : «تصافحوا يذهب الغلّ» فإذا أحسنت إلى من أساء إليك ، قادته تلك الحسنة إلى مصافاتك ومحبتك والحنو عليك حتى يصير كأنه ولي حميم ، أي قريب إليك ، من الشفقة عليك ، والإحسان إليك. قال ابن عباس ـ كما تقدم ـ : أمره (أمر نبيه) الله تعالى في هذه الآية بالصبر عند الغضب ، والحلم عند الجهل ، والعفو عند الإساءة ، فإذا فعل الناس ذلك عصمهم الله من الشيطان ، وخضع لهم عدوهم.

وقيل : كان هذا قبل الأمر بالقتال ، ثم نسخ به ، والظاهر دوام العمل بهذه الآية ، فهي تقرر أمرا خلقيا محمودا وفضيلة سامية ، بدليل قوله بعدها : (وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا ..) الآية.

٥ ـ لا يتخلق بهذه الفضيلة إلا من صبر على الإساءة بكظم الغيظ واحتمال الأذى ، وذو النصيب الوافر من الخير ، فهذا أسلوب دفع الغضب والانتقام وترك الخصومة.

ويضم إليه أسلوب آخر في الوقاية من الشر قبل حدوثه : وهو الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم ، والالتجاء إلى الله من كيده وشره ووساوسه ، والله حتما سميع للاستعاذة ، عليم بصير بالأفعال والأقوال.

٢٣٢

الأدلة الدالة على وجود الله وتوحيده وقدرته وحكمته

(وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (٣٧) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (٣٨) وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩))

الإعراب :

(وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ .. اللَّيْلُ) : مبتدأ ، (وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) : عطف عليه. (وَمِنْ آياتِهِ) : الخبر. وقوله : (وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَ) الهاء والنون في (خَلَقَهُنَ) تعود على الآيات ، ولا تعود على الشمس والقمر والليل والنهار ، لأن المذكر والمؤنث إذا اجتمعا غلّب جانب المذكر على جانب المؤنث.

(وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً ..) : أن وما عملت فيه : في موضع رفع بالظرف ، على مذهب سيبويه والأخفش ، لأن «أن» المصدرية إذا وقعت بعد الظرف ارتفعت به ، كما يرفع الظرف إذا وقع خبرا لمبتدأ ، أو صفة لموصوف ، أو صلة لموصول ، أو حالا لذي حال ، أو معتمد على همزة الاستفهام أو حرف النفي ، فالخبر مثل (فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ) فجزاء : مرفوع بالظرف ، والصفة مثل : مررت برجل في الدار أبوه ، والصلة مثل : (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) [الرعد ١٣ / ٤٣] والحال مثل (وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ) [المائدة ٥ / ٤٦] فهدى : مرفوع بالظرف ، لأنه حال من الإنجيل ، والمعتمد على همزة الاستفهام مثل (أَفِي اللهِ شَكٌ) [إبراهيم ١٤ / ١٠] وحرف النفي مثل : ما في الدار أحد. و (خاشِعَةً) : حال من (الْأَرْضَ) لأن (تَرَى) من رؤية العين. (وَرَبَتْ) : أصله ربوت ، فتحركت الواو وانفتح ما قبلها ، فقلبت ألفا ، وحذفت الألف لسكونها وسكون تاء التأنيث. وقرئ : «ربأت» أي ارتفعت.

٢٣٣

البلاغة :

(وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً ..) هذه الآية في قمة البلاغة والبيان وجمال الأسلوب والتناسق الفني في التعبير والأداء ، فكأن الحركة ولمس معالم القدرة الإلهية وبعث الحياة تتمثل في جنباتها.

المفردات اللغوية :

(وَمِنْ آياتِهِ) جمع آية : وهي البرهان والحجة الدالة على وحدانية الله وقدرته (الَّذِي خَلَقَهُنَ) أي خلق الآيات الأربع وسواها (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) أمر بالسجود ثم ذكر العبادة ، لأن السجود أخص العبادات ، وهو موضع سجدة التلاوة عند الشافعية ، لاقتران الأمر به ، وعند أبي حنيفة : آخر الآية الأخرى ، لأنه تمام المعنى.

(فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا) عن الامتثال أو السجود لله وحده (فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) أي الملائكة (يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ) يصلون له دائما ، لقوله تعالى : (وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) لا يملّون.

(خاشِعَةً) جامدة يابسة لا نبات فيها ، وأصل الخشوع : التذلل ، أستعير لحال الأرض الجدبة اليابسة (اهْتَزَّتْ) تحركت (وَرَبَتْ) انتفخت وعلت بالنبات (إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) من الإحياء والإماتة.

المناسبة :

بعد بيان أن أحسن الأعمال والأقوال هو الدعوة إلى الله تعالى ، ذكر الله تعالى الدلائل الدالة على وجود الله وقدرته وحكمته ، كمادة للدعوة إلى الله ، وتنبيها على أن الدعوة إليه تعالى هي تقرير الدلائل الدالة على ذات الله وصفاته. وقد ذكر هنا الدلائل الكونية الفلكية الأربعة وهي الليل والنهار والشمس والقمر ، ثم أتبعها بآية أرضية في مرأى العين ، وهي إنبات النباتات بالمطر في الأرض.

٢٣٤

التفسير والبيان :

(وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) أي ومن العلامات الدالة على قدرة الله وعظمته وحكمته وجود الليل والنهار وتعاقبهما ، وخلق الشمس المضيئة والقمر المنير ، وتقدير منازلهما في فلكيهما ، واختلاف سيرهما في مداريهما في السماء ، ليعرف بذلك مقادير الليل والنهار والأسابيع والشهور والأعوام ، وتعرف أوقات العبادة وآجال الحقوق والديون والمعاملات.

ولما كانت الشمس والقمر أنفع وأحسن الأجرام المشاهدة في العالم العلوي والسفلي ، نبّه الله تعالى إلى أنهما مخلوقان خاضعان لسلطان الله وتسخيره ، فلا يعظمان وإنما يعظم خالقهما ، فقال تعالى :

(لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ ، وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) أي إياكم من السجود للشمس والقمر ، لأنهما مخلوقان من مخلوقات الله ، فلا يصح أن تكونا شريكين له في ربوبيته ، ولا تصح عبادتهما فهي لا تنفع مع عبادة الله ، وتكون عبادتهما شركا.

وإنما الواجب السجود لمن خلق هذه الآيات الأربع وغيرها ، إن كنتم تريدون العبادة الصحيحة الخالصة لله تعالى.

وآخر الآية رد على الصابئة الذين عبدوا الكواكب ، وعبدة الشمس في عصرنا ، الذين زعموا أنهم يقصدون بالسجود لهما السجود لله ، فنهوا عن ذلك وأمروا ألا يسجدوا إلا لله الذي خلق هذه الأشياء.

وموضع سجود التلاوة في مذهب الشافعي رضي‌الله‌عنه كما تقدم هو قوله : (تَعْبُدُونَ) لأن قوله : (وَاسْجُدُوا لِلَّهِ) متصل به. وعند أبي حنيفة رضي‌الله‌عنه هو قوله : (وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) الآتي ، لأن الكلام إنما يتم عنده.

٢٣٥

وبعد أن أمر الله تعالى بالسجود له ، قال بعده :

(فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ ، وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) أي فإن تكبر هؤلاء المشركون عبدة الكواكب عن الامتثال وإفراد العبادة لله ، وأبوا إلا أن يشركوا معه غيره ، فلا يهم أمرهم ، فالملائكة عند ربك الذين هم خير منهم ـ عندية مكان لا قرب مكان ـ لا يستكبرون عن عبادته تعالى ، بل يواظبون على تسبيح الله سبحانه بالليل والنهار ، وهم لا يملون ولا يفترون ، كقوله عزوجل : (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ ، فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) [الأنعام ٦ / ٨٩]. وهذه الآية : (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا ..) تدل على أن الملائكة أفضل من البشر.

وبعد ذكر الدلائل الفلكية ، ذكر تعالى الدلائل الأرضية ، فقال :

(وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً ، فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ، إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى ، إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي ومن دلائل قدرته تعالى على البعث وإعادة الموتى أحياء أنك ترى الأرض هامدة لا نبات فيها ، بل هي ميتة ، فإذا أنزل الله عليها المطر تحركت بالنبات ، وانتفخت وعلت ، وأخرجت من جميع ألوان الزروع والثمار.

إن الذي أحيا هذه الأرض الجدبة بالنبات والزرع ، قادر على أن يحيي الأموات ، فإنه الرب القدير الذي لا يعجزه شيء كائنا ما كان.

وقوله تعالى : (أَنَّكَ تَرَى) الخطاب لكل عاقل.

وهذا دليل حسي متكرر في القرآن يقرب للأذهان صورة الإحياء بعد الإماتة ، والمعول عليه هو قدرة الله الخالق ابتداء وانتهاء وكل وقت.

٢٣٦

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ من الآيات الواضحة والعلامات الظاهرة على وحدانية الله وقدرته خلق الليل والنهار والشمس والقمر.

٢ ـ هذه المخلوقات ذات المنافع الكثيرة لا تستحق العبادة مع الله ، وإنما المستحق للعبادة هو موجدها ، لأنه تعالى هو الخالق ، ولو شاء لأعدم الشمس والقمر ، أو طمس نورهما ، فهما مخلوقان يدلان على وجود الإله ، والسجدة التي هي نهاية التعظيم لا تليق إلا بمن كان أشرف الموجودات.

٣ ـ إن الله غني عن عباده ، فلا تنفعه طاعة ، ولا تضره معصية ، وإذا أحجم الناس عن عبادته ، وأعرض الكفار عن السجود لله ، فهناك خلق آخر وهم الملائكة مواظبون على التسبيح ، لا ينفكون عنه لحظة واحدة ، ولا يملّون عبادته ، ولا يشتغلون بأمر آخر سوى العبادة.

٤ ـ لا خلاف في أن آية (لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ ..) آية سجدة ، وإنما الخلاف كما تقدم في موضع السجود ، فقال لجمهور : موضعه : (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) لأنه متصل بالأمر : (اسْجُدُوا). وقال أبو حنيفة : موضعه : (وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) لأنه تمام الكلام وغاية العبادة والامتثال.

٥ ـ تضمنت هذه الآية صلاة كسوف القمر والشمس ، لأن العرب كانت تقول : إن الشمس والقمر لا يكسفان إلا لموت عظيم ، فصلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الكسوف ، وهي ثابتة في صحاح البخاري ومسلم وغيرهما.

٦ ـ ومن الآيات الدالة على قدرة الله وإحياء الموتى والبعث : إحياء الأرض

٢٣٧

اليابسة التي لا زرع فيها ولا نبات بنزول الغيث عليها ، فإن القادر على إحياء الأرض بعد موتها هو القادر على إحياء هذه الأجساد بعد موتها.

وقد تكرر هذا الدليل مرارا في القرآن ، والدليل الأصلي هو قوله : (إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وتقديره كما ذكر الرازي : أي عودة التأليف والتركيب إلى تلك الأجزاء المتفرقة ممكن لذاته ، وعود الحياة والعقل والقدرة إلى تلك الأجزاء بعد اجتماعها أيضا أمر ممكن لذاته ، والله تعالى قادر على الممكنات ، فوجب أن يكون قادرا على إعادة التركيب والتأليف والحياة والقدرة والعقل والفهم إلى تلك الأجزاء ، مما يدل دلالة واضحة على أن حشر الأجساد ممكن لا امتناع فيه (١).

تهديد الملحدين في آيات الله تعالى وتنزيه القرآن العظيم

عن الطعن فيه

(إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (٤١) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢) ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (٤٣))

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٧ / ١٣٠

٢٣٨

الإعراب :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ ..) خبر (إِنَ) فيه وجهان : إما أنه محذوف ، وتقديره : إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم يعذبون أو نجازيهم. وإما قوله تعالى : (أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) [الآية : ٤٤] قال الرازي : والأول أصوب. وجملة (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) : بدل من قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ ..).

(ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ .. ما قَدْ قِيلَ) : في تأويل مصدر ، نائب فاعل ل (يُقالُ).

البلاغة :

(أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ) بينهما مقابلة ، والمراد بالهمزة هنا التي هي للاستفهام : الإقرار بأن الملحدين يلقون في النار ، وأن المؤمنين يأتون آمنين.

(اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) أمر يراد به التهديد والوعيد ..

(مَغْفِرَةٍ) و (عِقابٍ) بينهما طباق.

المفردات اللغوية :

(يُلْحِدُونَ) يميلون عن الحق والاستقامة ، أي يؤولون الآيات تأويلا باطلا ، ويطعنون فيها ويحرّفونها عن مواضعها (فِي آياتِنا) آيات القرآن والدلائل الدالة على قدرة الله وحكمته (لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا) أي فنجازيهم على إلحادهم (أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً)؟ قابل الإلقاء في النار بالإتيان آمنا ، مبالغة في الإشادة بحال المؤمنين (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) تهديد شديد (إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) وعيد بالمجازاة.

(بِالذِّكْرِ) القرآن (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ) منيع لا يتأتى إبطاله وتحريفه (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) لا يتطرق إليه الباطل من جميع جهاته سواء الأخبار الماضية أو الأحكام التشريعية (حَكِيمٍ) في جميع أفعاله ، يضع الأمور في نصابها الصحيح (حَمِيدٍ) يحمده جميع خلقه بما أنعم من النعم الكثيرة عليهم.

(ما يُقالُ لَكَ) أي ما يقول لك كفار قومك من تكذيب (إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ

٢٣٩

قَبْلِكَ) أي إلا مثل ما قال لهم كفار قومهم (لَذُو مَغْفِرَةٍ) للمؤمنين (وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ) مؤلم للكافرين أعداء الله والمؤمنين.

سبب النزول :

نزول الآية (٤٠):

(أَفَمَنْ يُلْقى ..) : أخرج ابن المنذر عن بشير بن فتح قال : نزلت هذه الآية في أبي جهل وعمار بن ياسر : (أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ)؟

المناسبة :

بعد الأمر بالدعوة إلى دين الله تعالى ، وبيان أسلوب الدعوة بذكر دلائل التوحيد والعدل وصحة البعث والقيامة ، هدد الله تعالى من ينازع في تلك الآيات والدلائل ، ويحاول إلقاء الشبهات فيها. ثم نوّه بوصف القرآن ، وسلّى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم على آلامه من تكذيب قومه ، وأمره بأن يصبر على أذاهم ، وألا يضيق قلبه بإعراضهم عن رسالته ، فتلك عادة الأمم مع الأنبياء والرسل.

التفسير والبيان :

(إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا) أي إن الذين يميلون عن الحق ، فيضعون الكلام في غير موضعه ، ويحرّفون كلام الله تعالى وآياته الدالة على قدرته وحكمته ، لا يخفون علينا ، بل نحن نعلمهم ، فنجازيهم بما يعملون بالعقوبة والنكال.

وفي هذا تهديد شديد ووعيد أكيد ، يقتضي الحذر والخوف.

٢٤٠