التفسير المنير - ج ٢٤

الدكتور وهبة الزحيلي

التفسير والبيان :

يخاطب الله رسوله محمدا صلى الله عليه وآله وسلم بقوله :

(إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِ) أي إنا نحن رب العزة وإله الكون نزّلنا عليك يا محمد القرآن العظيم ، لأجل الناس ، أي والجن ، ولبيان ما كلّفوا به ، وإنذارهم به ، أنزله ربك مقرونا مصحوبا بالحق ملتبسا به ، وهو دين الإسلام. قال الزمخشري : (لِلنَّاسِ) لأجلهم ولأجل حاجتهم إليه ، ليبشّروا وينذروا ، فتقوى دواعيهم إلى اختيار الطاعة على المعصية ، ولا حاجة لي إلى ذلك فأنا الغني ، فمن اختار الهدى فقد نفع نفسه ، ومن اختار الضلالة فقد ضرها (١) ، قال تعالى :

(فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ ، وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها ، وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) أي فمن عرف طريق الحق وسلكها ، فاهتداؤه لنفسه ، ويعود نفع ذلك إلى نفسه ، ومن حاد عن طريق الحق ، فضلاله على نفسه ، ويرجع وبال ذلك على نفسه ، وما أنت أيها الرسول بموكل أن يهتدوا ، ولا بمكلف في حملهم على الهداية ، بل عليك البلاغ ، وقد فعلت ، كقوله تعالى : (إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ ، وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) [هود ١١ / ١٢] وقوله سبحانه : (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) [الرعد ١٣ / ٤٠] وقوله عزوجل : (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) [الغاشية ٨٨ / ٢١ ـ ٢٢].

ثم ذكر الله تعالى نوعا آخر من أنواع قدرته وتصرفه في الوجود ، بعد إنزال القرآن ، فقال :

(اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها ، وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) أي إن الله هو

__________________

(١) الكشاف : ٣ / ٣٣

٢١

الذي يقبض الأنفس أو الأرواح حين انقضاء آجالها بالموت ، الوفاة الكبرى ، بما يرسل من الملائكة الذين يقبضونها من الأبدان ، ويقطع تعلقها بالأجساد.

وكذلك يتوفى الأنفس التي لم يأت أجلها الوفاة الصغرى عند المنام ، تشبيها للنائمين بالموتى ، حيث يمنعهم من التمييز والتصرف كالموتى بالفعل ، مع بقاء الأرواح في أبدانهم.

(فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ ، وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أي يمسك الأنفس والأرواح التي قضى عليها الموت الحقيقي ، أي لا يردها إلى الجسد الذي كانت فيه ، ويرسل النفس النائمة إلى الأجساد حين اليقظة ، بأن يعيد إليها إحساسها ، إلى أجل مسمى ، هو وقت الموت.

إن في ذلك المذكور من التوفي التام والإمساك لنفوس ، والإرسال لنفوس أخرى لعلامات عجيبة دالة على كمال قدرة الله الباهرة ، وحكمته البديعة.

ونظير الآية قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ ، وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ، ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ، ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ، ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ ، وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً ، حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا ، وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) [الأنعام ٦ / ٦٠ ـ ٦١] فذكر الوفاتين الصغرى ثم الكبرى ، وفي هذه الآية هنا ذكر الكبرى ثم الصغرى ، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : «لتموتن كما تنامون ، ولتبعثن كما تصحون».

واختلف العلماء في النفس والروح

هل هما شيء واحد أو شيئان؟ قال ابن عباس : إن في ابن آدم نفسا وروحا ، بينهما مثل شعاع الشمس ، فالنفس : التي بها العقل والتمييز ، والروح :

٢٢

هي التي بها النفس والتحريك ، فيتوفيان عند الموت ، وتتوفى النفس وحدها حين النوم. والأظهر أنهما شيء واحد ، كما تدل الآثار الصحاح الآتية في استنباط الأحكام.

وقال الرازي : النفس الإنسانية : عبارة عن جوهر مشرق روحاني إذا تعلق بالبدن حصل ضوؤه في جميع الأعضاء ، وهو الحياة. ففي وقت الموت : ينقطع تعلقه عن ظاهر البدن وباطنه ، وذلك هو الموت. وأما في وقت النوم فإنه ينقطع ضوؤه عن ظاهر البدن دون باطنه ، فثبت أن الموت والنوم من جنس واحد ، إلا أن الموت انقطاع تام كامل ، والنوم انقطاع ناقص من بعض الوجوه (١).

ونظرا لشبه النوم بالموت في بعض الأوجه ، إذ النوم موت أصغر ، والموت نوم أكبر ، يسنّ عند النوم الدعاء التالي ، ورد في صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «إذا أوى أحدكم إلى فراشه ، فلينفضه بداخلة إزاره ، فإنه لا يدري ما خلفه عليه ، ثم ليقل : باسمك ربي وضعت جنبي ، وبك أرفعه ، إن أمسكت نفسي فارحمها ، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين». وخرج البخاري عن حذيفة قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أخذ مضجعه من الليل وضع يده تحت خده ، ثم يقول : «اللهم باسمك أموت وأحيا» وإذا استيقظ قال : «الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور».

ثم ذم الله تعالى اتخاذ المشركين شفعاء من دون الله ، وهم الأصنام والأنداد التي اتخذوها من تلقاء أنفسهم بلا دليل ولا برهان ، وهي لا تملك شيئا من الأمر ، إذ هي جمادات لا تعقل ولا تسمع ولا تبصر ، فقال :

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٦ / ٢٨٦

٢٣

(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ) أي بل هل اتخذوا من دون الله آلهة شفعاء تشفع لهم عند الله؟ أي لا ينبغي لهم ذلك ، وردّ الله عليهم بقوله :

(قُلْ : أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ) أي قل لهم أيها النبي وأخبرهم : كيف تتخذون تلك الأصنام شفعاء لكم ، وهم لا يملكون شفاعة ولا غيرها ، ولا يعقلون شيئا من شفاعة أو غيرها ، ولا يدركون أنكم تعبدونهم؟

ثم أعلمهم الله تعالى بصفة جازمة عن ملكه بنفسه جميع أنواع الشفاعات قائلا : (قُلْ : لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً ، لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي إن الله تعالى هو مالك جميع أنواع الشفاعة ، وليس لأحد منها شيء ، ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن ارتضاه وأذن له ، كما قال : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [البقرة ٢ / ٢٥٥] وقال : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) [الأنبياء ٢١ / ٢٨].

والسبب أن الله تعالى هو مالك السموات والأرض ، وهو المتصرف في جميع شؤونها ، وإليه مصيركم بعد البعث. وعليه ، تجب العبادة لمالك النفع والضر في الدنيا ، ومالك الجزاء والحساب في الآخرة على جميع الأعمال. وفي هذا تهديد ووعيد بالاعتماد على من دون الله في أي شيء.

ثم ذكر الله تعالى بعض قبائح المشركين وغرائبهم ، فقال :

(وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ، وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) أي إن من سيئات المشركين الكبرى أنه إذا قيل لهم : لا إله إلا الله ، انقبضوا ونفروا واغتاظوا ، لأنهم لا يؤمنون بالله ولا بالبعث بعد الموت ، وإذا ذكر الذين من دونه ، أي الأصنام والأنداد ، أو الآلهة المزعومة ، كاللات والعزّى ومناة ، كما ورد في سورة النجم ، إذا هم يفرحون ويسرّون. ومدار المعنى على قوله : (وَحْدَهُ) أي إذا أفرد الله بالذكر ، ولم

٢٤

يذكر معه آلهتهم ، اشمأزوا ، أي نفروا وانقبضوا ، وإذا ذكرت آلهتهم مع الله سروا وفرحوا.

وذلك يدل على الجهل والحماقة ، لأن ذكر الله أساس السعادة وعنوان الخير ، وأما ذكر الأصنام وهي الجمادات ، فهو رأس الجهالة والحماقة.

قال الزمخشري : ولقد تقابل الاستبشار والاشمئزاز ، إذ كل واحد منهما غاية في بابه ، لأن الاستبشار : أن يمتلئ قلبه سرورا حتى تنبسط له بشرة وجهه ويتهلل. والاشمئزاز : أن يمتلئ غما وغيظا حتى يظهر الانقباض في أديم وجهه.

وبعد بيان مذمة المشركين وفساد عقولهم في حبهم للشرك ونفرتهم من التوحيد ، أمر الله نبيه بالالتجاء إليه والدعاء المنجي من لوثاتهم ، فقال :

(قُلِ : اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي ادع الله قائلا : يا الله خالق السموات والأرض ، ويا عالم السر والعلانية ، أنت تفصل بين عبادك ، يوم المعاد ، فتجازي المحسن بإحسانه ، وتعاقب المسيء بإساءته ، حتى يظهر المحق من المبطل ، وترتفع خلافاتهم التي كانت بينهم في الدنيا. وفطر السموات والأرض : جعلها على غير مثال سابق.

وقوله : (فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) دليل على صفة الله بالقدرة التامة ، وقوله : (أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ) دليل على وصف الله بالعلم الكامل ، وإنما قدم ذكر القدرة على ذكر العلم ، لأن العلم بكونه تعالى قادرا متقدم على العلم بكونه عالما.

أخرج مسلم وأبو داود وغيرهما عن عائشة رضي‌الله‌عنها قالت : «كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قام من الليل ، افتتح صلاته : اللهم ربّ جبريل وميكائيل وإسرافيل ، فاطر السموات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، أنت تحكم بين

٢٥

عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك ، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم».

وأخرج الإمام أحمد الحديث المتقدم عن عبد الله بن مسعود رضي‌الله‌عنه قال : إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : «من قال : اللهم فاطر السموات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، إني أعهد إليك في هذه الدنيا أني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك ، وأن محمدا عبدك ورسولك ، فإنك إن تكلني إلى نفسي تقربني من الشر ، وتباعدني من الخير ، وإني لا أثق إلا برحمتك ، فاجعل لي عندك عهدا توفينيه يوم القيامة ، إنك لا تخلف الميعاد ، إلا قال الله عزوجل لملائكته يوم القيامة : إن عبدي قد عهد إلي عهدا ، فأوفوه إياه ، فيدخله الله الجنة».

وأخرج أحمد أيضا والترمذي عن مجاهد قال : قال أبو بكر الصديق : «أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أقول إذا أصبحت وإذا أمسيت ، وإذا أخذت مضجعي من الليل : اللهم فاطر السموات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، لا إله إلا أنت ، ربّ كل شيء ومليكه ، أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه ، أو أقترف على نفسي سوءا أو أجرّه على نفسي».

ثم ذكر الله تعالى ثلاثة أشياء في وعيد هؤلاء المشركين ، فقال :

١ ـ (وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ ، مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي ولو أن هؤلاء الكفار المشركين ملكوا كل ما في الأرض من الأموال والذخائر ، وملكوا مثله معه أي منضما إليه ، لجعلوا الكل فدية لأنفسهم من ذلك العذاب الشديد يوم القيامة ، جزاء ظلمهم. وهذا وعيد شديد وإقناط نهائي من الخلاصلى الله عليه وآله وسلم.

٢ ـ (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) أي وظهر لهم من أنواع العقاب والسخط والعذاب المعد لهم ، ما لم يكن في حسابهم ولا خطر في بالهم.

٢٦

وهذا يقابل صفة الثواب في الجنة : «فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر». وهو مأخوذ من الآية : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) [السجدة ٣٢ / ١٧].

٣ ـ (وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا ، وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي وظهر لهم جزاء وآثار تلك السيئات والمآثم التي اكتسبوها في الدنيا ، وأحاط بهم من العذاب والنكال ما كانوا يستهزئون به في الدار الدنيا ، من إنذار الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان ينذرهم به.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ سلّى الله نبيه عما كان يعظم عليه ويحربه من عدم إيمان قومه ، وأخبره أنه أنزل عليه النعمة العظمى ، وهو القرآن المجيد مصحوبا بالحق ، وهو دين الإسلام ، لينتفع به الناس ، ويحققوا حاجاتهم.

فمن اهتدى ، فثواب هدايته إنما هو له ، ومن ضل عن الحق ، فعقاب ضلاله إنما هو عليه.

وليس النبي صلى الله عليه وآله وسلم بموكل عليهم ولا ذا سلطان قاهر ، حتى يجبرهم على الإيمان.

٢ ـ من مظاهر قدرة الله تعالى العظيمة أنه يقبض الأنفس والأرواح عند انتهاء آجالها ، ويقبض الأنفس عن التصرف في الأجسام ، ويمسك أرواح الموتى في الملأ الأعلى ، ويرد الأنفس إلى الأجساد بعد النوم ، فيطلقها بالتصرف إلى أجل موتها. قال ابن عباس وغيره من المفسرين : إن أرواح الأحياء والأموات تلتقي

٢٧

في المنام ، فتتعارف ما شاء الله منها ، فإذا أراد جميعها الرجوع إلى الأجساد ، أمسك الله أرواح الأموات عنده ، وأرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها.

والأظهر أن النفس والروح شيء واحد كما تقدم ، لما دلت عليه الآثار الصحاح ، منها حديث مسلم عن أم سلمة قالت : دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أبي سلمة ، وقد شقّ بصره (١) فأغمضه ، ثم قال : «إن الروح إذا قبض تبعه البصر» وحديث مسلم أيضا عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «ألم تروا الإنسان إذا مات شخص بصره ، فذلك حين يتبع بصره نفسه».

وحديث ابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : «تحضر الملائكة ، فإذا كان الرجل صالحا ، قالوا : اخرجي أيتها النفس الطيبة ، كانت في الجسد الطيب ، اخرجي حميدة ، وابشري بروح وريحان وربّ راض غير غضبان ، فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج ، ثم يعرج بها إلى السماء». وفي صحيح مسلم عند أبي هريرة قال : «إذا خرجت روح المؤمن تلقّاها ملكان يصعدان بها». وقال بلال في حديث الوادي : «أخذ بنفسي يا رسول الله الذي أخذ بنفسك».

والصحيح أن الروح : جسم لطيف مشابك للأجسام المحسوسة.

٣ ـ إن في قبض الله نفس الميت والنائم ، وإرساله نفس النائم وحبسه نفس الميت لدلالات على قدرة الله لقوم يتفكرون في خلق الله.

٤ ـ لم يتفكر الكفار بنحو صحيح ، بل اتخذوا الأصنام شفعاء ، مع أنها لا تملك شيئا من الشفاعة ولا تعقل ، لأنها جمادات.

٥ ـ الله تعالى هو مالك الشفاعة كلها ، ومالك السموات والأرض ، وإليه مصير الخلائق وحسابهم يوم البعث والمعاد.

__________________

(١) أي انفتح.

٢٨

٦ ـ تميز المشركون بالجهل والحماقة ، فإذا ذكر الله وحده دون أصنامهم انقبضوا ونفروا ، وإذا ذكرت الأوثان ظهر في وجوههم البشر والسرور.

٧ ـ الله تعالى مبدع السموات والأرض على غير مثال سبق ، وعالم الغيب والشهادة ، أي السر والعلانية ، والحاكم الفصل بين العباد في خلافاتهم الدنيوية.

٨ ـ لو ملك المكذبون المشركون جميع ما في الأرض من أموال وثروات لقدموه فداء رخيصا لافتداء أنفسهم من سوء عذاب يوم القيامة.

٩ ـ يفاجأ الكفار بأنواع من العقاب لم تخطر ببالهم ، ولا جرى تقديرها في حسابهم.

١٠ ـ يظهر للكفار يوم القيامة آثار المحارم والآثار والكفر والمعاصي ، من ألوان العقاب ، ويحيط بهم وينزل جزاء ما كانوا به يستهزئون في الدنيا من الإنذارات والبعث والعذاب والحساب الشديد.

دعاء الإنسان عند الضر وجحوده عند النعمة

وإعلامه بأن الرزق بيد الله

(فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٩) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٥٠) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥١) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢))

٢٩

البلاغة :

(يَبْسُطُ وَيَقْدِرُ) بينهما طباق.

المفردات اللغوية :

(فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ) أي أصاب جنس الإنسان ، وهو معطوف على قوله : (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ) لبيان تناقضهم ، بمعنى أنهم يشمئزون عن ذكر الله وحده ، ويستبشرون بذكر الآلهة ، فإذا مسهم ضرّ ، دعوا من اشمأزوا من ذكره ، دون من استبشروا بذكره ، وما بينهما اعتراض مؤكد لإنكار ذلك عليهم.

(خَوَّلْناهُ) أعطيناه وملكناه تفضلا (نِعْمَةً) إنعاما (عَلى عِلْمٍ) على علم مني بوجوه كسبه ، أو علم من الله بأني له أهل ومستحق ، وضمير (أُوتِيتُهُ) عائد على النعمة ، وذكّر الضمير ، لأن المراد شيء من النعمة (بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ) أي بل النعمة امتحان له ، أيشكر أم يكفر ، وتأنيث هي مراعاة للفظ النعمة (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أن تخويل النعمة استدراج وامتحان. وهو دليل على أن المراد بالإنسان الجنس.

(قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأمم كقارون وقومه الراضين بها ، وأنث ضمير (قالَهَا) لأن المراد هو الجملة أو الكلمة التي هي : (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ). (فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) من متاع الدنيا (فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) جزاء سيئات أعمالهم وجزاء أعمالهم ، وسماه سيئة ، لأنه في مقابلة أعمالهم السيئة ، رمزا إلى أن جميع أعمالهم كذلك (وَالَّذِينَ ظَلَمُوا) بالعتو (مِنْ هؤُلاءِ) المشركين ، و (مِنْ) للبيان ، أو للتبعيض (سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) جزاء كسبهم كما أصاب أولئك ، وقد أصابهم ، فإنهم قحطوا سبع سنين ، وقتل صناديدهم في بدر (وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ) بفائتين عذابنا.

(يَبْسُطُ الرِّزْقَ) يوسعه (لِمَنْ يَشاءُ) امتحانا (وَيَقْدِرُ) يضيقه لمن يشاء ابتلاء (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) بأن الحوادث كلها من الله ، سواء بالبسط أو بالتضييق.

المناسبة :

بعد أن حكى الله تعالى بعض قبائح المشركين ، أتبعه بحكاية نوع آخر من القبائح ، وهو أنهم عند الوقوع في الضر الذي هو الفقر والمرض يفزعون إلى الله تعالى ، وفي حال النعمة وهي السعة في المال أو العافية في النفس ، يزعمون أن

٣٠

حصول ذلك بكسبهم وجهدهم وجدّهم ، وهذا تناقض قبيح صارخ. والحقيقة أن ما أوتوه من النعمة فتنة واختبار ليعرف شكرهم أو كفرهم ، وأما مقالتهم فهي قديمة قالها كثير قبلهم كقارون وغيره.

ثم أبان تعالى أن الله وحده مصدر الرزق ، يوسعه لمن يشاء ، ويضيقه على من يشاء ، بدليل اختلاف الناس في سعة الرزق وضيقه ، سواء من المؤمنين والكافرين ، وليس جمع الثروة أو ضعفها بعقل الرجل وجهله ، أو كياسته وخبرته وغباوته ، وإنما بتوفيق الله وتيسيره.

التفسير والبيان :

يخبر الله تعالى عن سوء طبع الإنسان وحاله ، فيقول :

(فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ، ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا ، قالَ : إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ ، بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي إذا أصاب الإنسان المشرك وغيره ضر من فقر أو مرض أو غيرهما ، تضرع إلى الله عزوجل ، واستعان به لكشف الضر عنه ، وإذا أعطاه الله نعمة من مال أو جاه أو غيرهما ، بغى وطغى ، وقال : إنما أعطيته على علم ومهارة مني بوجوه المكاسب ، أو لما يعلم الله تعالى من استحقاقي وتأهلي له. قيل : نزلت في حذيفة بن المغيرة.

والحقيقة : ليس الإعطاء لما ذكرت ، وليس الأمر كما زعمت ، بل هو محنة لك ، واختبار لحالك ، وقد أنعمنا عليك بهذه النعمة لنختبرك فيما أنعمنا عليك ، أتشكر أم تكفر؟ أتطيع أم تعصي؟ مع علمنا المتقدم بذلك ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن ذلك استدراج لهم من الله ، وامتحان لما عندهم من الشكر أو الكفر ، فلهذا يقولون ما يقولون ، ويدّعون ما يدّعون.

ويلاحظ أن لفظ النعمة مؤنث ، ومعناه مذكر ، لذا حينما قال : (بَلْ

٣١

هِيَ فِتْنَةٌ) راعى التأنيث ، وحينما قال : (إِنَّما أُوتِيتُهُ) راعى التذكير ، وكلا الأمرين جائز.

ثم أوضح الله تعالى قدم مقالتهم وسبقهم بها ، فقال :

(قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ، فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي قد قال هذه المقالة أو الكلمة ، وهي قولهم : (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ) وزعم هذا الزعم ، وادعى هذه الدعوى كثير ممن سلف من الأمم ، كقارون وغيره ، فما صح قولهم ، ولم يغن عنهم ما كسبوا من متاع الدنيا شيئا ، ولا نفعهم جمعهم المال الكثير ، لذا قال تعالى :

(فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) أي فحلّ بهم جزاء سيئات ما كسبوا من الأعمال ، فعوقبوا في الدنيا كالخسف بقارون وبداره الأرض ، وسيعاقبون أشد العذاب في الآخرة. ونظير الآية قوله تعالى عن قارون : (قالَ : إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي ، أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً ، وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) [القصص ٢٨ / ٧٨].

وقوله سبحانه : (وَقالُوا : نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً ، وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) [سبأ ٣٤ / ٣٥].

ثم هدد الله تعالى وأوعد مشركي مكة بعقاب مماثل ، فقال :

(وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا ، وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ) أي والذين ظلموا من هؤلاء الموجودين من الكفار ، ومنهم مشركو مكة ، سيصيبهم أيضا وبال كسبهم الأعمال المنكرة ، كما أصاب من قبلهم ، من القحط والقتل والأسر والقهر ، وما هم بفائتين على الله ، هربا يوم القيامة ، بل مرجعهم إليه ، يصنع بهم ما يشاء من العقوبة ، ودليل قدرته العظمى ما قال :

٣٢

(أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي أو لم ير هؤلاء المشركون أن الله يوسع الرزق لمن يشاء توسعته له ، ويقبضه لمن يشاء قبضه وتضييقه عليه ، إن في ذلك لدلالات عظيمة وعلامات مؤثّرة لقوم يؤمنون بالله وحده وبسلطانه وبقدرته. وقد خص المؤمنين ، لأنهم المنتفعون بالآيات.

فقه الحياة أو الأحكام :

يستفاد من الآيات ما يأتي :

١ ـ إن حال الإنسان قلق مضطرب ، لا وفاء عنده ، ولا ثبات لديه على المبدأ ، فتراه عند الشدة يستجير بالله ويستغيث به لينجو من محنته ، وعند النعمة يبغي ويطغى ويبطر ويزعم أن النعمة بجهده ومهارته واستحقاقه وأهليته لها.

٢ ـ الحق أن الثروة والغنى والفقر ليست ميزان قربى العبد من ربه ، فقد يمنح الله المؤمن ويمنع الكافر ، وقد يفعل العكس ، لحكمة بالغة له في ذلك ، والنعمة مع الكفر والمعصية استدراج وابتلاء واختبار ، ليعرف كون العبد شاكرا أم جاحدا ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن إعطاءهم المال اختبار.

٣ ـ لقد زعم كثير من الناس قديما وحديثا أن إعطاءهم المال لعلم ومهارة لديهم ، وعلم من الله باستحقاقهم ، فلم تغن عنهم أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله شيئا ، وأصابهم جزاء سيئات أعمالهم ، وسيصيب الذين أشركوا من أمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهم كل الأمم جزاء كسبهم في الدنيا بالجوع والقتل مثلا ، وفي الآخرة بعذاب جهنم ، وما هم فائتين الله ولا سابقيه.

٤ ـ إن الله تعالى وحده هو مصدر الرزق ، يمنح منه ما يشاء ، ويمنعه عمن يشاء ، وفي ذلك عبرة للمؤمنين ، وخص المؤمن بالذكر ، لأنه هو الذي يتدبر

٣٣

الآيات وينتفع بها ، ويعلم أن سعة الرزق قد تكون استدراجا ، وتقتيره رفعة وإعظاما.

مغفرة الذنوب بالتوبة وإخلاص العمل

(قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (٥٤) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٥٥) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (٥٦) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (٥٩))

الإعراب :

(أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ : يا حَسْرَتى) : (أَنَ) وصلتها : في موضع نصب ، مفعول لأجله.

(بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي) جواب قوله تعالى : (لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) والجواب ببلى لأنها تأتي في جواب النفي ، لأن المعنى : ما هداني الله وما كنت من المتقين ، فقيل له : (بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي ، فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ) ، فلو لا أن معنى الكلام النفي ، وإلا لما وقعت (بَلى) في جوابه. (وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَنْ) : مخففة من الثقيلة.

٣٤

البلاغة :

آية (قُلْ : يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا ..) فيها : إقباله تعالى على خلقه ونداؤه لهم ، وإضافة عباد إليه للتشريف ، والتفات من التكلم إلى الغيبة ، إذ الأصل : تسرفوا ، ولا تقنطوا من رحمتي ، وإضافة الرحمة في قوله (مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) إلى الله باعتبار لفظ الجلالة جامعا لجميع الأسماء والصفات ، وقوله : (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) جملة معرّفة الطرفين ، مؤكدة بإن وضمير الفصل ، وقوله : (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ) وضع فيه الاسم الظاهر موضع الضمير ، لدلالته على أنه المستغني والمنعم على الإطلاق.

(أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ : يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) قوله : (جَنْبِ اللهِ) : كناية عن حق الله وطاعته.

المفردات اللغوية :

(عِبادِيَ) هذه الإضافة مخصوصة بالمؤمنين في عرف القرآن.

(أَسْرَفُوا) أي تجاوزوا الحد في أفعالهم ، بالإسراف أو الإفراط في المعاصي (لا تَقْنَطُوا) لا تيأسوا من مغفرته وتفضله (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) عفوا منه ، ولو بعد تعذيب ، وتقييد المغفرة بالتوبة خلاف الظاهر ، كما قال البيضاوي ، ويدل على إطلاقها فيما عدا الشرك قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء ٤ / ٤٨] والتعليل بقوله هنا : (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) على المبالغة وإفادة الحصر ، والوعد بالرحمة بعد المغفرة. لكن هذا متروك لمشيئة الله وتفضله ، وليس هو القانون العام.

(وَأَنِيبُوا) ارجعوا وتوبوا (إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا) أخلصوا العمل (لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) بمنعه ، إن لم تتوبوا ، وذكر الإنابة بعد المغفرة لئلا يطمع طامع في حصولها بغير توبة ، وللدلالة على أنها شرط فيها لازم ، لا تحصل بدونه ، كما قال الزمخشري ، أي إن المغفرة لا تحصل لكل أحد من غير توبة وإخلاص في العمل ، وهو القانون العام.

(وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) وهو القرآن (بَغْتَةً) فجأة (وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) بمجيئه ، فتتداركون التقصير في الأعمال (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ) كراهة أن تقول نفس ، وتنكير نفس لأن القائل بعض الأنفس ، أو للتكثير (يا حَسْرَتى) أي يا حسرتي وندامتي (فَرَّطْتُ) قصرت (فِي جَنْبِ اللهِ) جانبه أي طاعته وعبادته وطلب مرضاته (وَإِنْ) وإني (السَّاخِرِينَ) المستهزئين بدينه وكتابه وأهله.

٣٥

(لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي) بالطاعة والإرشاد إلى الحق فاهتديت (الْمُتَّقِينَ) عذابه ، باتقاء الشرك والمعاصي (كَرَّةً) رجعة إلى الدنيا (فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) المؤمنين الذين أحسنوا العقيدة والعمل (بَلى ، قَدْ جاءَتْكَ آياتِي) القرآن ، وهو سبب الهداية ، وهو رد من الله على القائل : (لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي) الذي في قوله معنى النفي أي أن (بَلى) حرف لا يجاب به إلا بعد النفي. (وَاسْتَكْبَرْتَ) تكبرت عن الإيمان بها. وتذكير الخطاب على المعنى ، وقرئ بالتأنيث عودا للنفس.

سبب النزول :

نزول الآية (٥٣):

(قُلْ : يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا) : أخرج الشيخان : البخاري ومسلم ، وأبو داود والنسائي عن ابن عباس : أن ناسا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا ، وزنوا فأكثروا ، ثم أتوا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم ، فقالوا : إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن ، أو تخبرنا أن لنا توبة ـ أو أن لما عملنا كفارة ـ؟ فنزلت : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ..) إلى قوله : (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) [الفرقان ٢٥ / ٦٨ ـ ٧٠] ونزل : (قُلْ : يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا) الآية.

والمراد من آيات الفرقان : (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً) الآية.

وأخرج الإمام أحمد عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : «ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية : (قُلْ : يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) الآية ، فقال رجل : يا رسول الله ، فمن أشرك؟ فسكت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم قال : «ألا ، ومن أشرك ـ ثلاث مرات».

وأخرج أحمد أيضا عن عمرو بن عنبسة رضي‌الله‌عنه قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم شيخ كبير ، يدعم على عصا له ، فقال : يا رسول الله ، إن لي غدرات

٣٦

وفجرات ، فهل يغفر لي؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم : ألست تشهد أن لا إله إلا الله؟ قال : بلى ، وأشهد أنك رسول الله ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : قد غفر لك غدراتك وفجراتك.

وأخرج الحاكم والطبراني عن ابن عمر قال : كنا نقول : ما لمفتتن توبة ، إذا ترك دينه بعد إسلامه ومعرفته ، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة ، أنزل فيهم : (قُلْ : يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا) الآية.

وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس قال : إن أهل مكة قالوا : يزعم محمد أن من عبد الأوثان ، ودعا مع الله إلها آخر ، وقتل النفس التي حرم الله ، لم يغفر له ، فكيف نهاجر ونسلم ، وقد عبدنا الآلهة ، وقتلنا النفس ، ونحن أهل شرك؟ فأنزل الله : (قُلْ : يا عِبادِيَ ..) الآية.

المناسبة :

بعد أن أوعد الله تعالى الكافرين بشتى أنواع الوعيد ، أردفه ببيان كمال رحمته وفضله وإحسانه في حق عباده المؤمنين ، بغفران ذنوبهم إذا تابوا وأنابوا إليه وأخلصوا العمل له ، لترغيب الكفار في الإيمان بالله تعالى وترك الضلال ، وكثيرا ما تأتي آيات الرحمة مع آيات النقمة ليرجو العبد ويخاف. قال أبو حيان : وهذه الآية : (قُلْ : يا عِبادِيَ) عامة في كل كافر يتوب ومؤمن عاص يتوب ، تمحو الذنب توبته.

التفسير والبيان :

(قُلْ : يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ ، لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) أي قل أيها الرسول : يا عباد الله الذين أفرطوا في المعاصي واستكثروا منها ، لا تيأسوا من مغفرة الله تعالى ، فإن الله يغفر كل ذنب إلا الشرك الذي لم يتب منه صاحبه ، لقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء ٤ / ٤٨] إن الله كثير

٣٧

المغفرة والرحمة ، فلا يعاقب بعد التوبة. قال ابن كثير : هذه الآية الكريمة دعوة لجميع العصاة من الكفرة وغيرهم إلى التوبة والإنابة ، وإخبار بأن الله تبارك وتعالى يغفر الذنوب جميعا لمن تاب منها ، ورجع عنها ، وإن كانت مهما كانت ، وإن كثرت وكانت مثل زبد البحر ، ولا يصح حمل هذه على غير توبة ، لأن الشرك لا يغفر لمن لم يتب منه (١).

وقال الشوكاني : وهذه الآية أرجى آية في كتاب الله ، لاشتمالها على أعظم بشارة ، فإنه أولا أضاف العباد إلى نفسه ، لقصد تشريفهم ومزيد تبشيرهم ، ثم وصفهم بالإسراف في المعاصي والاستكثار من الذنوب ، ثم عقّب ذلك بالنهي عن القنوط من الرحمة لهؤلاء المستكثرين من الذنوب ، فالنهي عن القنوط للمذنبين غير المسرفين من باب الأولى وبفحوى الخطاب ، ثم جاء بما لا يبقى بعده شك : (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ ..).

وتقييد المغفرة بالتوبة والإنابة وإخلاص العمل مأخوذ من الآية التالية : (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ ..) الآية ومن الأحاديث المتقدمة في سبب النزول ، فباب الرحمة واسع ، كما قال تعالى : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) [التوبة ٩ / ١٠٤] وقال سبحانه : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ ، يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) [النساء ٤ / ١١٠].

أخرج الطبراني عن سنيد بن شكل قال : سمعت ابن مسعود يقول : إن أعظم آية في كتاب الله : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) [البقرة ٢ / ٢٥٥ وآل عمران ٣ / ٢]. وإن أجمع آية في القرآن بخير وشر : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) [النحل ١٦ / ٩٠]. وإن أكثر آية في القرآن فرجا في سورة الغرف (أي الزمر) : (قُلْ : يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٤ / ٥٨

٣٨

اللهِ). وإن أشد آية في كتاب الله تفويضا : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً ، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) [الطلاق ٦٥ / ٢ ـ ٣] فقال له مسروق : صدقت (١).

وروى ابن أبي حاتم عن أبي الكنود قال : مرّ عبد الله ـ يعني ابن مسعود ـ رضي‌الله‌عنه على قاض ، وهو يذكّر الناس ، فقال : يا مذكّر ، لم تقنط الناس من رحمة الله؟ ثم قرأ : (قُلْ : يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ ، لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ).

ثم ذكر الله تعالى تقييد المغفرة بشرطين ، فقال :

١ ـ الإنابة والتوبة : (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) أي ارجعوا إلى الله بالتوبة والطاعة ، واجتناب المعاصي ، والاستسلام لأمره ، والخضوع لحكمه ، من قبل مجيء عذاب الدنيا بالموت ، ثم لا تجدوا نصيرا ولا معينا يمنع عذابه عنكم ، أي قبل حلول النقمة.

٢ ـ اتباع القرآن : (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) أي واتبعوا القرآن ، أحلوا حلاله ، وحرموا حرامه ، والتزموا طاعته واجتنبوا معاصيه ، أي اتبعوا أوامر الله واجتنبوا نواهيه ، والقرآن كله حسن.

وذلك من قبل مجيء العذاب فجأة ، وأنتم غافلون عنه ، لا تشعرون به. وهذا تهديد ووعيد شديد واضح.

ثم حذر الله تعالى من التعلل بالأماني والتحسر على الماضي في وقت لا ينفع فيه ذلك ، فقال :

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٤ / ٥٩

٣٩

١ ـ (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ : يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ ، وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) أي بادروا إلى التوبة والعمل الصالح ، واحذروا أن تقول نفس مجرمة مفرطة في التوبة والإنابة : يا ندامتي وحسرتي على تقصيري في الإيمان بالله ، وطاعته ، وبالقرآن والعمل به ، وإنما كان عملي في الدنيا عمل ساخر مستهزئ بدين الله وكتابه وبرسوله وبالمؤمنين ، غير موقن ولا مصدّق بشيء من ذلك.

٢ ـ (أَوْ تَقُولَ : لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) أي أو أن تقول : لو أن الله أرشدني إلى دينه ، لكنت ممن يتقي الله ، ويجتنب الشرك والمعاصي.

٣ ـ (أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ : لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً ، فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) أي أو أن تقول حين معاينة العذاب : ليت لي رجعة أخرى إلى الدنيا ، فأكون من المؤمنين بالله ، الموحّدين له ، المحسنين في أعمالهم ، وبإيجاز : تود لو أعيدت إلى الدنيا لتحسن العمل.

فرد الله تعالى بقوله :

(بَلى ، قَدْ جاءَتْكَ آياتِي ، فَكَذَّبْتَ بِها ، وَاسْتَكْبَرْتَ ، وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) أي نعم ، لقد جاءتك أيها العبد النادم على ما كان منه آياتي المنزلة في القرآن في الدار الدنيا ، وقامت حججي عليك ، فكذبت بها ، واستكبرت عن اتباعها ، وكنت من الجاحدين لها ، والمعنى : قد كنت متمكنا من التصديق والمتابعة ، فلما ذا تطلب الرجعة إلى الدنيا الآن؟! ولن تنفعك الرجعة ولا فائدة منها لقوله سبحانه : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) [الأنعام ٦ / ٢٨].

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات الأحكام التالية :

٤٠