التفسير المنير - ج ٢٤

الدكتور وهبة الزحيلي

١
٢

٣
٤

وعيد المكذبين ووعد المصدقين

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٣٢) وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٣٤) لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٥) أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٦) وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (٣٧))

الإعراب :

(وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) : (الَّذِي) : مبتدأ ، وخبره : (أُولئِكَ). وإنما جاز أن يقع (أُولئِكَ) خبرا للذي ، و (أُولئِكَ) جمع ، و (الَّذِي) واحد ، لأن (الَّذِي) يراد به الجنس ، فلهذا جاز أن يقع خبره جمعا.

البلاغة :

(مَثْوىً لِلْكافِرِينَ) فيه إقامة الظاهر مقام المضمر ، أي مثوى لهم.

(يُضْلِلِ) و (هادٍ) و (يَهْدِ) و (مُضِلٍ) بينهما طباق.

(أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ)؟ استفهام إنكار للنفي ، مبالغة في الإثبات ، والعبد : رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ويحتمل إرادة الجنس ، وفسر بالأنبياء. وهكذا كل استفهام إنكاري مثل : (أَلَمْ نَشْرَحْ) [الشرح ٩٤ / ١] ، (أَلَمْ أَعْهَدْ) [يس ٣٦ / ٦٠] دخل على نفي ، يفيد معنى التقرير والتثبيت بالدليل ، إذ نفي النفي إثبات.

٥

المفردات اللغوية :

(فَمَنْ أَظْلَمُ ..) أي لا أحد أظلم (مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ) بنسبة الشريك والولد إليه (وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ) وهو القرآن الذي جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم (مَثْوىً) مقاما ومأوى (لِلْكافِرِينَ) اللام تحتمل العهد (أي كفار قريش) والجنس : جميع الكفار ، وذلك يكفيهم جزاء لأعمالهم.

(وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ) هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم (وَصَدَّقَ بِهِ) هم أتباعه المؤمنون ، كأبي بكر الصديق ، فالذي : بمعنى الذين ، لذا قال : (أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) الشرك (جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) على إحسانهم (أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا ، وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ..) أسوأ وأحسن بمعنى السيء والحسن ، كقولهم : الناقص والأشج أعدلا بني مروان. (وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ) : ويعطيهم ثوابهم على الطاعات في الدنيا. و (الَّذِي عَمِلُوا) : ما عملوه من المعاصي. وخص الأسوأ للمبالغة ، فإنه إذا كفّر كان غيره أولى بذلك. ويقابلهم بالأحسن في زيادة الأجر وعظمه لفرط إخلاصهم في أعمالهم.

(بِكافٍ عَبْدَهُ) أي يكفي عبده النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعيد المشركين وكيدهم (وَيُخَوِّفُونَكَ) الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، والتخويف من قريش (بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) أي الأصنام ، بأن تقتله أو تخبله (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) تركه في الضلال والاعتقاد بما لا ينفع ولا يضر (فَما لَهُ مِنْ هادٍ) يهديهم إلى الرشاد (وَمَنْ يَهْدِ اللهُ) يوفقه للإيمان (بِعَزِيزٍ) غالب منيع قوي قاهر (ذِي انْتِقامٍ) أي ينتقم ممن عاداه وعادى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

ويقال : «بلى» بعد كل من الاستفهامات الثلاثة في الآيات : (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ)؟

سبب النزول : نزول الآية (٣٦):

(وَيُخَوِّفُونَكَ) : أخرج عبد الرزاق عن معمر : قال لي رجل : قالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : لتكفّنّ عن شتم آلهتنا أو لنأمرنها فلتخبّلنّك ، فنزلت : (وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ).

٦

المناسبة :

بعد أن بالغ واستقصى الله تعالى في بيان وعيد الكفار ، وأردفه بذكر مثل يدل على فساد مذهبهم وقبح طريقتهم في قوله : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً ..) أتى هنا بأسوأ اعتقادهم وهو تكذيب الله بإثبات ولد له أو شريك ، وتكذيب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعد إثبات صدقه بالأدلة القاطعة ، وختمه بوعيدهم في جهنم.

ثم أتبعه بوعد الصادق المصدوق ووعد أتباعه المصدقين المؤمنين من تكفير السيئات ومنحهم أفضل الثواب ، ليكون الوعد مقرونا بالوعيد.

التفسير والبيان :

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ) هذا نوع آخر من قبائح أفعال الكفار المشركين ، وهو أنهم يكذبون الله ، ويكذبون القائل المحق وهو رسوله الكريم صلى الله عليه وآله وسلم ، والمعنى : لا أحد أظلم ممن كذب على الله ، فزعم أن له ولدا أو شريكا أو صاحبة وحرّم وحلل من غير أمر الله ، وكذب بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من دعوة الناس إلى التوحيد ، وأمرهم بالقيام بفرائض الشرع ، ونهيهم عن محرّماته ، وإخبارهم بالبعث والنشور.

فهم جمعوا بين طرفي الباطل : كذب على الله تعالى ، وتكذيب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد قيام الأدلة القاطعة على كونه صادقا في ادعاء النبوة.

وقوله : (إِذْ جاءَهُ) أي وقت مجيئه فاجأه بالتكذيب من غير فكر ولا ترو ولا نظر ، بل وقت مجيئه كذب به.

ثم أردفه بوعيدهم فقال :

(أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ)؟ بلى ، أي أليس في نار جهنم الواسعة

٧

العريضة مقام ومأوى وسكنى لهؤلاء الكافرين. وفيه تنبيه على علة كذبهم وتكذيبهم ، وهو الكفر. والمراد : ألا يكفيهم العذاب في جهنم جزاء على أعمالهم؟ وهو استفهام تقرير وإثبات ، لا نفي.

ثم أتبع الوعيد السابق بوعد الصادقين المصدقين ، فقال :

(وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ ، أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) أي أما الذي جاء بالصدق والقول الحق وهو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخاتم الأنبياء وإمام الرسل ، والذين صدقوا به وآمنوا بأنه رسول من عند الله وهم أتباعه المؤمنون ، وأيقنوا أن القرآن كلام الله تبيان كل شيء وخير وسعادة للبشرية جمعاء ، فأولئك هم الذين اتقوا الله ، وتجنبوا الشرك ، وتبرؤوا من الأصنام والأوثان.

وثواب هؤلاء ما قال تعالى :

(لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ، ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) أي لهم ما يطلبون عند ربهم في الجنان ، من رفع الدرجات ، ودفع المضرّات ، وتكفير السيئات ، فضلا عن أن في الجنة ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، وذلك جزاء الذين أحسنوا في أعمالهم. والإحسان كما ثبت في الصحيح لدى الشيخين عن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، قال : «الإحسان : أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه ، فإنه يراك».

وعلة هذا الجزاء :

(لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا ، وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) وعدهم الله بما سبق ليكفر عنهم سيء ما عملوا ، ويجزيهم أجرهم كاملا بالمحاسن من أعمالهم ، ولا يجزيهم بالمساوئ. وإذا غفر لهم ما هو الأسوأ من أعمالهم ، غفر لهم ما دونه بطريق أولى. والحسن الذي يعملونه هو الأحسن عند الله تعالى.

٨

وقوله : (لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ) يدل على سقوط العقاب عنهم على أكمل الوجوه.

ثم ذكر تعالى أنه يكفي المؤمنين في الدنيا ما أهمهم ويمنع عنهم ما يخوفونهم به ، فقال:

(أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) أي أن الله سبحانه يكفي من عبده وتوكّل عليه ، فيدفع عنه الويلات والمصائب ، ويعطيه جميع المرغوبات ، كقوله : (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ) [البقرة ٢ / ١٣٧].

وعبر بلفظ الاستفهام لإنكار النفي ، مبالغة في الإثبات ، والمراد تقرير ذلك في النفوس ، والإشارة إلى كفايته تعالى على أبلغ وجه وأظهره بحيث لا ينكره أحد ، لأنه ثبت أنه تعالى عالم بجميع المعلومات ، قادر على كل الممكنات ، غني عن كل الحاجات ، فهو تعالى عالم بحاجات العباد ، وقادر على توفيرها ، وهو ليس بخيلا ولا محتاجا حتى يمنعه بخله وحاجته عن إعطاء عبده ما يريد.

والمراد بعبده : النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجميع عباد الله ، بدليل قراءة «عباده». روى الترمذي والنسائي وابن أبي حاتم عن فضالة بن عبيد الأنصاري رضي‌الله‌عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : «أفلح من هدي إلى الإسلام ، وكان عيشه كفافا وقنع به».

وبعد أن ذكر الله تعالى المقدمة وهي كفاية العباد ، رتب عليها النتيجة المطلوبة فقال:

(وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) أي ويخوفك أيها الرسول المشركون ويتوعدونك بأصنامهم وآلهتهم التي يدعونها من دون الله جهلا منهم وضلالا ، فلا تخف مما يخوفونك به من آلهتهم وجنودهم ، فإن الله يحميك مما يضرك ، وليس عند آلهتهم نفع ولا ضرر. وقد عرفنا في سبب النزول أن المشركين خوفوا

٩

النبي صلى الله عليه وآله وسلم مضرّة الأوثان ، فقالوا : أتسبّ آلهتنا؟ لئن لم تكفّ عن ذكرها لتخبلنّك أو تصيبنك بسوء. ولما بعث النبي خالدا إلى كسر العزّى قال له سادنها : إني أخاف عليك منها ، فلها قوة لا يقدم لها شيء ، فأخذ خالد الفأس ، فهشم به وجهها ثم انصرف.

والآية دليل على أن الله يحمي نبيه صلى الله عليه وآله وسلم من السوء ، ويكفيه وأتباعه الدين والدنيا ، إذ لما كان تعالى كافي عبده ، كان التخويف بغيره عبثا باطلا.

ثم أبان الله تعالى مدى قدرته وسلطانه ليبطل توعد المشركين ويبين جهلهم ، فقال :

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ ، وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍ) أي من حق عليه القضاء بضلالة ، لسوئه وفسقه وعصيانه ، فما له من هاد يهديه إلى الرشد ويخرجه من الضلالة ، ومن يوفقه الله إلى السعادة والإيمان لاستعداده لهما. فلا مضل له أبدا.

والمراد أن خلق المهتدين والضالين بيد الله ، فهو الفاعل ، وليس لمن عداه أي تأثير في ذلك ، فلا راد لفضله ، ولا مانع لمراده ، لذا هدد كفار قريش قائلا :

(أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ)؟ أي أليس الله بغالب لكل شيء قاهر له ، ينتقم من عصاته بعذاب شديد؟ فهو منيع الجناب ، لا يضام من استند إلى جنابه ، ولجأ إلى بابه ، فإنه القوي الذي لا أقوى منه ، ولا أشد انتقاما منه ، ممن كفر به وأشرك وعاند رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

والخلاصة : إن الآية وعد للمؤمنين ، وعيد لكفار قريش وأمثالهم.

١٠

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يلي :

١ ـ لا أحد عند الله أظلم ممن كذب عليه ، فزعم أن له ولدا وشريكا ، وكذّب بالقرآن الذي جاء به النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.

٢ ـ يكفي هؤلاء الجاحدين مقرا ومقاما جهنم ، وساءت مصيرا.

٣ ـ إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي جاء بالصدق والحق ، وأتباعه الذين صدقوا به كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي‌الله‌عنهم ، هم المتقون الله حق التقوى ، الذي وحّدوه فلم يشركوا به شيئا ، وتجنبوا عذابه وعقابه ومعاصيه.

٤ ـ قد أثبت الله تعالى للذي جاء بالصدق وصدق به أربعة أحكام :

الأول ـ أنهم هم المتقون ، كما تقدم.

الثاني ـ أن لهم ما يشاءون عند ربهم من الكرامة والنعيم في الجنة ، ذلك جزاء المحسنين وهو الثناء في الدنيا ، والثواب في الآخرة. وهذا الوعد يدخل فيه كل ما يرغب الإنسان فيه ، ويدل على حصول الثواب على أكمل الوجوه.

الثالث ـ أن الله يكرمهم ولا يؤاخذهم بسيئاتهم ، ويثيبهم على الطاعات في الدنيا بأحسن أعمالهم وهي الجنة. وهذا يدل على سقوط العقاب عنهم على أكمل الوجوه.

الرابع ـ بدد الله كل تخويفات المبطلين التي يرددونها ويشيعونها كثيرا ، بإثبات كفايته عباده وحمايته لهم من كل سوء أو شر ، سواء أكان مصدر الجن أو الإنس الأشرار ، أو الأصنام في زعم عبدتها مع أنها لا تضر ولا تنفع. قال إبراهيم عليه‌السلام فيما حكى القرآن عنه : (وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ ، وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ

١١

أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً) [الأنعام : ٦ / ٨١].

٥ ـ قوله تعالى : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ وَمَنْ يَهْدِ اللهُ) دليل على خلق الأعمال وإرادة الكائنات من الله الذي ينتقم ممن عاداه أو عادى رسله. ودليل أيضا على أن من يضله الله بتركه في غيه وضلالته ، فما له من هاد يهديه إلى الخير أبدا ، ومن يهديه الله إلى الحق والصواب ، فما له من مضل أبدا.

تزييف طريقة عبدة الأصنام وتهديدهم

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (٣٨) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٩) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٤٠))

الإعراب :

(أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ .. ما تَدْعُونَ) هو المفعول الأول ، وجاء المفعول الثاني جملة استفهامية. وفيها العائد على (ما) وهو لفظ «هن».

(كاشِفاتُ) .. (مُمْسِكاتُ) كل منهما خبر المبتدأ ، ويقرأ كل منهما بالتنوين وترك التنوين ، فمن نوّن نصب «ضرّه» و «رحمته» باسم الفاعل ، ومن ترك التنوين جرهما بالإضافة ، وهي لا تفيد هنا تعريفا ، لأنها في نية الانفصال ، لأن اسم الفاعل ليس بمعنى الماضي ، والأصل هو التنوين ، وإنما يحذف للتخفيف.

البلاغة :

(ضُرِّهِ) و (رَحْمَتِهِ) بينهما طباق.

١٢

المفردات اللغوية :

(وَلَئِنْ) اللام لام القسم. (لَيَقُولُنَّ اللهُ) لوضوح البرهان على تفرده بالخالقية. (قُلْ : أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ ..) أي أرأيتم بعد ما تحققتم أن خالق العالم هو الله وليست آلهتكم ، إن أراد الله أن يصيبني بضر هل يكشفنه ، أو أرادني بنفع هل يمسكنه عني؟ لا ، و (تَدْعُونَ) تعبدون ، و (مِنْ دُونِ اللهِ) الأصنام. والضر : الشدة والبلاء ، والرحمة : النعمة والرخاء. وقال : (كاشِفاتُ) و (مُمْسِكاتُ) : لما يصفونها به من الأنوثة ، تنبيها على ضعفها.

(حَسْبِيَ اللهُ) كافيا في إصابة الخير ودفع الضر ، وتقرر بهذا أن الله هو القادر الذي لا مانع لما يريده من خير أو شر (عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) يثق الواثقون لعلمهم بأن الكل منه تعالى. (عَلى مَكانَتِكُمْ) على حالكم ، وهو اسم للمكان أستعير للحال. (إِنِّي عامِلٌ) على مكانتي أي على حالتي ، فحذف للاختصار والمبالغة في الوعيد. (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ) فإن خزي أعدائه دليل غلبته ، وقد أخزاهم الله يوم بدر (وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) عذاب دائم ، وهو عذاب النار.

سبب النزول :

نزول الآية (٣٨):

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) : روي عن مقاتل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سألهم ، فسكتوا ، فنزل ذلك. وقال غيره : قالوا : لا تدفع شيئا قدّره الله ، ولكنها تشفع ، فنزلت.

المناسبة :

بعد أن أوضح الله تعالى وعيد المشركين ووعد الموحدين ، عاد إلى إقامة الدليل على تزييف طريقة عبدة الأصنام ، معتمدا على أصلين :

الأول ـ أن هؤلاء المشركين مقرّون بوجود الإله الخالق القادر العالم.

والثاني ـ أن هذه الأصنام لا قدرة لها على الخير والشر.

١٣

التفسير والبيان :

أقام الله تعالى الدليل على وحدانيته بإقرار المشركين أنفسهم بذلك ، فقال :

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ، لَيَقُولُنَّ : اللهُ) أي إذا سألت المشركين عن خالق السموات والأرض ، اعترفوا بأنه هو الله سبحانه ، مع عبادتهم للأوثان. وإذا اعترفوا ، فكيف قبلت عقولهم عبادة غير الخالق ، وتشريك مخلوق مع خالقه في العبادة؟ مع أن هذه المعبودات لا تملك لأنفسها نفعا ولا ضرا ، كما قال موبخا لهم :

(قُلْ : أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ ، هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ ، أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ ، هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ)؟ أي إذا أقررتم بأن الله تعالى خلق الأشياء كلها ، فأخبروني عن آلهتكم هذه ، هل تقدر على كشف ما أراده الله بي من الشدة والضرر ، أو هل تستطيع أن تمنع عني ما أراده الله لي من الخير والنعمة والرخاء؟ وإذا كانت في الواقع لا تملك شيئا ولا قدرة لها على شيء ، فكيف تجوز عبادتها؟! وأنث قوله : (هُنَّ كاشِفاتُ) و (هُنَّ مُمْسِكاتُ) وهي الأصنام للتنبيه على كمال ضعفها وتحقيرها وتعجيزها ، فإن الأنوثة مظنة الضعف ، ولأنهم كانوا يصفونها بالتأنيث ويسمونها : اللات والعزى ومناة.

(قُلْ : حَسْبِيَ اللهُ ، عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) قل أيها النبي : الله كافيني أو كافيّ في جميع أموري من جلب النفع ودفع الضر ، فلا أخاف تلك الأصنام التي تخوفونني بها ، وإنما أخاف الله الذي عليه لا على غيره يتوكل المؤمنون ، ويعتمد المعتمدون.

وذلك كما قال هود عليه‌السلام : (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ ، قالَ : إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ، ثُمَ

١٤

لا تُنْظِرُونِ. إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ، ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها ، إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [هود ١١ / ٥٤ ـ ٥٦].

أخرج الإمام أحمد والترمذي والحاكم وابن أبي حاتم عن عبد الله بن عباس قال : كنت خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : «يا غلام ، إني أعلّمك كلمات : احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، وإن اجتمعوا على أن يضرّوك بشيء ، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ، رفعت الأقلام ، وجفّت الصحف.

واعمل لله بالشكر في اليقين. واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا ، وأن النصر مع الصبر ، وأن الفرج مع الكرب ، وأن مع العسر يسرا».

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أيضا ، رفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : «من أحبّ أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله تعالى ، ومن أحبّ أن يكون أغنى الناس ، فليكن بما في يد الله عزوجل أوثق منه بما في يديه ، ومن أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله عزوجل».

ثم هدد الله المشركين وأوعدهم بقوله :

(قُلْ : يا قَوْمِ ، اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ ، إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ، مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ ، وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) أي قل أيها النبي : يا قومي ، اعملوا ما شئتم ، اعملوا على حالتكم وطريقتكم التي أنتم عليها من عداوة رسالتي ، واعتداد بالقوة والشدة ، واجتهدوا في أنواع المكر ، فإني على حالتي ومنهجي وطريقتي التي أنا عليها في الدعوة إلى توحيد الله ونشر دينه بين الناس ، فسوف تعلمون وبال ذلك ، ومن سيأتيه عذاب يهينه ويذله في الدنيا بعد افتخاره واستكباره ، فيظهر

١٥

عندئذ أنه المبطل وخصمه المحقّ ، ويحل عليه عذاب دائم مستمر لا محيد له عنه يوم القيامة ، وهو عذاب النار.

فقه الحياة أو الأحكام :

هذه الآيات تدرجت في الإثبات من وجوب الاعتقاد بوحدانية الله إلى ضرورة عبادته وحده ، إلى معرفة علمه وقدرته وتمكنه من إنفاذ تهديده ووعيده في الوقت المناسب.

ولكن ما أغبى المشركين وأجهلهم وأحمقهم وأسخفهم!! إنهم مع عبادتهم الأوثان مقرّون بأن الخالق هو الله ، وإذا كان الله هو الخالق القادر العالم الحكيم الرحيم ، فكيف يعبدون سواه؟ وكيف يخوفون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بآلهتهم الخرقاء العاجزة التي هي مخلوقة لله تعالى ، وهو رسول من عند الله الذي خلقها وخلق السموات والأرض؟!

وبعد اعترافهم بهذا ، ألا يدركون أن هذه الأصنام جمادات صماء ، لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تضر؟ فإن أراد الله عبده بشدة وبلاء ، فلا تستطيع هذه الأصنام دفعه ورفعه وإزالته ، وإذا أراد الله إمداد عبده بنعمة ورخاء ، فلا تتمكن من حجب رحمته وإمساكها ومنعها ، وترك الجواب لدلالة الكلام عليه ، يعني فسيقولون : لا تكشف ولا تمسك.

وأما المؤمن أو العاقل ، فإنه لا يلتفت إلى تخويف المشركين بالأصنام الصماء كما في الآية السابقة : (وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) ، ويعلن أنه معتمد على الله ، متوكل عليه ، ويجب أن يعتمد عليه المعتمدون.

كذلك يصر المؤمن بالبقاء على منهجه وطريقته في عبادة الله وحده ويهزأ بكل من ضل عن هذا المنهج ، وسوف تنجلي الحقائق ، وتتبين ما تتمخض عنه

١٦

الأحداث والأيام ، ويدرك الكفار أنهم مهزومون ، واقعون في عذاب مهين مذل في الدنيا ، وعذاب شديد دائم في الآخرة.

والخلاصة : كما يقول المثل : «من فمك أدينك يا إسرائيل» : إنه تعالى انتزع منهم الإقرار بأن خالق العالم هو الله ، ثم سألهم أو استخبرهم عن أصنامهم : هل تدفع شرا وتجلب خيرا؟ لبيان عدم صلاحيتها للألوهية والربوبية ، وللتنبيه على الجواب عن قوله تعالى المتقدم: (وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) فهي معدومة الهيبة والإخافة.

مظاهر القدرة التامة والعلم الكامل لله عزوجل

(إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٤١) اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٤٢) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (٤٣) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٤٤) وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٥) قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٤٦) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي

١٧

الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (٤٧) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤٨))

الإعراب :

(اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) : (الَّتِي) معطوف بالنصب على (الْأَنْفُسَ) أي ويتوفى التي لم تمت في منامها. (وَيُرْسِلُ الْأُخْرى) أي الأنفس الأخرى : وهي التي لم يقض عليها الموت ، فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه ، و (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) منصوب ب (يُرْسِلُ).

(.. الشَّفاعَةُ جَمِيعاً جَمِيعاً) حال من (الشَّفاعَةُ). وإنما قال (جَمِيعاً) و (الشَّفاعَةُ) واحد في لفظه ، لأنه مصدر ، والمصدر يدل على الجمع ، كما يدل على الواحد ، فحمل جميع على المعنى ، والحمل على المعنى كثير في كلامهم.

(وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ وَحْدَهُ) إما منصوب على المصدر ، بحذف الزيادة ، لأن أصله «أوحد إيحادا» أو على الحال أو على الظرف ، والوجه الأول أوجه الوجوه. و (إِذا) الأولى والثانية شرطيتان ، والثانية فجائية كالفاء التي تربط الجواب بالشرط.

البلاغة :

(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ) استفهام إنكار.

(الْغَيْبِ) و (الشَّهادَةِ) بينهما طباق ، وكذا بين (اهْتَدى) و (ضَلَ وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ ..) فيها مقابلة بين الله تعالى والأصنام ، وبين الاستبشار والاشمئزاز. والمقابلة : أن يؤتى بمعنيين أو أكثر ، ثم يؤتى بما يقابل ذلك على الترتيب ، وهو من المحسنات البديعية.

المفردات اللغوية :

(إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ) نزلنا عليك القرآن لأجل الناس ، ليحقق مصالحهم الدنيوية والأخروية. (بِالْحَقِ) متعلق بانزلنا أي ملتبسا بالحق ملازما له.

١٨

(فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ) أي فاهتداؤه نفع به نفسه. (فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) على نفسه ، أي فإن وباله لا يتخطاها. (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) أي بموكّل عليهم لتجبرهم على الهدى ، بل عليك البلاغ فحسب.

(اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ) يقبضها عند انتهاء آجالها. (وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) أي ويتوفى غير الميتة وقت النوم ، وهي التي لم يحضر أجلها ، يتوفاها في منامها. (فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ) ولا يردها إلى البدن الذي خرجت منه. (وَيُرْسِلُ الْأُخْرى) أي النائمة. (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي إلى وقت موتها. (إِنَّ فِي ذلِكَ) المذكور من التوفي والإمساك والإرسال. (لَآياتٍ) دلالات على كمال قدرة الله وحكمته. (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) في الحياة والموت ، فيعلمون أن القادر على ذلك قادر على البعث ، وقريش لم يتفكروا في ذلك.

(أَمِ اتَّخَذُوا) بل اتخذت قريش. (مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ) أي اتخذوا الأصنام آلهة عند الله بزعمهم ، تشفع لهم عند الله. (قُلْ : أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً) قل لهم : أيشفعون ، ولو لم يملكوا الشفاعة وغيرها؟ لا (وَلا يَعْقِلُونَ) أنكم تعبدونهم ، ولا يعقلون غير ذلك.

(قُلْ : لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً) أي هو مختص بها ومالك الشفاعة كلها ، فلا يشفع أحد إلا بإذنه ، ولا يستقل بها أحد. (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) مالك الملك كله ، لا يملك أحد أن يتكلم في أمره دون إذنه ورضاه. (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) فيكون الملك له أيضا حينئذ. (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ) أي دون آلهتهم. (اشْمَأَزَّتْ) نفرت وانقبضت ، والاشمئزاز : أن يمتلئ غما ، فيحدث انقباض في القلب ، وضيق في النفس ، يظهر أثره في الوجه (وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) أي الأصنام. (يَسْتَبْشِرُونَ) الاستبشار : امتلاء القلب سرورا ، حتى تنبسط له بشرة الوجه. ويستبشرون هنا لفرط افتتانهم بالأصنام ونسيانهم حق الله تعالى.

(اللهُمَ) أي يا الله. (فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) مبدعها. (عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) ما غاب وما شوهد. (أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي فأنت وحدك تقدر أن تحكم بيني وبينهم ، في أمر الدين ، اهدني لما اختلفوا فيه من الحق. (وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) سيئات أعمالهم أو كسبهم حين تعرض صحائفهم. (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) وأحاط بهم جزاؤه.

١٩

سبب النزول :

نزول الآية (٤٥):

(وَإِذا ذُكِرَ اللهُ) : أخرج ابن المنذر عن مجاهد أنها نزلت في قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم النجم عند الكعبة وفرحهم عند ذكره الآلهة. أي قوله تعالى : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى ، وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى ..) الآيات من سورة النجم [١٩ ـ ٢٣].

المناسبة :

بعد بيان أدلة وحدانية الله وقدرته ، وتوضيح فساد مذاهب المشركين بالأدلة والبراهين ، وإتباعه بالوعد والوعيد ، سرّى الله عن قلب نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ضيقه وانزعاجه لإصرارهم على الكفر ، وأزال عنه الخوف ، فأعلمه بإنزال القرآن العظيم عليه بالحق لنفع الناس واهتدائهم به ، وهذا أول مظاهر قدرته. ثم أتبعه بمظهرين آخرين للقدرة هما قبضه الأرواح بانتهاء آجالها ، وكونه مالك الشفاعة ، ثم ذكر بعدهما بعض قبائح المشركين وعيوبهم واشمئزازهم من ذكر الله.

ثم أردف كل ذلك بأمور ثلاثة :

الأول ـ ذكر الدعاء العظيم المتضمن وصف الله بالقدرة التامة في قوله : (قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ثم وصفه بالعلم الكامل في قوله (عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ).

الثاني ـ ظهور أنواع من العقاب لم تكن في حسابهم في قوله : (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ).

الثالث ـ ظهور آثار تلك السيئات التي اكتسبوها في قوله : (وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا).

٢٠