التفسير المنير - ج ٢٤

الدكتور وهبة الزحيلي

١ ـ إن لله تعالى أن يغفر جميع الذنوب الصادرة من المؤمنين ، ويعفو عن الكبائر منها أيضا. وهذا متروك لمشيئة الله وفضله.

٢ ـ يغفر الله تعالى الذنوب بالتوبة من الشرك والكفر والمعاصي ، والإنابة والرجوع إلى الله بالإخلاص والعمل الصالح ، والخضوع له والطاعة لأوامره واجتناب نواهيه.

ومحل ذلك كله في الدنيا قبل مجيء العذاب بالموت ، وتعذر التخلص منه ، أو المنع منه بناصر أو معين.

٣ ـ العمل : هو اتباع القرآن العظيم ، بإحلال حلاله ، وتحريم حرامه ، والتزام أوامره وطاعته ، واجتناب نواهيه ومعصيته. ويلاحظ أنه تعالى لما وعد بالمغفرة أمر بعد هذا الوعد بشيئين:

الأول : الإنابة والتوبة.

الثاني : متابعة الأحسن ، وهو القرآن ، كما قال : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) [الزمر ٣٩ / ٢٣] والقرآن كله حسن ، واتباعه : العمل بما أمر الله في كتابه ، واجتناب معصيته.

٤ ـ يأتي المقصر يوم القيامة بثلاثة أشياء :

أولها ـ الحسرة على التفريط في الطاعة ، وأنه ما كان إلا من المستهزئين بالقرآن وبالرسول وبأولياء الله المؤمنين في الدنيا.

ثانيها ـ التعلل بفقد الهداية ، وهذا قريب من احتجاج المشركين فيما أخبر الله عنه : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا : لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا ، وَلا آباؤُنا ، وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام ٦ / ١٤٨] فهي كلمة حق أريد بها باطل.

٤١

ثالثها ـ تمني الرجعة إلى الدنيا ، كما قال : (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ : رَبِّ ارْجِعُونِ ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ ، كَلَّا ، إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) [المؤمنون ٢٣ / ٩٩ ـ ١٠٠].

٥ ـ أجاب الله تعالى عن كلامهم بأن قال : التعلل بفقد الهداية باطل ، لأن الهداية كانت حاضرة ، والأعذار زائلة ، ولكن العبد كذب بالقرآن ، وتكبر عن اتباع آياته ، وكان من الكافرين بها ، الجاحدين لها.

حال المشركين المكذبين وحال المتقين يوم القيامة

(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (٦٠) وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦١))

الإعراب :

(تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ الَّذِينَ) : مفعول (تَرَى) و (وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) : جملة اسمية في موضع نصب على الحال ، واستغني عن الواو لمكان الضمير في قوله : (وُجُوهُهُمْ). ولو نصب (وُجُوهُهُمْ) على البدل من (الَّذِينَ) لكان جائزا حسنا.

(لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ) حال ، أو استئناف لبيان المفازة.

المفردات اللغوية :

(كَذَبُوا عَلَى اللهِ) بنسبة الولد والشريك إليه (وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) لما ينالهم من الشدة ، ويعتريهم من الذل والحسرة (مَثْوىً) مقام أو مأوى (لِلْمُتَكَبِّرِينَ) عن الإيمان والطاعة. والاستفهام : (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ) تقرير وإثبات لأنهم يرون كذلك.

٤٢

(وَيُنَجِّي اللهُ) من جهنم (الَّذِينَ اتَّقَوْا) الشرك الذي هو الكذب على الله (بِمَفازَتِهِمْ) بفوزهم بالجنة وفلاحهم ، بأن يجعلوا في الجنة ، وتفسيرها بالسعادة والعمل الصالح إطلاق لها على السبب ، فإن سبب منجاتهم العمل الصالح ، ويجوز أن يسمى العمل الصالح بنفسه مفازة ، لأنه سببها.

المناسبة :

بعد وعيد المشركين بما سبق من أهوال القيامة ، ووعد المتقين بالعفو والمغفرة والنعيم ، ذكر الله تعالى نوعا آخر من الوعيد والوعد ، وهو حال الفريقين يوم القيامة ، حال المكذبين ، وحال المتقين ، فتسودّ وجوه الفريق الأول ، وتبيضّ وجوه الفريق الثاني.

التفسير والبيان :

(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ ، أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ) أي واذكر أيها الرسول خبرا مهما هو حين ترى يوم القيامة الذين كذبوا على الله في دعواهم له شريكا وصاحبة وولدا ، وجوههم مسودة بكذبهم وافترائهم ، لما أحدق بهم من شدة وحزن وكآبة ، ولما شاهدوه من العذاب وغضب الله ونقمته.

إن في جهنم مسكنا ومقاما للمتكبرين عن طاعة الله ، الذين أبوا الانقياد للحق. والكبر : هو بطر الحق وغمط الناس ، كما في الحديث الصحيح. وفي حديث آخر أخرجه أحمد والترمذي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : «يحشر المتكبرون يوم القيامة كأمثال الذّرّ في صور الرجال يغشاهم الذل من كل مكان يساقون إلى سجن في جهنم ..».

(وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ ، لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ ، وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) هذا حال الفريق الآخر في مواجهة فريق المشركين المكذبين ، وهو أن الله ينجي الذين اتقوا الشرك ومعاصي الله من عذاب جهنم ، ينجيهم بفوزهم ، أي بنجاتهم

٤٣

من النار ، وفوزهم بالجنة ، وينفي السوء والحزن عنهم يوم القيامة ، بل هم آمنون من كل فزع.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيتان على شيئين :

الأول ـ اسوداد وجوه الكفار المشركين الذين كذبوا على الله بنسبة الشريك والولد إليه ، مما أحاط بهم من غضب الله ونقمته ، والزج بهم في نار جهنم ، في أشد حالات الذل والمهانة والصغار.

الثاني ـ نجاة المتقين الشرك والمعاصي من النار ، وفوزهم بالجنة. والآية الثانية في شأنهم تدل على أن المؤمنين لا ينالهم الخوف والرعب يوم القيامة ، وتأكد هذا بقولهم : (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) [الأنبياء : ٢١ / ١٠٣].

وقد فسر النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية في حديث أبي هريرة ، قال : «يحشر الله مع كل امرئ عمله ، فيكون عمل المؤمن معه في أحسن صورة ، وأطيب ريح ، فكلما كان رعب أو خوف ، قال له : لا ترع ، فما أنت بالمراد به ، ولا أنت بالمعنيّ به ، فإذا كثر ذلك عليه قال : فما أحسنك! فمن أنت؟ فيقول : أما تعرفني؟ أنا عملك الصالح ، حملتني على ثقلي ، فو الله لأحملنك ، ولأدفعنّ عنك ، فهي التي قال الله : (وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ ، لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ ، وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).

٤٤

دلائل الألوهية والتوحيد

(اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٣) قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (٦٤) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٥) بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٦) وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٧))

الإعراب :

(أَفَغَيْرَ اللهِ)؟ «غير» : إما منصوب ب (أَعْبُدُ) أي أعبد غير الله فيما تأمروني به ، وإمّا منصوب ب (تَأْمُرُونِّي) لأنه يقتضي مفعولين : الثاني منهما بحرف جر ، كقولك : أمرتك الخير ، أي بالخير. فالياء : هي المفعول الأول ، وغير : مفعول ثان. وأعبد : في موضع البدل من «غير» تقديره : أتأمروني بغير الله أن أعبد.

(بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ اللهَ) : منصوب باعبد أو منصوب بتقدير فعل ، أي بل اعبد الله فاعبد. والفاء : زائدة عند الأخفش ، وغير زائدة عند غيره.

(وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ .. الْأَرْضُ) : مبتدأ ، و (قَبْضَتُهُ) : خبره ، و (جَمِيعاً): حال.

البلاغة :

(لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) استعارة ، شبه الخيرات والبركات والأرزاق بخزائن ، واستعار لها لفظ المقاليد أي المفاتيح ، والمعنى : خزائن رحمته وفضله بيده تعالى.

٤٥

(وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) استعارة تمثيلية ، مثّل لعظمته وكمال قدرته وحقارة السموات والأرض بالنسبة للقدرة بمن قبض شيئا عظيما بكفه ، وطوى السموات بيمينه بطريق الاستعارة التمثيلية.

المفردات اللغوية :

(اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) من خير وشر وإيمان وكفر (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) قيّم يتولى التصرف فيه (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) مفاتيح خزائنها من المطر والنبات وغيرهما ، لا يملك أمرها ولا يتمكن من التصرف فيها غيره ، وهو كناية عن قدرته وحفظه لها (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) القرآن ودلائل قدرة الله (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) أنفسهم ، وهذا عائد على فريق المكذبين الذين نسبوا لله ولدا وشريكا ، وما قبله اعتراض للدلالة على أنه مهيمن على العباد ، مطلع على أفعالهم ، مجاز عليها.

(قُلْ : أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) أي أفغير الله أعبد بعد هذه الدلائل والمواعيد ، و (تَأْمُرُونِّي) اعتراض للدلالة على أنهم أمروه به عقيب ذلك. وقرئ (تَأْمُرُونِّي) بتخفيف النون ، مثل : (فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) أي تبشرونني.

(وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ). كلام على سبيل الفرض ، والمراد به تهييج الرسل ، وإقناط الكفرة ، وتنبيه الأمة. وأفرد الخطاب : باعتبار كل واحد. واللام الأولى : موطئة للقسم ، والأخيرتان للجواب. وعطف الخسران على إحباط : الأعمال : من عطف المسبب على السبب. و (لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) ليذهبن هباء منثورا. والإحباط : الإبطال.

(بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ ..) رد لما أمروه به (وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) إنعامه عليك (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) ما عظّموه حق التعظيم اللائق به ، حيث جعلوا له شريكا ووصفوه بما لا يليق به (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً) أي الأراضي السبع (قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) مقبوضة له في ملكه وتصرفه ، والقبضة : المرة من القبض (وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) مجموعات بقدرته. وهذه الآية تنبيه على عظمة الله وكمال قدرته وحقارة الأجرام العظام بالنسبة لقدرته ، وفيها دلالة على أن تخريب العالم أهون شيء عليه. والآية على طريقة التمثيل والتخييل من غير اعتبار القبضة واليمين حقيقة ولا مجازا ، كما ذكر الزمخشري والبيضاوي. (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي تنزه وتقدس وتعاظم الله عما يشركون معه ، فما أبعد ما ينسب إلى الله من الولد والشريك عن قدرته وعظمته. هذا واليمين تطلق على اليد ، وعلى القدرة والملك ، وعلى القوة : (لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) [الحاقة ٦٩ / ٤٥] أي بالقوة والقدرة ، والمعنى لأخذنا قوته وقدرته. قال الشاعر :

إذا ما راية رفعت لمجد

تلقاها عرابة باليمين

٤٦

سبب النزول :

نزول الآية (٦٤):

(قُلْ : أَفَغَيْرَ اللهِ ..)؟ : أخرج البيهقي في الدلائل عن الحسن البصري قال : قال المشركون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : أتضلل آباءك وأجدادك يا محمد؟ فأنزل الله : (قُلْ : أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ) إلى قوله : (مِنَ الشَّاكِرِينَ). وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن المشركين من جهلهم دعوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى عبادة آلهتهم ، ويعبدوا معه إلهه ، فنزلت : (قُلْ: أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ ..) الآية.

نزول الآية (٦٧):

(وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) : أخرج الترمذي وصححه عن ابن عباس قال : مرّ يهودي بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : كيف تقول يا أبا القاسم إذا وضع الله السموات على ذه ـ أي على إصبع ـ ، والأرضين على ذه ـ أي على إصبع ـ ، والماء على ذه ـ أي على إصبع ـ ، والجبال على ذه ـ أي على إصبع ـ ، فأنزل الله : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) الآية.

وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال : غدت اليهود ، فنظروا في خلق السموات والأرض والملائكة ، فلما فزعوا أخذوا يقدرونه ، فأنزل الله : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ).

وأخرج ابن المنذر عن الربيع بن أنس قال : لما نزلت : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) قالوا : يا رسول الله ، هذا الكرسي ، فكيف العرش؟ فأنزل الله : (وَما قَدَرُوا اللهَ ..) الآية.

المناسبة :

بعد أن أبان الله تعالى الوعد والوعيد يوم القيامة لأهل التوحيد وأهل

٤٧

الشرك ، عاد إلى تبيان دلائل الألوهية والتوحيد. ثم نعى على الكافرين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعبادة الأصنام ، وأنهم لم يعرفوا الله حق المعرفة ، إذ لو عرفوه لما جعلوا الجمادات شركاء له في العبودية.

التفسير والبيان :

(اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) أي إن الله تعالى هو مبدع الأشياء كلها وخالقها جميعها ، الموجودة في الدنيا والآخرة ، لا فرق بين شيء وآخر ، وهو ربها ومالكها والمتصرف فيها والقائم بحفظها وتدبيرها ، فهي محتاجة إليه في وجودها وبقائها معا. وهذا دليل على أن أعمال العباد مخلوقة لله.

(لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي هو مالك أمرها وحافظها ، وهذا استعارة لملكه خيراتها وأرزاقها ، أو كناية عن انفراده تعالى بحفظها وتدبيرها وملك مفاتيحها ، لأن حافظ الخزائن ومدبر أمرها هو الذي يملك مقاليدها ، أي مفاتيحها. وهذه الجملة تأكيد للجملة السابقة : (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) أو عطف بيان ، أو تعليل لها ، ورأى بعضهم أنها جملة مستأنفة.

والمعنى الجامع للجملتين : أن السلطان والملك ، والتصرف في كل شيء ، والتدبير والحفظ هو لله تعالى.

وروى ابن أبي حاتم عن عثمان بن عفان رضي‌الله‌عنه «أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن تفسير قوله تعالى : (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فقال : ما سألني عنها أحد قبلك يا عثمان ، تفسيرها : لا إله إلا الله ، والله أكبر ، وسبحان الله ، وبحمده ، أستغفر الله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، هو الأول والآخر ، والظاهر والباطن ، بيده الخير ، يحيي ويميت ، وهو على كل شيء قدير ..» يعني أن قائل ذلك تفتح له خزائن السموات والأرض ، ويصيبه خير كثير ، وأجر كبير.

٤٨

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) أي والذين جحدوا آيات الله في القرآن وبراهينه في الأكوان الدالة على وحدانية الله وعظيم قدرته وأنه مالك السموات والأرض ومدبرهما ، أولئك هم الذين خسروا أنفسهم ، وخلدوا في نار جهنم ، جزاء كفرهم.

ثم أمر الله رسوله بتوبيخ المشركين على الدعوة لعبادة الأصنام ، فقال :

(قُلْ : أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) أي قل أيها الرسول لكفار قومك الذين دعوك إلى عبادة الأصنام قائلين : هو دين آبائك : أتأمروني أيها الجهلة بعبادة غير الله بعد أن قامت الأدلة القطعية على تفرده بالألوهية ، فهو خالق الأشياء كلها وربها ومدبرها ، فلا تصلح العبادة إلا له سبحانه.

(وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ، وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) أي إن أمركم لعجيب ، فلقد أوحي إلي وإلى من قبلي من الرسل أن الإله المعبود هو الله وحده لا شريك له ، وأنه إذا أشرك نبي ـ على سبيل الفرض والتقدير ـ ليحبطن ويبطلن عمله ، وليكونن من الذين خسروا أنفسهم ، وضيعوا دنياهم وآخرتهم.

وإذا كان الشرك موجبا إحباط عمل الأنبياء فرضا ، فهو محبط عمل غيرهم بطريق الأولى ، كما قال تعالى : (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام ٦ / ٨٨].

ثم انتقل من النهي عن الشرك إلى الأمر بعبادة الله وحده ، فقال تعالى :

(بَلِ ، اللهَ فَاعْبُدْ ، وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) أي أخلص العبادة لله وحده لا شريك له أنت ومن اتبعك وصدّقك ، واعبده وحده ، ولا تعبد معه أحدا سواه ، وكن من الشاكرين إنعامه عليك بالتوفيق والهداية للإيمان بالله وحده ، وتشريفك بالرسالة والدعوة إلى دين الله تعالى.

٤٩

وبعد أن نعى الله تعالى ما أمر به المشركون نبيّ الله من عبادة الأوثان ، نعى عليهم أنهم لم يعرفوا الله حق المعرفة ، فقال :

(وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) أي ما عظموا الله حق تعظيمه ، وما قدر المشركون الله حق قدره حين عبدوا معه إلها غيره ، وهو الذي لا أعظم ولا أقدر منه.

روى البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي‌الله‌عنه قال : جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال : يا محمد ، إنا نجد أن الله عزوجل يجعل السموات على أصبع ، والأرضين على أصبع ، والشجر على أصبع ، والماء والثرى على أصبع ، وسائر الخلق على أصبع ، فيقول : أنا الملك ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى بدت نواجذه ، تصديقا لقول الحبر ، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ ، وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ ...) الآية.

وروى أحمد ومسلم عن ابن عمر رضي‌الله‌عنهما قال : إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قرأ هذه الآية ذات يوم على المنبر : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ ، وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ ، وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ، سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول هكذا بيده ، يحركها يقبل بها ويدبر : يمجّد الرب نفسه ، أنا الجبار ، أنا المتكبر ، أنا الملك ، أنا العزيز ، أنا الكريم. فرجف برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المنبر حتى قلنا : ليخرّنّ به».

(وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ، سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي والحال أن الأرض تحت تصرف الله وملكه ، والسموات خاضعة لقدرته وسلطانه ومشيئته وإرادته ، تنزه وتقدس الله عما يشركون به من المعبودات التي جعلوها شركاء لله ، فالمراد باليمين : القدرة.

وهذه الجملة في رأي الخلف تمثيل لحال عظمة الله تعالى وكمال تصرفه ونفاذ

٥٠

قدرته بحال القابض على الأرض كلها والسموات جميعها. ويرى السلف وجوب الإيمان بهذه الظواهر ، والاعتقاد بالقبضة واليمين ، لأن الأصل في الكلام حمله على الحقيقة ، ويقولون : رأي السلف أسلم ، ورأي الخلف أحكم. وإني أميل إلى الأسلم.

أخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي‌الله‌عنه ، سمعت رسول الله يقول : «يقبض الله الأرض يوم القيامة ، ويطوي السماء بيمينه ، ثم يقول : أنا الملك ، أين ملوك الأرض؟».

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات ما يأتي :

١ ـ إن الله تعالى خالق الأشياء كلها ، ومنها أعمال العباد.

٢ ـ إن الله سبحانه هو القائم بحفظ الأشياء وتدبيرها من غير مشارك ، وهو سبحانه مالك أمر السموات والأرض وحافظها ، وهذا التعبير من باب الكناية ، لأن حافظ الخزائن ومدبر أمرها هو الذي بيده مقاليدها.

٣ ـ إن الذين كفروا بالقرآن والحجج والدلالات الدالة على وجود الله ووحدانيته وكمال عظمته وقدرته هم الخاسرون أنفسهم في الدنيا والآخرة. وصريح الآية يقتضي أنه لا خاسر إلا كافر.

٤ ـ من العجب العجاب صدور أمرين من المشركين : أولهما ـ أن يطلبوا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم عبادة أصنامهم ، ليعبدوا معها إلهه. وثانيهما ـ أنهم لم يعرفوا الله حق المعرفة ، ولم يعظموه حق التعظيم ، إذ عبدوا معه غيره ، وهو خالق الأشياء ومالكها.

٥ ـ وصف الله تعالى المشركين بالجهل ، لأنهم لم يتفكروا بخالق الأشياء

٥١

ولا بكونه مالكا لمقاليد السموات والأرض ، وعبدوا أصناما جمادات لا تضر ولا تنفع ، ومن فعل مثل ذلك فهو في غاية الجهل.

٦ ـ إن الشرك والكفر محبط مبطل لجميع أعمال الكفار والمشركين ، ولو كانت صالحة ، فلا ثواب لهم عليها في الآخرة ، بسبب أرضية الكفر التي قامت عليها.

ومن ارتد أيضا ومات على الكفر ، لم تنفعه طاعاته السابقة ، وحبطت أعماله كلها ، لقوله تعالى : (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ ، فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ ، فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) [البقرة ٢ / ٢١٧]. وعليه من حج ثم ارتد ثم عاد إلى الإسلام لا يجب عليه إعادة الحج.

٧ ـ السموات والأرض كلها تحت ملك الله وقدرته وتصرفه ، وليس ذلك بجارحة لأنه نزه نفسه عنها فقال : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي تنزه وتقدس عن أن تجعل الأصنام شركاء له في المعبودية.

نفختا الصور والفصل في الخصومات وإيفاء كل واحد حقه

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (٦٨) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٩) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (٧٠))

٥٢

الإعراب :

(يَنْظُرُونَ) حال من ضميره.

البلاغة :

(يَنْظُرُونَ يُظْلَمُونَ يَفْعَلُونَ) بينها توافق الفواصل في الحرف الأخير ، مما يوحي بروعة البيان وكمال الجمال.

المفردات اللغوية :

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) النفخة الأولى التي يموت بها الخلائق كلهم ، و (الصُّورِ) بوق أو قرن ينفخ فيه (فَصَعِقَ) مات أو غشي عليه (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) قيل : جبرائيل وميكائيل وإسرافيل ، فإنهم يموتون بعد (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى) النفخة الثانية للبعث من القبور (فَإِذا هُمْ) جميع الخلائق الموتى (قِيامٌ) قائمون من قبورهم (يَنْظُرُونَ) ينتظرون ما يفعل بهم.

(وَأَشْرَقَتِ) أضاءت (بِنُورِ رَبِّها) بما أقام فيها من العدل ، وما قضى به من الحق (وَوُضِعَ الْكِتابُ) وضع كتاب الأعمال أو صحائف الأعمال للحساب (وَالشُّهَداءِ) الذين يشهدون للأمم وعليهم من الملائكة والمؤمنين (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِ) وقضي بين العباد بالعدل (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) شيئا (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ) وصلت كل نفس إلى حقها ، وحصلت على الجزاء (وَهُوَ أَعْلَمُ) عالم (بِما يَفْعَلُونَ) فلا يحتاج إلى شاهد.

المناسبة :

بعد بيان أدلة عظمة الله وكمال قدرته بتصرفه في الكون وتدبيره ، وخلقه كل شيء ، ذكر الله تعالى مقدمات يوم القيامة الدالة أيضا على تمام القدرة وعظمة السلطان ، وهي نفختا الصور مرتين ، الأولى للإماتة ، والثانية للبعث من القبور ، ثم الفصل بالحق والعدل بين الخلائق للحساب والجزاء ، وإيصال الحق إلى كل واحد.

٥٣

التفسير والبيان :

يخبر الله تعالى عن هول يوم القيامة وما فيه من الآيات العظيمة الباهرة الدالة على كمال القدرة وتمام العظمة الإلهية ، فيقول :

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ، فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ، ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى ، فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) أي هذه هي النفخة الأولى للموت ، حيث ينفخ إسرافيل في الصور الذي هو بوق أو قرن ، فيموت من الفزع وشدة الصوت أهل السموات والأرض ، والصعق : الموت في الحال.

إلا من شاء الله ألا يموت حينئذ كجبرائيل وميكائيل وإسرافيل نفسه الذين يموتون بعد ذلك. قال قتادة : لا ندري من هم؟.

ثم ينفخ فيه نفخة أخرى للبعث من القبور ، فيقوم الخلق كلهم أحياء على أرجلهم ينظرون أهوال القيامة وما يقال لهم أو ينتظرون ما يفعل بهم ، بعد أن كانوا عظاما ورفاتا ، كما قال تعالى : (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ ، فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) [النازعات ٧٩ / ١٣ ـ ١٤] وقال سبحانه : (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ ، فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ ، وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً) [الإسراء ١٧ / ٥٢] وقال جل وعلا : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ، ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ ، إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) [الروم ٣٠ / ٢٥].

ثم ذكر الله تعالى بعض أحوال يوم القيامة :

١ ـ (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها) أي أضاءت أرض المحشر وأنارت بتجلي الحق جل وعلا للخلائق لفصل القضاء ، وبما أقامه الله من العدل بين أهلها ، وما قضى به من الحق بين عباده.

٢ ـ (وَوُضِعَ الْكِتابُ) أي وضعت كتب وصحائف أعمال بني آدم بين

٥٤

يدي أصحابها ، إما باليمين وإما بالشمال ، كما قال تعالى : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ، وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً) [الإسراء ١٧ / ١٣] وقال سبحانه : (ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) [الكهف ١٨ / ٤٩].

٣ ـ ٤ : (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ) أي وجيء بالأنبياء إلى الموقف ، ليسألوا عما أجابتهم به أممهم ، كما قال تعالى : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ ، وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) [النساء ٤ / ٤١] وجيء أيضا بالشهود الذين يشهدون على الأمم من الملائكة الحفظة التي تقيد أعمال العباد كما قال تعالى : (وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) [ق ٥٠ / ٢١] والسائق : يسوق للحساب ، والشهيد يشهد عليها ، وكذا من أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذين يشهدون على الأمم بما بلغتهم به رسلهم ، كما قال تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) [البقرة ٢ / ١٤٣].

وكذلك يجاء بالشهداء المؤمنين الذين استشهدوا في سبيل الله ، فيشهدون يوم القيامة بالبلاغ على من بلّغوه ، فكذّب بالحق.

وبعد فصل الخصومات ، بيّن تعالى أنه يوصل إلى كل شخص حقه ، فقال معبرا عن هذا المعنى بأربع عبارات :

١ ـ (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِ) أي وقضي بين العباد بالعدل والصدق.

٢ ـ (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي لا ينقصون من ثوابهم ، ولا يزاد في عقابهم ، ويكون جزاؤهم على قدر أعمالهم ، كما قال تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ ، فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ، وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ ، أَتَيْنا بِها ، وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) [الأنبياء ٢١ / ٤٧] وقال سبحانه : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ ، وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها ، وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) [النساء ٤ / ٤٠]

٥٥

٣ ـ (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ) أي وفيت وأعطيت كل نفس جزاء ما عملت من خير أو شر.

٤ ـ (وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ) أي والله عالم بما يفعل العباد في الدنيا ، من غير حاجة إلى كاتب ولا حاسب ولا شاهد ، وإنما وضع الكتاب ، وجيء بالنبيين والشهداء لتكميل الحجة ، وقطع المعذرة. وأتى بهذا الحكم للدلالة على أنه تعالى يقضي بالحق عن علم تام ، فلا يحتمل وجود أي خطأ في ذلك الحكم. والمقصود : بيان أن كل مكلف يصل إلى حقه.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ يكون يوم القيامة نفختان : النفخة الأولى منهما يموت بها الخلق ، ويحيون في الثانية. والذي ينفخ في الصور هو إسرافيل عليه‌السلام. وقد قيل : إنه يكون معه جبريل ، لحديث ابن ماجه في السنن عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «إن صاحبي الصور بأيديهما قرنان يلاحظان النظر ، متى يؤمران» وحديث أبي داود عن أبي سعيد الخدري أيضا قال : «ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صاحب الصور ، وقال : عن يمينه جبرائيل ، وعن يساره ميكائيل».

٢ ـ اختلف في المستثنى من هم؟ فقيل : هم الشهداء متقلّدين أسيافهم حول العرش ، لحديث مرفوع عن أبي هريرة ذكره القشيري ، وحديث عبد الله بن عمر الذي ذكره الثعلبي. وقيل : إنهم جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت عليهم‌السلام ، لحديث أنس الذي ذكره الثعلبي والنحاس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تلا : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ، فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) فقالوا : يا نبيّ الله من هم الذين استثنى الله تعالى؟ قال : «هم جبريل وميكائيل

٥٦

وإسرافيل وملك الموت» ثم ذكر أنه يؤمر جبريل بإماتة نفس إسرافيل وميكائيل وملك الموت ، ثم يميت الله جبريل ، ففي هذا الحديث : «إن آخرهم موتا جبريل عليه وعليهم‌السلام».

قال القرطبي : وحديث أبي هريرة في الشهداء أصح. وقال قتادة : الله أعلم بثنياه ، أي استثنائه.

٣ ـ يكون البعث : بأن يبعث الأموات من أهل الأرض والسماء أحياء من قبورهم ، وتعاد إليهم أبدانهم وأرواحهم ، فيقومون ينظرون ، ماذا يؤمرون ، أو ينتظرون ما يفعل بهم.

٤ ـ تستنير أرض المحشر وتضيء بعدل الله وقضائه بالحق بين عباده ، والظلم ظلمات ، والعدل نور. أو إنها تستنير بنور خلقه الله تعالى ، فيضيء به الأرض.

وقال أبو جعفر النحاس : وقوله عزوجل : (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها) يبين هذا الحديث المرفوع من طرق كثيرة صحاح : «تنظرون إلى الله عزوجل ، لا تضامّون في رؤيته» (١) أي لا يلحقكم ضيم كما يلحقكم في الدنيا في النظر إلى الملوك.

٥ ـ إن أحوال الحكم والقضاء سبع : أن يوضع كتاب الأعمال بين آخذ بيمينه وآخذ بشماله ، ويجاء بالنبيين والشهداء ، فيسألون عما أجابت الأمم أنبياءها ، ويقضى بين الناس بالصدق والعدل ، ولا يظلمون ، فلا ينقص من حسناتهم ولا يزاد على سيئاتهم ، وتوفى كل نفس ما عملت من خير أو شر ، والله أعلم بما فعلت كل نفس في الدنيا.

__________________

(١) وهو يروى على أربعة أوجه : لا تضامون ، ولا تضارون ، ولا تضامّون ، ولا تضارّون. أي لا يلحقكم ضير.

٥٧

أحوال أهل العقاب وأهل الثواب

(وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (٧١) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٢) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (٧٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٧٤) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٧٥))

الإعراب :

(حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ) (٧٣) جواب (إِذا) : إما محذوف تقديره : حتى إذا جاءوها فازوا أو نعموا ، والواو فيه للحال بتقدير : قد ، أو قوله تعالى : (وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) والواو زائدة ، تقديره : حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها ، أو قوله : (وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها) والواو زائدة ، تقديره : حتى إذا جاءوها قال لهم خزنتها. والوجه الأول أوجه.

(طِبْتُمْ) حال.

(حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ حَافِّينَ) : حال ، لأن المراد ب (تَرَى) رؤية البصر لا رؤية القلب. وواحد حافين : حاف. وقال الفراء : هذا لا واحد له ، لأن هذا الاسم لا يقع لهم إلا مجتمعين.

٥٨

(يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) الجملة حال ثانية.

البلاغة :

(وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً) مقابلة بينهما ، قابل بين حال السعداء وحال الأشقياء. والمقابلة كما تقدم : أن يؤتى بمعنيين أو أكثر ، ثم يؤتى بما يقابل ذلك على الترتيب.

(حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ) وضع الظاهر فيه موضع الضمير للدلالة على اختصاص ذلك بالكفرة.

(وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ) استعارة ، تشبيها بحال الوارث وتصرفه في إرثه.

المفردات اللغوية :

(وَسِيقَ) من السوق : وهو الحث على السير بعنف وشدة وإزعاج ، بقصد الإهانة والاحتقار (زُمَراً) الزمر : جماعات أو أفواجا متفرقة مرتبة ، بعضها إثر بعض ، بمقدار تفاوتهم في الضلالة والشر (فُتِحَتْ أَبْوابُها) ليدخلوها ، وهو جواب إذا ، وفتح أبواب جهنم عند مجيئهم ليبقى حرها إليهم ، إهانة لهم. (وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها) تقريعا وتوبيخا (رُسُلٌ مِنْكُمْ) من جنسكم (آياتِ رَبِّكُمْ) القرآن وغيره (وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) ويخوفونكم وقتكم هذا ، وهو وقت دخولهم النار ، قال البيضاوي : وفيه دليل على أنه لا تكليف قبل الشرع ، من حيث إنهم عللوا توبيخهم بإتيان الرسل وتبليغ الكتب. (وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ) وجبت عليهم كلمة الله بالعذاب ، وهو الحكم عليهم بالشقاوة بسبب أعمالهم ، وأنهم من أهل النار ، وقيل : هو قوله تعالى : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [هود ١١ / ١١٩].

(قِيلَ : ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ) أبهم القائل لتهويل ما يقال لهم (خالِدِينَ فِيها) ماكثين فيها على الدوام (فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) اللام فيه للجنس ، والمخصوص بالذم محذوف سبق ذكره ، أي بئس المأوى جهنم ، وهذا دليل على أن تكبرهم عن الحق سبب لدخول النار.

(وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً) أي أسرع بهم بلطف إلى دار الكرامة جماعات ، على تفاوت مراتبهم في الشرف وعلو الطبقة (وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) أي والحال أنه قد فتحت لهم الأبواب قبل مجيئهم تكريما وتعظيما ، وحذف جواب (إِذا) للدلالة على أن لهم حينئذ من الكرامة والتعظيم ما لا يحيط به الوصف ، وأن أبواب الجنة تفتح لهم قبل مجيئهم منتظرين استقبالهم ، والجواب المقدر : دخلوها (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) لا يعتريكم بعد مكروه (طِبْتُمْ) طهرتم من دنس المعاصي

٥٩

(فَادْخُلُوها خالِدِينَ) أي مخلدين فيها على الدوام أو مقدّرين الخلود ، والفاء للدلالة على ان (طِبْتُمْ) سبب لدخولهم وخلودهم ، وهو لا يمنع دخول العاصي بعفوه تعالى ، لأنه يطهره.

(وَقالُوا : الْحَمْدُ لِلَّهِ) عطف على الفعل المقدر جوابا ل (إِذا) وهو : دخلوها (صَدَقَنا وَعْدَهُ) بالبعث والثواب والجنة (وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ) أي أرض الجنة ، يريدون المكان الذي استقروا فيه ، وقد أورثوها ، أي ملكوها وجعلوا ملاكها ، وأطلق تصرفهم فيها كما يشاءون ، تشبيها بحال الوارث وتصرفه فيما يرثه ، على سبيل الاستعارة (نَتَبَوَّأُ) ننزل (مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ) ننزل في أي مقام أردنا من الجنة الواسعة ، مع أن في الجنة مقامات معنوية لا يتمانع واردوها (فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) الجنة.

(حَافِّينَ) محدقين من حول العرش ومحيطين حوله. (مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ) من كل جانب. و (مِنْ) مزيدة (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) ينزهون ربهم من كل نقص ، ملتبسين بحمده ، قائلين : سبحان الله وبحمده ، والجملة حال ثانية أو مقيدة للأولى ، والمعنى : ذاكرين له بوصفي جلاله وإكرامه تلذذا به. وفيه إشعار بأن منتهى درجات العليين وأعلى لذائذهم هو الاستغراق في صفات الحق.

(وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِ) حكم بين جميع الخلائق بالعدل ، فيدخل المؤمنون الجنة ، والكافرون النار (وَقِيلَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي على ما قضى بيننا من الحق ، والقائلون هم المؤمنون المقضي بينهم ، أو الملائكة ، وقد طوي ذكرهم لتعينهم وتعظيمهم. والخلاصة : لقد ختم استقرار الفريقين بالحمد لله.

المناسبة :

بعد بيان أحوال أهل القيامة مجملا ، بقوله تعالى : (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ) أبان الله تعالى بالتفصيل أحوال أهل العقاب وأحوال أهل الثواب ، ثم وصف ذلك الموكب المهيب موكب الملائكة المحدقين الحافين حول العرش ، الذين يسبحون بحمد ربهم ، ينزهونه عن النقائص ، ويشكرونه ، ويقولون بعد استقرار الفريقين في الجنة والنار : الحمد لله رب العالمين على ما أنعم به ، وقضى بالحق بين الخلائق.

٦٠