التفسير المنير - ج ٢٤

الدكتور وهبة الزحيلي

ثم عاد الله تعالى إلى إيراد أدلة أخرى من إيجاد العالم العلوي والسفلي على وجود الله ووحدانيته وقدرته ، وبيان إحكام القرآن وكونه كتاب هداية وشفاء ورحمة ، وأن من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها دون جور ولا ظلم.

وأعقب ذلك التعريف بعلم الله المحيط بكل شيء ، والإشارة لعظيم قدرته ، والكشف عن طبع الإنسان من التّكبر عند الرّخاء ، والتّضرع عند الشدة والعناء.

وختمت السورة بوعد الله أن يطلع الناس في كل زمان على بعض أسرار الكون والتّعرف على آيات الله في الآفاق والأنفس الدالة على الوحدانية والقدرة الإلهية ، ثم ذكرت أن المشركين يشكون في البعث والحشر ، ولكن الله محيط بهم وبكل شيء ، وذلك ردّ حاسم عليهم.

فضلها :

أخرج الإمام العالم عبد بن حميد في مسنده وأبو يعلى والبغوي وغيرهم عن جابر بن عبد الله رضي‌الله‌عنه قال : «اجتمعت قريش يوما ، فقالوا : انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر ، فليأت هذا الرجل الذي قد فرّق جماعتنا ، وشتّت أمرنا ، وعاب ديننا ، فليكلمه ولننظر ماذا يردّ عليه. فقالوا : ما نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعة.

فقالوا : ائته يا أبا الوليد ، فأتاه عتبة فقال : يا محمد أنت خير أم عبد الله؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال : أنت خير أم عبد المطلب؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال عتبة : إن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك ، فقد عبدوا الآلهة التي عبت ، وإن كنت تزعم أنك خير منهم ، فتكلّم حتى نسمع قولك ، إنا والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومك منك ، فرّقت جماعتنا ، وشتّت أمرنا ، وعبت ديننا وفضحتنا في العرب ، حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحرا ، وأن

١٨١

في قريش كاهنا ، والله ، ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف حتى نتفاني.

أيها الرّجل ، إن كان إنما بك الحاجة ، جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلا واحدا ، وإن كان إنما بك الباءة (١) ، فاختر أي نساء قريش شئت ، فلنزوجك عشرا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

فرغت؟ قال : نعم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، حم ، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ..) ـ حتى بلغ ـ : (فَإِنْ أَعْرَضُوا ، فَقُلْ : أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) فقال عتبة : حسبك حسبك ، ما عندك غير هذا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا.

فرجع إلى قريش ، فقالوا : ما وراءك؟ قال : ما تركت شيئا أرى أنكم تكلمون به إلا كلمته ، قالوا : فهل أجابك؟ قال : نعم ، لا ، والذي نصبها بنية (أي الكعبة) ما فهمت شيئا مما قاله غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود ، قالوا : ويلك ، يكلّمك الرجل بالعربية ، لا تدري ما قال ، قال : لا والله ما فهمت شيئا مما قال غير ذكر الصاعقة».

وفي رواية البغوي : «والله لقد علمتم أني من أكثر قريش مالا ، ولكني أتيته ، وقصصت عليه القصة ، فأجابني بشيء ، والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر ، وقرأ السورة إلى قوله تعالى : (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ)».

وفي رواية محمد بن إسحاق في سيرته : «قالوا : ما وراءك يا أبا الوليد؟

__________________

(١) الميل إلى النساء.

١٨٢

قال : ورائي أني سمعت قولا ، والله ما سمعت مثله قط ، والله ما هو بالسحر ولا بالشعر ولا بالكهانة ، يا معشر قريش ، أطيعوني واجعلوها لي ، خلّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه ، فاعتزلوه ، فو الله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم ، وإن يظهر على العرب ، فملكه ملككم ، وعزّه عزّكم ، وكنتم أسعد الناس به. قالوا : سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه ، قال : هذا رأيي فيه ، فاصنعوا ما بدا لكم».

القرآن الكريم وإعراض المشركين عنه وبشرية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم

(حم (١) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٤) وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (٥) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٨))

الإعراب :

(تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، كِتابٌ تَنْزِيلٌ) : مبتدأ ، و (مِنَ الرَّحْمنِ) : صفة له ، و (كِتابٌ) : خبره ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أي هذا تنزيل.

(قُرْآناً عَرَبِيًّا قُرْآناً) : حال وعامله : (فُصِّلَتْ) أو منصوب بفصلت أو منصوب على المدح ، أي أمدح قرآنا عربيا. و (لِقَوْمٍ ..) متعلق بفصلت.

١٨٣

(بَشِيراً وَنَذِيراً) حال من الآيات وعامله : (فُصِّلَتْ) أو حال من (كِتابٌ) لأنه قد وصف ، وعامله «هذا» إذا قدرت ، لما فيه من معنى التنبيه أو الإشارة ، أي هذا كتاب فصلت آياته.

(يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ .. إِنَّما) : مرفوع بيوحى على أنه مفعول الفعل المبني للمجهول.

البلاغة :

(بَشِيراً وَنَذِيراً) بينهما طباق.

(وَقالُوا : قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) استعارة تصريحية ، شبّهوا إعراضهم عن القرآن ونفرتهم ومباعدتهم عنه وشدّة كراهيتهم بمن حجبت قلوبهم عن العلم ، وأسماعهم عن الفهم والإدراك.

المفردات اللغوية :

(حم) للتنبيه على إعجاز القرآن وتحديه ، وعلى خطر ما يذكر في السورة من أحكام. (فُصِّلَتْ) بيّنت وميّزت أتمّ بيان وأوضح تفصيل للأحكام والقصص والمواعظ. (قُرْآناً عَرَبِيًّا) بلغة العرب كله ، وفيه امتنان بسهولة قراءته وفهمه. (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) لقوم يفهمون ذلك ، وهم العرب.

(بَشِيراً وَنَذِيراً) صفة القرآن ، فهو مبشّر للعاملين به ، ومنذر للمخالفين له. (فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ) عن تدبّره وقبوله. (فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) سماع تأمل وطاعة وقبول ، أي لا يقبلون ولا يطيعون. (وَقالُوا) للنبي صلى الله عليه وآله وسلم (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ) أغطية ، جمع كنان ، كغطاء وأغطية ، والكنان : جعبة (أو خريطة) السهام ، والمراد أنها في أغطية سميكة متكاثفة. (وَقْرٌ) صمم أو ثقل سمع. (حِجابٌ) ستار أو ساتر يمنعنا عن التواصل ، والمراد: خلاف في الدين ، وقوله : (وَمِنْ بَيْنِنا ..) للدلالة على أن الحجاب مبتدأ منهم ومنه ، بحيث استوعب المسافة المتوسطة ، ولم يبق فراغ. (فَاعْمَلْ) على دينك. (إِنَّنا عامِلُونَ) على ديننا.

(أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) أي لست ملكا أو جنّيا لا يمكنكم الالتقاء به. (أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) أي إنما أدعوكم إلى التوحيد والاستقامة في العمل. (فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ) توجهوا إليه بالإيمان والطاعة. (وَاسْتَغْفِرُوهُ) اطلبوا المغفرة مما أنتم عليه من سوء العقيدة والعمل. (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ) من فرط جهالتهم واستخفافهم بالله ، والويل : كلمة عذاب ، وهو كلمة تهديد لهم ، أو واد في جهنم. (لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) لبخلهم وعدم إشفاقهم على الخلق ، وذلك من أعظم الرّذائل. وفيه دليل على

١٨٤

أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة. (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ هُمْ) الثانية تأكيد ، والجملة حالية مشعرة بأن امتناعهم عن الزكاة لاستغراقهم في طلب الدنيا وإنكارهم للآخرة. (غَيْرُ مَمْنُونٍ) غير مقطوع ، ولا يمنّ به عليهم ، من المنّ.

التفسير والبيان :

(حم ، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) هذه الحروف المقطعة للتنبيه على إعجاز القرآن وللدلالة على خطر ما يتلى بعدها ، هذا القرآن منزّل من الله تبارك وتعالى ذي الرحمة الواسعة لعباده ، فهو المنعم بعظائم النّعم ودقائقها ، إنه منزّل على عبده ونبيّه محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وتخصيص هذين الوصفين (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) بالذّكر هنا للدلالة على أن هذا القرآن هو البلسم الشافي للأمم والأفراد والجماعات ، وهو الرّحمة الكبرى للعالم ، كما قال تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء ٢١ / ١٠٧].

ونظير الآية قوله تعالى : (قُلْ : نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ) [النحل ١٦ / ١٠٢] ، وقوله سبحانه : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) [الشعراء ٢٦ / ١٩٢ ـ ١٩٥].

(كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) وهو كتاب بيّنت آياته بيانا شافيا ، وأوضحت معانيه ، وأحكمت أحكامه : (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ، ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) [هود ١١ / ١] ، وقد أنزلناه بلغة العرب ، ليسهل فهمه ، فمعانيه مفصّلة ، وألفاظه واضحة غير مشكلة ، وإنما يعرف هذا البيان والوضوح العلماء الراسخون الذين يعلمون أن القرآن منزل من عند الله ، ويعلمون معانيه ، لنزوله بلغتهم ، كما قال تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا ، لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [يوسف ١٢ / ٢] ، وقال سبحانه : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ ، لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) [إبراهيم ١٤ / ٤].

١٨٥

(بَشِيراً وَنَذِيراً ، فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ ، فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) أي إن هذا القرآن يبشّر المؤمنين أولياء الله بالجنة لاتّباعهم له وعملهم به ، وينذر الكافرين أعداء الله بالنار لمخالفتهم أحكامه ، وإصرارهم على التكذيب به حتى الموت ، ولكن أعرض أكثر الكفار المشركين عمّا اشتمل عليه من الإنذار ، وعن الإصغاء إليه ، فهم لا يسمعون آياته سماع تدبّر وانتفاع ، ولم يقبلوه ولم يطيعوا أحكامه ، لإعراضهم عنه ، بالرغم من بيانه ووضوحه.

ثم صرّحوا بأسباب ثلاثة لنفرتهم ومباعدتهم عنه ، كما حكى تعالى :

(وَقالُوا : قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ ، وَفِي آذانِنا وَقْرٌ ، وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ ، فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ) أي وقال أولئك المشركون : قلوبنا في أغطية ، فهي لا تفقه ما تقول ، ولا يصل إليها قولك ودعوتك إلى الإيمان بالله وحده ، وترك عبادة الآباء والأجداد ، وفي آذاننا صمم وثقل سمع يمنعها من استماع قولك ، ومن بيننا وبينك ساتر يستر عنا رؤيتك ، ويمنعنا من إجابتك.

وهذه تمثيلات ثلاثة منهم لنبو قلوبهم عن إدراك الحق ، ومجّ أسماعهم له ، وامتناع المواصلة بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قيل : إن أبا جهل استغشى على رأسه ثوبا وقال : يا محمد بيننا وبينك حجاب ، استهزاء منه.

فاعمل على دينك وطريقتك ، إننا عاملون على ديننا وطريقتنا ، لا نتابعك ، واعمل في هلاكنا وإبطال أمرنا ، فإنا عاملون في هلاكك وإبطال أمرك وفضّ الناس من حولك.

وأذكر هنا رواية أخرى لما ذكرت في فضل هذه السورة ، روي أن عتبة بن ربيعة ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليعظم عليه أمر مخالفته لقومه ، وليقبح عليه فيما بينه وبينه ، وليبعد ما جاء به ، فلما تكلّم عتبة ، قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حم ومرّ في صدرها حتى انتهى إلى قوله : (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ : أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ

١٨٦

صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) فأرعد الشيخ ، ووقف شعره ، فأمسك على فم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده ، وناشده بالرّحم أن يمسك وقال حين فارقه :

«والله لقد سمعت شيئا ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة ، ولقد ظننت أن صاعقة العذاب على رأسي».

وبعد أن ذكروا أسباب إبائهم الإيمان بالله وحده ، أجيبوا بأن محمدا مجرد بشر لا يقدر على جبرهم على الإيمان ، فقال تعالى :

(قُلْ : إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ، فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ) أي قل أيها الرسول مجيبا قومك المكذبين المشركين عن شبهتهم : ما أنا إلا بشر كواحد منكم لو لا الوحي ، وإني لا أقدر أن أحملكم على الإيمان جبرا وقهرا ، فإني بشر مثلكم ، لكني أبلغكم ما أوحي إليّ به ، وخلاصة ذلك الوحي أمران : العلم والعمل ، أما العلم فأساسه معرفة التوحيد ، لأن الحق هو أن الله واحد ، وليس معه شريك من الأصنام والأنداد والأرباب المتفرّقين ، وهو المراد بقوله : (أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) والحق يجب علينا أن نعترف به ، والعمل أساسه : الاستقامة والاستغفار والتوبة من الذنوب ، أي الطاعة وإخلاص العبادة ، وطلب العفو عن الذنوب السالفة ، ورأسها الشرك ، لذا أعقبه بتهديد المشركين ، فقال تعالى :

(وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ ، وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) أي الهلاك والدمار والخسارة للمشركين الذين أشركوا مع الله إلها آخر ، والذين تجرّدوا من حبّ الإنسانية والشفقة على خلق الله فلا يؤدون الزكاة ، ويمنعونها عن الفقراء ، ولا ينفقون في الطاعة ، وهم جاحدون الآخرة ، منكرون البعث والحساب والجزاء.

فالله تعالى أثبت الويل لمن اتّصف بصفات ثلاث :

١٨٧

أولها ـ أن يكون مشركا ، وهو ضدّ التوحيد.

وثانيها ـ كونه ممتنعا من أداء الزكاة ، وهو ضدّ الشفقة على خلق الله تعالى.

وثالثها ـ كونه منكرا للقيامة ، مستغرقا في طلب الدنيا ولذاتها.

وإنما ذكر الله تعالى هذه الأوصاف ، لأن الإيمان أساس العقيدة ، والشرك هدم لها ، ولأن الزكاة دليل الإيمان ، لأنها اقتطاع جزء من أحب الأشياء إلى النفس وهو المال قرين الروح ، لذا قيل : الزكاة قنطرة الإسلام ، فمن قطعها نجا ، ومن تخلّف عنها هلك. ومنع الزكاة قسوة على عباد الله ، وبذلها دليل على صدق النّية.

وأما الإيمان بالآخرة : فهو خلاصة الإيمان وهدفه وتقرير للمصير. وإنكار البعث والقيامة : تدمير لكل الأعمال في الدنيا ، وانصراف إليها وإعراض عن الآخرة.

وهذه الآية تهديد لمن يشرك بالله ، ويمنع الزكاة التي تطهّر النّفس من داء الشّح والبخل ، وينكر البعث والجزاء والحساب يوم القيامة وينصرف إلى الدنيا ولذاتها. ونحو الآية : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها ، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) [الشمس ٩١ / ٩ ـ ١٠].

ثم أعقب وعيد الكفار بوعد المؤمنين للجمع المألوف في القرآن بين الترهيب والتّرغيب ، فقال تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) أي إن الذين صدقوا بالله ورسوله ، وعملوا بما أمر الله به وانتهوا عما نهى عنه ، لهم عند ربّهم أجر وثواب غير مقطوع ولا ممنوع ، ولا يمنّ عليهم به ، لأن المنّة بالتّفضل ، وأما

١٨٨

الأجر فحقّ أداؤه ، كما قال تعالى : (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) [هود ١١ / ١٠٨] ، وقال سبحانه : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) [الانشقاق ٨٤ / ٢٥]. قال السّدّي : نزلت في الزّمنى والمرضى والهرمى إذا ضعفوا عن الطاعة ، كتب لهم من الأجر كأصحّ ما كانوا يعملون فيه.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ وصف الله تعالى القرآن في مطلع هذه السورة بصفات عشر : هي كونه تنزيلا ، وكون ذلك التنزيل من الرحمن الرحيم ، وكونه كتابا ، وفصّلت آياته ، وكونه قرآنا ، وكونه عربيا ، ولقوم يعلمون ليفهموا منه المراد ، وبشيرا ، ونذيرا ، وكونهم معرضين عنه لا يسمعون ولا يلتفتون إليه.

٢ ـ ذهب أكثر المتكلمين إلى أنه يجب على المكلّف تنزيل ألفاظ القرآن على المعاني التي هي موضوعة لها بحسب اللغة العربية ، وحملها على معان أخر بغير هذا الطريق باطل قطعا.

٣ ـ ليس في القرآن الكريم لفظ غير عربي ، وهذا ردّ على من قال : اشتمل القرآن على سائر اللغات ، مثل (إِسْتَبْرَقٍ) و (سِجِّيلٍ) من اللغة الفارسية ، و (كَمِشْكاةٍ) من لغة الحبشة ، و (بِالْقِسْطاسِ) من لغة الروم.

٤ ـ إن ألفاظ الإيمان والكفر والصلاة والزكاة والصوم والحج هي ألفاظ عربية لغوية ، لا شرعية ، وإنما خصصها الشرع ببعض أنواع مسمياتها ، فالإيمان مثلا خصصه الشرع بنوع معين من التصديق ، والصلاة خصصها الشرع بنوع معين من الدعاء ، وهكذا البواقي ، لقوله تعالى السابق : (قُرْآناً عَرَبِيًّا) وقوله المتقدم : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ).

١٨٩

٥ ـ إن وصف القرآن بكونه (عَرَبِيًّا) في معرض المدح والتعظيم دليل على أن لغة العرب أفضل اللغات.

٦ ـ دلّ قوله تعالى : (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) على أنه لا يجوز أن يحصل في القرآن شيء غير معلوم ، لأن المعنى : إنما جعلناه عربيا ليصير معلوما.

٧ ـ دلّ قوله تعالى : (فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) على أن الهادي من هداه الله ، وأن الضّال من أضلّه الله. وهذا بعد اختيار أصل الهداية وأصل الكفر والضّلال ، فليس المعنى : هو الجبر على الهداية أو الجبر على الضّلالة ، فإن المشركين أعرضوا عن القرآن بعد توافر موجبات ثلاثة للإيمان ، وهي : كون القرآن نازلا من عند الله الرّحمن الرّحيم ، وكونه عربيا ، وكونه بشيرا ونذيرا.

٨ ـ دلّت آية : (وَقالُوا : قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ ..) الآية على أن الكفار كانوا في غاية النّفرة والمباعدة عن القرآن باختيارهم وتصريحهم.

٩ ـ لا يختلف النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وغيره من الأنبياء عن سائر الناس إلا بإنزال الوحي عليهم ، فهم بشر عاديون كسائر البشر ، لكن اصطفاهم ربّهم للنّبوة والرسالة وتبليغ وحيه إلى الناس.

١٠ ـ إن مناط السعادة تعظيم أمر الله ، والشفقة على خلق الله ، ولقد أخلّ المشركون بالأمرين معا ، فكانوا أشقياء ، فهم لم يعظموا الله بتوحيده ، ولم يخلصوا العبادة والطاعة ، ولم يبادروا إلى الاستغفار من الشرك ، ولم يرحموا عباد الله بمنعهم الزكاة ، ولم ينفقوا في الطاعة ، ولم يستقيموا على أمر الله ، وأنكروا البعث والحشر والحساب والجزاء. وفيه دلالة على أن الكافر يعذب بكفره مع منع وجوب الزكاة عليه ، فإنه تعالى ألحق الوعيد الشديد له على أمرين : كونه مشركا ، وأنه لا يؤتي الزكاة ، فدلّ على أن لعدم إيتاء الزكاة من المشرك تأثيرا عظيما في زيادة الوعيد.

١٩٠

١١ ـ إن الذين آمنوا بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر ، وأدّوا الفرائض والطاعات ، واجتنبوا المنكرات والمحظورات ، لهم عند ربّهم أجر وثواب لا ينقطع أبدا.

دليل وجود الله تعالى وكمال قدرته وحكمته

(قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (٩) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (١٠) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (١١) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (١٢))

الإعراب :

(وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً) الواو : واو الحال من ضمير (خَلَقَ) وتقديره : قل : أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين مجعولا له أندادا.

(سَواءً لِلسَّائِلِينَ سَواءً) بالنصب على المصدر ، بمعنى (استواء) وتقديره : استوت استواء. وقرئ بالرفع (سواء) لأنه خبر لمبتدأ محذوف ، وتقديره : هي سواء ، وقرئ بالجر مجرورا على الوصف لأيام أو لأربعة والمشهور : النصب.

(طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) حال.

(قالَتا : أَتَيْنا طائِعِينَ) جمعها جمع العقلاء ، لأنه وصفها بالقول والطاعة ، مثل : (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً ، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ، رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) فقد وصفها بالسجود ، وهو من صفات العقلاء ، وجمعها جمع من يعقل.

١٩١

(فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ سَبْعَ سَماواتٍ) : في موضع نصب على البدل من هاء ونون (فَقَضاهُنَ).

البلاغة :

(أَإِنَّكُمْ) استفهام إنكاري ، ولام (لَتَكْفُرُونَ) لتأكيد الإنكار ، وتقديم الهمزة لصدارتها.

(فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ : ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) استعارة تمثيلية ، مثل تأثير قدرته في السموات والأرض بأمر السلطان أحد رعيته بتنفيذ شيء ، وامتثال الأمر بسرعة.

(طَوْعاً) و (كَرْهاً) بينهما طباق.

المفردات اللغوية :

(لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ) الكفر به : إلحادهم في ذاته وصفاته. (فِي يَوْمَيْنِ) في مقدار يومين أو بنوبتين ، وخلق في كل نوبة ما خلق في أسرع ما يكون. (أَنْداداً) شركاء ، جمع ندّ ، أي شريك. (ذلِكَ) الذي خلق الأرض في يومين. (رَبُّ الْعالَمِينَ) خالق جميع ما وجد من الممكنات ومالكها ومربّيها ، و (الْعالَمِينَ) : جمع عالم : وهو ما سوى الله ، وجمع لاختلاف أنواعه تغليبا للعقلاء.

(وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ) جبالا ثوابت ، وهو كلام مستأنف غير معطوف على (خَلَقَ) للفصل بما هو خارج عن صلة (بِالَّذِي). (مِنْ فَوْقِها) مرتفعة عليها. (وَبارَكَ فِيها) أكثر خيرها ، بأن خلق فيها أنواع النبات والحيوانات والمياه. (وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها) قسم فيها أقواتها للناس والبهائم. (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) في تمام أربعة أيام تمّ الجعل والتقدير ، أي في تتمة أربعة أيام باليومين المتقدمين.

(سَواءً لِلسَّائِلِينَ) أي استوت الأربعة استواء لا تزيد ولا تنقص ، أي إنها أربعة أيام كاملة لا زيادة فيها ولا نقصان ، و (لِلسَّائِلِينَ) متعلق بمحذوف تقديره : هذا الحصر للسائلين عن مدة خلق الأرض وما فيها ، أو متعلق بقدر أي قدر فيها الأقوات للطالبين لها.

(ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) قصد وعمد نحوها ، أي تعلقت إرادته بها. (وَهِيَ دُخانٌ) أي مادة غازية مظلمة ، تشبه الدخان في رأى العين. (ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) أي ائتيا في الوجود ، إذا كان الخلق السابق بمعنى التقدير ، أو اخضعا لمرادي منكما من التأثير والتأثر ، حال كونكما طائعتين أو مكرهتين. (قالَتا : أَتَيْنا طائِعِينَ) منقادين بالذات ، وفيه تغليب المذكر العاقل. قال البيضاوي : والأظهر أن المراد تصوير تأثير قدرته فيها ، وتأثرهما بالذات عنها ، وتمثيلهما بأمر المطاع ، وإجابة المطيع الطائع ، كقوله : (كُنْ فَيَكُونُ).

١٩٢

(فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) خلقهنّ خلقا إبداعيا وصيّرهنّ وأكملهنّ وفرغ منهنّ ، والضمير يرجع إلى السماء ، لأنها في معنى الجمع الآيلة إليه. (فِي يَوْمَيْنِ) فرغ منها في تمام يومين ، وهذا موافق لآيات خلق السموات والأرض في ستة أيام.

(وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) شأنها وما يتأتى منها من الطاعة والعبادة. (بِمَصابِيحَ) نجوم. (وَحِفْظاً) منصوب بفعل مقدر ، أي حفظناها حفظا من استراق الشياطين السمع ، بالشّهب ، أو من الآفات. (ذلِكَ) الخلق. (تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) تقدير البالغ التمام في القدرة والعلم ، فهو القوي القادر في ملكه ، العليم بخلقه.

المناسبة :

بعد أن أمر الله تعالى بتوحيده في الألوهية والربوبية ، أردفه بما يدلّ على وجوده : وهو الخلق والتقدير للسموات والأرض في مدة قليلة ، وفي ذلك أيضا ما يدلّ على كمال قدرته وحكمته ، فمن كانت هذه صفته ، فكيف يسوغ جعل الأصنام والأوثان شركاء له في الألوهية والعبودية ، وهي عاجزة عن الخلق والتقدير؟!

التفسير والبيان :

(قُلْ : أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ، وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً؟ ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ) قل أيها الرسول لقومك المشركين توبيخا وتقريعا : كيف تكفرون بالله الذي خلق الأرض في مقدار يومين ، قيل : هما يوم الأحد ويوم الاثنين ، أو في نوبتين نوبة جعلها جامدة بعد أن كانت كرة غازية ، ونوبة جعلها طبقات بذخائرها المائية والمعدنية.

وتجعلون له أمثالا وأضدادا مساوين له في القدرة من الملائكة والجنّ والأصنام والأوثان ، فذلك المتصف بالخلق والإبداع هو ربّ العالمين كلهم ، أي مربّي الإنس والجنّ ومالكهم وخالقهم ومدبّرهم ، فكيف تجعلون بعض مخلوقاته شركاء له في عبادته؟! ومن قدر على خلق هذه الأشياء العظيمة كيف يعقل الكفر به؟!

١٩٣

إنه تعالى خلق الأرض في يومين ، وتمّم بقية مصالحها في يومين آخرين ، وخلق السموات بأسرها في يومين آخرين. والمراد باليوم : الوقت مطلقا ، لا اليوم المعروف ، لأنه لم يكن هذا النظام قد وجد بعد.

والخلاصة : إن الآية إنكار من الله تعالى على المشركين الذين عبدوا معه غيره ، وهو الخالق لكل شيء ، القاهر لكل شيء ، المقتدر على كل شيء.

ثم أتمّ تعالى ما يقتضيه حسن العيش في الأرض بإيجاد ثلاثة أنواع فيها ، فقال :

١ ـ (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها) أي جعل في الأرض جبالا ثوابت مرتفعة عليها ، فهي التي تحفظ الأرض من الاضطراب ، وتخزن المياه والمعادن ، وترشد إلى الطرق ، وتحفظ الهواء والسحاب ، وهذا كقوله تعالى : (وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ) [المرسلات ٧٧ / ٢٧].

٢ ـ (وَبارَكَ فِيها) أي جعل الأرض مباركة كثيرة الخير ، بما خلق فيها من منافع العباد ، إذ جعل تربتها مصدرا للخير والرزق بإنبات النباتات المختلفة فيها ، وإيداعها الثروة المعدنية والنفطية والمائية.

٣ ـ (وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها) أي قدّر فيها أرزاق أهلها ، وما يصلح لمعاشهم من الأشجار والمنافع ، وجعل في أقطارها ما يناسب سكانها من أطعمة ونباتات ، وأوجد في كل أرض ما لا يصلح في غيرها.

(فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ) أي إنه تعالى أتمّ معايش أهل الأرض في تتمة أيام أربعة باليومين المتقدّمين. وإنما ذكر هذه الأيام الأربعة للدلالة على أنها كانت مستغرقة بالأعمال من غير زيادة ولا نقصان ، وذلك في يومي الثلاثاء والأربعاء ، فهما مع اليومين السابقين أربعة.

١٩٤

فإتمام حوائج الأرض ومتطلباتها في أيام أربعة كاملة لأجل السائلين ، أي الطالبين للأقوات المحتاجين إليها ، أو جوابا على سؤال السائلين القائلين بطبيعتهم : في كم خلقت الأرض وما فيها؟ وإنما قال : (سَواءً) للدلالة على أن تلك الأيام الأربعة كانت متساوية غير مختلفة. وتخصيص الأرض بالأنواع الثلاثة : الرواسي والبركة وتقدير الأقوات إشارة إلى الاعتناء بأمر المخاطبين ، فكان الأجدر بهم ألا يحصل منهم كفر أو شرك.

ثم ذكر الله تعالى خلق السماء ، فقال :

(ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ ، وَهِيَ دُخانٌ ، فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ : ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ، قالَتا : أَتَيْنا طائِعِينَ) أي ثم عمد وقصد وتوجه توجّها كاملا إلى السماء حسبما تقتضي الحكمة ، وهي كتلة غازية مظلمة تشبه الدخان أو السحاب أو السديم (وهو عالم السديم في اصطلاح العلماء) فأمر بأن تكون بشمسها وقمرها ونجومها ، كما أمر بتكوين ما في الأرض من أنهار وثمار ونبات ، فتمّ خلقهما ، وأتت السماء والأرض منقادتين خاضعتين للأمر الإلهي طائعين أو مكرهين. وهذا هو المراد بقوله تعالى لتلك العوالم السماوية والأرضية : ائتيا طائعتين أو كارهتين ، فأجابتا بقولهما : أتينا طائعين. قيل : إن خلق السموات وما فيها تمّ في يوم الخميس والجمعة. وفائدة قوله تعالى : (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ..) إظهار كمال القدرة والتقدير.

قال ابن عباس في تفسير هذه الآية : (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ..) : قال الله تبارك وتعالى للسموات : أطلعي شمسي وقمري ونجومي ، وقال للأرض : شققي أنهارك ، وأخرجي ثمارك ، قالتا : أتينا طائعين.

وبه يتبين أن قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ ، فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ..) هو كناية عن إيجاد السماء والأرض. وإنما

١٩٥

خصص الاستواء بالسماء دون الأرض مع توجهه توجها كاملا لخلقهما هو رعاية السماء في مقابل تقدير الأرض.

والتوفيق بين هذه الآية : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ ..) وآية (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) [النازعات ٧٩ / ٣٠] ، المشعر بأن خلق الأرض حصل بعد خلق السماء : هو أن يقال ـ كما ذكر الرازي ـ : إنه تعالى خلق الأرض في يومين أولا ، ثم خلق بعدها السماء ، ثم بعد خلق السماء دحا الأرض أي بسطها ، فيزول التناقض (١). ثم ناقش الرازي هذا الجواب واستشكله من وجوه.

وقال أبو حيان : والمختار عندي أن يقال : خلق السماء مقدم على خلق الأرض ، وتأويل الآية أن الخلق ليس عبارة عن التكوين والإيجاد ، بل الخلق عبارة عن التقدير ، وهو في حقّه تعالى حكمه أن سيوجد ، وقضاؤه بأن سيحدث كذا في مدة كذا : لا يقتضي حدوثه في ذلك الحال ، فلا يلزم تقديم إحداث الأرض على إحداث السماء (٢).

والمقصود بهذا أن المراد من خلق الأرض ، وجعل الرواسي فيها ، والمباركة فيها ، وتقدير أقواتها فيها هو التقدير ، أي قدر خلق الأرض والسماء ، ويكون الإتيان طوعا أو كرها بيانا لكيفية التكوين إثر بيان كيفية التقدير. وعلى كل حال يمكن فهم قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) بأن الترتيب في الذكر فحسب ، لا الترتيب في الواقع ، فإن خلق السماء كان في رأي أبي حيان قبل خلق الأرض.

والسبب في ذكر السماء مع الأرض وأمرهما بالإتيان ، والأرض مخلوقة قبل السماء بيومين : هو أن الله قد خلق جرم الأرض أولا غير مدحوة أي غير

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٧ / ١٠٤ ـ ١٠٥

(٢) تفسير البحر المحيط : ٧ / ٤٨٧ ـ ٤٨٨

١٩٦

منبسطة ، ثم دحاها بعد خلق السماء ، كما قال : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) [النازعات ٧٩ / ٣٠] ، والمعنى : ائتيا على ما ينبغي أن تأتيا عليه من الشكل والوصف ، ائت يا أرض مدحوة قرارا ومهادا لأهلك ، وائت يا سماء مقببة سقفا لهم ، ومعنى الإتيان : الحصول والوقوع.

ودحو الأرض وبسطها إنما هو بالنسبة لنظر الناظر وموقع الإنسان الذي يعيش عليها ، والحقيقة أن الأرض كرة منذ أول حدوثها.

وإتيان الأرض طائعة يدلّ على حركتها المستمرة الطائعة على وفق قانون الجاذبية الأرضية ، فهي مجذوبة إلى الشمس التي هي أصلها بحركة دورية دائمة طوعا لا قسرا ، وإتيان الأرض والسماء دليل على حركتهما ، فالأرض تدور حول نفسها وحول الشمس ، والشمس تدور حول نفسها وحول شموس أخرى أكبر منها.

وبعد أن ذكر الله تعالى تمام خلق الأرض ، ذكر كيفية تكوين السموات السبع وبيان نظامها ، فقال : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ ، وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) أي فأتمّ خلق السموات السبع وأحكمهنّ وفرغ منهن في مقدار يومين أو نوبتين سوى الأيام الأربعة التي خلق فيها الأرض ، فأصبح خلق السموات والأرض في أيام ستة كما قال تعالى : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ)(١). قال مجاهد : ويوم من الأيام الستّة كألف سنة مما تعدّون.

وأوحى في كل سماء أمرها ، أي جعل فيها النظام الذي تجري عليه الأمور فيها ، قال قتادة: أي خلق فيها شمسها وقمرها ونجومها وأفلاكها (مداراتها) وما فيها من الملائكة والبحار والبرد والثلوج.

__________________

(١) [الأعراف : ٥٤ ، يونس : ٣ ، هود : ٧ ، الفرقان : ٥٩ ، السجدة : ٤ ، ق : ٣٨ ، الحديد : ٤].

١٩٧

(وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ، ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) أي وزيّنّا سماء الدنيا بكواكب منيرة مضيئة مشرقة على أهل الأرض ، متلألئة عليها كتلألئ المصابيح ، وخلقنا المصابيح زينة وحفظا من الشياطين الذين يسترقون السمع ، وحفظناها من الاضطراب في سيرها ، ومن اصطدام بعضها ببعض ، فهي تسير في نظام محكم وعلى منهج ثابت.

ذلك النظام البديع هو من ترتيب الله القادر على صنع كل شيء ، والذي يعلم كل شيء ، فهو القوي القاهر الذي غلب كل شيء وقهره ، وهو العليم بمصالح العباد وبحركاتهم وسكناتهم.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلّت الآيات على ما يأتي :

١ ـ أمر الله تعالى بتوبيخ الكفار المشركين والتّعجب من فعلهم وكفرهم بالله الذي هو خالق السموات والأرض ، واتّخاذهم الأضداد والشركاء من الأصنام وغيرها معبودات مع الله الذي خلقها وخلق جميع العوالم من الملائكة والإنس والجن وغيرهم ، وخلق الأرض في يومي الأحد والاثنين.

٢ ـ إن الخلق والتكوين والإبداع هو دليل قاطع على وجود الله وكمال قدرته وحكمته وعلمه الشامل.

٣ ـ والله تعالى أيضا هو الذي جعل في الأرض جبالا ثوابت مرتفعة عليها ، وبارك فيها بما خلق فيها من المنافع ، وقدّر أرزاق أهلها ومصالحهم ، وذلك في يومي الثلاثاء والأربعاء ، فذلك تمام الأيام الأربعة مع اليومين المتقدمين في خلق الأرض ، وهي أيام أربعة مستوية لا زيادة فيها ولا نقصان ، للسائلين وغير السائلين ، أي خلق الأرض وما فيها لمن سأل ولمن لم يسأل ، ويعطي من سأل ومن لا يسأل.

١٩٨

٤ ـ ثم عمد تعالى إلى السموات وهي في حالة دخان أي كتلة غازية مظلمة ، فنقلها من صفة الدخان إلى حال الكثافة ، وتمّ الأمر الإلهي للأرض والسماء بأن يجيئا بما خلق فيهما من المنافع والمصالح والخروج للخلق ، فاستجابتا للأمر وانقادتا له.

٥ ـ أكمل الله تعالى خلق السموات السبع وفرغ منهن في مقدار يومين هما يوما الخميس والجمعة ، سوى الأيام الأربعة التي خلق فيها الأرض ، فصار خلق السموات والأرض في أيام ستة ، كما قال تعالى (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ).

٦ ـ لم يكن خلق السموات خاليا من النظام ، وإنما نظم تعالى أمرها ، فخلق فيها شمسها وقمرها ونجومها وأفلاكها ، وأوجد في كل سماء ملائكة ، وأودع فيها خزائن المطر ، وجعل لها نظاما بديعا تسير عليه دون توقّف ولا تعثّر ولا تصادم مع غيرها ، وجعل الكواكب مختصة بالسماء الدنيا ، وحفظها من كل اضطراب ومن الشياطين الذين يسترقون السمع.

٧ ـ ظاهر هذه الآية يدلّ على أن الأرض خلقت قبل السماء ، وقال تعالى في آية أخرى: (أَمِ السَّماءُ بَناها ، رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها ، وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) [النازعات ٧٩ / ٢٧ ـ ٣٠] ، وهذا يدلّ على خلق السماء أولا.

فقال ابن عباس : خلقت الأرض قبل السماء ، فأما قوله : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) فالدّحو غير الخلق ، فالله خلق الأرض ، ثم خلق السموات ، ثم دحا الأرض ، أي مدّها وبسطها. وأيّده ابن كثير قائلا : ففصل ها هنا في هذه الآيات ما يختص بالأرض مما اختص بالسماء ، فذكر أنه خلق الأرض أولا ، لأنها كالأساس ، والأصل أن يبدأ بالأساس ، ثم بعده بالسقف ، كما قال عزوجل : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ، ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ ، فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ

١٩٩

سَماواتٍ) [البقرة ٢ / ٢٩]. وأما آية دحو الأرض فكان بعد خلق السماء ، وأما خلق الأرض فقبل خلق السماء بالنّص ، كما ذكر ابن عباس رضي‌الله‌عنه (١). وهذا مفاد كلام الرازي المتقدم.

وقال مقاتل : خلق الله السموات قبل الأرض ، وتأويل قوله : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) : ثم كان قد استوى إلى السماء وهي دخان ، وقال لها قبل أن يخلق الأرض ، فأضمر فيه (كان) كما قال تعالى : (قالُوا : إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) [يوسف ١٢ / ٧٧] ، معناه : إن يكن سرق. وردّ عليه الرّازي بأن كلمة (ثم) تقتضي التأخير (٢).

تهديد المشركين بمثل صاعقة عاد وثمود

(فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (١٣) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (١٤) فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (١٥) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (١٦) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٧) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (١٨))

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٤ / ٩٢

(٢) تفسير الرازي : ٢٧ / ١٠٥

٢٠٠