التفسير المنير - ج ٢٤

الدكتور وهبة الزحيلي

البلاغة :

(بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) بينهما طباق.

(السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) صيغة مبالغة.

المفردات اللغوية :

(إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا) بالحجة والظفر على الكفرة. (وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) هو يوم القيامة ، و (الْأَشْهادُ) جمع شاهد ، مثل أصحاب وصاحب ، وهم الذين يشهدون للرسل بالبلاغ وعلى الكفار بالتكذيب ، وهم الملائكة والأنبياء والمؤمنون ، فيكون نصر الرسل في الدارين.

(مَعْذِرَتُهُمْ) عذرهم ، وعدم نفع العذر ، لأنه باطل ، أو لأنه لا يؤذن للظالمين فيعتذرون. (اللَّعْنَةُ) الطرد والبعد من الرحمة. (وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) أي الدار الآخرة ، وهو شدة عذابها في جهنم.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى) ما يهتدى به في الدين من التوراة المشتملة على الشرائع والمعجزات المثبتة للصدق. (وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ) أي تركنا التوراة من بعد موسى لهم. (هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) هداية وتذكرة لأصحاب العقول ، أو هاديا ومذكرا.

(فَاصْبِرْ) يا محمد على أذى المشركين. (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) بالنصر ، لا يخلفه أبدا.

(وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) أمر له بالاستغفار للاستنان والتأسي به ، أو المعنى أقبل على أمر دينك ، وتدارك زلاتك ، كترك الأولى ، فإنه تعالى كافيك في النصر وإظهار الأمر. (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) نزه الله مع حمده وشكره ، أي دم على التسبيح والتحميد لربك. (بِالْعَشِيِ) في المساء (وَالْإِبْكارِ) في الصباح ، وقيل : إن هذا الأمر بالصلاة في هذين الوقتين ، لأن الواجب كان بمكة ركعتين بكرة ، وركعتين عشيا. وفسره آخرون بأن ذلك يشمل الصلوات الخمس ، لأن الإبكار : صلاة الفجر ، والعشي وهو ما بعد الزوال ويشمل الصلوات الأربع الباقية.

(فِي آياتِ اللهِ) القرآن. (بِغَيْرِ سُلْطانٍ) بغير حجة وبرهان. (كِبْرٌ) تكبر عن الحق ، وطمع في الاستعلاء عليك ، وتعظم عن التفكر والتعلم. (ما هُمْ بِبالِغِيهِ) ببالغي دفع الآيات أو ببالغي مرادهم. (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) فالتجئ إليه من شرهم. (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) لأقوالهم. (الْبَصِيرُ) بأحوالهم وأفعالهم. قال السيوطي : ونزل ذلك في منكري البعث.

١٤١

سبب النزول :

نزول الآية (٥٦):

(إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ) : أخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية قال : جاءت اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فذكروا الدجال ، فقالوا : يكون منا في آخر الزمان ، فعظّموا أمره ، وقالوا : يصنع كذا ويملكون به الأرض ، فأنزل الله : (إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ ، إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ، ما هُمْ بِبالِغِيهِ ، فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) فأمر نبيه أن يتعوذ من فتنة الدجال.

ومع أن الآية نزلت في مشركي مكة منكري البعث أو في اليهود كما تبين ، فهي عامة في كل مجادل مبطل. لكن قال ابن كثير عما ذكره أبو العالية : وهذا قول غريب ، وفيه تعسف بعيد ، وإن كان قد رواه ابن أبي حاتم. والأصح أن الآية نزلت في المشركين والكفار عامة.

التفسير والبيان :

(إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) أي إننا لنؤيد رسلنا والمؤمنين ، بأن نجعلهم الغالبين لأعدائهم ، القاهرين لهم ، في الدنيا ، وفي الآخرة حين يقوم الأشهاد من الملائكة والأنبياء والمؤمنين ، بأن يشهدوا للرسل بإبلاغ رسالاتهم ، وعلى الأمم بتكذيبهم.

والنصر في الدنيا إما معنوي وإما حسي ، فالمعنوي : كالنصر بالحجة والبرهان ، أو بالمدح والتعظيم ، أو بإعلاء الجاه وعزة السلطان ، وانتشار الدين ، كنصر داود وسليمان على من كذبوهم ، ونصر محمد صلى الله عليه وآله وسلم على من كذبه من قومه ، وجعل الدولة والسلطة له في الجزيرة العربية. والنصر الحسي يكون بالقهر والانتقام من المكذبين كإغراق قوم نوح وآل فرعون ، وقتل زعماء قريش في بدر

١٤٢

وأسر بعضهم ، وسلب أموالهم ، وقد يكون الانتقام بعد الموت ، كنصر أشعياء بعد هلاكه بتسليط الظلمة على أعدائه ، ونصر يحيى بن زكريا لما قتل ، قتل به سبعون ألفا.

والنصر في الآخرة : بإعلاء الدرجات في مراتب الثواب ، والتكريم بالكرامات في الجنة ، وصحبة الأنبياء ، كما قال تعالى : (فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ ، وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) [النساء ٤ / ٦٩] ومجازاة أهل الإيمان بأعمالهم ، ومجازاة الكفار بأعمالهم ، باللعن ودخول النار ، كما في الآية التالية :

(يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ، وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) أي حين يقوم الأشهاد يوم القيامة ، ذلك اليوم الذي لا يقبل من المشركين اعتذارهم ولا تقديم فدية منهم ، لأن معذرتهم باطلة ، وشبهتهم زائفة ، ولهم الطرد والبعد من الرحمة ، ولهم سوء الدار وشر ما في الآخرة وهو النار ، والعذاب الأليم فيها.

وبعد بيان نصر الأنبياء في الدنيا والآخرة ، ذكر تعالى بعض مظاهر النصر في الدنيا ، فقال:

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى ، وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ ، هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) أي تالله لقد أعطينا موسى التوراة والنبوة ، فاشتملت التوراة على الأحكام والشرائع الهادية لقومه ، وتأيدت نبوته بالمعجزات الظاهرة كاليد والعصا ، ثم أبقينا التوراة بعد موسى عليه‌السلام مع بني إسرائيل ، يتوارثها الخلف عن السلف ، هداية لهم وتذكرة لذوي العقول الصحيحة السليمة ، أو هاديا ومذكرا لأهل العقول ، كما قال تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ ، يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ) [المائدة ٥ / ٤٤].

وإذا كان النصر مقررا للرسل والأنبياء ، فما عليهم إلا الصبر ، لذا أمر الله به نبيه قائلا :

١٤٣

(فَاصْبِرْ ، إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ ، وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ، وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) أي إذا كان الأمر كذلك وهو تقرير النصر للرسل وأتباعهم ، فاصبر أيها الرسول على أذى المشركين ، كما صبر من قبلك من الرسل ، فإن عاقبة الصبر خير ، فالله ناصرك وعاصمك من الناس ، ووعد الله بالنصر وغيره حق ثابت لا يخلفه أبدا ، وداوم على الاستغفار لذنبك كترك الأولى ، أو لزيادة الثواب ، أو لإرشاد المؤمنين والتأسي بك ، فإن الله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، ودم على تنزيه الله مقرونا بحمده في أواخر النهار وأوائل الليل ، وقيل : المراد : صل في الوقتين : صلاة العصر وصلاة الفجر ، أو صل الصلوات الخمس ، كما قال تعالى : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) [هود ١١ / ١١٤].

وهذا دليل على ضرورة الصبر والاستغفار من الأمة ، وإنما خوطب به النبي صلى الله عليه وآله وسلم للإرشاد والتعليم ، وهو دليل أيضا على ملازمة التسبيح والتحميد أو أداء الصلوات المفروضة. ويلاحظ أنه تعالى قدم التوبة والمغفرة على العمل ، فإنه لا يقبل العمل إلا بعد التوبة الخالصة ، والتوبة قد تكون من خلاف الأولى الذي هو ذنب إذا قيس مع درجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا يعد شيئا في حق غيره.

ثم عاد البيان إلى توضيح سبب مجادلة المشركين في آيات الله ، فقال تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ ، إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ) أي إن الذين يناقشون ويجادلون في آي القرآن ، ويدفعون الحق بالباطل ، بغير برهان ولا حجة أتتهم من الله ، ما في قلوبهم إلا تكبر وتعاظم عن قبول الحق والتفكر فيه ، وطمع أن يغلبوا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم وتكون لهم الرياسة والنبوة بعده ، ولكن ما هم ببالغي ذلك ، ولا بحاصل لهم ، ولا محققي المراد ، بل إن راية الحق ستظل مرفوعة ، وقول المبطلين وفعلهم موضوع ذليل. والمعنى بإيجاز : إن سبب تكذيب المشركين هو ما تنطوي عليه نفوسهم من الكبر والحسد ، وما هم بمحققي الآمال ولا بالغي المراد.

١٤٤

(فَاسْتَعِذْ بِاللهِ ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) أي إن طريق العصمة من باطل هؤلاء المجادلين المستكبرين هو الاستعاذة بالله من شرهم ، واللجوء إليه والاستعانة به لدفع كيدهم ، فهو السميع لأقوالهم ، البصير بأفعالهم ، لا تخفى عليه خافية ، وهو لهم بالمرصاد ، وسيقهرون عما قريب.

فقه الحياة أو الأحكام :

يؤخذ من الآيات ما يأتي :

١ ـ إن الله تكفل بنصر عباده المرسلين وأوليائه المؤمنين في الدنيا والآخرة ، قال السّدّي : ما قتل قوم قط نبيا أو قوما من دعاة الحق من المؤمنين إلا بعث الله عزوجل من ينتقم لهم ، فصاروا منصورين فيها ، وإن قتلوا.

٢ ـ قال مجاهد والسدي : تشهد الملائكة للأنبياء بالإبلاغ ، وعلى الأمم بالتكذيب ، وقال قتادة : الملائكة والأنبياء.

٣ ـ إن الإكرام العظيم والتشريف الكامل عند حضور الجمع العظيم من أهل المشرق والمغرب يكون أتم وأبهج وأمتع.

٤ ـ قد يكون النصر والتكريم بسبب الدفاع عن المسلم ، جاء في الحديث الثابت الذي رواه البيهقي عن أبي الدرداء ، يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : «من ردّ عن عرض أخيه المسلم ، كان حقا على الله عزوجل أن يردّ عنه نار جهنم ، ثم تلا : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا) وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال فيما رواه أحمد وأبو داود عن معاذ بن أنس : «من حمى مؤمنا من منافق يغتابه ، بعث الله عزوجل يوم القيامة ملكا يحميه من النار ، ومن ذكر مسلما بشيء يشينه به ، وقفه الله عزوجل على جسر من جهنم حتى يخرج مما قال».

٥ ـ من أنواع نصر الرسل في الدنيا والآخرة : إيتاء موسى عليه‌السلام

١٤٥

التوراة والنبوة ، وسميت التوراة (هُدىً) بما فيها من الهدى والنور. ثم جعل الله التوراة ميراثا لبني إسرائيل ، وموعظة لأصحاب العقول.

٦ ـ أمر الله نبيه بأمور ثلاثة : الصبر على أذى المشركين ، والاستغفار للذنب الصغير أو ما هو خلاف الأولى ، أو ما صدر منه قبل النبوة أو محض التعبد ، والتسبيح المقرون بالتحميد بالشكر له والثناء عليه ، أو المواظبة على صلاة الفجر وصلاة العصر ، قيل : هي صلاة كانت بمكة قبل أن تفرض الصلوات الخمس : ركعتان غدوة وركعتان عشية. وبعد نسخ ذلك لا بد من المواظبة على الصلوات الخمس. والأصح حمل الاستغفار على التوبة عن ترك الأولى والأفضل ، أو على ما كان قد صدر عنه قبل النبوة.

٧ ـ إن مجادلة المشركين في آيات الله هي بغير حجة عقلية أو نقلية ، ودافعهم إليها الكبر عن اتباع الحق ، وقصدهم إبطال آيات الله ، وإثارة الشبهات حولها ، ولكن لن يحقق الله آمالهم. وما على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأتباعه إلا الاستعاذة بالله من شر الكفار ، والاعتصام به ، والاستعانة بعزته وقدرته.

من دلائل وجود الله وقدرته وحكمته

(لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (٥٨) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (٥٩) وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ

١٤٦

داخِرِينَ (٦٠) اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٦١) ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٦٢) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٦٣) اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٦٤) هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٥))

الإعراب :

(لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) مبتدأ أو خبر.

(قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ قَلِيلاً) : صفة مصدر محذوف ، تقديره : تذكرا قليلا تتذكرون ، و (ما) : زائدة ، والمعنى : لا تذكّر لهم ، لأنه قد يطلق لفظ القلة ، ويراد بها النفي ، كقولك : قلما تأتيني ، وتريد : ما تأتيني.

(إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ) اسم إن وخبرها ، واللام لام المزحلقة.

البلاغة :

(الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) بينهما طباق ، وكذا بين (اللَّيْلَ) و (النَّهارَ).

(وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) استعارة ، استعار الأعمى للكافر ، والبصير للمؤمن.

(إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ) تأكيد بإن واللام.

(وَالنَّهارَ مُبْصِراً) مجاز عقلي ، من إسناد الشيء إلى زمانه ، وهو إسناد الإبصار إلى وقته.

(صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) جناس ناقصلى الله عليه وآله وسلم.

١٤٧

(لا يَعْلَمُونَ تَتَذَكَّرُونَ يُؤْمِنُونَ لا يَشْكُرُونَ تُؤْفَكُونَ يَجْحَدُونَ) سجع وتوافق الفواصل في الحرف الأخير.

المفردات اللغوية :

(لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) أي إن خلقها مع عظمها أولا في ابتداء خلق الكون من غير أصل : أكبر وأعظم من خلق الناس مرة ثانية في حال الإعادة للبعث ، فالقادر على الأكبر قادر على الأصغر. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) لأنهم لا ينظرون ولا يتأملون لفرط غفلتهم واتباعهم أهواءهم. (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) الغافل والمستبصر. (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ) أي ولا يستوي المحسن والمسيء ، و (لَا) زائدة في قوله : (وَلَا الْمُسِيءُ) وزيادتها ، لأن المقصود نفي مساواة المسيء للمحسن فيما له من الفضل والكرامة. (قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ) تتعظون أيها الناس ، والمراد أن تذكرهم قليل جدا في حكم المعدوم ، فكأنه لا تذكر لهم. وقراءة (ما تَتَذَكَّرُونَ) بالتاء لتغليب المخاطب أو الالتفات ، وقرئ بالياء : «يتذكرون».

(لا رَيْبَ فِيها) لا شك في مجيئها ، لوضوح الدلالة على حدوثها وإمكانها. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) لا يصدّقون بها لقصور نظرهم على ظاهر المحسوسات التي يحسون بها. (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) ادعوني أثبكم ، بقرينة ما بعده : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) صاغرين أذلاء ، ويصح أن يراد بقوله : (ادْعُونِي) الدعاء والسؤال ، ويكون المراد بقوله (عِبادَتِي) الدعاء.

(لِتَسْكُنُوا فِيهِ) ، لتستريحوا فيه ، بأن خلق الليل باردا مظلما ليؤدي إلى ضعف الحركات ، وهدوء الحواس. (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) يبصر فيه أو به ، وإسناد الإبصار إليه مجاز. (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) لا يوازيه فضل. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) ، الله ، فلا يؤمنون ، لجهلهم بالمنعم ، وتكرار الناس لتخصيص الكفر بهم.

(ذلِكُمُ) المخصوص بالأفعال المقتضية للألوهية والربوبية. (اللهُ رَبُّكُمْ ، خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أخبار مترادفة يخصص اللاحق منها السابق ويقرره. (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) فكيف تصرفون عن عبادة الله والإيمان به إلى عبادة غيره. (كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) أي مثل إفك هؤلاء وانصرافهم إلى عبادة الأصنام يؤفك ويصرف كل من جحد بآيات الله ومعجزاته ولم يتأملها.

(قَراراً) مستقرا. (وَالسَّماءَ بِناءً) أي سقفا قائما ثابتا مثل القبة في أبنية العرب. (وَصَوَّرَكُمْ) خلقكم في تناسب واستعداد لمزاولة أعمال الحياة. (الطَّيِّباتِ) اللذائذ. (فَتَبارَكَ اللهُ) تقدس وتنزه. (هُوَ الْحَيُ) المنفرد بالحياة الذاتية غير المستمدة من آخر. (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ)

١٤٨

أي هو الواحد ، إذ لا موجود يساويه أو يدانيه في ذاته وصفاته. (فَادْعُوهُ) فاعبدوه. (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) مخلصين له الطاعة ، الخالية من الشرك والرياء.

المناسبة :

بعد الرد على المجادلين في آيات الله بتعريفهم أن جدلهم بغير سلطان ولا حجة ، وكان من جدلهم إنكار البعث ، ذكر الله تعالى في هذه الآيات وما يليها عشرة أدلة على وجود الله وقدرته وحكمته ، للدلالة على إمكان يوم القيامة ووجوده بالفعل ، منها هنا خلق السموات والأرض ، وتعاقب الليل والنهار ، وجعل الأرض قرارا والسماء بناء ، وخلق الإنسان في أحسن صورة ، ورزقه من الطيبات ، واتصافه تعالى بالحياة الذاتية والوحدانية ، وكان يردف بعض هذه الأدلة بالأمر بعبادة الله وطاعته ، والإخلاص فيها.

التفسير والبيان :

١ ـ (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أي إن خلق السموات والأرض وما فيهما من عوالم وأفلاك وكواكب وذخائر أكبر وأعظم من خلق نفوس الناس بدءا وإعادة ، فمن قدر على ذلك ، فهو قادر على ما دونه ، بطريق الأولى والأحرى ، عملا بمقاييس الناس وتقديراتهم ، وإلا فالبدء والإعادة سواء على الله تعالى ، فكيف ينكرون البعث؟ كما قال سبحانه : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) [يس ٣٦ / ٨١] وقال سبحانه : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ، وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ ، بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى ، بَلى ، إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الأحقاف ٤٦ / ٣٣].

ولكن أكثر الناس لا يعلمون بعظيم قدرة الله ، ولا يتفكرون ولا يتأملون بهذه الحجة الدامغة. وهذا أول دليل على قدرة الله تعالى.

١٤٩

ثم ذكر الله تعالى مثلا للغافل والمجادل بالباطل ، وشبهه بالأعمى ، ومثلا للمتأمل المفكر المجادل بالحجة والبرهان ، وشبهه بالبصير ، لاستبصاره ، فقال :

(وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) أي لا يتساوى الذي يجادل بالباطل ، والذي يجادل بالحق ، ولا يتساوى الكافر الذي لا يتأمل حجج الله وبيناته فيتدبرها ، والمؤمن الذي يتفكر فيها ويتعظ بها ، فالأول شبيه بالأعمى الذي تعطلت عنده حاسة البصر ، والثاني شبيه بالبصير الذي تفتحت عيناه ، فتأمل في الكون واتعظ ، وهذا تشبيه بالمحسوسات ، وبينهما فرق عظيم.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، وَلَا الْمُسِيءُ ، قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ) أي وكذلك لا يستوي المحسن بالإيمان والعمل الصالح ، والمسيء بالكفر وارتكاب المعاصي ، فما أقل ما يتذكر كثير من الناس ويتعظ بهذه الأمثال ، ويدرك الفرق الواضح بين المؤمنين الأبرار المطيعين لربهم ، وبين الكفرة الفجار المخالفين أمر ربهم.

وبعد تقرير الدليل الدال على إمكان وجود القيامة ، أردفه بالإخبار عن وقوعها حتما ، فقال تعالى :

(إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) أي إن يوم القيامة آت لا ريب في مجيئه ووقوعه وحصوله ، فآمنوا بذلك إيمانا قاطعا لا شك فيه ، ولكن أكثر الناس وهم الكفار لا يصدقون بالبعث ، بل يكذبون بوجوده ، لقصور أفهامهم ، وضعف عقولهم عن إدراك الحجة.

ولما أثبت الله تعالى أن القيامة حق وصدق ، أوضح طريق النجاة فيها وهو طاعة الله تعالى ، فقال :

(وَقالَ رَبُّكُمُ : ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ، إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي

١٥٠

سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) أي وأخبر الله أنه إن دعاه العبد وعبده بحق ، استجاب له ، فإن «الدعاء مخ العبادة» كما في الحديث الآتي تخريجه ، فالدعاء في نفسه عبادة ، والدعاء : هو السؤال بجلب النفع ودفع الضر. ودعاء غير الله لا يفيد شيئا ، فإن القادر على إجابة الدعاء هو الله ، والله سبحانه هو الذي أمر عباده بدعائه ، ووعدهم بالإجابة ، ووعده الحق. وإن الذين يتكبرون ويتعظمون عن دعاء الله وعبادته وحده ، سيدخلون جهنم صاغرين أذلاء.

والآية اشتملت على أمر العبادة بالدعاء والتكفل لهم بالإجابة فضلا من الله وكرما ، وهذا وعد ، كذلك اشتملت أيضا على وعيد شديد لمن استكبر عن دعاء الله ، فالله هو الكريم الذي يجيب دعوة الداعي إذا دعاه ، ويغضب على من لم يطلب من فضله العظيم وملكه الواسع ما يحتاج إليه من أمور الدنيا والآخرة.

أخرج الإمام أحمد والبخاري في الأدب والحاكم وأصحاب السنن (الترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجه) وغيرهم عن النعمان بن بشير رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «إن الدعاء هو العبادة» ثم قرأ : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ..) الآية. وأخرج الترمذي عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «الدعاء مخ العبادة» لكنه ضعيف وفي حديث آخر صحيح أخرجه الحاكم عن ابن عباس قال : «أفضل العبادة الدعاء».

وأخرج أحمد والحاكم عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «من لم يدع الله عزوجل غضب عليه» وفي رواية أخرى لأحمد والبزار : «من لم يسأل الله يغضب عليه».

ثم تابع الله تعالى إيراد أدلة أخرى على قدرته ، والتذكير بنعمته على عباده ، فقال :

٢ ـ ٣ : (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً) أي إن الله تعالى أوجد تعاقب الليل والنهار ، فجعل الليل باردا مظلما للسكون والنوم

١٥١

والراحة وتجديد النشاط والحيوية من عناء النهار ، وجعل النهار مضيئا بالشمس لإبصار الحوائج ، وطلب المعايش ، ومزاولة الصناعة والتجارة والزراعة ، والتنقل بالأسفار وزيارة الأقطار ، وغير ذلك من مصالح العباد.

ويلاحظ أن (جَعَلَ) هنا بمعنى : خلق ، لأنها متعدية إلى مفعول واحد ، فإذا لم تكن بمعنى : خلق عديت إلى مفعولين مثل (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) [الزخرف ٤٣ / ٣].

(إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) أي إن الله تعالى بهذه النعمة وغيرها مما لا يحصى هو المتفضل على الناس ، ولكن أكثر الناس لا يشكرون النعم ولا يعترفون بها ، إما لجحودهم لها مثل الكفار ، وإما لإهمالهم النظر وما يجب من شكر المنعم ، مثل الجهال ، كما قال تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ) [الحج ٢٢ / ٦٦]. (إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) [إبراهيم ١٤ / ٣٤]. (إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) [العاديات ١٠٠ / ٦]. (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ ٣٤ / ١٣].

ثم ذكر الله تعالى أنه الخالق وحده ، فتجب عبادته وحده ، فقال :

٤ ـ ٥ : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ ، خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ، فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ؟) أي ذلكم الذي فعل كل هذا المذكور وأنعم بهذه النعم هو الله المربي المدبر ، فلا رب سواه ، وهو خالق الأشياء كلها ، لم يعاونه في الخلق أحد ، وهو الإله الواحد الذي لا إله سواه ، فكيف تنقلبون عن عبادته ، وتنصرفون عن توحيده ، وتعبدون غيره من الأصنام وغيرها مما لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ، ولا يخلق شيئا ، بل هو مخلوق؟!

وهذا الضلال مرض قديم ، فقال تعالى :

(كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) أي مثل هذا الإفك

١٥٢

والضلال بعبادة غير الله ، ضل وأفك الجاحدون لآيات الله ، المنكرون لتوحيده ، وصرفوا عن اتباع الصراط القويم ، من غير حجة ولا برهان ، بل بمجرد الجهل والهوى.

ثم أضاف الله تعالى دليلا آخر على قدرته وحكمته ، فقال :

٦ ـ ٧ : (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً) أي إن الله هو الذي جعل الأرض موضع استقرار وثبات ، تستقر عليها المباني والأمتعة ، ويحيى فيها الأشخاص ويموتون ، ويمشون ويتصرفون في أنحائها ، وجعل أيضا السماء سقفا للعالم محفوظا قائما ثابتا أيضا ، لا ينهدم ولا يتصدع ، وزيّنه بالكواكب والنجوم.

وبعد بيان بعض دلائل الآفاق والأكوان (وهي كل ما هو غير الإنسان من هذا العالم) وهي اثنان (أحوال الليل والنهار ، وأحوال الأرض والسماء) ذكر الله تعالى دلائل الأنفس على وجوده وقدرته وهي ثلاثة (إحداث صورة الإنسان ، وتحسينها ، والرزق من الطيبات) فقال :

٨ ـ ٩ : (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ، وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) أي وخلقكم في أحسن صورة ، وأجمل شكل ، وأبدع تقويم في انتصاب القامة ، وتناسب الأعضاء ، والتهيؤ لمزاولة مختلف أنواع المكاسب والمعاشات ، ورزقكم من طيبات الرزق ولذائذه من الطعام والشراب.

(ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ ، فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) أي ذلكم المتصف بهذه الصفات الجليلة ، المنعم بهذه النعم العظيمة ، هو الرب الذي لا تصلح الربوبية لغيره ، فتقدس وتنزه الله رب العالمين من الإنس والجن عن صفات النقص وعما لا يليق به من الشريك والولد والصاحبة.

وبعد إثبات توحيد الربوبية أثبت توحيد الألوهية ، فقال تعالى :

١٥٣

١٠ ـ (هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ، فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي إن هذا الرب المدبر المتصرف في الكون هو الحي حياة ذاتية ، الباقي الذي لا يفنى ، الأول والآخر والظاهر والباطن ، المنفرد بالألوهية ، فلا تصلح الألوهية لسواه ، فاعبدوه مخلصين له الطاعة والعبادة ، موحدين له ، مقرين بأنه لا إله إلا هو.

وهو سبحانه المستحق الحمد والثناء والشكر على نعمه ، فقال آمرا ومعلما عباده :

(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي إنه صاحب الحمد ، المستحق الشكر والثناء ، رب العالمين من الملائكة والإنس والجن. والجملة خبر فيها إضمار أمر ، أي ادعوه واحمدوه.

روى ابن جرير عن ابن عباس قال : «من قال : لا إله إلا الله ، فليقل على أثرها : الحمد لله رب العالمين» ثم قرأ هذه الآية : (فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

وروى أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي عن عبد الله بن الزبير قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول في دبر كل صلاة : «لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، لا حول ولا قوة إلا بالله ، لا إله إلا الله ، ولا نعبد إلا إياه ، له النعمة وله الفضل ، وله الثناء الحسن ، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ، ولو كره الكافرون».

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ إثبات البعث والاحتجاج على منكريه ، فإن خلق السموات والأرض أكبر وأعظم من إعادة خلق الناس ، والقادر على الأكبر قادر على الأصغر ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ذلك.

١٥٤

٢ ـ لا تساوي إطلاقا بين المؤمن والكافر والضال والمهتدي ، والذي يعمل الصالحات والذي يعمل السيئات ، كما لا تساوي بين البصير والأعمى ، ولكن لا تذكر ولا اتعاظ ولا اعتبار.

٣ ـ إن الساعة آتية لا ريب فيها ، فكما أن القيامة ممكنة الوجود ، فهي واقعة فعلا وحادثة حتما ، ولكن أكثر الناس لا يصدقون بذلك ، وعندها يبين الفرق ما بين الطائع والعاصي.

٤ ـ لا ينتفع أحد في يوم القيامة الذي هو حق وصدق إلا بطاعة الله تعالى ، وأشرف أنواع الطاعات : الدعاء والتضرع ، جاء في الحديث المتقدم : «الدعاء هو العبادة» فما على الناس إلا توحيد الله وعبادته ، والله ـ تفضلا وكرما ـ يتقبل العبادة ويغفر للعابدين. جاء في الحديث عن أنس بن مالك فيما رواه الترمذي وابن حبان : «ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها ، حتى يسأله شسع نعله إذا انقطع». والشسع : زمام النعل.

٥ ـ من إحسان الله العظيم أنه ذكر الوعيد الشديد على ترك الدعاء ، في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ).

٦ ـ الله خلق الليل للسكن والراحة ، وخلق النهار مضيئا لإبصار الحوائج فيه والتصرف في طلب المعايش ، والله ذو الفضل العظيم على عباده ، ولكن أكثر الناس لا يشكرون فضله وإنعامه.

٧ ـ الأدلة على وحدانية الله وقدرته بيّنة واضحة ، فهو الله المربي والمدبر ، وخالق كل شيء ، والواحد الأحد ، فمن العجب كيف ينصرف الناس عن الإيمان بعد توافر أدلته؟ وكما يصرف هؤلاء عن الحق مع قيام الدليل عليه يصرف عن الحق الجاحدون بآيات الله تعالى.

١٥٥

٨ ـ الله تعالى خلق الأرض لعباده مستقرا لهم في حياتهم وبعد الموت ، وخلق السماء سقفا محفوظا ثابتا ، وخلق الناس في أحسن صورة وتقويم.

٩ ـ والله هو رازق الطيبات اللذائذ ، وهو الحي الباقي الذي لا يموت ، فما على الناس إلا عبادته بإخلاص ، وحمده وشكره والثناء عليه.

١٠ ـ يلاحظ أن الآيات انتهت بنهايات قوية مؤثرة تناسب المقام : وهي (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ لا يُؤْمِنُونَ لا يَشْكُرُونَ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ يَجْحَدُونَ فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

النهي عن عبادة غير الله وسبب النهي

(قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦٦) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦٧) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٦٨))

المفردات اللغوية :

(تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) تعبدون. (الْبَيِّناتُ) الحجج ودلائل التوحيد أو الآيات القرآنية ، فإنها مقوّية لأدلة العقل ، منبهة عليها. (أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) أنقاد له (نُطْفَةٍ) مني. (عَلَقَةٍ) دم غليظ. (ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) أطفالا ، والإفراد لإرادة الجنس. (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا

١٥٦

أَشُدَّكُمْ) أي لتصلوا إلى تكامل قوتكم من الثلاثين إلى الأربعين سنة ، واللام متعلقة بمحذوف تقديره : ثم يبقيكم. (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ) من قبل الشيخوخة أو بلوغ الأشد. (وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى) أي ويفعل ذلك لتبلغوا وقتا محددا ، هو وقت الموت. (وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) ما في ذلك من الحجج والعبر ودلائل التوحيد ، فتؤمنوا. (قَضى أَمْراً) أراد إيجاد شيء. (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ : كُنْ فَيَكُونُ) بتقدير أن ، أي يوجد عقب الإرادة التي هي معنى القول المذكور. والفاء الأولى للدلالة على أن ذلك نتيجة ما سبق ، من حيث إنه يقتضي قدرة ذاتية غير متوقفة على عدّة أو مادّة.

سبب النزول :

نزول الآية (٦٦):

(قُلْ : إِنِّي نُهِيتُ ..) : أخرج جويبر عن ابن عباس أن الوليد بن المغيرة وشيبة بن ربيعة قالا : يا محمد ، ارجع عما تقول بدين آبائك ، فأنزل الله : (قُلْ : إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) الآية.

المناسبة :

بعد إيراد دلائل القدرة والتوحيد وصفات الجلال والعظمة ، نهى الله عن عبادة غيره ، بقول لين لطيف ، لصرف المشركين عن عبادة الأوثان ، ثم أبان سبب النهي وهو البينات التي جاءت النبي من ربه ، من دلائل الآفاق والأنفس ، أما الأولى فهي أربعة : الليل والنهار والأرض والسماء ، وأما الثانية فذكر منها سابقا ثلاثة وهي : تكوين الصورة ، وحسن الصورة ، ورزق الطيبات. وذكر منها هنا كيفية تكون الإنسان ومراحل تدرجه وأطوار حياته من الاجتنان إلى الولادة والطفولة ، إلى الشباب والكهولة ، ثم الشيخوخة ، ثم الموت.

التفسير والبيان :

(قُلْ : إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ، لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي) قل أيها الرسول لمشركي قومك في مكة وغيرها : إن الله ينهى أن يعبد

١٥٧

حد من غير الله من الأصنام والأنداد والأوثان ، حين جاءتني الأدلة النقلية والعقلية من عند ربي ، وهي آي القرآن ، وما أودع في العقول السليمة من البراهين الدالة على التوحيد ، وأمرت أن أستسلم وأنقاد وأخضع لله رب العالمين ، وأخلص له ديني. ومن الآيات التي تنهى عن عبادة الأوثان قوله تعالى : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ ، وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) [الصافات ٣٧ / ٩٥ ـ ٩٦].

ثم ذكر الله تعالى من دلائل الأنفس ما يدل على توحيد الله وهو كيفية تكون الإنسان ومراحل نشأته ، فقال :

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ، ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ، ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ، ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ، ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً ، وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ ، وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى ، وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي إن الله هو الذي خلق أباكم الأول آدم من التراب ، وجعل ذريته أيضا من تراب ، إذ كل مخلوق من المني ناشئ من الدم ، والدم من الغذاء ، والغذاء من النبات ، والنبات من الماء والتراب ، فثبت أن كل إنسان متكون من التراب ، ثم صيّر الله ذلك التراب نطفة (منيا) ثم علقة (قطعة دم متجمدة) ثم ولدتم وأخرجتم أطفالا ، ثم وصلتم إلى بلوغ الأشد أي مرحلة اكتمال القوة والعقل ، ثم تصيرون شيوخا (والشيخ : من جاوز الأربعين).

ومن الناس من يتوفى من قبل الشيخوخة أو الشباب أو الولادة ، وقد فعل ذلك لتبلغوا الأجل المحدود وهو وقت الموت أو يوم القيامة ، واللام لام العاقبة أو الصيرورة ، ولكي تعقلوا ما في هذا التدرج والتطور في المراحل المختلفة من دليل دال على قدرة الله البالغة على البعث وغيره ، وعلى توحيد ربكم ، في خلقكم على هذه الأطوار :

طور الاجتنان ، وطور الطفولة ، وطور بلوغ الأشد ، وطور الشيخوخة ،

١٥٨

ففي هذا التغير والانتقال دلالة على وجود الله ، ثم أتبع ذلك بدليل آخر من التغير والانتقال فقال:

(هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ، فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ : كُنْ فَيَكُونُ) أي وإن الله هو القادر على الإحياء والإماتة ، والمتفرد بذلك لا يقدر عليه أحد سواه ، فإذا قضى وقدر أمرا من الأمور التي يريدها ، (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ : كُنْ فَيَكُونُ) أي يحدث فور الإرادة من غير توقف على شيء ، ولا معاناة ولا كلفة. وهذا أقصى ما يمكن به تقريب الخلق إلى الأذهان ، فإن المخلوق يوجد بسرعة فائقة جدا بمجرد تعلق الإرادة به.

فقه الحياة أو الأحكام :

أوضحت الآيات أمورا ثلاثة هي :

١ ـ النهي الجازم عن عبادة غير الله بعد قيام الأدلة على وجود الله وتوحيده ، مما صرح به القرآن في آياته ، ومما أرشد إليه العقل الصحيح في تفكيره ، والعبادة تقتضي الانقياد التام والخضوع وإخلاص الدين لله رب العالمين ، فلا أمل في عبادة الأصنام والأوثان وغيرها من أنواع الشرك. والخلاصة : نهى تعالى عن عبادة الأوثان ، ثم أمر بالاستسلام لله تعالى ، ثم أقام الدليل على الوحدانية والألوهية فيما ، مع العلم بأن والتي أصنامهم عارية عن شيء منهما بدليل تدرج ابن آدم.

٢ ـ بيان مراحل تطور الإنسان وتدرجه في التكوين والخلقة ، فأصله من تراب ، ثم يصبح نطفة فعلقة فمضغة ، ثم يولد طفلا ، ثم يشب ويقوى بدنه وعقله ، ثم يهرم ويشيخ ، وقد يموت من قبل هذه الأحوال ، ثم يحدث موت الكل. والإخبار عن تلك المراحل الانتقالية ليعقل الإنسان أنها ترشده وتعلمه أن لا إله إلا الله. آمنت بالله وحده.

١٥٩

٣ ـ التنبيه على قدرة الله في الإحياء والإماتة ، وعلى سرعة إنجاز الخلق والتكوين بمجرد إرادة الله الفعل.

جزاء المجادلين بالباطل في آيات الله

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (٦٩) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٧٠) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (٧٢) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٧٣) مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ (٧٤) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (٧٥) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٦))

الإعراب :

(الَّذِينَ كَذَّبُوا) بدل من (الَّذِينَ) الأولى ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أو منصوب على الذم.

(إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ السَّلاسِلُ) : مرفوع معطوف على (الْأَغْلالُ) وتقديره : إذ الأغلال والسلاسل في أعناقهم. ومنهم من وقف على (أَعْناقِهِمْ) وابتدأ (وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ) وتقديره : والسلاسل يسحبون بها في الحميم ، فحذف الجار والمجرور. وقرئ «والسلاسل يسحبون» بنصب اللام وفتح ياء الفعل ، على أنه مفعول (يُسْحَبُونَ) أي يسحبون السلاسل. وقرئ «والسلاسل» بالجر ، بالعطف على أعناقهم ، وهي قراءة ضعيفة ، لأنه يصير المعنى : الأغلال في الأعناق والسلاسل ، ولا معنى للأغلال في السلاسل.

١٦٠