التفسير المنير - ج ٢٤

الدكتور وهبة الزحيلي

البلاغة :

(بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ) التفات عن الغيبة إلى الخطاب للمبالغة في التوبيخ. ويوجد جناس ناقص بين (تَفْرَحُونَ) و (تَمْرَحُونَ).

المفردات اللغوية :

(يُجادِلُونَ) كرر ذم المجادلة لتعدد المجادل أو المجادل فيه ، أو للتأكيد (آياتِ اللهِ) القرآن (أَنَّى) كيف (يُصْرَفُونَ) يبعدون عن الإيمان بالله. (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ) بالقرآن أو بجنس الكتب السماوية (وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا) من سائر الكتب والوحي والتوحيد والبعث والشرائع (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) عقوبة تكذيبهم.

(إِذِ الْأَغْلالُ إِذِ) : ظرف للفعل المتقدم (يَعْلَمُونَ) بمعنى إذا للاستقبال ، أي ليعلمون إذ الأغلال ، وعبر ب (إِذِ) التي هي ظرف للماضي عن المستقبل ، لتيقن وقوع الأمر المخبر به وكونه مقطوعا به و (الْأَغْلالُ) : جمع غل : وهو القيد الذي يوضع في العنق (يُسْحَبُونَ) يجرّون بعنف بالسلاسل (فِي الْحَمِيمِ) جهنم ، وهي الماء الحار (يُسْجَرُونَ) يحرقون ويوقدون ، يقال : سجّر التنور : ملأه بالوقود ، ومنه (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) المملوء (ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ : أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ) يقال لهم توبيخا وتقريعا : أين الأصنام التي كنتم تعبدون في الدنيا (ضَلُّوا عَنَّا) غابوا واضمحلوا ، فلا نراهم (بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً) أنكروا عبادتهم إياها ، ثم أحضرت (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ) أي مثل إضلال هؤلاء المكذبين يضل الله الكافرين ، حتى لا يهتدوا إلى شيء ينفعهم في الآخرة.

(ذلِكُمْ) العذاب (تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ) تبطرون وتتكبرون (بِغَيْرِ الْحَقِ) وهو الشرك والطغيان وإنكار البعث (وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ) تختالون أشرا وبطرا وتتوسعون في الفرح (أَبْوابَ جَهَنَّمَ) الأبواب السبعة المقسومة لكم (خالِدِينَ فِيها) مقدّرا لكم الخلود فيها (مَثْوَى) مأوى.

المناسبة :

عاد الحق تعالى في هذه الآيات إلى ذم المجادلين في آيات الله ، مبينا عظيم جرمهم في تكذيب القرآن وجزاءهم على ذلك ، فليس فيه تكرار ، إذ السابق لبيان منشأ الجدل وسببه ، وهذا تعجيب من حال المجادلين وآرائهم الفاسدة ، مع

١٦١

بيان عاقبتهم ، والظاهر ـ كما ذكر أبو حيان ـ أنها في الكفار المجادلين في رسالة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والكتاب الذي جاء به.

التفسير والبيان :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ) أي ألا تعجب يا محمد من هؤلاء المكذبين المشركين المجادلين بالباطل في آيات الله الواضحة الموجبة للإيمان بها ، كيف تصرف عقولهم عن الهدى إلى الضلال؟ مع قيام الأدلة الدالة على صحتها ، وأنها في نفسها موجبة للتوحيد.

(الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا ، فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) أي إنهم هم الذين كذبوا بالقرآن وبالذي أرسلنا به الرسل من التوحيد وإخلاص العبادة لله والشرائع الصالحة لحياة الإنسان في الدنيا ، والتبرؤ من الشرك والوثنية ، والإيمان بالبعث ، ثم هددهم وأوعدهم بقوله : (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) عاقبة أمرهم ووبال كفرهم.

ثم ذكر مضمون التهديد الشديد والوعيد الأكيد بقوله :

(إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ ، وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) أي فسوف يعلم هؤلاء المكذبون حين تجعل القيود في أعناقهم ، ويسحبون بالسلاسل في الحميم : وهو الماء المتناهي في الحرارة ، فتتقطع جلودهم وتنسلخ لحومهم ، ثم يحرقون في النار التي توقد بهم وتحيط بهم ، كما قال تعالى : (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ ، يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) [الرحمن ٥٥ / ٤٣ ـ ٤٤] وقال سبحانه بعد ذكر أكلهم الزقوم وشربهم الحميم : (ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ) [الصافات ٣٧ / ٦٨] وقال عزوجل : (خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ. ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ. ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ. إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ) [الدخان ٤٤ / ٤٧ ـ ٥٠].

١٦٢

ثم يسألون سؤال تقريع وتبكيت وتوبيخ عن أصنامهم المعبودة ، فقال تعالى : (ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ : أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللهِ؟ قالُوا : ضَلُّوا عَنَّا ، بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً ، كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ) أي يقال لهم من قبل الملائكة تقريعا لهم وتوبيخا : أين الأصنام والشركاء التي كنتم تعبدونها من دون الله ، ما لهم لا ينقذونكم مما أنتم فيه ، وينصرونكم اليوم وقت المحنة؟

قالوا مجيبين : غابوا عنا وذهبوا فلم ينفعونا ، وفقدناهم فلا نراهم ، والحق أننا لم نكن نعبد شيئا ، أي تبينا أننا لم نكن نعبد شيئا ينفع ، لأنه لا يبصر ولا يسمع ، ولا يضر ولا ينفع ، وذاك الذي صدر عنهم اعتراف صريح بأن عبادتهم إياها كانت باطلة.

ومثل ذلك الضلال يضل الله الكافرين حيث عبدوا هذه الأصنام التي أوصلتهم إلى النار ، أي هكذا يتبين بطلان جميع أعمال الكافرين ، وتنقطع العلائق والصلات بين العابدين والمعبودين.

ثم أبان الله تعالى سبب تعذيبهم فقال :

(ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ، وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ) أي ذلكم العذاب والإضلال بسبب ما كنتم تظهرون في الدنيا من الفرح بمعاصي الله ، والسرور بمخالقة رسله وكتبه ، وبسبب ما كنتم تبطرون وتأشرون وهو جزاء المرح بغير الحق وهو الشرك وعبادة الأوثان.

ثم أوضح لهم نوع الجزاء تبكيتا وتوبيخا وتيئيسا لهم من تفادي العذاب ، فقال :

(ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ ، خالِدِينَ فِيها ، فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) أي ادخلوا أبواب جهنم السبعة المقسومة لكم ، كما قال تعالى : (لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ ، لِكُلِ

١٦٣

بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) [الحجر ١٥ / ٤٤] وإنكم مخلدون فيها أبدا على الدوام ، فبئس المنزل والمأوى الذي فيه الهوان والعذاب الشديد لمن استكبر عن آيات الله واتباع دلائله وحججه.

فقه الحياة أو الأحكام :

يؤخذ من الآيات ما يأتي :

١ ـ من العجب العجاب أن المشركين الذين يجادلون في آيات الله بغير حق ويكذبون بها يصرفون عن الهدى إلى الضلال ، وعن الحق إلى الباطل.

٢ ـ سيعلمون عما قريب بطلان ما هم فيه إذا دخلوا النار ، وغلّت أيديهم إلى أعناقهم ، وسحبوا بالسلاسل في الحميم ، أي الماء المسخن بنار جهنم ، وأحاطت بهم النار إحاطة تامة.

٣ ـ تقول لهم الملائكة بعد دخولهم النار تقريعا وتوبيخا : أين أصنامكم التي كنتم تعبدونها من دون الله ، ما لكم لا تنصرون بها اليوم؟

فأجابوا : لقد هلكوا وذهبوا عنا ، وتركونا في العذاب ، فلا نراهم ولا نستشفع بهم. ثم اعترفوا بأن عبادتهم الأصنام كانت باطلة ، فإنها ليست بشيء ، لأنها لا تسمع ولا تبصر ولا تضر ولا تنفع ، وهكذا تبين لهم أنهم لم يكونوا شيئا ، كما تقول : حسبت أن فلانا شيء ، فإذا هو ليس بشيء ، إذا جربته ، فلم تجد عنده خيرا (١). وقد أخبر الله تعالى عنهم أنهم قالوا : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام ٦ / ٢٣].

٤ ـ قال الله تعالى عقب هذا الاعتراف : (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ) أي كما فعل بهؤلاء من الإضلال ، يفعل بكل كافر ، وهو إضلال لا توفيق فيه عن

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٧ / ٨٧

١٦٤

طريق الجنة بعد اختيارهم الكفر وإصرارهم عليه ، لا عن الحجة ، إذ قد هداهم في الدنيا إليها.

٥ ـ ذلكم العذاب وسببه هو ما كانوا يفرحون به من المعاصي ، ويظهرون في الدنيا من السرور بالمعصية وكثرة المال والأتباع والصحة ، وهو أيضا بسبب بطرهم وتكبرهم عن اتباع الحق وقبوله ، واختيارهم الشرك وعبادة الأصنام.

٦ ـ ويقال لهم يوم القيامة : ادخلوا أبواب جهنم السبعة المقسومة لكم ، فبئس المأوى مأوى المتكبرين عن آيات الله واتباع دلائله على توحيده وقبول شرائعه.

الصبر والنصر

(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٧٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (٧٨))

الإعراب :

(فَإِمَّا) إن الشرطية مدغمة ، وما : زائدة تؤكد معنى الشرط أول الفعل ، والنون تؤكد آخره ، وقد لحقت الفعل بناء على وجود «ما» ولا تلحقه النون مع «إن» وحدها. وجواب الشرط محذوف مثل : فذاك.

البلاغة :

(أَرْسَلْنا رُسُلاً) جناس الاشتقاق.

(مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) طباق السلب.

١٦٥

المفردات اللغوية :

(إِنَّ وَعْدَ اللهِ) بالعذاب وهلاك الكافرين (حَقٌ) كائن لا محالة (بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) أي بعض ما نعدهم به من العذاب في الدنيا بالقتل والأسر (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) قبل أن تراه أي قبل رؤية تعذيبهم (فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) للعذاب الشديد يوم القيامة ، فنجازيهم بأعمالهم ، وهو جواب (نَتَوَفَّيَنَّكَ). وهو يدل على شدة العذاب للاقتصار على ذكر الرجوع.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً ..) قيل : إن عدد الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا ، وروي أنه تعالى بعث ثمانية آلاف نبي : أربعة آلاف نبي من بني إسرائيل ، وأربعة آلاف من سائر الناس.

والمذكور قصتهم : أشخاص معدودة.

(وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) لأنهم عبيد مربوبون لله ، والمعجزات عطايا من الله بحسب حكمته (فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ) بنزول العذاب على الكفار في الدنيا والآخرة (قُضِيَ بِالْحَقِ) بين الرسل ومكذبيهم ، بإنجاء المحق وتعذيب المبطل (وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ) أي ظهرت خسارة المعاندين باقتراح الآيات ، بعد وجود ما يغنيهم عنها.

المناسبة :

كان الكلام من أول السورة إلى هنا في تزييف طريقة المجادلين في آيات الله ، ثم أمر الله تعالى هنا رسوله بالصبر على أذاهم وتكذيبهم ، ووعده بالنصر عليهم ، وإنزال العذاب على أعدائه.

التفسير والبيان :

(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) أي فاصبر أيها الرسول على تكذيب بعض قومك ، فإن وعد الله بالنصر عليهم والانتقام منهم كائن لا محالة ، إما في الدنيا ، وإما في الآخرة.

(فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) أي إن نرك في حياتك أيها الرسول بعض ما نعدهم به من العذاب ، كالقتل والأسر يوم بدر ، ثم فتح مكة وسائر جزيرة العرب ، فذاك ما يستحقونه ، وقد تحقق ذلك في

١٦٦

حياته صلى الله عليه وآله وسلم. أو نتوفينك قبل إنزال العذاب بهم ، فإلينا مصيرهم يوم القيامة ، فنذيقهم العذاب الشديد حينئذ ، ونجازيهم على أعمالهم.

ونظير الآية : (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) ، (فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ ، أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ ، فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ) [الزخرف ٤٣ / ٤٢].

ثم قال الله تعالى مسليا رسوله صلى الله عليه وآله وسلم :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ ، مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) أي ولقد أرسلنا رسلا وأنبياء كثيرين من قبلك إلى أقوامهم ، منهم من أنبأناك بأخبارهم وما لقوه من قومهم وهم خمسة وعشرون ، ومنهم من لم نقصص عليك خبره ، وهم أكثر ممن ذكر بأضعاف أضعاف ، كما قال تعالى : (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ ، وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ..) [النساء ٤ / ١٦٤].

وأخرج الإمام أحمد عن أبي ذرّ قال : «قلت : يا رسول الله ، كم عدد الأنبياء؟ قال : مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا ، الرسل من ذلك ثلاث مائة وخمسة عشر ، جمّا غفيرا». والذين ذكرهم الله في القرآن من الرسل قريب من خمسة وعشرين رسولا.

(وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي ولم يكن لواحد من الرسل أن يأتي قومه بمعجزة خارقة للعادة إلا أن يأذن الله له في ذلك ، فيستدل حينئذ على صدقه فيما جاءهم به. والمراد بالآية : المعجزة الدالة على نبوته. وكان أقوام الأنبياء يقترحون على الأنبياء إظهار المعجزات عنادا وتعنتا.

(فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ ، وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ) أي إذا حان الوقت المعين لعذابهم في الدنيا أو في الآخرة ، قضي بالعدل فيما بينهم ، فينجي الله بقضائه الحق عباده المرسلين المحقين والذين آمنوا معهم ، ويهلك الكافرين الذين

١٦٧

يتبعون الباطل ويعملون به.

فما عليك يا محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا الصبر ، تأسيا بالأنبياء قبلك ، وإذا جاء أمر الله بالفصل بينك وبين قومك ، قضي بينكم بالحق ، فنصرت ، وخسر المبطلون من ملأ قريش الذين يصدّون عن دعوتك.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على أمور أربعة :

١ ـ الأمر بالصبر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم تسلية له ، وإعلامه بأن الله سينتقم له من قومه المكذبين لرسالته ، إما في حياته ، أو في الآخرة. وأمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مأمورة مثله بالصبر.

٢ ـ أرسل الله تعالى للأمم المتقدمة رسلا وأنبياء كثيرين ، منهم من أخبر الله نبيه بأخبارهم وما لقوا من قومهم كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم‌السلام ، ومنهم من لم يخبره الله بهم.

٣ ـ ليس لنبي من قبل نفسه أن يأتي بآية بيّنة أو معجزة لإثبات نبوته وصدقه ، إلا بإذن من الله وتيسير له بذلك ، فإن المعجزة وهي الأمر الخارق للعادة لا يستطيعها إلا من اتصف بالقدرة الإلهية ، وهو الله وحده الذي يظهر المعجز على يد نبي أو رسول لما يرى من الحكمة والصلاح.

٤ ـ إذا جاء الوقت المسمى لعذاب المكذبين برسالة النبي في الدنيا أو في الآخرة ، أهلكهم الله في الدنيا ، وخسر في الآخرة المبطلون الذين يتبعون الباطل والشرك ، وهذا وعيد شديد لهم.

وإنما يؤخر الله عنهم العذاب أحيانا ليترك الفرصة والمجال لإسلام من علم الله إسلامه منهم ، ولمن في أصلابهم من المؤمنين.

١٦٨

دلائل أخرى كثيرة على وجود الله ووحدانيته

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٧٩) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٨٠) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ (٨١))

الإعراب :

(فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ فَأَيَ) : استفهام ، وهي منصوب ب (تُنْكِرُونَ) والاستفهام إنما ينصب بما بعده ، لأن له صدر الكلام. وهو استفهام توبيخ. وتذكير (فَأَيَ) أشهر من تأنيثه ، وهنا جاءت على اللغة المستفيضة ، وقولك «فأية آيات الله» قليل ، لأن التفرقة بين المذكر والمؤنث في الأسماء غير الصفات نحو حمار وحمارة : غريب ، وهي في (فَأَيَ) أغرب ، لإبهامه.

المفردات اللغوية :

(الْأَنْعامَ) هي الإبل والبقر والغنم والمعز (لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ) منها ما يؤكل كالغنم ، ومنها ما يؤكل ويركب كالإبل (وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ) كالألبان والجلود والأصواف والأوبار (وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ) بالمسافرة عليها وحمل الأثقال إلى البلاد ، والحاجة : الأمر المهم (وَعَلَى الْفُلْكِ) السفن في البحر ، وإنما قال : (عَلَى الْفُلْكِ) ولم يقل : في الفلك ، كما في قوله تعالى : (قُلْنَا : احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) [هود ١١ / ٤٠] للمزاوجة والمطابقة بينها وبين ما قبلها وهو : (وَعَلَيْها) ولأن راكب السفينة يستعليها ، فيصح كونه فيها ، لأنها وعاء له ، ويصح كونه عليها لاستعلائها.

(وَيُرِيكُمْ آياتِهِ) دلائله الدالة على كمال قدرته وفرط رحمته ووحدانيته (فَأَيَّ آياتِ اللهِ) الدالة على ما ذكر من تلك الآيات (تُنْكِرُونَ) فإنها لوضوحها وظهورها لا تقبل الإنكار.

١٦٩

المناسبة :

بعد الإطناب في وعيد المكذبين المجادلين في آيات الله ، بما فيه العبرة والكفاية ، عاد الحق تعالى إلى إيراد دلائل أخرى تدل على وجود الله ووحدانيته ، ويصلح تعدادها نعما على العباد ، ثم أجمل في الإحالة على أدلة كثيرة تحيط بالناس.

التفسير والبيان :

يمتن الله تعالى على عباده بما خلق لهم من الأنعام ذات المنافع الكثيرة والدالة على قدرة الله فقال :

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها ، وَمِنْها تَأْكُلُونَ) أي إن الله تعالى هو الذي خلق لأجلكم الأنعام ، وهي الإبل والبقر والغنم الشامل للمعز ، لتركبوا بعضها وتأكلوا بعضها ، فالإبل : تركب وتؤكل وتحلب ويحمل عليها الأثقال في الأسفار ، والبقر : تؤكل ويشرب لبنها ، ويحرث عليها الأرض ، والغنم تؤكل ويشرب لبنها ، والجميع تتناسل وتجز أصوافها وأشعارها وأوبارها ، فيتخذ منها الأثاث والثياب والأمتعة ، لذا قال تعالى :

(وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ ، وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ ، وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) أي ولكم فيها منافع أخر غير الركوب والأكل ، كأخذ الوبر والصوف والشعر والزبد والسمن والجبن وغير ذلك مما يستعمل للثياب والأمتعة والمأكولات ، ولتحمل أثقالكم إلى البلاد النائية بيسر وسهولة ، وعلى الإبل في البر ، وعلى السفن في البحر تحملون وتنقلون من بلد إلى آخر ، ومن موضع إلى آخر ، وقد قيل : «الجمل سفينة الصحراء». ويلاحظ أنه تعالى قرن بين الامتنان بنعمة الركوب في البر ، ونعمة الامتنان بركوب البحر.

١٧٠

ونحو الآية قوله تعالى : (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ : مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ ، وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ ..) إلى أن قال : (وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ ، وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ ..) [الأنعام ٦ / ١٤٣ ـ ١٤٤] وقوله سبحانه : (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ ، وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ، وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ ، إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) [النحل ١٦ / ٥ ـ ٧].

ولما ذكر الله هذه الدلائل الكثيرة الدالة على قدرة الله التي لا تنكر قال :

(وَيُرِيكُمْ آياتِهِ ، فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ) أي إن الله تعالى يري عباده عيانا هذه الآيات والبراهين التي عددها في الآفاق والأنفس ، والتي هي كلها ظاهرة باهرة دالة على كمال قدرته ووحدانيته ، فما الذي تنكرونه منها؟ وهي كلها ظاهرة واضحة ، بحيث لا ينكرها ذو بصيرة نيّرة إن كان منصفا ، أي إنكم في الواقع لا تقدرون على إنكار شيء من آياته ، إلا أن تعاندوا وتكابروا ، كما قيل :

وفي كل شيء له آية

تدل على أنه واحد

والسبب في إدخال اللام على (لِتَرْكَبُوا) و (لِتَبْلُغُوا) وعدم دخولها على البواقي : هو الاهتمام بجل المنافع وهو الركوب والحمل عليها ، وأما الأكل والانتفاع بالأوبار والأشعار فهو غرض أقل وأبسط.

فقه الحياة أو الأحكام :

هذه ادلة أخرى على كمال قدرة الله ووحدانيته ، وتشير إلى عظم نعم الله على عباده ، وهي تتمثل في خلق الأنعام للأكل والركوب ، والانتفاع بها في منافع كثيرة للثياب والأمتعة والمأكولات ، وحمل الأثقال ، والتنقل عليها في الأسفار وقطع المسافات ، سواء في البر والبحر.

١٧١

وتتمثل أيضا في إظهار الآيات الكونية الدالة على وحدانية الله وقدرته ، فكيف يسوغ لإنسان عاقل إنكار هذه الآيات الباهرة؟

وإذا كنتم أيها المشركون لا تنكرون أن هذه الأشياء من الله ، فلم تنكرون قدرته على البعث والنشر؟! (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها ، رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها) [النازعات ٧٩ / ٢٧ ـ ٢٨]؟! وإن تلك الآيات كثيرة لا يمكن إنكار شيء منها عقلا.

تهديد المكذبين المجادلين في آيات الله وتركهم الشرك حين رؤية العذاب

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨٣) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (٨٥))

الإعراب :

(كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَيْفَ) : خبر مقدم لكان و (عاقِبَةُ) : اسمها المؤخر ، و (مِنْ قَبْلِهِمْ) صلة الموصول.

١٧٢

(فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) ما الأولى : نافية أو استفهامية منصوبة بأغنى ، والثانية : موصولة أو مصدرية مرفوعة به.

(فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ مِنَ) : للتبيين ، أي تبيين «ما» أي فرحوا بالشيء الذي عندهم من العلم. أو تبيين «البينات» وفي الآية تقديم وتأخير ، والتقدير : فلما جاءتهم رسلهم بالبينات من العلم ، فرحوا بما عندهم. والأوجه هو الأول.

(سُنَّتَ اللهِ) منصوب على المصدر ، بفعل مقدر من لفظه ، أي سن الله ذلك سنة ماضية في العباد ، وهي من المصادر المؤكدة بمنزلة «وعد الله» وما أشبهه من المصادر المؤكدة.

البلاغة :

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ..)؟ استفهام للإنكار ، إنكار عدم السير المترتب عليه النظر السليم.

المفردات اللغوية :

(كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ ..) استئناف مبين لحالهم (وَآثاراً فِي الْأَرْضِ) ما أبقوه من القصور والمصانع والحصون ونحوها (بِالْبَيِّناتِ) بالمعجزات والآيات الواضحات (فَرِحُوا) أي الكفار فرح استهزاء وضحك ، متنكرين له (بِما عِنْدَهُمْ) عند الرسل (مِنَ الْعِلْمِ) أي واستحقروا علم الرسل ، والمراد بالعلم : عقائدهم الزائغة وشبههم الداحضة ، وسماها علما على زعمهم تهكما بهم ، والآية كقوله تعالى : (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ) [النحل ١٦ / ٦٦] أي تكامل واستحكم علمهم بأحوالها في الآخرة ، وهو تهكم بهم لفرط جهلهم بها ، وعلمهم : هو قولهم : لا نبعث ولا نعذب ، وما أظن الساعة قائمة ، ونحوها.

(وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي نزل بهم ما هزئوا به من العذاب ، وهذا يؤيد أن المراد بفرحهم : استهزاؤهم بالرسول وضحكهم منه (بَأْسَنا) شدة عذابنا (وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ) يعنون الأصنام (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ) أي لم يصح ولم يستقم ، لامتناع قبوله (سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ) أي سن الله ذلك سنة ماضية في العباد أو الأمم ألا ينفعهم الإيمان وقت نزول العذاب (وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ) تبين خسرانهم لكل أحد ، وهم خاسرون في كل وقت قبل ذلك. و (هُنالِكَ) أي وقت رؤيتهم البأس ، وهو اسم مكان أستعير للزمان.

وسبب ترادف الفاءات هو كما أبان الزمخشري : أما قوله تعالى : (فَما أَغْنى عَنْهُمْ) فهو نتيجة لقوله : (كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ). وأما قوله : (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) فهو كالتفسير

١٧٣

والبيان لقوله تعالى : (فَما أَغْنى عَنْهُمْ) كقولك : رزق زيد المال ، فمنع المعروف ، فلم يحسن إلى الفقراء. وقوله : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) تابع لقوله : (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ) كأنه قال : فكفروا ، فلما رأوا بأسنا آمنوا ، لأن رؤية البأس مسببة عن مجيء الرسل. وكذلك (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ) تابع لإيمانهم لما رأوا بأس الله ، وامتناع نفع الإيمان مسبب عن رؤية البأس (١).

المناسبة :

اشتملت السورة على فصلين : فصل في دلائل الألوهية وكمال القدرة والرحمة والحكمة ، وفصل في التهديد والوعيد ، وهذه الآيات التي ختمت بها السورة متعلقة بالفصل الثاني في تهديد الكفار الذين يجادلون في آيات الله ، المتكبرين على رسله المكذبين لهم ، اغترارا منهم بدنياهم وأموالهم وأولادهم ، وطلبا للرياسة والجاه ، وهو تهديد يبين نهاية من هم أشد منهم قوة وأكثر أموالا وأولادا ، فلم ينفعهم شيء من ذلك حين حلول بأس الله ، بل إن إيمانهم بالله وتركهم الشرك حين رؤية البأس لم ينفعهم أيضا.

التفسير والبيان :

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ، فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ، كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ ، وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ ، فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي أفلم يسر في البلاد هؤلاء المجادلون في آيات الله من المشركين ، فينظروا في أسفارهم كيف كان مصير الأمم السابقة التي عصت الله ، وكذبت رسلها ، ويشاهدوا آثارهم الموجودة في ديارهم التي تدل على ما نزل بهم من عقوبة وعذاب شديد ، مع أنهم كانوا أكثر من مشركي قريش عددا ، وأقوى منهم أجسادا ، وأوسع منهم أموالا ، وأبقى في الأرض آثارا بالعمائر والمصانع والحصون والمزارع والسدود ، ونحو ذلك من مظاهر الحضارة والعمران والفن والعلوم.

__________________

(١) الكشاف : ٣ / ٦٢

١٧٤

فلما حل بهم العذاب لم يغن عنهم كل ما عملوه في دنياهم من مكاسب وجاه ، ولم ينفعهم ما لهم ولا أولادهم ، ولا رد عنهم أمر الله ، أو نزول العذاب الشديد بهم ، ولا أغنى عنهم مكسوبهم أو كسبهم.

(فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ ، فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ، وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي فلما جاءت الرسل بالحجج الواضحات والمعجزات الظاهرات إلى تلك الأمم المكذبة ، لم يلتفتوا إليهم ، ولا أقبلوا عليهم ، واستغنوا بما عندهم من العلم ، أي الشبهات الداحضة والدعاوي الزائغة التي ظنوها علما نافعا لهم ، مثل قولهم : (وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) [الجاثية ٤٥ / ٢٤] وقولهم : (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا) [الأنعام ٦ / ١٤٨] وقولهم : (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) [يس ٣٦ / ٧٨] وفرحوا بهذه الترهات والأباطيل ، لأنهم كما قال تعالى : (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) [الروم ٣٠ / ٧].

ولكن نزل وأحاط بهم ما كانوا يكذبون به ويستبعدون وقوعه وهو العذاب ، استهزاء وسخرية ، أي نزل بالكفار عقاب استهزائهم برسالات الرسل.

وقد سمى الله تعالى ما عندهم من العقائد الزائفة والشبه الداحضة «علما» تهكما بهم واستهزاء منهم ، كما تقدم.

ثم صوّر تعالى ما يكون من شأن الإنسان حين تطبيق العقاب عليه ، فقال :

(فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا ، قالُوا : آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ ، وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ) أي فلما عاينوا وقوع العذاب بهم ، صدقوا بالله ووحدوه ، وكفروا بمعبوداتهم الباطلة التي اتخذوها شركاء لله ، وهي الأصنام التي كانوا يعبدونها ، ولكن لم ينفعهم ذلك الإيمان ، ولم تنفعهم المعذرة ، كما قال تعالى :

(فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) أي لم يصح ولم يستقم أن إيمانهم ينفعهم عند معاينة عذابنا ، لأن ذلك الإيمان ليس بالإيمان النافع لصاحبه ، فهو

١٧٥

إيمان اضطراري عن إكراه ، وإنما ينفع الإيمان الاختياري ، لا الإيمان الاضطراري ، لأنه عند معاينة الأمر الحتمي لا يبقى للتكليف مجال ، فالكل يؤمن حينئذ ، وهكذا لا ينفع الإيمان عند رؤية العذاب أو الموت أو الغرق أو في الآخرة ، ولم يكن الشخص آمن في الدنيا.

وهذا كما فرعون حين أدركه الغرق : (آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ ، وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) فقال الله تعالى : (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ ، وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) [يونس ١٠ / ٩٠ ـ ٩١] فلم يقبل الله منه إيمانه.

ثم ذكر الله تعالى حكما عاما ، فقال :

(سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ ، وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ) أي إن هذا حكم الله في جميع من تاب عند معاينة العذاب أنه لا يقبل ، وإن الله سبحانه سن هذه السنة في الأمم كلها أنه لا ينفعهم الإيمان إذا رأوا العذاب.

وخسر الكفار وقت رؤيتهم بأس الله ومعاينتهم لعذابه ، والكافر خاسر في كل وقت ، ولكنه يتبين لهم خسرانهم إذا رأوا العذاب. جاء في الحديث الثابت : «إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» (١) أي فإذا غرغر ، وبلغت الروح الحنجرة ، وعاين الملك ، فلا توبة حينئذ ، ولهذا قال تعالى هنا : (وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ) وقال : (وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ) [غافر ٤٠ / ٧٨]. فليحذر الكافر والمقصر ، وليتدارك الأمر قبل فوات الأوان ، ولات ساعة مندم.

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات ما يأتي :

١ ـ إن آثار تدمير الأمم الغابرة بسبب كفرهم وتكذيبهم الرسل عبرة

__________________

(١) أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر.

١٧٦

للمعتبر ، فلو سار الناس في نواحي الأرض ، لعرفوا أن عاقبة المتكبرين المتمردين ، ليست إلا الهلاك والبوار والدمار ، مع أنهم كانوا أكثر عددا ومالا وجاها من هؤلاء المتأخرين ، والدنيا كلها فانية ذاهبة ، فلا يغترن أحد بمال ولا جاه ولا سلطان.

٢ ـ كان سبب تدمير أولئك الأقوام في الماضي هو تكذيبهم رسلهم الذين جاءوهم بالمعجزات والآيات الواضحات ، وفرحهم بعقائدهم الزائفة وشبههم الباطلة ، مثل قولهم : لن نعذب ولن نبعث ، واستهزاؤهم بما جاء به الرسل ، فأحدق بهم العقاب من كل جانب.

٣ ـ لقد آمن هؤلاء المشركون بالله وحده ، وكفروا بالأوثان التي أشركوها في العبادة مع الله ، عند رؤية العذاب.

٤ ـ ولكن الإيمان بالله عند معاينة العذاب ، وحين رؤية البأس لا ينفع ولا يفيد صاحبه.

٥ ـ سنّ الله عزوجل في الكفار أنه لا ينفعهم الإيمان إذا رأوا العذاب ، وأضحى عدم قبول الإيمان حال اليأس من النجاة سنة الله المطردة في كل الأمم.

٦ ـ والغاية أن يحذر أهل مكة وغيرهم من المشركين سنة الله في إهلاك الكفرة ، وأن يعلموا أن الإيمان وقت رؤية الهلاك لا ينفع ، وأن ما يدّعونه من علم وحضارة لا يغني عن دين الله ورسالة الأنبياء ، فشريعة الله هي الأصح.

٧ ـ ليعلم أولئك الذين يصفون شريعة الإسلام بالهمجية والوحشية والقسوة ، وهم الذين احتضنوا أفكار الغرب غير الدينية ، وآمنوا بالقوانين الوضعية الحديثة ، وأحلوها محل شريعة الله تعالى ، ليعلموا أنهم جهلة بهذه الشريعة ، وأنهم كفروا بالإسلام من حيث لا يشعرون ، وأن بواعث تحضّرهم ،

١٧٧

وادعاءهم إرادة التقدم والمدنية والأخذ بمعطيات الحضارة الحديثة يؤدي لهدم شرع الله تعالى. ولو فهموا هذا الشرع بدقة لحقق لهم كل ما يريدون ضمن ضوابط شاملة ، ولم يتورطوا بوصف الشريعة الإسلامية بأنها من الشرائع البدائية أو التقليدية في أنظمة المعاملات المدنية أو الجنائية أو قواعد الإثبات ، فإن التزام قواعد الشريعة خير وأحكم وأمنع مما يعيش به مجتمع القرن العشرين من فقد الأمن وكثرة الجريمة وانحلال القيم والأخلاق ، وإن قواعد الإثبات فيها أولى من إعطاء حرية الإثبات المطلقة لتقدير القاضي وقناعته الشخصية ، فذلك قد يؤدي إلى إهدار الحقوق ، وتجريم البريء.

١٧٨

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة فصّلت أو : السجدة

مكيّة ، وهي أربع وخمسون آية.

تسميتها :

سمّيت سورة فصلت لافتتاحها بقوله تعالى : (كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ ..) وقد فصّل الله تعالى فيها الآيات ، وأوضح الأدلة والبراهين على وجوده وقدرته ووحدانيته ، من خلقه هذا الكون العظيم وتصرفه فيه. وتسمى أيضا حم ، السجدة لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند قراءة أولها على زعماء قريش حتى انتهى إلى السجدة منها ، سجد.

مناسبتها لما قبلها :

تظهر مناسبتها لما قبلها وهي سورة غافر من وجهين :

الأول ـ افتتاح كلتيهما بوصف الكتاب الكريم وهو القرآن العظيم.

الثاني ـ اشتراكهما في تهديد ووعيد وتقريع المشركين المجادلين في آيات الله في مكة وغيرها ، ففي آخر السورة المتقدمة توعدهم بقوله : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) [٨٢] ، وفي القسم الأول من هذه السورة هددهم مرة أخرى بقوله : (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ : أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) [١٣]. وهذا كله مناسب لآخر سورة المؤمن من عدم انتفاع مكذّبي الرّسل حين رؤية العذاب ، كما

١٧٩

أن قريشا لم ينتفعوا حينما حلّ بصناديدهم القتل والأسر والنهب والسّبي ، واستؤصلوا مثلما حلّ بعاد وثمود من استئصال.

مشتملاتها :

موضوع هذه السورة مثل موضوع باقي السّور المكية وهو إثبات أصول العقيدة : «الوحدانية ، الرّسالة والوحي ، البعث والجزاء».

ابتدأت بوصف القرآن العظيم بأنه المنزّل من عند الله بلسان عربي مبين ، والذي يبيّن أدلة قدرة الله وتوحيده ، وكونه المبشّر المنذر ، والذي يثبت صدق النّبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيما جاء به من عند ربّه.

وأبانت موقف المشركين وإعراضهم عن تدبّره ، وقررت حقيقة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأنه بشر خصّه الله تعالى بالوحي المتضمن إعلان وحدانية الله عزوجل ، وإيضاح جزاء الكافرين وجزاء المؤمنين الذين عملوا الصالحات.

ثم أنكرت على المشركين الكفر ، وأقامت الأدلة على وحدانية الله من خلق السموات والأرض ، وأنذرتهم بإنزال عقاب مماثل لعقوبة الأمم الغابرة ، كعاد وثمود الذين أهلكوا ودمرت ديارهم بسبب تكذيب رسل الله ، ولكن بعد إنجاء المؤمنين المتّقين.

وحذّرت من حساب القيامة ، وأخبرت بأن أعضاء الإنسان تشهد عند الحشر على أصحابها ، وأن قرناء السوء زيّنوا لهم أعمالهم ، وأنّهم هم صدّوا عن سبيل الله ودينه ، وقالوا : (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) وطلبوا إهانة من أضلوهم ليكونوا من الأسفلين.

وفي مواجهة أولئك أشاد تعالى بأهل الاستقامة وبشّرهم بالجنة والكرامة ، ووصف من يلقّى الجنة وهم الصابرون على طاعة الله تعالى.

١٨٠