التفسير المنير - ج ٢٤

الدكتور وهبة الزحيلي

التفسير والبيان :

يخبر الله تعالى عن حال الأشقياء الكفار ، كيف يساقون إلى النار ، فيقول :

(وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً) أي يساق الكافرون بربهم إلى النار ، سوقا عنيفا بزجر وتهديد ووعيد ، جماعات متفرقة مرتبة ، بعضها إثر بعض ، لكل جماعة قائد : هو رأسهم في الكفر وداعيتهم إليه. ونظير الآية : (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا) [الطور ٥٢ / ١٣] أي يدفعون إليها دفعا.

(حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها) أي حتى إذا وصلوا إليها ، فتحت لهم أبوابها السبعة سريعا ليدخلوها ولتعجل لهم العقوبة ، ويختصوا بنارها.

(وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها : أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ ، وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا)؟ أي وقال لهم خزنتها من الملائكة الزبانية الأشداء القوى حفظة النار والقائمين عليها ، على وجه التقريع والتوبيخ والتنكيل : ألم يأتكم رسل من جنسكم وأنفسكم تتمكنون من مخاطبتهم والأخذ عنهم ، يتلون عليكم آيات ربكم التي أنزلها لإقامة الحجج والبراهين على صحة ما دعوكم إليه ، ويحذرونكم من شر هذا اليوم ، ويخوفونكم لقاء هذا اليوم الذي صرتم إليه.

(قالُوا : بَلى ، وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ) أي أجابهم الكفار معترفين قائلين لهم : بلى ، قد جاءونا وأنذرونا وأقاموا علينا الحجج والبراهين ، ولكن كذبناهم وخالفناهم ، ووجبت كلمة العذاب على من كفر بالله وأشرك ، وهي قوله تعالى : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [هود ١١ / ١١٩].

ونظير الآية : (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها : أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ، قالُوا : بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ ، فَكَذَّبْنا وَقُلْنا : ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ ، إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي

٦١

ضَلالٍ كَبِيرٍ ، وَقالُوا : لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) [الملك ٦٧ / ٨ ـ ١٠].

وبعد هذا الإقرار أجيبوا بإصدار حكم الجزاء ، فقال تعالى :

(قِيلَ : ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها ، فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) أي تقول لهم الملائكة الحفظة على النار : ادخلوا في أبواب جهنم التي فتحت لكم ، مقدّرا لكم فيها من قبل الله الخلود والبقاء ، ماكثين فيها إلى الأبد ، لا خروج لكم منها ، ولا زوال لكم عنها ، فبئس المسكن الدائم جهنم ، بسبب تكبركم في الدنيا عن اتباع الحق ، فهو الذي صيركم إلى ما أنتم فيه.

وإنما أبهم القائل وأطلق ، ولم ينسب إلى قائل معين ، ليدل على أن الكون شاهد عليهم بأنهم يستحقون ما هم فيه ، بما حكم العدل الخبير عليهم به.

ثم يخبر الله تعالى عن حال السعداء المؤمنين حين يساقون إلى الجنة مكرّمين ، فيقول :

(وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً) أي وتسوق الملائكة المؤمنين بإعزاز وتشريف وتكريم وفدا إلى الجنة ، جماعة بعد جماعة : المقربون ، فالأبرار ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، كل طائفة مع أمثالهم : الأنبياء مع الأنبياء ، والصديقون مع الصديقين ، والشهداء مع بعضهم ، والعلماء مع أقرانهم.

(حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) أي حتى إذا وصلوا إلى أبواب الجنة الثمانية ، بعد مجاوزة الصراط ، واقتص لهم من مظالم الدنيا ، وكانت قد فتحت أبوابها لاستقبالهم بالحراس.

ثبت في صحيح مسلم عن أنس رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «أنا أول شفيع في الجنة» وفي لفظ : «وأنا أول من يقرع باب الجنة».

٦٢

وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : «يدخل الجنة من أمتي زمرة هم سبعون ألفا تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر ، فقام عكاشة بن محصن ، فقال : يا رسول الله ، ادع الله أن يجعلني منهم ، فقال : اللهم اجعله منهم ، ثم قام رجل من الأنصار ، فقال : يا رسول الله ، ادع الله تعالى أن يجعلني منهم ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : سبقك بها عكاشة».

وفي صحيح مسلم عن عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ ، أو فيسبغ الوضوء ، ثم يقول : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية ، يدخل من أيها شاء».

وأخرج البخاري ومسلم عن سهل بن سعد رضي‌الله‌عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : «إن في الجنة ثمانية أبواب ، باب منها يسمّى الريان ، لا يدخله إلا الصائمون».

وروى أحمد عن الحسن عن معاذ رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «مفاتيح الجنة : شهادة أن لا إله إلا الله».

(وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها : سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ ، فَادْخُلُوها خالِدِينَ) أي وقال خزنة الجنة للمؤمنين : سلامة لكم من كل آفة ومكروه ، طابت أعمالكم وأقوالكم وطاب سعيكم في الدنيا ، فلم تتدنسوا بالشرك والمعاصي ، وطاب جزاؤكم في الآخرة ، كما أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن ينادى بين المسلمين في بعض الغزوات فيما رواه أحمد والترمذي والحاكم عن علي : «لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة ـ أو مؤمنة» فادخلوا الجنة ماكثين فيها أبدا ، لا زوال ولا تحول عنها ، ولا موت ولا فناء فيها.

(وَقالُوا : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ ، وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ ، نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ ، فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) أي وقال المؤمنون الأتقياء الذين عملوا

٦٣

الصالحات إذا عاينوا الجنة وما فيها من نعيم مقيم وثواب وافر : الحمد والشكر لله العظيم الذي أنجزنا وعده بالبعث والثواب بالجنة ، والذي وعدنا به على ألسنة رسله الكرام ، كما دعوا في الدنيا : (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ ، وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ ، إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ) [آل عمران ٣ / ١٩٤] ، (وَقالُوا : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ، إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ، الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ ، لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ) [فاطر ٣٥ / ٣٤ ـ ٣٥].

وجعلنا ملاك الجنة المتصرفين فيها ، نرث أرض الجنة ، كأنها صارت من غيرهم إليهم ، فملكوها وتصرفوا فيها ، كما قال تعالى : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) [الأنبياء ٢١ / ١٠٥].

وأين شئنا حللنا ، نتخذ في الجنة من المنازل ما نشاء حيث نشاء ، فنعم الأجر أجرنا على عملنا ، ونعم أجر العاملين : الجنة. جاء في الصحيحين عن أنس رضي‌الله‌عنه في قصة المعراج ، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : «أدخلت الجنة ، فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ (١) ، وإذا ترابها المسك».

ثم أخبر الله تعالى عن حال الملائكة المحدقين حول العرش ، فقال :

(وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ ، يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ، وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ ، وَقِيلَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي وترى أيها السعيد المؤمن جماعات الملائكة محيطين محدقين بالعرش المجيد ، يسبّحون الله (ينزهون الله عن كل نقص وجور) ويمجدونه ويعظمونه ويقدسونه ، ويحمدونه ويشكرونه على أفضاله ونعمه ، قائلين : سبحان الله وبحمده.

__________________

(١) أي قباب اللؤلؤ ، مفرده جنبذة : وهي ما ارتفع من الشيء واستدار كالقبة ، يقال : مكان مجنبذ : مرتفع (لسان العرب).

٦٤

والحال أيضا أنه قد قضي بين العباد بالعدل ، فأدخل بعضهم الجنة ، وبعضهم النار ، ونطق المؤمنون والملائكة والكون أجمعه بالحمد والشكر لله ربّ العالمين من الإنس والجن ، في حكمه وعدله وقضائه بين المؤمنين وبين أهل النار بالحق المطلق الذي لا خطأ فيه.

وأبهم القائل وأطلق هنا كالسابق للدلالة على أن جميع المخلوقات شهدت له بالحمد. قال قتادة : افتتح الخلق بالحمد في قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) [الأنعام ٦ / ١] ، واختتم بالحمد في قوله تبارك وتعالى : (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ ، وَقِيلَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

ويلاحظ أن المؤمنين حمدوا ربّهم أولا على إنجاز وعده ووراثتهم أرض الجنة ، يتبوّءون منها حيث يشاءون ، وحمدوه ثانيا على القضاء بالحق ، والحكم بالعدل بين الناس جميعا.

فقه الحياة أو الأحكام :

أبانت الآيات ما يأتي :

١ ـ توفى كل نفس عملها ، فيساق الكافر إلى النار ، والمؤمن إلى الجنة.

٢ ـ يساق أهل النار إليها بسرعة وعنف ، إهانة لهم واحتقارا ، وهم حينذاك جماعات متفرقة بعضها إثر بعض ، وتفتح أبواب جهنم عند وصولهم إليها ، وتقول لهم سدنتها تقريعا وتوبيخا : ألم تأتكم الرسل من جنسكم لتبليغكم الكتب المنزلة عليكم ، وإنذاركم وتخويفكم لقاء وقتكم هذا؟

٣ ـ يجيب أهل النار : نقر ونعترف بقيام الحجة علينا بمجيء الرسل ، ولكن وجب العذاب على الكفار ، لقوله تعالى : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [هود ١١ / ١١٩].

٦٥

٤ ـ دلّت هذه الآية : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ ..) على أنه لا تكليف ولا إيجاب لشيء من الشرائع والأحكام قبل مجيء الشرع ، لأن الملائكة بيّنوا أنه ما بقي للكفار علّة ولا عذر بعد مجيء الأنبياء عليهم‌السلام ، ولو لم يكن مجيء الأنبياء شرطا في استحقاق العذاب ، لما بقي في هذا الكلام فائدة.

٥ ـ تقول الملائكة بعد سماع جواب الكافرين : (ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ ، خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ).

٦ ـ يقاد الأتقياء بلطف وإعزاز وإكرام ، من الشهداء والزهاد والعلماء والقرّاء وغيرهم ، ممن اتقى الله تعالى وعمل بطاعته ، ويؤتى بهم إلى الجنة ، فيجدون أبوابها مفتحة لهم : (جَنَّاتِ عَدْنٍ ، مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ) [صلى الله عليه وآله وسلم ٣٨ / ٥٠] ويذكر خزنة الجنة لأهل الثواب هذه الكلمات الثلاث :

الأولى ـ قولهم : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) يبشّرونهم بالسلامة من كل الآفات.

الثانية ـ قولهم : (طِبْتُمْ) من دنس المعاصي وطهرتم من خبث الخطايا.

الثالثة ـ قولهم : (فَادْخُلُوها خالِدِينَ) والتعليل بالفاء يدلّ على كون ذلك الدخول معللا بالطيب والطهارة.

٧ ـ سبب التفرقة بين أهل النار وأهل الجنة في فتح الأبواب ، حيث فتحت أبواب النار بغير الواو ، وفتحت أبواب الجنة بالواو : هو احتقار الفريق الأول وتخصيصهم بالنار ، وإعزاز الفريق الثاني وإكرامهم بالاستقبال والاستعداد ، فلا تفتح أبواب النار إلا عند دخول أهلها فيها ، وتفتح أبواب الجنة قبل وصول أهلها إليها ، ولذلك جيء بالواو ، كأنه قيل : حتى إذا جاءوها وقد فتحت أبوابها.

٨ ـ إذا خاطبت الملائكة المتقين بالكلمات الثلاث السابقة ، قال المتقون عند

٦٦

ذلك وبعد دخول الجنة : الحمد لله الذي صدقنا وعده بنعيم الجنة ، وأورثنا أرض الجنة ، فنعم ثواب المحسنين هذا الذي أعطيتنا.

٩ ـ يكون الملائكة في جوانب العرش وأطرافه ، قائلين : سبحان الله وبحمده ، متلذذين بذلك لا متعبدين به ، أي يصلون حول العرش شكرا لربهم ، بعد أن قضي بين أهل الجنة والنار بالعدل ، ويقول المؤمنون والملائكة ونحوهم : الحمد لله على ما أثابنا من نعمه وإحسانه ، ونصرنا على من ظلمنا. ويرى الرازي أن قوله : (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِ) أي بين الملائكة ، وهو دليل على أنهم على درجات مختلفة ومراتب متفاوتة ، فلكل واحد منهم في درجات المعرفة والطاعة حدّ محدود لا يتجاوزه ولا يتعداه (١).

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٧ / ٢٤

٦٧

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة غافر أو : المؤمن

مكيّة ، وهي خمس وثمانون آية.

تسميتها :

تسمى هذه السورة سورة غافر ، لافتتاحها بتنزيل القرآن من الله غافر الذنب وقابل التوب ، والغافر من صفات الله وأسمائه الحسنى. وتسمى أيضا سورة (المؤمن) ، لاشتمالها على قصة مؤمن آل فرعون.

مناسبتها لما قبلها :

تظهر مناسبه هذه السورة لما قبلها من ناحيتين :

الأولى ـ التشابه في الموضوع : فقد ذكر في كل من السورتين أحوال يوم القيامة وأحوال الكفار في يوم المحشر.

الثانية ـ الترابط بين خاتمة السورة السابقة ومطلع هذه السورة ، فقد ذكر في نهاية سورة الزمر أحوال الكفار الأشقياء والمتقين السعداء ، وافتتحت سورة غافر بأن الله غافر الذنب لحث الكافر على الإيمان وترك الكفر.

ومناسبة الحواميم السبع لسورة الزمر : تشابه الافتتاح بتنزيل الكتاب ورتبت الحواميم إثر بعضها ، لاشتراكها بفاتحة (حم) وبذكر (الْكِتابِ) بعد (حم) وأنها مكية ، بل ورد في حديث أنها نزلت جملة واحدة ، وفيها شبه من ترتيب ذوات (الراء) الست. ذكر السيوطي عن

٦٨

ابن عباس وجابر بن زيد في ترتيب السور : أن الحواميم نزلت عقب الزمر ، وأنها نزلت متتاليات كترتيبها في المصحف : المؤمن ، ثم السجدة ، ثم الشورى ، ثم الزخرف ، ثم الدخان ، ثم الجاثية ، ثم الأحقاف ، ولم يتخللها نزول غيرها ، وذلك مناسبة واضحة لوضعها هكذا.

ويقال لها أيضا : آل حم ، قال عبد الله بن مسعود رضي‌الله‌عنه : آل حم ديباج القرآن. وقال ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : إن لكل شيء لبابا ، ولباب القرآن آل حم ، أو قال : الحواميم. وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : «لكل شيء ثمرة ، وإن ثمرة القرآن ذوات حم ، هنّ روضات حسان مخصبات متجاورات ، فمن أحبّ أن يرتع في رياض الجنة فليقرأ الحواميم».

وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه في بعض الغزوات ـ فيما رواه أبو عبيد ـ : «إن بيّتم الليلة ، فقولوا : حم لا ينصرون ـ أو لا تنصرون».

وروى الحافظ أبو بكر البزار والترمذي عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «من قرأ آية الكرسي ، وأول حم المؤمن ، عصم ذلك اليوم من كل سوء».

مشتملاتها :

سورة غافر والحواميم السبع مكية ، فهي تعنى بأصول العقيدة كسائر السور المكية ، لذا جاءت آياتها عنيفة شديدة التأثير لإثبات وحدانية الله وتنزيل القرآن والبعث ، ووصف ملائكة العرش ، وإنهاء الصراع بين أهل الحق وبين أهل الباطل أو فريق الهدى وفريق الضلال.

وقد ابتدأت بإعلان تنزيل الكتاب الكريم من الله المتصف بالصفات الحسنى ، وهاجمت الكفار الذين يجادلون بالباطل ، ثم وصفت مهام ملائكة العرش.

٦٩

وأخبرت عن طلب أهل النار الخروج منها لشدة العذاب ، ورفض هذا الطلب ، وأقامت الأدلة على وجود الله القادر ، وخوّفت من أهوال القيامة ، وأنذرت الكفار من شدائد ذلك اليوم.

ثم لفتت الأنظار لموضع العبرة من إهلاك الأمم الغابرة وهو كفرهم بالآيات البيّنات التي جاؤوا بها ، وخصّت بالذكر قصة موسى عليه‌السلام مع فرعون وهامان وقارون ، وما دار من حوار بين فرعون وقومه وبين رجل من آل فرعون يكتم إيمانه ، وما فعله فرعون الطاغية من قتل أبناء بني إسرائيل واستحياء نسائهم ، خشية انتشار الإيمان في قومه ، وانتهاء القصة بهلاك فرعون بالغرق في البحر مع جنوده ، ونجاة موسى وقومه جند الإيمان في ذلك العصر. وتلك هي قصة الإيمان والطغيان.

وقد أردف ذلك بإعلان خذلان الكافرين ، ونصر الرسل والمؤمنين نصرا مؤزرا في الدنيا والآخرة.

وختمت القصة بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالصبر على أذى قومه كما صبر موسى وغيره من أولي العزم.

ثم أوردت السورة الأدلة الكونية الدالة على وحدانية الله وقدرته ، وضربت المثل للمؤمن بالبصير ، وللكافر بالأعمى ، فالمؤمن نيّر القلب والبصيرة بنور الله ، والكافر مظلم النفس يعيش في ظلمة الكفر.

وأتبعت ذلك ببيان نعم الله على عباده من الأنعام والفلك وغيرها.

وختمت السورة بما يؤكد الغرض المهم منها : وهو الاعتبار بمصرع الظالمين المكذبين ، وما يلقونه من أصناف العذاب ، ومبادرتهم إلى الإيمان حين رؤية العذاب ، ولكن لا ينفعهم ذلك ، فإن سنّة الله الثابتة ألا يقبل إيمان اليأس أو حال رؤية البأس.

٧٠

مصدر تنزيل القرآن وحال المجادلين في آياته

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (٤) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٥) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٦))

الإعراب :

(حم. تَنْزِيلُ الْكِتابِ) قال الرازي : الأقرب ها هنا أن يقال (حم) اسم للسورة ، فقوله (حم) مبتدأ ، وقوله : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ) خبر ، والتقدير : إن هذه السورة المسماة بحم تنزيل الكتاب ، فقول : (تَنْزِيلُ) مصدر ، لكن المراد منه : المنزل.

ويرى القرطبي وغيره أن (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) مبتدأ ، والخبر (مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ). ويجوز أن يكون (تَنْزِيلُ) خبرا لمبتدأ محذوف ، أي هذا (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) ويجوز أن يكون (حم) مبتدأ ، و (تَنْزِيلُ) خبره ، كما قال الرازي ، والمعنى : إن القرآن أنزله الله وليس منقولا ، ولا مما يجوز أن يكذّب به. و (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ) إما نعتان أو بدلان ، ويجوز النصب على الحال. وأما (شَدِيدِ الْعِقابِ) فهو نكرة ويكون خفضه على البدل.

و (حم) : قرئ بالسكون ، وهو المشهور على الأصل في الحروف المقطعة ، وقرئ «حاميم»

٧١

بفتح الميم ، والفتح إما لالتقاء الساكنين ، لأنه أخف الحركات ، أو أن يكون فتح الميم علامة النصب بتقدير فعل ، أي اتل حم.

(أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ) بدل من (كَلِمَةُ رَبِّكَ) بدل الكل من اللفظ أو الاشتمال من المعنى.

البلاغة :

(الذَّنْبِ) و (التَّوْبِ) بينهما طباق.

(ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) وارد بصيغة الحصر.

المفردات اللغوية :

(حم) تقرأ هكذا : حاميم بالسكون ، أو بالفتح حاميم ، وهذه الحروف المقطعة المبدوء بها بعض السور للتنبيه على إعجاز القران وتحدي العرب أن يأتوا بمثله ، وللدلالة على أن هذا القرآن المعجز منظوم من أمثال هذه الحروف الهجائية التي تتركب منها الكلمات والجمل العربية.

(الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) القوي في ملكه ، العليم بخلقه ، قال البيضاوي : لعل تخصيص الوصفين لما في القرآن من الإعجاز والحكم ، الدال على القدرة الكاملة والحكمة البالغة. (غافِرِ الذَّنْبِ) للمؤمنين التائبين. (وَقابِلِ التَّوْبِ) يقبل منهم التوبة فضلا منه ورحمة. (شَدِيدِ الْعِقابِ) للكافرين. (ذِي الطَّوْلِ) صاحب الفضل والإنعام على عباده ، وذو الغنى والسعة أيضا ، وإيراد هذه الصفات للترغيب والترهيب والحثّ على الإيمان. (الْمَصِيرُ) المرجع ، فيجازي المطيع والعاصي.

(ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ) القرآن. (إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) من مشركي مكة وأمثالهم ، فيه تسجيل صفة الكفر على المجادلين في القرآن بالباطل والطعن فيه لإدحاض الحق. (فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ) لا تغترّ بإمهالهم وإقبالهم في دنياهم وتقلبهم في بلاد الشام واليمن بالتجارات الرابحة بقصد المعاش ، فإن عاقبتهم النار والهلاك. والتقلب في البلاد : التصرف والتنقل.

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ) كذبت قوم نوح بالرسل وعادوهم ، وكذلك كذبت الأحزاب (الجماعات) من بعدهم كعاد وثمود وغيرهما. (وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ) من هؤلاء (هَمَّتْ) عزمت. (لِيَأْخُذُوهُ) ليتمكنوا منه بما أرادوا من تعذيب وقتل ، فيحبسوه ويأسروه ويعذبوه ويقتلوه. (بِالْباطِلِ) بما لا حقيقة له. (لِيُدْحِضُوا) يزيلوا به الحق. (فَأَخَذْتُهُمْ) بالإهلاك والعقاب. (فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) أي عقابي لهم ، بأن وقع موقعه.

(حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) وجبت كلمته أي حكمه بالهلاك وقضاؤه بالعذاب. (عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) لكفرهم. (أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ) أي وتلك الكلمة هي أنهم مستحقون للنار.

٧٢

سبب النزول :

نزول الآية (٤):

(ما يُجادِلُ ..) : أخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله تعالى : (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) قال : نزلت في الحارث بن قيس السهمي.

التفسير والبيان :

موضوع هذه الآيات بيان مصدر نزول القرآن : وهو أنه من عند الله ، الذي وصف نفسه بصفات ست ، ثم مناقشة الكفار الذين جادلوا في آيات الله بالباطل أي بقصد الطعن فيها وإدحاض الحق ، فاستحقوا التهديد بعذاب الله وهو أنهم في النار.

(حم. تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ حم) : من الحروف المقطعة في فواتح السور ، للتنبيه على مضمون السورة وعلى إعجاز القرآن المكون نظمه من حروف اللغة العربية التي ينطق بها العرب وينظمون بها الأشعار ويدبّجون بها الخطب الرنانة ، ومع ذلك لا يستطيعون معارضته ، لأنه كلام الله تعالى.

والقرآن المتلو بين الناس على الملأ منزّل من عند الله ، ليس بكذب عليه ، والله الذي أنزله هو العزيز أي الغالب القوي القادر القاهر ، والعليم أي البالغ العلم التام بخلقه وما يقولونه ويفعلونه ، الذي يعلم السر وأخفى.

ثم وصف الله نفسه بستة أنواع من الصفات الجامعة بين الوعد والوعيد والترغيب والترهيب ، فقال :

(غافِرِ الذَّنْبِ ، وَقابِلِ التَّوْبِ ، شَدِيدِ الْعِقابِ ، ذِي الطَّوْلِ ،

٧٣

لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ، إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) أي إن الله منزل القرآن هو غافر الذنب الذي سلف لأوليائه ، سواء أكان صغيرة أم كبيرة بعد التوبة أو قبل التوبة بمشيئته ، وقابل توبتهم المخلصة ، وشديد العقاب لأعدائه ، وذو التفضل والإنعام والسعة والغنى ، ينعم بمحض إحسانه تعالى ، وهو الإله الواحد الذي لا شريك له ولا ندّ ولا صاحبة ولا ولد ، وإليه المرجع والمآب في اليوم الآخر ، لا إلى غيره.

ثم ذكر تعالى أحوال المجادلين في القرآن بقصد إبطاله وإطفاء نوره ، فقال :

(ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا ، فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ) أي ما يخاصم في دفع آيات الله وتكذيبها إلا الذين كفروا ، فهم يجادلون بالباطل بقصد دحض الحق ، كوصفهم القرآن بأنه شعر أو سحر أو أساطير الأولين ، فلا تغترّ أيها النبي وكل مؤمن بشيء من رفاهية الدنيا التي تراهم فيها ، كالتجارة في البلاد ، وتحقيق الأرباح ، وجمع الأموال ، فإنهم معاقبون عما قليل ، وعاقبتهم في النهاية الدمار والهلاك ، وهذا تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، كما قال تعالى : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ ، مَتاعٌ قَلِيلٌ ، ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ ، وَبِئْسَ الْمِهادُ) [آل عمران ٣ / ١٩٦ ـ ١٩٧] ، وقال سبحانه : (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ، ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) [لقمان ٣١ / ٢٤].

ويلاحظ أن الجدال نوعان : جدال في تقرير الحق ، وجدال في تقرير الباطل ، أما الجدال بالحق لبيان غوامض الأمور والوصول إلى فهم الحقائق : فهو جائز مشروع ، اتخذه الأنبياء أسلوبا في دعوتهم إلى الدين الحق ، قال تعالى حكاية عن قوم نوح عليه‌السلام أنهم قالوا له : (يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا) [هود ١١ / ٣٢] ، وقال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل ١٦ / ١٢٥].

وأما الجدال بالباطل كالمذكور هنا فهو مذموم ، كما قال تعالى : (ما ضَرَبُوهُ

٧٤

لَكَ إِلَّا جَدَلاً ، بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) [الزخرف ٤٣ / ٥٨] ، وهو المشار إليه في قوله صلى الله عليه وآله وسلم : «لا تماروا في القرآن ، فإن المراء فيه كفر» ، «إن جدالا في القرآن كفر».

قال أبو العالية : آيتان ما أشدهما على الذين يجادلون في القرآن ، قوله : (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) وقوله : (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) [البقرة ٢ / ١٧٦].

ثم أخبر الله تعالى عن تشابه أقوام الأنبياء في تكذيب رسلهم ، فقال :

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي كذبت قبل قوم قريش قوم نوح (وهو أول رسول بعثه الله للنهي عن عبادة الأوثان) والجماعات الذين تخربوا على الرسل من بعد قوم نوح ، كعاد وثمود وأصحاب لوط وقوم فرعون ، بتكذيب رسلهم ، فعوقبوا أشد العقاب.

(وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ) أي وعزمت وحرصت كل أمة من تلك الأمم المكذبة برسولهم المرسل إليهم على أخذه ، لحبسه وتعذيبه وإصابة ما يريدون منه أو قتله ، فمنهم من قتل رسوله ، وخاصموا رسولهم بالشبهة وبالباطل من القول ، ليردوا الحق الواضح الجلي ، وليبطلوا الإيمان. روى أبو القاسم الطبراني عن ابن عباس رضي‌الله‌عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : «من أعان باطلا ليدحض به حقا ، فقد برئت منه ذمة الله تعالى وذمة رسوله ص». وقال يحيى بن سلام : جادلوا الأنبياء بالشرك ليبطلوا به الإيمان.

(فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) أي فأخذت هؤلاء المجادلين بالباطل بالعذاب ، وأهلكتهم ، فقد جاء الأخذ بمعنى الإهلاك في قوله تعالى : (ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) [الحج ٢٢ / ٤٤]. فانظر كيف عقابي الذي عاقبتهم

٧٥

به؟ فإنه كان مهلكا مستأصلا ، وليعتبر قومك يا محمد بهذا ، فإني أعاقبهم بعقاب مماثل ، وإنهم يمرون على بلادهم ومساكنهم ، فيعاينون أثر ذلك. وهذا تقرير فيه معنى التعجيب ، وأكّد هذا المعنى بقوله :

(وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ) أي ومثل ذلك عذاب كل كافر ، والمعنى : وكما وجب العذاب على الأمم المكذبة لرسلهم ، وجب على الذين كفروا بك يا محمد ، وجادلوك بالباطل ، وتحزبوا عليك ، فالسبب واحد والعلة واحدة ، وذلك العذاب هو استحقاقهم النار.

والمراد بكلمة العذاب هي أنهم مستحقون النار.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلّت الآيات على ما يأتي :

١ ـ إن تنزيل القرآن من الله ذي العزة والعلم ، فهو ليس منقولا ولا مما يصحّ أن يكذّب به.

٢ ـ وصف الله تعالى نفسه بستّ صفات تجمع بين الترغيب والترهيب ، وتفتح باب الأمل للعصاة والكفار للمبادرة إلى ساحة الإيمان والتزام جادة الاستقامة على أمر الله ومنهجه. وتشير القصتان التاليتان إلى مدى فعالية هذا الأسلوب القرآني في إصلاح البشرية.

روى ابن أبي حاتم وابن جرير عن أبي إسحاق السبيعي قال : جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إني قتلت ، فهل لي من توبة؟ فقرأ عمر رضي‌الله‌عنه : (حم. تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. غافِرِ الذَّنْبِ ، وَقابِلِ التَّوْبِ ، شَدِيدِ الْعِقابِ ..) الآية ، وقال : اعمل ولا تيأس.

٧٦

وروى ابن أبي حاتم أيضا والحافظ أبو نعيم عن يزيد بن الأصم قال : كان رجل من أهل الشام ذو بأس ، وكان يفد إلى عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه ، ففقده عمر ، فقال : ما فعل فلان بن فلان؟ فقالوا : يا أمير المؤمنين ، تتابع في هذا الشراب. فدعا عمر كاتبه ، فقال :

اكتب من عمر بن الخطاب إلى فلان بن فلان ، سلام عليك ، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو (غافِرِ الذَّنْبِ ، وَقابِلِ التَّوْبِ ، شَدِيدِ الْعِقابِ ، ذِي الطَّوْلِ ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ، إِلَيْهِ الْمَصِيرُ). ثم قال لأصحابه : ادعوا الله لأخيكم أن يقبل بقلبه ويتوب الله عليه.

فلما بلغ الرجل كتاب عمر رضي‌الله‌عنه جعل يقرؤه ويردده ، ويقول : (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ) قد حذّرني عقوبته ، ووعدني أن يغفر لي. فلم يزل يرددها على نفسه ، ثم بكى ، ثم نزع فأحسن النزع.

فلما بلغ عمر خبره قال : هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أخا لكم زلّ زلّة ، فسدّدوه ووثّقوه ، وادعوا الله له أن يتوب عليه ، ولا تكونوا أعوانا للشيطان عليه.

٣ ـ قد يعفو الله تعالى عن الذنوب الصغائر بتوبة أو بغير توبة ، وقد يعفو أيضا عن الكبائر كالقتل والسرقة والزنى بعد التوبة ، وإطلاق الآية (غافِرِ الذَّنْبِ) يدل على كونه غافرا للذنوب الكبائر قبل التوبة ، إذا شاء وأراد.

ولكن قبول التوبة من الذنب يقع على سبيل التفضل والإحسان من الله ، وليس بواجب على الله ، لأنه تعالى ذكر كونه قابلا للتوب على سبيل المدح والثناء ، ولو كان ذلك من الواجبات لم يبق فيه من معنى المدح إلا القليل. وقالت المعتزلة : إنه واجب على الله بإيجاب منه على نفسه ، لا بإيجاب غيره عليه.

٧٧

٤ ـ في الآية إيماء بترجيح جانب الرحمة والفضل على جانب الغضب والعدل ، لأنه تعالى لما أراد أن يصف نفسه بأنه (شَدِيدِ الْعِقابِ) ذكر قبله أمرين ، كل واحد منهما يقتضي زوال العقاب ، وهو كونه (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ) وذكر بعده ما يدلّ على حصول الرحمة العظيمة ، وهو قوله : (ذِي الطَّوْلِ).

٥ ـ إن الجدال لتقرير الباطل لدحض الحق وإبطال الإيمان ، بالاعتماد على الشبهات ، بعد البيان القرآني وظهور البرهان الإلهي : كفر وضلال وجحود لآيات الله وحججه وبراهينه.

والجدال في آيات الله أن يقال مثلا عن القرآن : إنه سحر أو شعر أو من قول الكهنة ، أو أساطير الأولين ، أو إنما يعلّمه بشر ، ونحو ذلك.

أما الجدال لتوضيح الحق ورفع اللّبس والرّد إلى الحق ، فهو من أعظم ما يتقرّب به المتقرّبون ، قال تعالى : (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [العنكبوت ٢٩ / ٤٦].

٦ ـ لا يغترن أحد بإمهال الكفرة والعصاة وتركهم سالمين في أبدانهم وأموالهم يترددون في البلاد للتجارة وطلب المعاش ، فإن الله يمهل ولا يهمل ، وإنه وإن أمهلهم فإنه سينتقم منهم كما فعل بأمثالهم من الأمم الماضية.

٧ ـ المثال المتكرر في القرآن الكريم : هو أن الله تعالى أهلك الأمم المكذبة برسلها ، الذين جادلوا الأنبياء بالشرك ليبطلوا به الإيمان ، وقد لمس الناس آثار ذلك الهلاك في ديارهم ومساكنهم ، لذا قال تعالى : (فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) أي كيف كان عقابي إياهم ، أليس وجدوه حقا؟!

٨ ـ إن مثل الذي وجب (حق) على الأمم السالفة من العقاب ، يجب

٧٨

(يحق) على الذين كفروا في كل زمان ومكان ، سواء من قريش وغيرهم ، فهم على وشك نزول العقاب بهم.

محبة الملائكة حملة العرش للمؤمنين ونصرتهم

(الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٧) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٨) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩))

الإعراب :

(الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ) مبتدأ ، وخبره : (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ).

(وَمَنْ صَلَحَ) معطوف على هم ضمير (وَأَدْخِلْهُمْ).

(وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ مَنْ) اسم موصول ، مبتدأ ، وخبره جملة (فَقَدْ رَحِمْتَهُ).

المفردات اللغوية :

(الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ) هم الملائكة الكروبيون الذين هم أعلى طبقات الملائكة وأولهم وجودا ، وحملهم العرش عند بعضهم : مجاز عن حفظهم وتدبيرهم له ، و (الْعَرْشَ) مركز تدبير العالم ، وهو حقيقة ، الله أعلم به. (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) يقرنون التسبيح (تنزيه الله عن كل النقائص) بالحمد والشكر ، فيقولون : سبحان الله وبحمده. (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) بالله تعالى ، أي يصدقون ببصائرهم بوحدانية الله. (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) يطلبون المغفرة لهم ، فهم يشفعون لهم ويلهمون المؤمنين ما يوجب المغفرة ، ويحملونهم على التوبة ، وفيه تنبيه على أن المشاركة في

٧٩

الإيمان توجب النصح والشفقة. (رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) أي يقولون ربّنا ، وهو بيان لقوله : (يَسْتَغْفِرُونَ). والمعنى : يا ربنا ، لقد وسعت رحمتك كل شيء ، ووسع علمك كل شيء. (فَاغْفِرْ) المغفرة : الستر. (تابُوا) من الشرك. (وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ) دين الإسلام. (وَقِهِمْ) احفظهم واصرف عنهم. (عَذابَ الْجَحِيمِ) عذاب النار.

(جَنَّاتِ عَدْنٍ) إقامة دائمة. (الْعَزِيزُ) القوي الغالب القاهر. (الْحَكِيمُ) في صنعه.

(وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ) احفظهم من عذابها أي جزاء السيئات. (وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ) يوم القيامة.

المناسبة :

بعد أن بيّن الله تعالى أن الكفار يبالغون في إظهار العداوة للمؤمنين ، بيّن هنا أن أشرف المخلوقات وهم حملة العرش والذين هم حول العرش يبالغون في إظهار المحبة والنصرة للمؤمنين ، فلا تبال بالكفرة أيها الرسول ، ولا تلتفت إليهم ولا تقم لهم وزنا ، فإن حملة العرش ومن حوله ينصرونك.

التفسير والبيان :

(الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) إن الملائكة حملة العرش ومن حوله من الملائكة الكروبيين الذين هم أفضل الملائكة يقرنون بين التسبيح (التنزيه) الدال على نفي النقائص ، والتحميد المقتضي لإثبات صفات الثناء والتمجيد ، ويصدقون بوجود الله ووحدانيته ولا يستكبرون عن عبادته ، فهم خاشعون له ، أذلاء بين يديه ، ويطلبون المغفرة للذين آمنوا من أهل الأرض ممن آمن بالغيب.

ولما كان هذا من سجايا الملائكة عليهم‌السلام ، فهم يؤمّنون على دعاء المؤمن لأخيه المؤمن بظهر الغيب ، كما ثبت في صحيح مسلم : «إذا دعا المسلم لأخيه بظهر الغيب ، قال الملك : آمين ، ولك بمثله».

ونحن نؤمن بحمل الملائكة العرش ، ونترك الكيف والعدد لله عزوجل ،

٨٠