التفسير المنير - ج ٢٤

الدكتور وهبة الزحيلي

ونظير بعض الآية : قال تعالى : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ) [الأحقاف ٤٦ / ٢٦] وقال سبحانه : (وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها) [الروم ٣٠ / ٩].

ثم ذكر الله تعالى علة إهلاكهم وتدميرهم ، فقال :

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ ، فَكَفَرُوا ، فَأَخَذَهُمُ اللهُ ، إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ) أي ذلك الأخذ والإهلاك بسبب أن رسلهم كانوا يأتونهم بالحجج الواضحة على الإيمان الحق ، فكفروا بما جاءوهم به ، فأهلكهم الله ودمّر عليهم ، إن الله ذو قوة عظيمة وبطش شديد ، يفعل كل ما يريده ، لا يعجزه شيء ، وعقابه أليم شديد وجيع لكل من عصاه ، فيا أيها الكفار والعصاة اعتبروا واتعظوا بغيركم ، فالسعيد من وعظ بغيره.

فقه الحياة أو الأحكام :

موضوع الآيات شيئان : التخويف من عذاب الآخرة ، والتحذير من عذاب الدنيا.

أما عذاب الآخرة : فقد ذكر الله تعالى ثمانية أسباب موجبة للخوف وهي (١) :

١ ـ أنه سمى ذلك اليوم يوم الآزفة ، أي يوم القرب من العذاب لمن أذنب.

٢ ـ أنه بلغ ذلك الخوف إلى أن زال القلب من الصدر وارتفع إلى الحنجرة.

٣ ـ لا يمكنهم أن ينطقوا لشدة ما اعتراهم من الحزن والخوف ، وذلك يوجب القلق والاضطراب.

٤ ـ ليس لهم قريب ينفعهم ، ولا شفيع يطاع فيهم ، فتقبل شفاعته.

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٧ / ٥٢

١٠١

٥ ـ أنه سبحانه عالم بكل شيء صغير أو كبير ، دقيق أو جليل ، وهذا يوجب شدة الخوف.

٦ ـ الله يقضي بالحق المطلق والعدل التام ، وهذا أيضا يوجب عظم الخوف.

٧ ـ لا فائدة مما عول عليه المشركون من شفاعة الأصنام ، فهم لا يقضون بشيء.

٨ ـ إن الله يسمع من الكفار ثناءهم على الأصنام ونحوها من المعبودات الباطلة ، ويبصر خضوعهم وسجودهم لها.

وأما عذاب الدنيا : فأمام هؤلاء الكفار المكذبين لرسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم نماذج وألوان من عذاب الأمم القديمة المكذبة رسلها ، وقد نزل بهم العذاب لأجل أنهم كفروا وكذبوا الرسل ، وهؤلاء الحاضرون يشاهدون آثار دمارهم وهلاكهم ، والله يحذر الكفار قوم الرسول من مثل أفعال أولئك الماضين ، وقد ختم الكلام بقوله : (إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ) مبالغة في التحذير والتخويف.

قصة موسى عليه‌السلام مع فرعون وهامان

ـ ١ ـ

تعذيب بني إسرائيل والتهديد بقتل موسى

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢٣) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٢٤) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٢٥) وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ

١٠٢

إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (٢٦) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (٢٧))

البلاغة :

(وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) فيه وضع الظاهر وهو (الْكافِرِينَ) موضع الضمير أي كيدهم لتعميم الحكم والدلالة على العلة وهي الكفر.

(كَذَّابٌ) صيغة مبالغة.

المفردات اللغوية :

(بِآياتِنا) أي المعجزات (وَسُلْطانٍ) حجة وبرهان (مُبِينٍ) ظاهر واضح ، والعطف بين الآيات والسلطان لتغاير الوصفين (فِرْعَوْنَ) ملك مصر (وَهامانَ) وزير فرعون (وَقارُونَ) كان ثريا (ساحِرٌ كَذَّابٌ) يعنون موسى عليه‌السلام ، وفيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبيان عاقبة من هو أشد بطشا من الذين كانوا من قبلهم وأقربهم زمانا.

(بِالْحَقِ) بالصدق (قالُوا : اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ) استبقوهم أحياء ، والمعنى : أعيدوا عليهم ما كنتم تفعلون بهم من قتل الأولاد الذكور وإبقاء النساء أحياء للخدمة (وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) ضياع.

(وَقالَ فِرْعَوْنُ : ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) فيه غاية الكيد والحقد والتجلد وعدم المبالاة بدعاء ربه ليمنعه منه (إِنِّي أَخافُ) إن لم أقتله (أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ) أن يغير ما أنتم عليه من عبادتي وعبادة الأصنام. (أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ) أي ما يفسد دنياكم من القتل والتجارب وإثارة الفتن إن لم يقدر أن يبطل دينكم (وَقالَ مُوسى) لقومه لما سمع كلام فرعون (إِنِّي عُذْتُ) استعذت واستجرت واستعنت ، وبدأ ب «إن» للتأكيد والدلالة على أن السبب المؤكد في دفع الشر هو العياذ بالله (بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ) خص اسم الرب ، لأن المطلوب هو الحفظ والتربية ، وقوله : (وَرَبِّكُمْ) للحث على الاقتداء به ، فيتعوذوا بالله مثله ويعتصموا بالتوكل عليه مثله (مِنْ

١٠٣

كُلِّ مُتَكَبِّرٍ) لم يسم فرعون ، وذكر وصفا يعمه وغيره لتعميم الاستعاذة بحيث تشمل فرعون وغيره من الجبابرة ، ولاستخدام طريقة التعريض التي هي أبلغ. والتكبر : الاستكبار عن الإذعان للحق ، وهو أقبح استكبار (لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ) ذكر هذا لأنه إذا اجتمع في الرجل التجبر والتكذيب بالجزاء وقلة المبالاة بالعاقبة ، استكمل وصف القسوة والجرأة على الله وعلى عباده.

المناسبة :

لما سلّى الله تعالى رسوله بذكر عاقبة الكفار الذين كذبوا الأنبياء قبله وبمشاهدة آثارهم ، سلاه أيضا بذكر قصة موسى عليه‌السلام التي دلت على أنه مع قوة معجزاته ، كذبه فرعون وهامان وقارون ، وقالوا عنه : هو ساحر كذاب. ولكن في النهاية انتصر عليهم ، وتلك بشارة لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم بأن العاقبة والنصرة له في الدنيا والآخرة ، كما جرى لموسى بن عمران عليه‌السلام.

التفسير والبيان :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي تالله لقد أرسلنا موسى بالمعجزات التي هي الآيات التسع كاليد والعصا ، وبحجة بينة واضحة وبرهان قوي.

(إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ ، فَقالُوا : ساحِرٌ كَذَّابٌ) أرسلنا موسى إلى فرعون ملك مصر ، وهامان وزيره ، وقارون أغنى أهل زمانه ، فقالوا عنه : إنه ساحر مخادع مجنون مموه ، كذاب فيما زعم أن الله أرسله ، كما قال تعالى : (كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا : ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ. أَتَواصَوْا بِهِ ، بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) [الذاريات ٥١ / ٥٢ ـ ٥٣].

وخص هؤلاء الطغاة بالذكر ، لأنهم رؤساء المكذبين بموسى ، وغيرهم تابع لهم. وشأن الجبابرة عدم الإصغاء للحجة والمنطق واللجوء إلى القوة ، كما قال

١٠٤

تعالى : (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا) أي بالبرهان القاطع الدال على أن الله عزوجل أرسله إليهم ، وهي معجزاته الظاهرة الواضحة.

(قالُوا : اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ، وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ) أي قال أولئك الطغاة : عودوا إلى قتل الذكور وترك النساء ، لئلا يكثر جمعهم ، ولكي يضعف شأنهم. وهذه هي المرة الثانية بالأمر بذلك بعد بعثة موسى ، وكانت المرة الأولى قبل ولادة موسى ، لأجل تفادي وجوده ، ولإذلال الشعب الإسرائيلي ، ولتقليل عددهم ، لئلا ينصروا عليهم. ولكن الله تعالى أحبط كيدهم وأفشل خطتهم كما قال :

(وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) أي وما مكرهم وقصدهم تقليل عدد بني إسرائيل إلا في ضياع وذهاب سدى ، لم يحقق فائدة لهم ، فإنهم لما باشروا قتلهم أولا ، فما أفادهم ، وعاش موسى ، فكذلك لا يفيدهم تجديد مأساة القتل الجماعي ، وسيكون النصر للمؤمنين.

ولكنه زاد في هذه المرة العزم على قتل موسى ، فقال :

(وَقالَ فِرْعَوْنُ : ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى ، وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) أي قال فرعون لقومه : دعوني أقتل موسى ، وليدع ربه الذي يزعم أنه أرسله إلينا ، فليمنعه من القتل إن قدر على ذلك ، ولا أبالي به. وهذا في الظاهر استهانة بدعاء رب موسى ، وفي الباطن كان يرتعد من دعائه ، فقوله : (وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) شاهد صدق على فرط خوفه منه.

وسبب القتل ما قال تعالى :

(إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ) أي إني أخشى أن يغير منهاج دينكم الذي أنتم عليه من عبادتي وعبادة الأصنام ، ويدخلكم في

١٠٥

دينه الذي هو عبادة الله وحده ، أو أن يوقع بين الناس الخلاف والفتنة ، فتكثر الخصومات والمنازعات ، وتثار القلاقل والاضطرابات. والمراد : إظهار الخوف من تبديل الدين أو إفساد أمر الدنيا.

وإذا كان فرعون اعتز بجبروته وقوته ، فإن موسى عليه‌السلام اعتصم بالله ، فقال :

(وَقالَ مُوسى : إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ ، لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ) أي لما بلغ موسى قول فرعون : (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى ..) قال : إني استجرت بالله وعذت به من شره وشر أمثاله من كل متعاظم متعال مستكبر عن الإذعان للحق ، كافر مجرم لا يؤمن بالبعث والحساب والجزاء.

وقد استعاذ موسى ممن جمع بين الاستكبار والتكذيب بالجزاء ، لأنهما عنوان الجرأة على الله وعلى عباده. وقال موسى (بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ) لحث قومه على مشاركته في الاستعاذة بالله من شر فرعون وملئه.

وقد ثبت في الحديث عن أبي موسى رضي‌الله‌عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا خاف قوما قال : «اللهم انا نعوذ بك من شرورهم ، وندرأ بك في نحورهم».

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ يشترك الأنبياء في أمور هي تأييدهم بالمعجزات الدالة على صدقهم ، وإعراض أقوامهم عنهم ، واتهامهم بالكذب والتمويه والسحر ، والتهديد بالطرد والتشريد أو القتل والتعذيب ، ولكن النصر في النهاية للأنبياء والمؤمنين.

١٠٦

٢ ـ وهذا المنهج هو ما عرف عن قصة موسى عليه‌السلام مع فرعون وقومه ، أيده الله بالمعجزات وهي الآيات التسع المذكورة في قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ) [الإسراء ١٧ / ١٠١]. وكان ابتلاء الله موسى برؤوس الطغيان والكبرياء وهم فرعون الملك ، وهامان الوزير ، وقارون صاحب الأموال والكنوز الذي اتفق مع فرعون وهامان في الكفر والتكذيب ، فلما عجزوا عن معارضته بالحجة ، وأبوا الإذعان للمنطق ، وصفوا المعجزات بالسحر ، ووصفوه بالكذب.

٣ ـ وزاد طغيان فرعون ، وامتد إلى القتل الجماعي لبني إسرائيل ، وإبادة الأولاد الذكور بعد الولادة ، وإبقاء النساء أحياء للإذلال والخدمة والإهانة ، لئلا ينشأ الأطفال على دين موسى ، فيقوى بهم ، وتلك عودة منه إلى عادته القديمة بارتكاب هذه المنكرات.

قال قتادة : هذا قتل غير القتل الأول ، لأن فرعون كان قد أمسك عن قتل الولدان بعد ولادة موسى ، فلما بعث الله موسى ، أعاد القتل على بني إسرائيل عقوبة لهم ، فيمتنع الإنسان من الإيمان ، ولئلا يكثر جمعهم ، فيعتضدوا بالذكور من أولادهم ، فشغلهم الله عن ذلك بما أنزل عليهم من أنواع العذاب ، كالضفادع والقمّل والدم والطوفان ، إلى أن خرجوا من مصر ، فأغرقهم الله تعالى.

٤ ـ تحقق نصر الله تعالى لموسى عليه‌السلام ، وأحبط مكائد فرعون وقومه ، وجعل مكرهم في خسران وضياع ، فإن الناس لا يمتنعون من الإيمان ، وإن فعل بهم مثلما فعل فرعون أو أشد.

٥ ـ عزم فرعون أيضا على قتل موسى غير مبال ببطش الله وقوته ، وأبان لقومه السبب الموجب لقتله وهو أن وجوده يؤدي إلى أحد أمرين أو كليهما : إما فساد الدين أو فساد الدنيا. والمراد بالدين : هو عبادة فرعون والأصنام ،

١٠٧

والمقصود بفساد الدنيا : إيقاع الخصومات ، وإثارة الفتن والقلاقل والاضطرابات.

٦ ـ لما هدد فرعون بالقتل ، لجأ موسى إلى ربه مستعيذا به من كل متعظم عن الإيمان ، ولا يؤمن بالآخرة.

٧ ـ استنبط الرازي من كلمات موسى ودعائه ثماني فوائد هي بإيجاز :

الأولى ـ إن قول موسى (إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ) مستخدما لفظة (إِنِّي) الدالة على التأكيد ، للدلالة على أن الطريق المؤكد المفيد في دفع الشرور والآفات عن النفس ، الاعتماد على الله ، والتوكل على عصمة الله تعالى.

الثانية ـ الاستعاذة بالله تصون الإنسان من شياطين الإنس والجن ، فإذا قال المسلم : «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» فالله تعالى يصون دينه وإخلاصه عن وساوس شياطين الجن ، فكذلك إذا قال المسلم : أعوذ بالله ، فالله يصونه عن كل الآفات والمخافات.

الثالثة ـ قوله (بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ) : لما كان المولى ليس إلا الله ، وجب ألا يرجع العاقل في دفع كل الآفات إلا إلى حفظ الله تعالى ، فهو المربي والحافظ.

الرابعة ـ قوله (وَرَبِّكُمْ) فيه بعث أو حث لقوم موسى عليه‌السلام على أن يقتدوا به في الاستعاذة بالله.

الخامسة ـ لم يذكر موسى فرعون في دعائه ، رعاية لحق تربيته له في الصغر.

السادسة ـ بالرغم من عزم فرعون على قتل موسى ، فلا فائدة في الدعاء عليه بعينه ، بل الأولى الاستعاذة بالله في دفع كل من كان موصوفا بصفة التكبر والكفر بالبعث ، حتى يشمل كل من كان عدوا ظاهرا أو خفيا.

١٠٨

السابعة ـ إن الجرأة على إيذاء الناس أمران : أحدهما ـ كون الإنسان متكبرا قاسي القلب ، والثاني ـ كونه منكرا للبعث والقيامة ، وقد اتصف فرعون بالأمرين.

الثامنة ـ أجاب موسى عن استهزاء فرعون بقوله : (وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) : بأن ما ذكرته يا فرعون بطريق الاستهزاء هو الدين الحق ، وأنا أدعو ربي ، وأطلب منه أن يدفع شرك عني ، وسترى كيف أن ربي يقهرك ، وكيف يسلطني عليك. وهو رد قولي وفعلي.

الخلاصة من هذا الدعاء : أن طريق دفع كيد الأعداء وإبطال مكرهم هو الاستعاذة بالله ، والرجوع إلى حفظ الله تعالى.

ـ ٢ ـ

قصة مؤمن آل فرعون ودفاعه عن موسى عليه‌السلام

(وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (٢٨) يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (٢٩) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (٣٠) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (٣١) وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ

١٠٩

(٣٢) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (٣٤) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (٣٥))

الإعراب :

(أَنْ يَقُولَ : رَبِّيَ اللهُ) منصوب بنزع الخافض ، أي بأن يقول.

(وَإِنْ يَكُ كاذِباً) حذفت النون من (يَكُ) لكثرة الاستعمال ، وهو رأي جمهور النحاة ، أو تشبيها لها بنون الإعراب في نحو «يضربون» وهو قول المبرّد ، والوجه الأول أوجه.

(ظاهِرِينَ) حال.

(مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ مِثْلَ) : بدل منصوب من (مِثْلَ) الأول في قوله تعالى : (مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ).

(يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ يَوْمَ) بدل منصوب من (يَوْمَ) الأول في قوله تعالى : (يَوْمَ التَّنادِ).

(الَّذِينَ يُجادِلُونَ .. الَّذِينَ) : بدل منصوب من (مِنْ) في قوله تعالى : (مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ) ويجوز جعله خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : هم الذين. ورأى السيوطي أن (الَّذِينَ) مبتدأ ، و (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ ..) هو الخبر.

البلاغة :

(كاذِباً) و (صادِقاً) بينهما طباق.

(أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً ..) استفهام على سبيل الإنكار.

(كَذَّابٌ جَبَّارٍ) من صيغ المبالغة.

١١٠

المفردات اللغوية :

(رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) من أقاربه ، فهو ابن عم فرعون وولي عهده وصاحب شرطته ، وهو الظاهر ، وقيل : إنه رجل إسرائيلي أو غريب موحد كان يجاملهم (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً) أتقصدون قتله؟ (أَنْ يَقُولَ) لأن يقول : (رَبِّيَ اللهُ) وحده ، وذلك من غير روية وتأمل في أمره (وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ) بالمعجزات الظاهرات والبراهين الواضحات على وحدانية الله والدالة على صدقه (مِنْ رَبِّكُمْ) نسب الرب إليهم استدراجا لهم إلى الاعتراف به ، ثم احتج عليهم بقوله : (وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ) : لا يتخطاه وبال كذبه وضرره ، فلا حاجة إلى قتله (وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) فلا أقل من أن يصيبكم بعضه. قال البيضاوي : وفيه مبالغة في التحذير ، وإظهار للإنصاف وعدم التعصب ، ولذلك قدم كونه كاذبا (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) مشرك مفتر ، فالمسرف : المقيم على المعاصي المكثر منها ، والكذاب : المفتري. وهو احتجاج ثالث من وجهين : أحدهما ـ أنه لو كان مسرفا كذابا لما هداه الله إلى البينات ، ولما عضده بتلك المعجزات ، وثانيهما ـ أن من خذله الله وأهلكه فلا حاجة لكم إلى قتله. وفيه تعريض بفرعون وتكذيب ربوبيته.

(ظاهِرِينَ) غالبين عالين على بني إسرائيل (فِي الْأَرْضِ) أرض مصر (فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا)؟ من يمنعنا من عذاب الله إن قتلتم أولياءه؟ أي لا ناصر لنا ، وإنما أدرج نفسه في ضميري الفعلين لأنه كان قريبا لهم ، وليريه أنه معهم (قالَ فِرْعَوْنُ : ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى) أي ما أشير عليكم إلا بما أشير به على نفسي ، وهو قتل موسى (وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ) أي ما أدلكم إلا على طريق الصواب.

(إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ) في تكذيبه والتعرض له (مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ) أي مثل أيام الأمم الماضية ، يعني وقائعهم ، و (الْأَحْزابِ) الأقوام الذين تحزّبوا على أنبيائهم وكذبوهم ، وكلمة (يَوْمِ) مفرد مضاف فيعم ، فقد أغنى جمع الأحزاب عن جمع اليوم (مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ ...) أي مثل عادة وجزاء ما كانوا عليه من الكفر وإيذاء الرسل ، بتعذيبهم في الدنيا واستئصالهم (وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) كقوم لوط (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) فلا يعاقبهم بغير ذنب ، ولا يترك الظالم منهم بغير انتقام ، وهو أبلغ من قوله : (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) لأن المنفي فيه عدم تعلق إرادته بالظلم.

(يَوْمَ التَّنادِ) يوم القيامة ، ينادي فيه بعضهم بعضا للاستغاثة ، ويكثر فيه نداء أصحاب الجنة وأصحاب النار وبالعكس ، فينادى بالسعادة لأهل الجنة ، وبالشقاوة لأهل النار وغير ذلك

١١١

(مُدْبِرِينَ) منصرفين عن موقف الحساب إلى النار (ما لَكُمْ مِنَ اللهِ) من عذابه (مِنْ عاصِمٍ) مانع يعصمكم من عذابه.

(وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ) يوسف بن يعقوب عليه‌السلام ، من قبل موسى عليه‌السلام (بِالْبَيِّناتِ) بالمعجزات الظاهرات الدالة على صدقه (هَلَكَ) مات يوسف (لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً) فيه تكذيب رسالته في حياته والكفر بها ، وتكذيب رسالة من بعده (كَذلِكَ مثل إضلالكم (يُضِلُّ اللهُ) في العصيان (مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ) في معاصي الله مستكثر منها (مُرْتابٌ) شاك فيما شهدت به البينات على وحدانية الله ووعده ووعيده. (سُلْطانٍ) حجة قوية وبرهان ظاهر (مَقْتاً) المقت : أشد البغض (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ) أي مثل إضلالهم يطبع (يختم) الله بالضلال على قلوب المتجبرين ، ومتى تكبر القلب تكبر صاحبه ، وبالعكس. وقرئ بتنوين (قَلْبِ) و (كُلِ) على القراءتين يراد به عموم الضلال جميع القلب ، لا عموم القلب.

المناسبة :

بعد أن حكى الله تعالى عن موسى عليه‌السلام أنه ما زاد في دفع شر فرعون الذي عزم على قتله ، على الاستعاذة بالله ، أبان تعالى أنه قيّض له رجلا من آل فرعون يدافع عنه ، لتسكين الفتنة وإزالة الشر. واشتمل دفاعه على أمور ثلاثة كبري هي :

الأول ـ استنكار قتل موسى المؤمن بربه ، المستضعف مع قومه في مواجهة قوم فرعون.

الثاني ـ تحذيرهم بأس الله في الدنيا والآخرة في المكذبين للرسل وهم جماعات الأحزاب كقوم نوح وعاد وثمود.

الثالث ـ تذكيرهم بما فعل آباؤهم الأولون مع يوسف عليه‌السلام من تكذيب رسالته ورسالة من بعده.

١١٢

التفسير والبيان :

(وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ : أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ : رَبِّيَ اللهُ ، وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ) أي قال رجل من أقارب فرعون ورجال دولته : كيف تقتلون رجلا لا ذنب له إلا أن قال : الله ربي ، والحال أنه قد جاءكم بالمعجزات الواضحات والأدلة الدالة على نبوته وصحة رسالته وصدقه؟ فهذا لا يستدعي القتل ، فتوقف فرعون عن قتله ، بسبب صدقه في الدفاع.

قال ابن عباس رضي‌الله‌عنهما ـ فيما رواه ابن أبي حاتم ـ : «لم يؤمن من آل فرعون سوى هذا الرجل ، وامرأة فرعون ، والذي قال : (يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ) [القصص ٢٨ / ٢٠].

والحق أنه كان لهذه الكلمة : (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ : رَبِّيَ اللهُ) تأثير عظيم في نفس فرعون ، وقد كررها أبو بكر في محاولة عقبة بن أبي معيط خنق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، أخرج البخاري في صحيحة عن عروة بن الزبير قال : قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي‌الله‌عنهما : أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، قال : بينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط ، فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولوى ثوبه في عنقه ، فخنقه خنقا شديدا ، فأقبل أبو بكر رضي‌الله‌عنه ، فأخذ بمنكبه ، ودفعه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم قال : (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ : رَبِّيَ اللهُ ، وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ)؟.

وأخرج البزار وأبو نعيم في فضائل الصحابة عن علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه أنه قال : «أيها الناس ، أخبروني من أشجع الناس؟ قال : أنت ، قال : أما إني ما بارزت أحدا إلا انتصفت منه ، ولكن أخبروني عن أشجع الناس ، قالوا : لا نعلم ، فمن؟ قال : أبو بكر ، رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأخذته قريش ، فهذا

١١٣

يجؤه ، وهذا يتلتله ، وهم يقولون : أنت الذي جعلت الآلهة إلها واحدا!! قال : فوالله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر ، يضرب هذا ، ويجأ هذا ، ويتلتل هذا ، وهو يقول : ويلكم أتقتلون رجلا أن يقول : ربي الله؟ ثم رفع ـ أي علي ـ بردة كانت عليه ، فبكى حتى اخضلّت لحيته ، ثم قال : أنشدكم ، أمؤمن آل فرعون خير أم أبو بكر؟ فسكت القوم ، فقال : ألا تجيبون؟ فو الله لساعة من أبي بكر خير من مثل مؤمن آل فرعون ، ذاك رجل يكتم إيمانه ، فأثنى الله عليه في كتابه ، وهذا رجل أعلن إيمانه ، وبذل ماله ودمه».

ثم أورد مؤمن آل فرعون ست حجج أخرى مفصلة لتأييد رأيه ، فقال تعالى :

١ ـ (وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ ، وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) أي إن كان هذا الرجل كاذبا في دعوته ، كان وبال كذبه وإثمه عليه يجازيه الله في الدنيا والآخرة ، فاتركوه ، وإن كان صادقا في دعواه يصبكم بعض الذي يعدكم به إن خالفتموه من العقوبة الدنيوية والأخروية ، فاتركوه وقومه يدعوهم ويتبعونه.

وإنما قال : (بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) فلأنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يتوعدهم بعذاب الدنيا وبعذاب الآخرة ، فإذا أصابهم عذاب الدنيا ، فقد أصابهم بعض الذي يعدهم به. والمراد أنه إذا لم يصبكم كل العذاب المتوعد به ، فلا أقل من أن يصيبكم بعضه ، وفي بعض ذلك هلاككم.

٢ ـ (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) أي لو كان موسى مسرفا في قوله ، متجاوزا حده ، كذابا في دعواه النبوة ، لما هداه الله إلى البينات ، ولا أيده بالمعجزات ، ولو كان كاذبا على الله ، خذله الله وأهلكه ، فلا حاجة لكم إلى قتله.

١١٤

٣ ـ (يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ ، فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا)؟ أي يا قومي ، قد أنعم الله عليكم بهذا الملك الواسع ، وأنتم الغالبون العالون على بني إسرائيل في أرض مصر ، فلكم الكلمة النافذة والجاه العريض ، فراعوا هذه النعمة بشكر الله وتصديق رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، واحذروا نقمة الله إن كذبتم رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، فمن الذي يمنعنا من عذاب الله إن حل بنا؟ ولا تغني عنكم هذه الجنود وهذه العساكر ، ولا ترد عنا شيئا من بأس الله إن أرادنا بسوء.

وإنما قال : (يَنْصُرُنا) و (جاءَنا) لأنه كان يظهر من نفسه أنه منهم ، وأن الذي ينصحهم به هو مشارك لهم فيه ، وأنه حريص على دفع الشر عنهم ، ليتأثروا بنصحه.

فرد فرعون بنصيحة فيها مراوغة ، مظهرا أنه أخلص نصحا لقومه من هذا الرجل ، فقال تعالى :

(قالَ فِرْعَوْنُ : ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى ، وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ) أي قال فرعون مجيبا الرجل المؤمن : ما أشير عليكم إلا بما أرى لنفسي ، وما أدلكم وأدعوكم إلا إلى طريق الصواب الذي يؤدي إلى الفوز والنجاة والغلبة وهو قتل موسى. وقد كذب فرعون وافترى في قوله : (ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى) فإنه كان يتحقق صدق موسى عليه‌السلام فيما جاء به من الرسالة ، وكذب أيضا في قوله : (وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ) أي وما أدعوكم إلا إلى طريق الحق والصدق والرشد ، ولكن قومه مع ذلك قد أطاعوه واتبعوه بسبب سلطانه ونفوذه ، قال تعالى : (فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ ، وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) [هود ١١ / ٩٧] وقال سبحانه : (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى) [طه ٢٠ / ٩٧] جاء في الحديث الثابت الذي رواه الشيخان عن معقل بن يسار : «ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت ، وهو غاشّ لرعيته إلا حرم الله عليه رائحة الجنة ، وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمس مائة عام».

١١٥

٤ ـ (وَقالَ الَّذِي آمَنَ : يا قَوْمِ ، إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ ، مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي لقد حذر هذا الرجل المؤمن الصالح قومه بأس الله تعالى في الدنيا والآخرة ، فبدأ بتخويف العذاب الدنيوي ، فقال : يا قومي ، إني أخشى عليكم إن كذبتم موسى أن يصيبكم مثلما أصاب الأقوام الذين تحزبوا على أنبيائهم وكذبوا رسلهم من الأمم الماضية ، كقوم نوح وعاد وثمود ومن بعدهم كقوم لوط ، فقد حل بهم بأس الله ، ولم يجدوا لهم ناصرا ينصرهم ، ولا عاصما يحميهم. فقوله (مِثْلَ دَأْبِ ..) أي مثل حالهم في العذاب ، أو مثل عادتهم في الإقامة على التكذيب.

(وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) أي لا يريد الله إلحاق ظلم بعباده ، فلم يهلكهم بغير جرم ، إنما أهلكهم بذنوبهم وتكذيبهم رسله ، ومخالفتهم أمره.

ثم خوفهم العذاب الأخروي ، فقال :

٥ ـ (وَيا قَوْمِ ، إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ ، يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ، ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) أي ويا قومي ، إني أخشى عليكم عذاب يوم القيامة ، حين ينادي بعضكم بعضا مستغيثا به من الأهوال ، أو حين ينادي أهل النار أهل الجنة ، وأهل الجنة أهل النار ، كما قال تعالى : (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا ، فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا ، قالُوا : نَعَمْ) [الأعراف ٧ / ٤٤] وقال سبحانه : (وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ) [الأعراف ٧ / ٤٨]. وقال عزوجل : (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) [الأعراف ٧ / ٥٠].

وحين تفرّون هاربين من النار ، أو منصرفين عن الموقف إلى النار ، لا تجدون واقيا ولا مانعا ولا عاصما يعصمكم من عذاب الله ويمنعكم منه ، وهذا تأكيد للتهديد.

١١٦

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) أي من أضله الله ، فلم يوفقه ولم يلهمه رشده ، فلا هادي له غيره يهديه إلى الصواب والنجاة.

٦ ـ (وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ ، فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ ، حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ : لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً) أي أذكركم بأن تكذيب الرسل موروث لديكم من الآباء والأجداد ، فلقد بعث الله لكم أي لآبائكم يا أهل مصر رسولا من قبل موسى عليه‌السلام هو يوسف بن يعقوب ، وجاءكم بالمعجزات الباهرات الدالة على صدقه ، والآيات الواضحات المبينة لدين الله وشرائعه ، فكذبتموه وكذبتم من جاء بعده من الرسل ، وما زلتم في شك من البينات ولم تؤمنوا به ، حتى إذا مات أنكرتم بعثة رسول من بعده ، فكفرتم به في حياته ، وكفرتم بمن بعده من الرسل بعد موته ، مما يدل على توارث التكذيب ، واستمرار العناد في مواجهة الرسل ، والكفر برسالاتهم.

(كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ) أي مثل هذا الضلال وسوء الحال ، يكون حال من يضله الله لإسرافه في المعاصي والاستكثار منها ، وارتياب قلبه في دين الله ، وشكه في وحدانية الله ووعده ووعيده.

وصفة هؤلاء المسرفين المرتابين ما حكاه تعالى :

(الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ ، كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا) أي إن أولئك المسرفين المرتابين هم الذين يجادلون في آيات الله ليبطلوها ، بغير حجة واضحة ولا دليل بيّن ، ويحاربون الحق بالباطل ، كبر ذلك الجدل بغضا عند الله والمؤمنين ، لأنه جدال بالباطل لا أساس له ، أما مقت الله فهو تعذيبه العصاة ، وأما مقت المؤمنين فهو هجر الكفار وترك التعامل معهم.

١١٧

(كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) أي كما طبع الله على قلوب هؤلاء المجادلين المسرفين ، فكذلك يطبع ويختم على جميع قلوب المتكبرين الجبارين ، الذين يتكبرون على اتباع الحق ، ويتجبرون على الضعفاء بالإذلال والتسخير ، والإهانة والقتل بغير حق. قال الشعبي وغيره : لا يكون الإنسان جبارا حتى يقتل نفسين. وقال قتادة : آية الجبابرة القتل بغير حق. وقال مقاتل : (مُتَكَبِّرٍ) عن قبول التوحيد (جَبَّارٍ) في غير حق. فهو في الأول يعادي الله ، وفي الثاني يقسو على خلق الله.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ لقد كان دفاع هذا الرجل المؤمن الصالح من آل فرعون في مجلس فرعون وسلطانه في غاية القوة والجرأة والعقل والمنطق.

٢ ـ لا مسوغ لإنسان مهما كان أن يعتدي على الحرية الدينية ويصادرها ، فكيف يصح أن يقتل رجل لا جرم له إلا أنه يقول : ربي الله؟

٣ ـ لا عذر للناس في تكذيب الرسل والكفر بهم بعد أن يأتوهم بالمعجزات الباهرات والأدلة الواضحات على صدقهم.

٤ ـ عجبا من مكذبي الرسل فإن منطقهم أعوج وتفكيرهم أخرق ، فإن الرسول إذا كان كاذبا فعليه وزر كذبه ولا يتضرر به من لا يتبعه ، وإن كان صادقا نفعهم صدقه ، وسلموا من الآفات وألوان العذاب الذي يهدد به.

وقد استخدم المؤمن هذا الأسلوب : (وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ ..) لا لشك منه في صحة رسالة موسى وصدقه ، ولكن تلطفا في الدفاع ، وبعدا عن الأذى ، وإظهار للتجرد والموضوعية.

١١٨

٥ ـ إن الله تعالى لا يهدي أبدا إلى الحق أهل الإسراف في المعاصي والكذب ، وإنه تعالى هدى موسى إلى الإتيان بالمعجزات الباهرة ، ومن هداه الله إلى ذلك لا يكون مسرفا كذابا ، وهذا يدل على أن موسى عليه‌السلام ليس من الكاذبين.

٦ ـ إن من المستغرب حقا أن يخشى أصحاب السلطان والقهر المعتمدين على الجند أو الجيش أو العسكر المدجج بأنواع الأسلحة الفتاكة ، من الأنبياء والرسل والقادة المصلحين الذين ليس لهم إلا البيان القوي ، والحجة الهادفة ، والكلمة المؤثرة. وما ذاك إلا لأن الحق فوق القوة وأثبت منها وأنفذ ، لذا تهتز العروش بصوت الحق ، ولا يتأثر أصحابها ببأس الأقوياء ، وقوة الشجعان.

فهذا فرعون الطاغية ملك مصر يحذر رجلا عاديا هو موسى عليه‌السلام لا سند له من قوة مادية أو سلاح أو عسكر.

٧ ـ كذلك لقد خوف هذا الرجل المؤمن قومه بهلاك معجل في الدنيا ، ثم خوفهم أيضا بهلاك الآخرة بقوله : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) فاهتز قلب فرعون.

٨ ـ زاد هذا المؤمن في الوعظ والتخويف ، وأفصح عن إيمانه ، إما مستسلما موطنا نفسه على القتل ، أو واثقا بأنهم لا يقصدونه بسوء ، وقد وقاه الله شرهم ، بقوله الحق : (فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا) [غافر ٤٠ / ٤٥] وصرح بالخوف من عذاب يوم القيامة ـ يوم التناد ، حيث ينادي الناس بعضهم بعضا للاستغاثة ، وينادي أهل النار أهل الجنة ، وأهل الجنة أهل النار.

٩ ـ وذكّرهم أيضا بالماضي السحيق ، حيث جاء أسلافهم نبي الله يوسف بن يعقوب عليهما‌السلام ، وذكّرهم قديم عتوهم على الأنبياء ، فجاءهم يوسف بالشواهد القاطعة الدالة على صدقه ، فكفروا به وكذبوه في حياته ، وكفروا بالأنبياء من بعده ، فأضلهم الله بعدئذ عن الحق والصواب.

١١٩

١٠ ـ ثم ختم المؤمن كلامه بالتحذير من بقاء قومه بالشك والإسراف ، بسبب الجدال في حجج الله الظاهرة بغير حجة وبرهان ، إما بناء على التقليد المجرد ، وإما بناء على شبهات واهية ، وهؤلاء المجادلون يغضب الله عليهم ويعذبهم في جهنم ، ويبغضهم المؤمنون أشد البغض ، وتصبح قلوبهم مغلقة لا ينفذ إليها الخير.

١١ ـ ما أروع تلك الكلمات التي كان مؤمن آل فرعون يختم بها حججه وبراهينه!! فهي كما حكاها تعالى مع إقرارها دستور الحق ، وسنة الله ، وسبيل إقامة العدل ، وأساس الحساب في الدار الآخرة ، وتلك هي :

أ ـ (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) إشارة إلى علو شأن موسى عليه‌السلام على طريق الرمز والتعريض ، أو إلى أن فرعون مسرف في عزمه على قتل موسى ، كذاب في إقدامه على ادعاء الألوهية ، والله لا يهدي من هذا شأنه وصفته ، بل يدمره ويهدم بنيانه.

ب ـ (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) يعني أن تدمير الأحزاب الذين تحزنوا على الرسل ، فكذبوهم وكفروا بهم ، كان عدلا ، لأنهم استوجبوه بسبب تكذيبهم للأنبياء.

ج ـ (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) تنبيه على قوة ضلالتهم وشدة جهالتهم بعد أن أكد التهديد بقوله : (ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ).

د ـ (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ) أي مثل ذلك الضلال في الآباء والأجداد يضل الله من هو مشرك ، شاكّ في وحدانية الله تعالى ، مثل قوله تعالى : (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ) [إبراهيم ١٤ / ٢٧] وقول سبحانه : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) [البقرة ٢ / ٢٦].

١٢٠