التفسير المنير - ج ٢٤

الدكتور وهبة الزحيلي

ه ـ (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) أي كما طبع الله على قلوب هؤلاء المجادلين في آيات الله بالباطل من غير حجة ولا برهان ، كذلك يختم الله على جميع قلوب المتكبرين الجبابرة ، حتى لا تعقل الرشاد ولا تقبل الحق.

ـ ٣ ـ

بحث فرعون عن إله موسى استهزاء به وإنكارا لرسالته

(وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (٣٦) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (٣٧))

الإعراب :

(أَسْبابَ السَّماواتِ) بدل من (الْأَسْبابَ) الأولى. (فَأَطَّلِعَ) بالنصب جواب (لَعَلِّي) بالفاء ، بتقدير «أن» ، ويقرأ بالرفع عطفا على لفظ (أَبْلُغُ).

المفردات اللغوية :

(فِرْعَوْنُ) ملك القبط في مصر. (يا هامانُ) وزير فرعون. (صَرْحاً) بناء ضخما عاليا كالأبراج العالية اليوم. (الْأَسْبابَ) الطرق الموصلة إلى المطلوب ، جمع سبب : وهو ما يتوصل به إلى شيء كحبل وسلّم وطريق ، والمراد هنا : الأبواب. (فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى) أنظر إليه ، متأثرا بدين المشبهة الذين يعتقدون أن الله في السماء لا أنه سمع ذلك من موسى عليه‌السلام ، قال البيضاوي : ولعله أراد أن يبني له مرصدا في موضع عال يرصد منه أحوال الكواكب التي هي أسباب سماوية تدل على الحوادث الأرضية ، فيرى هل فيها ما يدل على إرسال الله إيّاه ، أي موسى.

(وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً) لأظن موسى كاذبا في دعوى الرسالة أو في ادّعاء إله غيري ، قال

١٢١

فرعون ذلك تمويها. (وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ) أي ومثل ذلك التزيين ، زين له الشرك والتكذيب. (وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ) صدّ عن سبيل الرشاد وطريق الهدى. (تَبابٍ) خسار وهلاك ، ومنه قوله تعالى : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) [اللهب ١١١ / ١] وقوله سبحانه : (وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ) [هود ١١ / ١٠١].

المناسبة :

بعد وصف فرعون بأنه متكبر جبار ، أخبر الله تعالى عن عتوه وتمرده وافترائه في تكذيب موسى عليه‌السلام ، حتى بلغ به الأمر أن أمر وزيره ببناء قصر عال منيف شاهق من الآجر ، ليصعد به إلى السماء ، للاطلاع على إله موسى ، قاصدا بذلك التحدي والتمويه ، والاستهزاء بموسى وإنكار رسالته.

التفسير والبيان :

(وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً ، لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ ، أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى ، وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً) أي قال فرعون الملك لوزيره هامان بعد سماع دفاع الرجل المؤمن عن موسى : يا هامان ، ابن لي قصرا مشيدا منيفا عاليا ، لعلي أصل إلى أبواب السماء وطرقها ، فإذا وصلت إليها بحثت عن إله موسى. وهو لا يريد بذلك إلا الاستهزاء منه ، وإنكار رسالته. ثم أكّد ذلك بقوله : وإني لأظن موسى كاذبا في ادّعائه بأن له إلها غيري ، وأنه أرسله إلينا. وقد قصد بذلك التمويه والتلبيس على قومه ، من أجل إبقائهم في الكفر ، واعتقادهم بأنه هو الإله ، والاستخفاف بعقولهم ، وإيهامهم بما يريد.

وهذا تصريح من فرعون بتكذيب موسى عليه‌السلام في أن الله أرسله إليه ، كما قال تعالى :

(وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ ، وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ ، وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا

١٢٢

فِي تَبابٍ) أي ومثل ذلك التزيين المفرط في الحماقة والبلادة والغباوة ، زيّن لفرعون الجبار سوء عمله وقبح صنعه ، من الشرك والتكذيب ، فتمادى في الغي ، واستمر على الطغيان ، أي زيّن له الشيطان عمله السيء ، فصده عن سبيل الهدى والرشاد ، وحجبه عن طريق الحق والعدل والسداد ، وما كان كيده واحتياله وعمله الذي يوهم به الناس إلا في خسار وضياع مال ، لذهاب نفقته سدى دون التوصل إلى شيء مما أراد.

والخلاصة : أن فعل فرعون وأمثاله صنيع المكذبين الضالين ، وأن عاقبة كفرهم وضلالهم وتكذيبهم الهلاك والخسران ، وأن تدبير فرعون الذي دبّره ليصرف الناس عن الإيمان بموسى عليه‌السلام مبدّد ضائع لا فائدة فيه.

فقه الحياة أو الأحكام :

تدلّ هذه الآيات على نوع من التمويه والمكر والخداع الذي لجأ إليه فرعون ، لإنكار ألوهية الله ووجوده ، وتكذيب رسالة موسى عليه‌السلام ، لما خاف أن يتمكن كلام الرجل المؤمن في قلوب القوم ، وقد أدرك قوة حجته ، وأصالة فكره ، وسلامة منطقه.

أوهم الناس أنه يمتحن ما جاء به موسى من التوحيد ، فإن نجح تحقق غرصه ، وإن خاب ثبّتهم على دينهم ، فأمر هامان ببناء الصّرح. ونحن نثق بوجود هذا الوزير في عهد فرعون ، وإن لم يعرف هذا الاسم في تاريخ الفراعنة ، لأن كلام الله تعالى حجة قطعية.

وأغلب المفسرين الظاهريين على أن فرعون قصد فعلا بناء الصرح ليصعد إلى السماء ، فيرى إله موسى إن كان موجودا ، وإلا أخبر قومه بعدم وجوده ، وأنه هو الإله والرّب الأعلى. واستبعد الرازي على فرعون الذكي الحاكم القوي لجوءه إلى

١٢٣

مثل ذلك ، لأن كل عاقل يعلم ببديهة عقله أنه يتعذر في قدرة البشر وضع بناء يكون أرفع من الجبل العالي. والراجح أن فرعون كان من الدهرية ، وغرضه من هذا الكلام إيراد شبهة تشغل الناس في نفي الإله الخالق الصانع. وكأنه يقول : لو كان إله موسى موجودا لكان له محل ، ومحله إما الأرض وإما السماء ، وإذا لم نره في الأرض ، فهو في السماء ، والسماء لا يتوصل إليها إلا بسلّم ، فيجب بناء صرح للوصول إليه.

وأبطل الرازي هذه الشبهة ، لأن طرق العلم بالأشياء ثلاثة : الحس ، والخبر ، والنظر ، ولا يلزم من انتفاء طريق واحد هو الحس ، انتفاء المطلوب ، وذلك لأن موسى عليه‌السلام كان قد بيّن لفرعون أن الطريق إلى معرفته تعالى إنما هو الحجة والدليل ، كما قال : (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) [الشعراء ٢٦ / ٢٦] ، (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) [الشعراء ٢٦ / ٢٨] إلا أن فرعون لخبثه ومكره تغافل عن ذلك الدليل (١).

ولقد توهم فرعون أن الله في السماء ، فهذا دين المشبّهة ، ولعله كان على دينهم ، فهو إنما ذكر هذا الاعتقاد من قبل نفسه ، لا لأجل أنه قد سمعه من موسى عليه‌السلام. وربما فهم خطأ من قول موسى عليه‌السلام : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أنه ربّ السموات بمعنى كونه فيها ، كما يقال : ربّ الدار بمعنى كونه ساكنا فيها. وأما عقيدتنا فهي كما أخبر الله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ ، وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ ، وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) [الزخرف ٤٣ / ٨٤].

ويتلخص أمر فرعون في أن الشيطان زيّن له عمله وهو الشرك والتكذيب ، فصده عن سبيل الحق والرشاد ، وأصبح كيده واحتياله في دمار وخسران وضلال.

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٧ / ٦٥ ـ ٦٦

١٢٤

ـ ٤ ـ

متابعة الرجل المؤمن نصحه لقومه

(وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (٣٨) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (٣٩) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (٤٠) وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (٤١) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (٤٢) لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٤٣) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٤٤) فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (٤٥) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (٤٦))

الإعراب :

(تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ ..) الجملة بدل أو عطف بيان. والدعاء كالهداية في التعدية ب «إلى» واللام.

(لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ ..) فيه محذوف ، أي ليس له إجابة دعوة ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.

١٢٥

(النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها النَّارُ) : إما بدل مرفوع من قوله تعالى : (سُوءُ الْعَذابِ) وإما خبر مبتدأ محذوف تقديره : هو النار ، وإما مبتدأ ، وخبره : (يُعْرَضُونَ عَلَيْها).

(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ آلَ فِرْعَوْنَ) : مفعول به لفعل (أَدْخِلُوا) وقرئ بوصل همزة (أَدْخِلُوا) وضمها وضم الخاء ، فيكون (آلَ فِرْعَوْنَ) منادى مضاف ، أي ادخلوا يا آل فرعون.

البلاغة :

(النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها) استعارة تمثيلية ، حيث شبه حالهم بحال متاع يعرض للبيع ، وجعل النار كالطالب الراغب في الكفار.

(غُدُوًّا) و (عَشِيًّا) بينهما طباق.

(يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ ، وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ) بينهما ما يسمى بالمقابلة في علم البديع.

(وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ. تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ، وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ) فيها توافق أواخر الآيات مع السجع البديع ، والبيان الرائع الذي يهز أعماق النفس الإنسانية.

المفردات اللغوية :

(اتَّبِعُونِ) بإثبات الياء : اتبعوني. (أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ) أدلكم على طريق الصواب والسداد ، و (الرَّشادِ) : وهو ضدّ الغي والضلال ، وهو السبيل الذي يصل سالكه إلى المقصود الأسمى والنجاة. وفيه تعريض بأن ما عليه فرعون وقومه سبيل الغي. (مَتاعٌ) تمتع يسير ، لسرعة زوالها ، يستمتع به زمنا قليلا ثم يزول. (دارُ الْقَرارِ) دار البقاء والدوام والخلود.

(مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) عدلا من الله ، وفيه دليل على أن الجنايات في الأبدان والأموال تغرم بمثلها. (بِغَيْرِ حِسابٍ) بغير تقدير ولا تقنين ولا موازنة بالعمل ، فهو رزق واسع لا حدود له ، فضلا من الله ورحمة. وقوله : (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) قيد أو شرط في اعتبار العمل ، وأن ثوابه أعلى من ذلك. والتعبير في جانب الثواب على العمل الصالح مع الإيمان بالجملة الاسمية. (فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) للدلالة على الثبوت والاستمرار ، وتغليب الرحمة ، وجعل العمل عمدة.

١٢٦

(وَيا قَوْمِ ، ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ ..) أي إلى الإيمان بالله الذي يؤدي إلى النجاة ، وقد كرر نداءهم إيقاظا لهم من الغفلة ، واهتماما بهم ، ومبالغة في توبيخهم على ما يقابلون به نصحه من إدبار وإعراض. (وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ) إلى الكفر وعبادة الأوثان الموجبة لدخول النار. (وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) أشرك بما لا وجود له ، ولم يقم على ربوبيته دليل ولا برهان. وفيه إيماء بأن الألوهية لا بدّ لها من برهان واعتقاد بيقين.

(لا جَرَمَ) أي حق ، وفاعله : (أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ..) لأعبده (لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ) ليس له إجابة دعوة لمن يدعو إليه ، والمعنى : حقّ عدم استحقاق آلهتكم العبادة ، لأنها جمادات ، ولأنّها ليس لها دعوة مستجابة. (مَرَدَّنا إِلَى اللهِ) مرجعنا بالموت إلى لقاء الله. (وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ) المتجاوزين الحدّ ، الذين يغلب شرهم على خيرهم ، الواقعين في الضلالة والطغيان ، كالإشراك والكفر وسفك الدماء. (هُمْ أَصْحابُ النَّارِ) ملازموها.

(فَسَتَذْكُرُونَ) تتذكرون عند معاينة العذاب. (ما أَقُولُ لَكُمْ) من النصيحة. (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ) ليعصمني من كل سوء. (إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) فيحرسهم. وكان هذا جواب توعدهم المفهوم من قوله تعالى : (فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا) حماه الله وحفظه من شدائد مكرهم الذي مكروا به من القتل. (وَحاقَ) نزل. (بِآلِ فِرْعَوْنَ) بفرعون وقومه. (سُوءُ الْعَذابِ) بالغرق في الدنيا والموت ، والنار في الآخرة.

(النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها) مثل يصلونها ، أي يحرقون بها ، فإن عرضهم على النار : إحراقهم بها ، مأخوذ من قولهم : عرض الحاكم الأسارى على السيف : إذا قتلهم به. (غُدُوًّا وَعَشِيًّا) صباحا ومساء ، وذكر هذين الوقتين يفيد التأبيد والدوام ما دامت الدنيا ، فإذا قامت القيامة قيل لهم : (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) عذاب جهنم ، فإنه أشدّ مما كانوا فيه ، أو أشدّ عذاب جهنم. والمعنى : أن أرواح الكفار وهم في القبور تعرض على النار صباح مساء ، أي تحرق بها ، مما يدلّ على بقاء النفس ، وثبوت عذاب القبر ، كما روى ابن مسعود رضي‌الله‌عنه : «أن أرواحهم في أجواف طير سود ، تعرض على النار ، بكرة وعشيا إلى يوم القيامة» وقد يراد بهذين الوقتين التخصيص ، فيعذبون بالنار فيهما ، وفيما بين ذلك الله أعلم بحالهم : فإما أن يعذبوا بجنس آخر من العذاب ، أو ينفّس عنهم.

المناسبة :

هذا بقية كلام مؤمن آل فرعون ، فإنه أعاد عليهم النصح مرة أخرى حينما رآهم يتمادون في كفرهم وبغيهم ، ونادى قومه ثلاث مرات ، في المرة الأولى دعاهم

١٢٧

في الآيات السابقة إلى قبول الدين الذي دعا إليه موسى ، على سبيل الإجمال ، وفي المرتين الأخريين على سبيل التفصيل.

فدعاهم إلى الإيمان بالله سبحانه طريق الرشاد ، ثم حذّرهم من الاغترار بالدنيا ، وحثّهم على العمل للآخرة لدوامها ، وقارن بين دعوته لهم إلى الإيمان بالله تعالى طريق النجاة ، وبين دعوتهم له إلى عبادة الأصنام طريق النار. ثم أخبر سبحانه عن وقايته وعصمته من السوء الذي دبّروه له ، وإغراق آل فرعون ، وإدخالهم في جهنم يوم القيامة.

التفسير والبيان :

(وَقالَ الَّذِي آمَنَ : يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ) قال مؤمن آل فرعون يعظ قومه : يا قوم ، اتبعوني فيما أقول لكم وأدعوكم إليه ، أدلكم على طريق الرشاد والخير والسداد ، وهو اتباع دين الله الذي جاء به موسى.

وفيه تعريض بأن سبيل فرعون وآله سبيل الغي والضلال والفساد.

ثم حذرهم من الافتتان بنعيم الدنيا والاغترار بزخارفها ، فقال :

(يا قَوْمِ ، إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ ، وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ) أي يا قوم ، ما هذه الحياة الدنيوية إلا مجرد متاع يستمتع به قليلا ثم يزول وينتهي بالموت ، وإن الآخرة هي دار الاستقرار والبقاء والخلود ، فهي دائمة باقية لا زوال عنها ، ولا انتقال منها ، والناس إما في النعيم وإما في الجحيم ، ولا ثالث غيرهما ، فالسعيد من سعى إلى النعيم ، والشقي من سعى إلى الجحيم ، لأن النعيم فيها دائم ، والعذاب فيها دائم.

وهذا نعى للدنيا الزائلة الفانية عما قريب ، وبشارة بالآخرة الدائمة الباقية.

١٢٨

ثم أبان تعالى طريق تقسيم العباد وكيفية المجازاة في الآخرة ، مشيرا إلى أن جانب الرحمة غالب على جانب العقاب ، فقال :

(مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها ، وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى ، وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ) ، أي من ارتكب معصية من المعاصي ، فلا يجزى في الآخرة إلا مثلها ، عدلا من الله ، ومن عمل العمل الصالح وهو اتباع أمر الله واجتناب نهي الله ، وكان مصدقا بالله وبرسله ، فهؤلاء هم لا غيرهم أهل الجنة التي يتمتعون بنعيمها ورزقها أضعافا مضاعفة ، بغير تقدير ولا تساو مع العمل ، فضلا من الله ونعمة ورحمة.

وهذا دليل على أن جزاء السيئة مقصور على المثل ، وجزاء الحسنة خارج عن الحساب ، غير مقصور على المثل. والآية أيضا أصل كبير في أحكام الشريعة فيما يتعلق بأحكام الجنايات ، فإن مقتضى الآية أن يكون المثل مشروعا ، وأن الزائد عن المثل غير مشروع ، أي إن الواجب في الجنايات على الأنفس والأموال هو إما المثل في المثليات كالحبوب ، وإما القيمة في القيميات كالأمتعة والأثاث واللآلئ والجواهر.

ثم أكّد وكرر الرجل المؤمن دعوته إلى الله ، وصرّح بإيمانه بالله وحده لا شريك له ، فقال :

(وَيا قَوْمِ ، ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ ، وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ) أي ما لكم يا قوم؟ أخبروني عنكم ، ما بالي أدعوكم إلى النجاة من النار ودخول الجنة ، بالإيمان بالله تعالى ، وعبادة الله وحده لا شريك له ، وتصديق رسوله المبعوث إليكم من عند ربكم ، وتدعونني إلى عمل أهل النار ، بما تريدون مني من الشرك وعبادة الأصنام؟

ثم فسّر الدعوتين قائلا :

١٢٩

(تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ، وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ) أي تدعونني لأمر خطير جدا هو الكفر بالله ، والإشراك به في عبادته جهلا ولم يقم أي دليل على ألوهيته ، ولا علم لي من وجه صحيح بكونه شريكا لله ، وأنا أدعوكم إلى الإيمان بمن اتصف بصفات الألوهية الحقة ، من العزة والقدرة والغلبة والعلم والإرادة والتمكن من المغفرة والتعذيب ، فآمنوا به يغفر لكم ويعزّكم ، فهو القوي الغالب في انتقامه ممن كفر ، الغفار في عزته وكبريائه لذنب من آمن به وتاب إليه.

ثم أكّد تفنيد دعوتهم وفساد منهجهم ، فقال :

(لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ) أي قد حقّ وثبت وصحّ عقلا وواقعا أن الذي تدعونني إليه من عبادة الأصنام والأنداد ليس له أي دعوة مستجابة ، فلا يجيب داعيه ، لا في الدنيا ولا في الآخرة ، لأنه جماد لا يسمع ولا يبصر ، ولا ينفع ولا يضرّ ، كما في آية أخرى : (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ، وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ. وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً ، وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ) [الأحقاف ٤٦ / ٥ ـ ٦] ، وقال تعالى : (إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ ، وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ ، وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) [غافر ٤٠ / ١٤].

(وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ ، وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ) أي والواقع الحتمي أن مرجعنا ومصيرنا إلى الله بالموت ثم بالبعث في الدار الآخرة ، فيجازي كل إنسان بعمله ، وأن المسرفين في المعاصي ، المستكثرين منها ، المتعدّين حدود الله ، المنغمسين في الشرك والوثنية والكفر ، هم أهل النار الذين يصيرون إليها ، الخالدين فيها بإسرافهم وهو شركهم بالله عزوجل.

ثم ختم كلامه بخاتمة لطيفة مؤثّرة فيها تذكير بالمستقبل وبعد نظر ، فقال :

١٣٠

(فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ ، وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ ، إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) أي سوف تعلمون صدق قولي لكم من أمر ونهي ونصح وإيضاح وتذكير في وقت لا ينفع فيه الندم ، حين ينزل بكم العذاب الشديد في الآخرة ، وأتوكل على الله وأستعين به ليعصمني من كلّ سوء في مقاطعتي لكم ومباعدتكم ، فإن الله بصير بعباده ، خبير بهم ، فيهدي من يستحق الهداية ، ويضلّ من يستحق الإضلال ، وله الحجة البالغة ، والحكمة التامة ، والقدرة النافذة. قال مقاتل : هرب هذا المؤمن إلى الجبل ، فلم يقدروا عليه.

ثم أخبر الله تعالى عن مصير هذا الرجل المؤمن الجريء الناصح الفصيح ، فقال :

(فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا ، وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ) أي حفظه الله وحماه في الدنيا من سوء وشرّ ما أرادوا به من قتل ، ونجّاه من بأس فرعون ، كما نجّى موسى عليه‌السلام ، كما نجّاه في الآخرة من النار ، وأنعم عليه بالجنة ، ونزل بفرعون وقومه سوء العذاب في الدنيا بالغرق جميعا في البحر ، وسيعذبون في الآخرة بالنار.

ثم أوضح الله تعالى ذلك العذاب السيء ، فقال :

(النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا ، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ ، أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) أي إن أرواح فرعون وقومه بعد موتهم في عالم البرزخ ، وقبل مجيء القيامة تعرض على النار وتحرق فيها صباحا ومساء إلى قيام الساعة ، فإذا كان يوم القيامة اجتمعت أرواحهم وأجسادهم في النار ، ويقال للملائكة : أدخلوا آل فرعون في جهنم ، حيث يكون العذاب فيها أشد ألما وأعظم نكالا أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي ، إن كان من أهل الجنة

١٣١

فمن أهل الجنة ، وإن كان من أهل النار ، فمن أهل النار ، يقال له : هذا مقعدك ، حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة».

وروى ابن مسعود رضي‌الله‌عنه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : «إن أرواح آل فرعون ومن كان مثلهم من الكفار تعرض على النار ، بالغداة والعشي ، فيقال : هذه داركم». وفي حديث آخر عنه تقدّم : «إن أرواحهم في أجواف طير سود تغدو على جهنم وتروح كل يوم مرتين ، فذلك عرضها».

وهذه الآية والأحاديث أصل أساسي في إثبات عذاب البرزخ في القبر ، وأن عذاب القبر حقّ واقع لا شكّ فيه. روى البخاري عن عائشة رضي‌الله‌عنها أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن عذاب القبر ، فقال : «نعم عذاب القبر حقّ» ولكن ليس في الآية دلالة على أن الأجساد في القبور تتألم مع الروح ، وتتعذب معها ، وإنما دلّت السنّة على ذلك ، كالحديث المتقدّم : «نعم عذاب القبر حقّ» وكذلك اقتصرت دلالة الآية على عذاب الكفار في البرزخ ، ولا يلزم من ذلك أن يعذب المؤمن في قبره بذنب ، ولكن يفهم ذلك من الأحاديث النّبوية المتقدّمة ، لكن العذاب متفاوت بدليل ما رواه ابن أبي حاتم والبزار في مسنده عن ابن مسعود رضي‌الله‌عنه عن النّبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :

«ما أحسن محسن من مسلم أو كافر إلا أثابه الله تعالى ، قلنا : يا رسول الله ، ما إثابة الله الكافر؟ فقال : إن كان قد وصل رحما أو تصدّق بصدقة أو عمل حسنة ، أثابه الله تبارك وتعالى المال والولد والصحة وأشباه ذلك ، قلنا : فما إثابته في الآخرة؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم : عذابا دون العذاب» وقرأ : (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ).

١٣٢

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ كان مؤمن آل فرعون في نصحه لقومه من أشدّ الناس إخلاصا لهم وحبّا وحرصا على إنقاذهم من ورطة الكفر ، والدخول في ساحة الإيمان بالله عزوجل وحده لا شريك له.

٢ ـ لقد كرّر النّصح وأكّده ، ونوّع الخطاب والترغيب والترهيب ، مبتدئا بالدعوة إلى الإيمان بالله ، وسلوك طريق الهدى وهو الجنة ، ونادى قومه بلطف هنا للمرة الثانية.

٣ ـ ثم حذّر من الاغترار بزخارف الدنيا ولذائذها وشهواتها ، وزهّدهم فيها بعد أن آثروها على الأخرى ، ولا يسع العاقل البصير إلا عدم التعلق الشديد بالدنيا الفانية ، وإيثار الآخرة دار الاستقرار والخلود.

٤ ـ وأبان لقومه كيفية المجازاة في الآخرة ، فمن اقترف معصية ـ وأكبرها الشرك ـ فلا يجزى إلا مثلها من العذاب عدلا من الله ، ومن عمل بما أمر الله به واجتنب ما نهى عنه ، وهو مصدق بقلبه بالله وبالأنبياء ، فهو من أهل الجنة ، فضلا ورحمة من الله ، ورزق الجنة دائم واسع لا تقدير فيه.

٥ ـ ثم نادى قومه للمرة الثالثة مؤكّدا دعوتهم إلى الإيمان الذي يوجب النجاة ، وترك الكفر الذي يوجب النار ، علما بأنه لا دليل ولا برهان يقبل على صحة الدعوة إلى الشرك ، وإنما الدليل القاطع والبرهان الساطع متوافر في صحة الدعوة إلى الإيمان بالله المتصف بصفات الألوهية الحقّة من الخلق والقدرة والإرادة والعلم والعزّة والمغفرة والتعذيب.

١٣٣

٦ ـ حقا إن ما يعبد من دون الله من البشر أو الأصنام ليس له استجابة دعوة تنفع ، وليس له شفاعة في الدنيا ولا في الآخرة. وكان فرعون أولا يدعو الناس إلى عبادة الأصنام ، ثم دعاهم إلى عبادة البقر ، فكانت تعبد ما كانت شابة ، فإذا هرمت أمر بذبحها ، ثم دعا بأخرى لتعبد ، ثم لما طال عليه الزمان قال : أنا ربّكم الأعلى.

٧ ـ إن المسرفين وهم المشركون ، والسفهاء ، وسفاكو الدماء بغير حقها ، والجبارون والمتكبرون ، والذين تعدّوا حدود الله ، هم أصحاب النار.

٨ ـ ثم لجأ مؤمن آل فرعون إلى نوع من التهديد والوعيد ، مبينا أن قومه سيتذكرون يوم القيامة وحين حلول العذاب بهم ، ما قاله لهم ، وأما هو فقد توكّل على الله وأسلم أمره إليه ، لأنهم أرادوا قتله ، ولكن من يتوكل على الله فهو حسبه.

٩ ـ لقد حفظ الله هذا المؤمن من إلحاق أنواع العذاب به ، فطلبوه فما وجدوه ، لأنه فوّض أمره إلى الله تعالى.

١٠ ـ وأما آل فرعون فإنه نزل بهم العذاب الشامل في الدنيا وهو الغرق ، وسيعذبون في الآخرة ، ويعرضون أيضا في البرزخ في القبور على النار صباح مساء.

وهذا كما تقدّم يدلّ على إثبات عذاب القبر ، لقوله تعالى : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) ما دامت الدنيا. قال جمهور المفسرين : هذه الآية تدلّ على عذاب القبر في الدنيا ، ألا تراه يقول عن عذاب الآخرة : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ).

ورأى الرازي أن الآية لا تدلّ على عذاب القبر ، وإنما ذكر الغدوة والعشية

١٣٤

كناية عن الدوام في عذاب النار ، كقوله تعالى بالنسبة لأهل الجنة : (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) [مريم ١٩ / ٦٢] (١).

المناظرة بين الرؤساء والأتباع في النار

(وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (٤٧) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (٤٨) وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (٤٩) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٥٠))

الإعراب :

(تَبَعاً) أورده بلفظ الواحد ، وإن كان خبرا عن جماعة ، لأنه مصدر ، والمصدر يصلح للجميع.

(مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً) مفعول به ل (مُغْنُونَ).

(إِنَّا كُلٌّ فِيها كُلٌ) : مبتدأ ، وهو في تقدير الإضافة ، و (فِيها) : خبره ، والجملة من المبتدأ والخبر في موضع رفع خبر (إن). ولا يجوز أن ينصب (كُلٌ) على البدل من ضمير (إِنَّا) ، لأن ضمير المتكلم لا يبدل منه ، لأنه لا لبس فيه ، حتى يوضح بغيره. وقرئ «كلّا» على التأكيد ، لأنه بمعنى كلنا ، وتنوينه عوض عن المضاف إليه.

(ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ) جواب مجزوم ، والأكثر في كلام العرب أن يكون جواب الأمر وشبهه بغير فاء ، وهو الأفصح.

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٧ / ٧٣

١٣٥

المفردات اللغوية :

(وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ) واذكر يا محمد وقت تخاصم الكفار في النار ، والمحاجّة : المجادلة والتخاصم بين اثنين فأكثر. (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً) أتباعا جمع تابع ، كخدم جمع خادم. (مُغْنُونَ) دافعون أو حاملون. (نَصِيباً) جزءا وقسطا ، أي فهل أنتم حاملون عنّا جزءا من العذاب أو دافعون جزءا؟

(إِنَّا كُلٌّ فِيها) نحن وأنتم ، فكيف نغني عنكم؟ ولو قدرنا لأغنينا عن أنفسنا. (إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ) فأدخل المؤمنين الجنة ، والكافرين النار. و (حَكَمَ) قضى ، ولا معقّب لحكمه. (لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ) هم القوّام بتعذيب أهل النار ، جمع خازن. (يَوْماً مِنَ الْعَذابِ) قدر يوم (مِنَ الْعَذابِ) شيئا من العذاب. (قالُوا) أي الخزنة تهكّما. (بِالْبَيِّناتِ) بالمعجزات الظاهرات. (قالُوا : بَلى) أقروا بإرسال الرسل ، لكنهم كفروا بهم. (قالُوا : فَادْعُوا) قال الخزنة لأهل النار : فادعوا أنتم ، فإنه لم يؤذن لنا في الدعاء لأمثالكم ، وإننا لا نشفع للكافرين ، وفيه إقناط من الإجابة ، فقال تعالى حاكيا ما أخبروهم به : (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) خسار وضياع وانعدام.

المناسبة :

هذا ابتداء قصة لا تختص بآل فرعون ، فبعد أن أوضح الله تعالى أحوال النار في عظة مؤمن آل فرعون ، ذكر تعالى عقيبها قصة المناظرة والجدل التي تجري بين الرؤساء والأتباع من أهل النار.

التفسير والبيان :

(وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ ، فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا : إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً ، فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ) أي واذكر أيها الرسول لقومك للعظة والعبرة وقت تخاصم الكفار أهل النار وهم فيها ، ومنهم فرعون وقومه ، فيقول الضعفاء الأتباع للرؤساء والسادة والقادة الذين استكبروا عن اتّباع

١٣٦

الأنبياء ، ومكروا لصدّ الناس عن الإيمان : إنا كنّا تابعين لكم ، وقد أطعناكم فيما دعوتمونا إليه في الدنيا من الكفر والضلال ، ودخلنا النار بسبب اتّباعكم ، فهل تدفعون عنّا قسطا أو جزءا من العذاب ، أو تتحملونه عنّا؟ فأجابهم الرؤساء بما حكاه تعالى :

(قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا : إِنَّا كُلٌّ فِيها ، إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ) أي قال المستكبرون للمستضعفين : إنا نحن وأنتم جميعا في جهنم ، فكيف نغني عنكم؟ فلو قدرنا على دفع شيء من العذاب لدفعناه عن أنفسنا ، إن الله قضى قضاءه العادل المبرم بين العباد ، بأن فريقا في الجنة ، وفريقا في السعير ، وقسم بيننا العذاب بقدر ما يستحقه كلّ منّا ، كما قال تعالى : (قالَ : لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) [الأعراف ٧ / ٣٨].

ولما يئسوا من السادة اتّجهوا إلى خزنة جهنم يطلبون منهم الدعاء ، فقال تعالى :

(وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ : ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ) أي وقال أهل النار من الأمم الكافرة لسدنة جهنم وقوّامها (وهم الملائكة القائمون عليها لتعذيب أهل النار) : ادعوا الله ربّكم لعله أن يخفف عنا مقدار يوم من العذاب ، بأن تشفعوا لنا عند الله تعالى لتخفيف يسير ، وذلك لما علموا أن الله عزوجل لا يستجيب منهم ، ولا يستمع لدعائهم.

فردّت الخزنة عليهم موبّخين ملزمين لهم الحجة ، كما قال تعالى :

(قالُوا : أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ)؟ قالت الخزنة لأهل النار : أو ما جاءتكم الرسل في الدنيا بالحجج والأدلة الواضحة على توحيد الله ، والتحذير من سوء العاقبة؟! (أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) [الزمر ٣٩ / ٧١].

١٣٧

(قالُوا : بَلى) قال أهل النار : بلى قد جاءتنا الرسل ، فكذبناهم ، ولم نؤمن بهم ولا بما جاؤوا به من الحجج.

فلما اعترفوا قالت لهم الخزنة تهكّما :

(قالُوا : فَادْعُوا ، وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) أي قالت الخزنة لأهل النار : إذا كان الأمر كما ذكرتم ، فادعوا أنتم لأنفسكم ، فنحن لا ندعو لمن كفر بالله وكذّب رسله بعد مجيئهم بالحجج الواضحة ، ونحن برآء منكم ، ثم أخبروهم بأن دعاءهم لا يفيد شيئا ، فما دعاء الكافرين بالله ورسله إلا في ضياع وبطلان وذهاب لا يقبل ولا يستجاب.

أخرج الترمذي وغيره عن أبي الدرداء قال : «يلقى على أهل النار الجوع ، حتى يعدل ما هم فيه من العذاب ، فيستغيثون منه ، فيغاثون بالضريع لا يسمن ولا يغني من جوع ، فيأكلونه لا يغني عنهم شيئا ، فيستغيثون فيغاثون بطعام ذي غصّة ، فيغصّون به ، فيذكرون أنهم كانوا في الدنيا يجيزون الغصص بالماء ، فيستغيثون بالشراب ، فيرفع لهم الحميم بالكلاليب ، فإذا دنا من وجوههم شواها ، فإذا وقع في بطونهم قطّع أمعاءهم وما في بطونهم ، فيستغيثون بالملائكة يقولون : (ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ) فيجيبوهم : (أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ ، قالُوا : بَلى ، قالُوا : فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) ـ أي خسار وتبار».

فقه الحياة أو الأحكام :

دلّت الآيات على ما يأتي :

١ ـ يشتدّ الجدال والخصام يوم القيامة في نار جهنم بين الأتباع الضعفاء والمتبوعين الرؤساء الذين استكبروا عن الانقياد للأنبياء ، فيقول الأولون : إنّا

١٣٨

كنّا أتباعا لكم في الدنيا فيما دعوتمونا إليه من الشرك ، فهل أنتم الآن متحملون عنّا جزءا من العذاب؟

٢ ـ أجاب الكبراء : إنا نحن وأنتم جميعا في نار جهنم ، وإن الله قضى بين العباد ، وأخذ كل واحد منا ما يستحقه ، ولا يؤاخذ أحد بذنب غيره ، فكل منا كافر.

٣ ـ لما يئس الكفار من بعضهم طلبوا من خزنة جهنم وهم ملائكة العذاب أن يدعوا لهم ربّهم بأن يخفف عنهم شيئا من عذاب جهنم ، ولو يوما واحدا.

فردت عليهم الخزنة : ألم تأتكم الرسل بالبيّنات الدالة على طريق النجاة ، والحيلولة بينكم وبين سوء العاقبة؟! وهذا دليل على أن الواجب لا يتحقق إلا بعد مجيء الشرع ، فلا تكليف قبل إرسال الرسل وإنزال الشرائع ، ولا عقاب أيضا ، كما قال تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء ١٧ / ١٥].

٤ ـ ثم قال الملائكة خزنة جهنم للكفار : ادعوا أنتم ، فإنا لا نجترئ على ذلك ، ولا نشفع إلا بشرطين :

أحدهما ـ كون المشفوع له مؤمنا.

والثاني ـ حصول الإذن في الشفاعة ، ولم يوجد واحد من هذين الشرطين.

لكن ادعوا أنتم ، للدلالة على الخيبة ، لا لرجاء النفع ، ثم يصرّحون لهم بأنه لا أثر لدعائهم (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) أي خسار وبطلان وزوال.

١٣٩

نصر الرسل على أعدائهم في الدنيا والآخرة

(إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (٥١) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٥٢) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (٥٣) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٥٤) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٥٥) إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٥٦))

الإعراب :

(وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ يَوْمَ) : معطوف بالنصف على موضع الجار والمجرور ، وهو (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) مثل : جئتك في أمس واليوم. و (يَوْمَ لا يَنْفَعُ) بدل من الأول.

(وَأَوْرَثْنا) .. (هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ هُدىً) حال من (الْكِتابَ) ، (وَذِكْرى) : معطوف عليه ، وعامل الحال : (أَوْرَثْنا).

(بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) بكسر الهمزة : مصدر «أبكر إبكارا» وقرئ بفتحها على أنه جمع بكر ، مثل سحر وأسحار.

(إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ) إن بمعنى «ما» مثل (إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ) و (كِبْرٌ) مرفوع بالظرف ، وهو (فِي صُدُورِهِمْ) لأن الظرف قد فرّغ له ، مثل : ما في الدار إلا زيد.

(إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ هُوَ) ضمير فصل ، ويصح كونه مبتدأ ، وما بعده خبره ، والجملة خبر (إن).

١٤٠