التفسير المنير - ج ١٣

الدكتور وهبة الزحيلي

بين أولاد يعقوب أنفسهم ، وبينهم وبين يوسف ، وبينهم وبين أبيهم ، لعودتهم إليه دون ولدين آخرين : وهما أكبر أولاده «روبيل أو يهوذا» وأصغر أولاده وهو بنيامين. ولم يجد أبناء يعقوب سبيلا للدفاع إلا الحجة الساذجة السطحية وهو تأكيد حادثة السرقة من أخيهم كما سرق أخوه يوسف من قبل ، وقالوا : هذه الواقعة عجيبة أن «راحيل» ولدت ولدت ولدين لصين ، ثم قالوا : يا بني راحيل ، ما أكثر البلاء علينا منكم ، فقال بنيامين : ما أكثر البلاء علينا منكم ، ذهبتمبأخي وضيعتموه في المفازة ، ثم تقولون لي هذا الكلام ، قالوا له : فكيف خرج الصواع من رحلك؟ فقال : وضعه في رحلي من وضع البضاعة في رحالكم(١).

التفسير والبيان

قال إخوة يوسف لما رأوا الصواع قد أخرج من وعاء بنيامين ، بعد أن نفوا السرقة نفيا باتا ، والتزموا على أنفسهم استعباد من وجد في رحله : إن يسرق بنيامين ، فقد سرق أخوه يوسف من قبل ، فهما من أصل واحد ، ومرادهم التنصل إلى العزيز من التشبه بالأخوين ، وتأنيب أخيهم على ما فعل.

وهذا يعني أن الطبائع والعادات والأخلاق تورث ، وأن الحقد والكراهية والحسد عندهم ما يزال موجودا لديهم.

ونسبة السرقة إلى يوسف في أصح الروايات ما روى ابن مردويه عن ابن عباس مرفوعا قال : سرق يوسف عليه‌السلام صنما لجده أبي أمه من ذهب وفضة ، فكسره وألقاه في الطريق ، فعيره بذلك إخوته. وقال سعيد بن جبير عن قتادة : كان يوسف عليه‌السلام قد سرق صنما لجده أبي أمه ، فكسره.

وروى محمد بن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : كان أول

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٨ / ١٨٣

٤١

ما دخل على يوسف من البلاء ـ فيما بلغني ـ أن عمته ابنة إسحاق ، وكانت أكبر ولد إسحاق ، وكانت عندها منطقة إسحاق ، وكانوا يتوارثونها بالكبر ، وكان من اختبأها ممن وليها ، كان له سلما لا ينازع فيه ، يصنع فيه ما يشاء ، وكان يعقوب حين ولد له يوسف قد حضنته عمته ، وكان لها به وله ، فلم تحب أحدا حبها إياه ، حتى إذا ترعرع وبلغ سنوات ، تاقت إليه نفس يعقوب عليه‌السلام ، فأتاها ، فقال : يا أخية ، سلّمي إليّ يوسف ، فو الله ما أقدر على أن يغيب عني ساعة ، قالت : فو الله ، ما أنا بتاركته ، ثم قالت : فدعه عندي أياما ، أنظر إليه ، وأسكن عنه ، لعل ذلك يسليني عنه.

فلما خرج من عندها يعقوب ، عمدت إلى منطقة إسحاق ، فحزمتها على يوسف من تحت ثيابه ، ثم قالت : فقدت منطقة إسحاق عليه‌السلام ، فانظروا من أخذها ومن أصابها؟ فالتمست ثم قالت : اكشفوا أهل البيت ، فكشفوهم ، فوجدوها مع يوسف ، فقالت : والله ، إنه لي لسلم أصنع فيه ما شئت ، فأتاها يعقوب ، فأخبرته الخبر ، فقال لها : أنت وذلك ، إن كان فعل ذلك ، فهو سلم لك ، ما أستطيع غير ذلك ، فأمسكته ، فما قدر عليه يعقوب حتى ماتت ، قال : فهو الذي يقول إخوة يوسف ، حين صنع بأخيه ما صنع حين أخذه : (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ).

(فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ) أي فأخفى في نفسه مقالتهم هذه ، أو أخفى الجملة أو الكلمة التي بعدها وهي قوله : (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً ..).

(وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ) أي لم يظهر ما في نفسه من مؤاخذتهم بمقالتهم ، بل صفح عنهم.

(قالَ : أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) أي وقال لهم في نفسه دون إعلان لهم : أنتم شر مكانا ومنزلة ممن تتهمونه بالسرقة ، إذا أنكم سرقتم من أبيكم أخاكم ، وطرحتموه في البئر ، بقصد الهلاك والتخلص منه.

٤٢

(وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ) أي والله عالم بما تذكرون وما تصفونه به.

وهذا من قبيل الإضمار قبل الذكر ، وهو كثير في اللغة والقرآن والحديث.

ثم استعطفوه واستشفعوا لديه لعله يأخذ أحدهم مكانه ، فالفداء أو العفو أيضا جائز في شرعهم : (قالُوا : يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ) أي قالوا : يا أيها العزيز ، إن له أبا شيخا هرما متعلقا به ، فهو يحبه حبا شديدا ، ويتسلى به عن ولده الذي فقده ، أو هو كبير القدر والمقام جدير بالرعاية والمجاملة والعناية.

فخذ أحدا منا بدله ، يكون عندك عوضا عنه ، إنا نراك من المحسنين لنا في ميرتنا وضيافتنا ، أو من العادلين المنصفين ، القابلين للخير ، أو من عادتك الإحسان مطلقا ، فأحسن إلينا.

فأجابهم : (قالَ : مَعاذَ اللهِ ..) أي نعوذ بالله معاذا أو نستعيذ بالله أن نأخذ غير من وجدنا الصواع عنده ، كما قلتم واعترفتم ، ولم يقل : إلا من سرق ، تحاشيا للكذب ، إنا إذا أخذنا غيره كان ذلك ظلما في مذهبكم ، فهو أخذ بريء بمتهم ، فلم تطلبون ما عرفتم أنه ظلم. والمقصود الحقيقي من هذا الكلام بيان أن الله أمرني وأوحى إلي بأخذ بنيامين واحتباسه لمصلحة في ذلك ، فلو أخذت غير من أمرني بأخذه ، كنت ظالما وعاملا على خلاف الوحي. وهو رد قوي لهم ، متضمن الاستعاذة من رأيهم ، لأنه ظلم. ثم جاء دور حوارهم مع بعضهم.

(فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا ..) أي فلما يئس إخوة يوسف من إطلاق سراح أخيهم بنيامين الذي التزموا لأبيهم برده إليه ، وعاهدوا على ذلك ، انفردوا عن الناس يتناجون فيما بينهم ويتشاورون في أمرهم. قال كبيرهم في السن أو في العقل والرأي وهو روبيل أو يهوذا الذي أشار بإلقائه في البئر عند ما هموا بقتله : إن هذا الأمر عظيم ، ألم تذكروا أخذ أبيكم موثقكم لتردّنه إليه ، إلا أن يحاط بكم ، وألم

٤٣

تعلموا أيضا تفريطكم في الماضي بأخيكم يوسف وإضاعته عن أبيكم ، مما جعله رهين الحزن والأسى عليه؟!

(فَلَنْ أَبْرَحَ ...) فلن أغادر أرض مصر أبدا ، وأترك بنيامين فيها ، حتى يأذن لي أبي في العودة إليه ، أو يحكم الله لي بأن يمكنني من أخذ أخي أو بالخروج من مصر ، وهو خير الحاكمين ، فلا يحكم أبدا إلا بالحق والعدل.

هذا قراره الشخصي ، وأما رأيه فيما يقولون لأبيهم فهو (ارْجِعُوا ..) أي عودوا إلى أبيكم وقولوا له : يا أبانا إن ابنك سرق صواع الملك ، فاسترقه العزيز القائم بأمر الحكم في مصر ، على وفق شريعتنا التي أخبرناه بها ، وما شهدنا عليه بالسرقة إلا بما علمناه وشاهدنا من إخراج الصواع من وعاء بنيامين ، وما كنا للغيب حافظين ، أي وما علمنا أنه سيسرق ويسترق حين أعطيناك الموثق ، أو ما علمنا أنك تصاب به كما أصبت بيوسف ، وفي الجملة : حقيقة الحال غير معلومة لنا ، فإن الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى.

(وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ ..) أي واسأل يا أبانا عما حدث أهل القرية التي كنا فيها وهي مصر ، فقد اشتهر أمر هذه السرقة فيهم ، واسأل أصحاب العير الذين كانوا يأتون بالميرة (الطعام) معنا. وهذا مبالغة منهم في إزالة التهمة عن أنفسهم ، لأنهم مشكوك فيهم ، وكانوا متهمين بسبب واقعة يوسف عليه‌السلام. ثم أكدوا صدقهم بقوله : (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) فيما أخبرناك به من أنه سرق ، وأخذوه بسرقته ، وهذا مقال كبيرهم ، ثم ذكر تعالى مقال أبيهم :

(قالَ : بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ ..) أجابهم أبوهم بما يدل على عدم تصديقهم فيما قالوا ، كما أجابهم حين جاؤوا على قميص يوسف بدم كذب : (بَلْ سَوَّلَتْ ..) بل زينت لكم أنفسكم أمرا آخر أردتموه ، وكيدا جديدا فعلتموه؟ وإلا فما أدرى ذلك الرجل أن السارق يؤخذ بسرقته لولا فتواكم وتعليمكم!

٤٤

فأمري الاعتصام بالصبر الجميل وهو الذي لا جزع فيه ولا شكاية لأحد ، وإنما أرضى بقضاء الله وقدره ، وأشكو إلى الله وحده ، ثم ترجى أن يرد عليه أولاده الثلاثة : يوسف وبنيامين ، وروبيل الذي أقام بمصر ، ينتظر أمر الله فيه : إما أن يرضى عنه أبوه ، فيأمره بالرجوع إليه ، وإما أن يأخذ أخاه خفية ، فقال : (عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً ..) أي لعل الله الذي أطلب منه إرجاع أولادي الثلاثة أن يعيدهم إلي جميعا ، وقد كان ملهما أن يوسف لم يمت ، إنه هو العليم بحالي من الكبر والحزن ، الحكيم في أفعاله وقضائه وقدره ، فما بعد الشدة إلا اليسر ، وما بعد الكرب إلا الفرج.

(وَتَوَلَّى عَنْهُمْ ..) وأعرض يعقوب عن بنيه كارها لما قالوا ووصفوا ، وقال متذكرا حزن يوسف القديم : يا حزني ويا أسفي على يوسف ، والأسف : أشد الحزن والحسرة ، فجدد له حزن الابنين الحزن الدفين. وهو دليل على تمادي أسفه على يوسف ، وأن المصاب فيه دائم متجدد لم ينس مع تقادم العهد.

(وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ ..) أي أصيبت عيناه بسبب الحزن بغشاوة بيضاء ، حجبت البصر والرؤية فأصبح كظيما أي ساكتا لا يشكو أمره إلى مخلوق ، كاظما غيظه على أولاده. قيل : ما جفت عينا يعقوب من وقت فراق يوسف ، إلى حين لقائه ، ثمانين عاما ، وما على وجه الأرض أكرم على الله من يعقوب.

والجزع البالغ والحزن الشديد أمر إنساني عند الشدائد والمصائب ، وهو غير مذموم شرعا إذا اقترن بالصبر ، وضبط النفس ، حتى لا يخرج إلى مالا يحسن ، ولقد بكى رسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم على ولده إبراهيم ، وقال فيما رواه الشيخان : «إن العين لتدمع ، وإن القلب ليخشع ، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا ، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون».

وإنما الجزع المذموم : ما يقع من الجهلة من الصياح والنياحة ولطم الصدور

٤٥

والوجوه ، وتمزيق الثياب. عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أنه بكى على ولد بعض بناته ، وهو يجود بنفسه ، فقيل : يا رسول الله ، تبكي وقد نهيتنا عن البكاء؟ فقال : ما نهيتكم عن البكاء ، وإنما نهيتكم عن صوتين أحمقين : صوت عند الفرح ، وصوت عند الترح».

وقال الحسن البصري حينما بكى على ولد أو غيره : «ما رأيت الله جعل الحزن عارا على يعقوب».

وعند ما شاهد أولاد يعقوب ما حدث لأبيهم ، رقوا له ، وقالوا له على سبيل الرفق به والشفقة عليه : والله لا تزال تذكر يوسف ، حتى تصير مريضا ضعيف القوة ، أو تموت ، أي إن استمر بك هذا الحال ، خشينا عليك الهلاك والتلف.

فأجابهم عما قالوا : (إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ) أي لا أشكو إلى أحد منكم ومن غيركم حزني ، إنما أشكو همّي الشديد وأسفي وما أنا فيه إلى الله وحده داعيا له وملتجئا إليه ، فخلوني وشكايتي ، وأعلم من الله ما لا تعلمون ، أي أرجو منه كل خير ، لأني أعلم من صنعه وإحسانه ورحمته وحسن ظني به أن يأتيني بالفرج من حيث لا أحتسب. روي أنه رأى ملك الموت في منامه ، فسأله ، هل قبضت روح يوسف؟ فقال : لا والله ، هو حيّ فأطلبه. وقال ابن عباس في قوله تعالى : (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ..) يعني رؤيا يوسف أنها صدق ، وأن الله لا بد أن يظهرها.

(يا بَنِيَّ ، اذْهَبُوا ..) يا أولادي اذهبوا إلى مصر ، وتعرفوا أخبار يوسف وأخيه بنيامين. والتحسس يكون في الخير ، والتجسس يكون في الشر ، فهو قد ندبهم على الذهاب إلى مصر للتعرف على أخبار إخوتهم ، وأمرهم ألا ييأسوا من روح الله أي من فرجه وتنفيسه الكرب ، ولا يقطعوا رجاءهم وأملهم من الله فيما يقصدونه ، فإنه لا يقطع الرجاء ، ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون أي

٤٦

الذين يجحدون قدرته ورحمته ، ويجهلون حكمة الله في عباده. أما المؤمنون فلا ييأسون من رحمة الله وتفريجه الكروب ، وإزالته الشدائد. قال ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : «إن المؤمن من الله على خير ، يرجوه في البلاء ، ويحمده في الرخاء».

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ لم يتغير موقف أولاد يعقوب العشرة في حال الصغر والكبر معا ، وظلوا على حقدهم وحسدهم وكراهيتهم لأخويهما : يوسف وبنيامين ، وقد فهم هذا من محاولة تبرئة أنفسهم بأنهم على منهج وطريقة وسيرة تختلف عن منهج وسيرة أخويهم ، فأخواهما مختصان بهذه الطريقة واحتراف السرقة ، لأنهما من أم أخرى.

والحق أن سرقة يوسف كانت رضى لله ، وكانت على ما يبدو في حال الصغر ، والصغير غير مكلف ، ولم يكن وضع الصواع في رحل بنيامين منه إنما كان من غيره.

٢ ـ لم يقابلهم يوسف بالإساءة والتصريح عما في نفسه ، وإنما أسرّ في نفسه مقالتهم ، وقولهم هو : (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) وقيل : إنه أسرّ في نفسه على طريقة الإضمار قبل الذكر قوله : (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) ثم جهر فقال : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ).

٣ ـ استعطفوه لإطلاق سراح أخيهم بنيامين أو قبول الفداء عنه بأخذ أحدهم بدله ، بحال أبيه الشيخ الكبير أي كبير القدر ، ولم يريدوا كبير السن ، لأن ذلك معروف من حال الشيخ ، واستعطفوه أيضا بما رأوا من إحسانه في جميع أفعاله معهم.

٤٧

وأما عرضهم أخذ البدل عنه فهو إما مجاز ، لأنهم يعلمون أنه لا يصح أخذ حر يسترق بدل المتهم ، وإنما هو مبالغة في استنزاله ، كما تقول لمن تكره فعله : اقتلني ولا تفعل كذا وكذا ، وأنت لا تريد أن يقتلك ، ولكنك مبالغ في استنزاله.

وإما أن يكون قولهم : (فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ) حقيقة ، من طريق الكفالة بالنفس ، ليصل بنيامين إلى أبيه ، ويعرف جلّية الأمر ، والكفالة بالنفس جائزة على التحقيق في المذاهب الإسلامية الأربعة ، حتى عند الشافعي على الراجح.

وعلى كل حال كما أن الاستعباد للسارق في شرع إسحاق ويعقوب جائز ، كذلك العفو وأخذ الفداء كان جائزا أيضا.

٤ ـ رفض يوسف عليه‌السلام أخذ البدل ، ووصف ذلك بأنه ظلم.

٥ ـ تشاور أولاد يعقوب فيما يفعلون أمام الميثاق الذي أخذه عليهم أبوهم مؤكدا باليمين بالله ، وتذكروا تفريطهم السابق بيوسف ، فقرر أكبرهم في السن أو في الرأي والعقل وهو شمعون أو يهوذا أو روبيل البقاء في مصر ، حتى يأذن له أبوه بالرجوع إليه ، لاستحيائه منه ، أو يحكم الله له بالمضي مع أخيه إلى أبيهما. وهذا دليل على أن التناجي والمشاورة في أمر ما مطلوب شرعا.

وقد ذكر القاضي عياض في «الشفا» أن أعرابيا سمع رجلا يقرأ هذه الآية : (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا) فقال : أشهد أن مخلوقا لا يقدر على مثل هذا الكلام. إذ أن هذه الجملة تضمنت معاني كثيرة ، يعبر عنها اليوم بجمل كثيرة لعقد اجتماع سري ، وتشاور فيه ، ومداولة فيما يجابهون به أباهم ، وكيفية بيان الحادث له.

٦ ـ اتفق أولاد يعقوب بمشورة كبيرهم الذي بقي في مصر على مصارحة أبيهم بما حدث من واقعة السرقة ، وشهادتهم في الظاهر عليها ، حيث أخرج الصواع

٤٨

من متاع بنيامين ، وجهلهم بالمغيب ، فلم يعلموا وقت أخذ الميثاق عليهم أنه يسرق ، ويصير أمرهم إلى ما آل إليه ، من الاستعباد أو الاسترقاق ، عملا بما هو المقرر من جزاء في شريعتهم.

وعلى كل حال فإنهم لما تفكروا في الأصوب ظهر لهم أن الأصوب هو الرجوع وأن يذكروا لأبيهم كيفية الواقعة على نحو ما حدثت.

٧ ـ تضمنت آية (وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا) جواز الشهادة بأي وجه حصل العلم بها ، فتصح شهادة المستمع والمعاين والأعمى والأخرس إذا فهمت إشارته ، وكذلك تصح الشهادة على الخط إذا تيقن الشاهد أن الخط خط الكاتب أو خط فلان ، فكل من حصل له العلم بشيء ، جاز أن يشهد به ، وإن لم يشهده المشهود عليه ، قال الله تعالى : (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [الزخرف ٤٣ / ٨٦] وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخرجه مسلم عن زيد بن خالد الجهني : «ألا أخبركم بخير الشهداء : خير الشهداء الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها».

وقد شهد أولاد يعقوب بما رأوه حين إخراج الصواع من رحل أخيهم ، فغلب على ظنهم أنه هو الذي أخذ الصواع.

وأما شهادة المرور بأن يقول : مررت بفلان فسمعته يقول كذا ، فالصحيح أنه إذا استوعب القول ، جاز أداء الشهادة عليه.

وإذا ادعى رجل شهادة لا يحتملها عمره ، ردّت ، لأنه ادّعى باطلا ، فأكذبه العيان ظاهرا.

والخلاصة : أن الشهادة تكون بالاعتماد على الحواس الظاهرة ، أما حقيقة الغيب فلا يعلمها إلا الله تعالى.

٨ ـ استعان أولاد يعقوب لإقناع أبيهم بصدق قولهم بسؤال أناس من أهل

٤٩

مصر ، وسؤال قوافل الطعام التي كانت معهم من قوم من الكنعانيين ، وهذا يدل على أن كل من كان على حق ، وعلم أنه قد يظن به أنه على خلاف ما هو عليه أو يتوهم : أن يرفع التهمة وكل ريبة عن نفسه ، ويصرح بالحق الذي هو عليه ، حتى لا يبقى لأحد كلام ، وقد فعل هذا نبيناصلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما رواه البخاري ومسلم ـ بقوله للرجلين اللذين مرّا ، وهو مع صفية يردّها من المسجد : «على رسلكما ، إنما هي صفية بنت حيي». فقالا : سبحان الله! وكبر عليهما ، فقال : «إن الشيطان يبلغ من الإنسان مبلغ الدم ، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا».

ثم إنهم بالغوا في التأكيد والتقرير فقالوا : (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) يعني سواء نسبتنا إلى التهمة ، أو لم تنسبنا إليها ، فنحن صادقون.

٩ ـ الواجب على كل مسلم إذا أصيب بمكروه في نفسه أو ولده أو ماله أن يتلقى ذلك بالصبر الجميل والرضا والتسليم ، ويقتدي بنبي الله يعقوب وسائر النبيين عليهم‌السلام. قال يعقوب في واقعتي يوسف وبنيامين : (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) إلا أنه قال في واقعة يوسف : (وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) وقال في واقعة بنيامين : (عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً).

١٠ ـ قول يعقوب (عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً) صادر عن علمه بالوحي أو بالإلهام أو بسؤال ملك الموت أن يوسف عليه‌السلام لم يمت ، وإنما غاب عنه خبره. والذين تمنى إحضارهم ثلاثة : كبير أولاده ويوسف وبنيامين.

١١ ـ تجدد مصاب يعقوب وحزنه على يوسف بغياب ولدين آخرين هما أكبر أولاده وأصغرهم ، فأسف أسفا شديدا ، والأسف : شدة الحزن على ما فات ، وعمي فلم يعد يبصر بعينيه ست سنين من البكاء ، الذي كان سببه الحزن.

٥٠

ولكن الله العالم بحقائق الأمور الحكيم فيها على الوجه المطابق للفضل والإحسان والرحمة والمصلحة هيأ لجمع الأسرة كلها.

١٢ ـ إن الحزن ليس بمحظور إذا اقترن بالصبر والرضا والتسليم لقضاء الله وقدره ، فذلك من طبع الإنسان وعاطفته ، وإنما المحظور هو السخط على القضاء والقدر ، والولولة ، وشق الثياب ، والكلام بما لا ينبغي ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخرجه الشيخان : «تدمع العين ، ويحزن القلب ، ولا نقول ما يسخط الرب».

وبناء عليه لما سمع يعقوب عليه‌السلام كلام أبنائه ، ضاق قلبه جدا ، وأعرض عنهم ، وفارقهم ، ثم طلبهم أخيرا وعاد إليهم.

١٣ ـ أشفق أولاد يعقوب على أبيهم ، ورقوا ، وذكروا له مخاطر الاستمرار في حال الحزن ، وهي إما المرض المضعف القوة ، وإما الهلاك والموت ، وهذا أمر واقعي مطابق لأحوال الناس.

١٤ ـ كانت شكاية يعقوب وحزنه ولجوءه بالدعاء إلى الله وحده ، لا إلى أحد من الخلق ، وهذا هو المطلوب شرعا في كل شاك حزين.

١٥ ـ إن نبي الله يعقوب يعلم مالا يعلم غيره من الناس بما عند الله من رحمة وإحسان وتفريج كرب ، ويعلم أيضا أن رؤيا يوسف صادقة ، وأنه وزوجته وأبناؤه سيسجدون له ، تصديقا لرؤياه السابقة وهو صغير.

١٦ ـ تيقن يعقوب عليه‌السلام حياة ابنه يوسف إما بالرؤيا ، وإما بإخبار ملك الموت إياه بأنه لم يقبض روحه ، وهو أظهر ، فعاد يكلم أولاده باللطف ، وطلب منهم الذهاب إلى مصر للبحث عن يوسف وأخيه.

١٧ ـ لا يقنط من فرج الله إلا القوم الكافرون ، وهذا دليل على أن الكافر يقنط في حال الشدّة ، وعلى أن القنوط من الكبائر ، أما المؤمن فيرجو دائما فرج الله تعالى.

٥١

قال الرازي : واعلم أن اليأس من رحمة الله تعالى لا يحصل إلا إذا اعتقد الإنسان أن الإله غير قادر على الكمال ، أو غير عالم بجميع المعلومات ، أو ليس بكريم ، بل هو بخيل ، وكل واحد من هذه الثلاثة يوجب الكفر ، فإذا كان اليأس لا يحصل إلا عند حصول أحد هذه الثلاثة ، وكل واحد منها كفر ، ثبت أن اليأس لا يحصل إلا لمن كان كافرا (١).

الفصل الخامس عشر من قصة يوسف

تعرّف أولاد يعقوب على يوسف في المرة الثالثة واعترافهم

بخطئهم وعفوه عنهم

(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (٨٨) قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (٨٩) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٩٠) قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (٩١) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٩٢) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (٩٣))

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٨ / ١٩٩

٥٢

الإعراب :

(لَأَنْتَ يُوسُفُ) اللام : لام الابتداء ، وأنت : مبتدأ ، و (يُوسُفُ) : خبره ، والجملة من المبتدأ والخبر : في موضع رفع خبر «إن» ويجوز أن تكون (لَأَنْتَ) ضمير فصل على قول البصريين ، أو عمادا على قول الكوفيين.

(مَنْ يَتَّقِ مَنَ) شرطية مبتدأ ، وخبره : (فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ). وكان الأصل أن يقال : فإن الله لا يضيع أجرهم ، ليعود من الجملة إلى المبتدأ ذكر ، إلا أنه أقام المظهر مقام المضمر ، كقول الشاعر : لا أرى الموت يسبق الموت شيء. أي يسبقه شيء. وهو كثير في كلام العرب. والجملة من المبتدأ والخبر خبر إن الأولى ، والهاء فيها : ضمير الشأن والحديث. و (يَصْبِرْ) : مجزوم بالعطف على (يَتَّقِ). ومن قرأ «يتقي» على جعل من بمعنى «الذي» وإذا كانت بمعنى الذي ، ففيها معنى الشرط ، ولهذا تأتي الفاء في خبرها في الأكثر ، مثل : (فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) [المنافقين ٦٣ / ١٠].

(لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ) لا : نافية للجنس ، و (تَثْرِيبَ) : اسمها ، و (عَلَيْكُمُ) متعلق بالخبر المحذوف ، وتقديره : لا تثريب مستقر عليكم ، واليوم منصوب بالخبر المحذوف. ولا يجوز أن يتعلق أحدهما بتثريب ، لأنه لو كان متعلّقا به ، لوجب أن يكون منونا ، كقولهم: لا خيرا من زيد.

المفردات اللغوية :

(الضُّرُّ) أي شدة الجوع (بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ) أي بدراهم رديئة أو زيوف ، يدفعها التجار ، من أزجى الشيء : إذا دفعه برفق ، كما في قوله تعالى : (يُزْجِي سَحاباً) [النور ٢٤ / ٤٣].

(فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ) أي فأتم لنا الكيل (وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا) بالمسامحة عن رداءة بضاعتنا ، أو برد أخينا (إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) يثيبهم أحسن الجزاء ، والتصدق : التفضل مطلقا ، ولكنه اختص عرفا بما يبتغى به ثواب من الله تعالى.

ثم قال لهم توبيخا : (هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ) من الضرب والبيع وغير ذلك (وَأَخِيهِ) فعلهم بأخيه : إفراده عن يوسف وإذلاله ، حتى كان لا يستطيع أن يكلمهم إلا بعجز

٥٣

وذلة (إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ) قبح أو عاقبة فعلكم ، فأقدمتم عليه. وإنما قال ذلك تحريضا لهم على التوبة وشفقة عليهم ، لما رأى من عجز هم وتمسكنهم ، لا معاتبة وتثريبا.

(قالُوا) بعد أن عرفوه ، لما ظهر من شمائله (أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ) استفهام تقرير وإثبات ، وحقق بأن ودخول اللام عليه (وَهذا أَخِي) من أبي وأمي ، ذكره تعريفا لنفسه به ، وتفخيما لشأنه (قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا) أنعم علينا بالاجتماع والسلامة والكرامة (مَنْ يَتَّقِ) يخف الله (وَيَصْبِرْ) على ما يناله من البليات ، أو على الطاعات وعن المعاصي (فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) وضع الظاهر (الْمُحْسِنِينَ) موضع الضمير أجرهم للتنبيه على أن المحسن : من جمع بين التقوى والصبر.

(آثَرَكَ) فضلك ، واختارك علينا بحسن الصورة وكمال السيرة وبالملك والسلطة وغيرها (وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ) إن مخففة من الثقيلة ، أي إنا كنا ، أي والحال أن شأننا أنا كنا مذنبين بما فعلنا معك ، وآثمين في أمرك. والخاطئ : الذي يتعمد الخطيئة ، والمخطئ : الذي يريد الصواب فيخطئه ويصير إلى غيره. والخطء : الذنب.

(لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ) لا لوم ولا تأنيب عليكم (الْيَوْمَ) خصه بالذكر ، لأنه مظنة التثريب ، فغيره أولى. وهو متعلق بالتثريب ، أو بالخبر المحذوف وتقديره : لا تثريب كائن أو حاصل عليكم (يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ) لأنه صفح عن جريمتهم التي اعترفوا بها حينئذ (وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) فإنه يغفر الصغائر والكبائر ، ويتفضل على التائب.

(اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا) هو قميص إبراهيم الذي لبسه ، حين ألقي في النار ، كان في عنقه في الجبّ ، فهو القميص المتوارث ، أو القميص الذي كان عليه. (يَأْتِ بَصِيراً) يصر مبصرا (وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) أي ائتوني أنتم وأبي وزوجته بنسائكم وذراريكم ومواليكم.

المناسبة :

الكلام مرتبط بما قبله ، بتقدير محذوف ، وهو أن يعقوب لما قال لبنيه : (اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ) قبلوا من أبيهم هذه النصيحة ، وعادوا إلى مصر للمرة الثالثة ، يبحثون عن يوسف وأخيه ، بلا يأس ، وإنما بأمل وجدّ في البحث ، فلما التقوا مع يوسف العزيز ، ورق قلبه لاستعطافهم ، عرّفهم بنفسه ، وتم اجتماع الإخوة الاثني عشر.

٥٤

التفسير والبيان :

فلما ذهبوا في المرة الثالثة ، فدخلوا مصر ، ودخلوا على يوسف عليه‌السلام ، فقالوا مختبرين بذكر حالهم ، واستعطافهم ، وشكواهم إليه رقة الحال وقلة المال مما يرقق القلب : يا أيها العزيز ـ وكان أبوهم يرى أن هذا العزيز هو يوسف ـ قد أصابنا وأهلنا الضرر الشديد من الجدب والقحط والجوع وقلة الطعام ، وأتينا إليك بثمن الطعام الذي نمتاره ، وهو ثمن قليل أو رديء زيوف لا يروج بين التجار في الأسواق ، فأتم لنا الكيل كما عودتنا من إحسانك ، وتصدّق علينا بقبض هذه البضاعة المزجاة ، وتسامح فيها بعد أن تتغاضى عن قلتها أو رداءتها ، إن الله يجزي المتصدقين أحسن الجزاء ، فيخلف لهم ما ينفقون ، ويضاعف الثواب لهم.

وكان القصد من هذا الكلام الرقيق والتضرع والتذلل اختبار حال العزيز ، هل يرق قلبه ، ويظهر نفسه ، ويعلن عن شخصه؟ بعد أن ذكروا له ما أصابهم من الجهد والضيق وقلة الطعام ، وما لدى أبيه من الحزن لفقد ولديه.

وقد نجحوا في هذا الاستعطاف ، فأخذته رقة ورأفة ورحمة على أبيه وإخوته ، وهو في حال الملك والتصرف والسعة ، فأجابهم بقوله ، مستفهما عن مدى استقباح فعلهم السابق بيوسف : هل علمتم قبح ما فعلتم بيوسف وأخيه بنيامين؟ حيث ألقيتم يوسف في الجبّ ، وعرضتموه للهلاك ، وفرقتم بينه وبين أخيه ، وما عاملتم به أخاه من معاملة جافّة قاسية ، حال كونكم جاهلين قبح ما فعلتموه ، من عقوق الوالدين ، وقطيعة الرحم والقرابة ، وذلك كما قال بعض السلف : كل من عصى الله فهو جاهل ، وقرأ : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ) الآية [النحل ١٦ / ١١٩].

والمراد بهذا الاستفهام التقريع والتوبيخ ، ومراد يوسف تعظيم الواقعة ، أي ما أعظم ما ارتكبتم بيوسف ، كما يقال : هل تدري من عصيت؟ والصحيح أنه

٥٥

قال (جاهِلُونَ) تأنيسا لقلوبهم وبيانا لعذرهم ، كأنه قال : إنما دفعكم لهذا الفعل القبيح جهالة الصبا أو الغرور ، وكأنه لقنهم الحجة ، كقوله تعالى :(ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) [الانفطار ٨٢ / ٦] (١).

وهذا تذكير رقيق بذنوبهم ، تمهيدا لتعريفهم بنفسه ، لا معاتبة ولوما وتوبيخا ، بعد أن حان الوقت في هذه المرة الثالثة من لقاء يوسف مع إخوته ، وكان قد أخفى منهم نفسه في المرتين الأوليين بتقدير الله وأمره ، وهو مصداق قوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) [يوسف ١٢ / ١٥].

فاغتنموا فرصة هذا التذكير وتساؤل العارف الخبير بأحوالهم ، فسألوه سؤال المتعجب المستغرب المقرّر المثبت أنه أخوهم يوسف : (أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ) أي إنهم استفهموا استفهام تعجب من موقفه أنهم يترددون إليه من سنتين وأكثر ، وهم لا يعرفونه وهو مع هذا يعرفهم ويكتم نفسه ، ولكنهم في هذه المرة عرفوه بقولهم ذلك ، وتوسموا أنه يوسف ، واستفهموه استفهام استخبار ، وقيل : استفهام تقرير ، وهو أولى في تقديري ، لأنهم كانوا عرفوه بعلامات.

قال ابن عباس : إن إخوته لم يعرفوه حتى وضع التاج عنه ، وكان في قرنه علامة ، وكان ليعقوب مثلها شبه الشامة ، فلما قال لهم : (هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ) رفع التاج عنه ، فعرفوه ، فقالوا : (أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ) أي إنهم قالوا : من المؤكد قطعا أنك أنت يوسف.

(قالَ : أَنَا يُوسُفُ) قال : نعم أنا يوسف المظلوم العاجز ، الذي نصرني الله وقواني وصرت إلى ما ترون ، وهذا أخي بنيامين الذي فرقتم بيني وبينه ،

__________________

(١) البحر المحيط : ٥ / ٣٤١

٥٦

ومقصوده : أن هذا أيضا كان مظلوما كما كنت ، ثم صار منعما عليه من قبل الله تعالى ، كما ترون.

(قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا) أي قد أنعم الله علينا بالاجتماع بعد الفرقة وبعد طول المدة ، وأعزنا في الدنيا والآخرة. وفيه إشارة إلى أنه لا وجه لطلبكم بنيامين ، لأنه أخي.

(إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ ..) أي إن كل من يتقي الله حق التقوى فيما أمر به ونهى ، ويصبر على طاعة الله وعلى المحن التي يتعرض لها ، فإن الله حسبه وكافيه من كل سوء ، ومنجيه من كل مكروه ، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا في الدنيا والآخرة. وهذه شهادة من الله بأن يوسف من المتقين الصابرين المحسنين.

(قالُوا : تَاللهِ لَقَدْ ..) أجابوه إعلانا للحق واعترافا له بالفضل ، والله لقد فضلك الله علينا ، وآثرك بالعلم ، والحلم ، والخلق ، والملك والسعة والتصرف ، والنبوة أيضا ، وأقروا له بأنهم أساؤوا إليه ، وأخطئوا في حقه ، وأعلنوا بأنهم المذنبون الخاطئون ، الذين لا يعذرون.

وبعد اعتذارهم وإعلان توبتهم صفح عنهم فقال : لا لوم ولا تعيير ولا توبيخ ولا تأنيب عليكم اليوم عندي فيما صنعتم ، وكذا فيما قبله من الأيام ، وخص اليوم بالذكر ، لأنه مظنة التثريب والعتاب.

ثم زادهم الدعاء لهم بالمغفرة ، فقال : يغفر الله لكم ذنوبكم وظلمكم ، وهو أرحم الراحمين لمن تاب إليه وأناب إلى طاعته.

(اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا ..) لما عرف يوسف نفسه إخوته ، سألهم عن أبيهم ، فقالوا : ذهب بصره ، أي عمي من كثرة البكاء ، فقال لهم بما عرف بالوحي : اذهبوا بقميصي هذا الذي على بدني ، أو المتوارث عن أجدادي وآبائي إبراهيم

٥٧

وإسحاق ويعقوب ، فألقوه على وجه أبي فور وصولكم إليه ، يأت مبصرا (ذا بصر) كما كان ، فإن الغشاوة التي ألمت به تزول بالفرح والبشرى ، وذلك بفضل الله وكرمه ، وأتوني بجميع أهليكم من الرجال والنساء والأولاد ، روي أن أهله كانوا سبعين رجلا وامرأة وولدا.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ جواز الشكوى عند الضّرّ ، أي الجوع ، بل يجب على الإنسان إذا خاف على نفسه الضر من الفقر وغيره ، أن يبدي حالته إلى من يرجو منه النفع ، كما يجب عليه أن يشكو ما به من الألم إلى الطبيب ليعالجه ، ولا يكون ذلك معارضا التوكل :

وهذا ما لم يكن التشكي على سبيل التسخط. ويظل الصبر والتجلّد في النوائب أحسن ، والتعفف عن المسألة أفضل ، وأحسن الكلام في الشكوى سؤال المولى زوال البلوى ، كما قال يعقوب : (إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ ، وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) أي من جميل صنعه ، وغريب لطفه ، وعائدته على عباده.

أما الشكوى لمن لا يؤمل منه إزالتها فهو عبث وسفه ، إلا أن يكون على وجه البثّ والتسلي.

٢ ـ جواز طلب الزيادة على الحق على سبيل الصدقة ، والصدقة كما ذكر مجاهد لم تحرم إلا على نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وروى ابن جرير أن سفيان بن عيينة سئل : هل حرمت الصدقة على أحد من الأنبياء قبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقال : ألم تسمع قوله : (فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ ، وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا ، إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ).

٥٨

٣ ـ استدل مالك وغيره من العلماء على أن أجرة الكيال على البائع : لأن إخوة يوسف قالوا له : (فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ) فكان يوسف هو الذي يكيل. وكذلك الوزّان والعدّاد وغيرهم ، لأن على البائع تسليم المبيع وتمييزه عما عداه ، إلا إذا باع شيئا معينا أو ما لا يحتاج إلى الكيل أو الوزن أو العدد ، ولأن البائع لا يستحق الثمن إلا بعد إيفاء الحق بالكيل أو الوزن.

وكذلك أجرة النقد (فحص الدراهم التي هي الثمن) على البائع أيضا ، لأنه هو الذي يدّعي الرداءة ، ولأن النفع يقع له ، فصار الأجر عليه.

ويكره للرجل أن يقول في دعائه : اللهم تصدق عليّ ، لأن الصدقة إنما تكون ممن يبتغي الثواب ، والله تعالى متفضل بالثواب بجميع النعم ، لا رب غيره.

٤ ـ استنباط الأحكام من فحوى الكلام وما يصحبه من إشارات ، فإن يوسف وجّه لإخوته استفهاما بمعنى التذكير والتوبيخ بقوله : (هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ؟) ففهموا منه أنه يوسف ، فقالوا على سبيل استفهام التقرير والإثبات : (أَإِنَّكَ لَأَنْتَيُوسُفُ؟).

ودل قوله (إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ) على أنهم كانوا صغارا في وقت أخذهم ليوسف ، وليسوا أنبياء ، لأنه لا يوصف بالجهل إلا من كانت هذه صفته ، ويدل على أنه حسنت حالهم الآن ، أي فعلتم فعلكم إذ أنتم صغار جهال.

وتعرف إخوة يوسف عليه ، فتجاوب معهم وعرفهم بنفسه قائلا : (أَنَا يُوسُفُ) أي أنا المظلوم.

قال ابن عباس : كتب يعقوب إلى يوسف بطلب ردّ ابنه ، وفي الكتاب : من يعقوب صفيّ الله ابن إسحاق ذبيح الله ، ابن إبراهيم خليل الله إلى عزيز مصر :

٥٩

أما بعد ، فإنا أهل بيت بلاء ومحن ، ابتلى الله جدّي إبراهيم بنمروذ وناره ، ثم ابتلى أبي إسحاق بالذبح ، ثم ابتلاني بولد كان لي أحبّ أولادي إلي ، حتى كفّ بصري من البكاء ، وإني لم أسرق ولم ألد سارقا ، والسّلام.

فلما قرأ يوسف الكتاب ارتعدت مفاصله ، واقشعرّ جلده ، وأرخى عينيه بالبكاء ، وعيل صبره ، فباح بالسرّ.

وأعلن يوسف عن مزيد فضل الله عليه بقوله : (قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا) أي بالاجتماع بعد الفرقة ، وبالعز بعد الذل ، وبالنجاة والملك.

٥ ـ إن من اتقى الله بالتزام ما أمر واجتناب ما نهى ، وصبر على المصائب وعن المعاصي ، فإن الله يدخر له ثواب إحسانه العمل ، ولا يضيع منه شيئا.

٦ ـ الاعتراف بالذنب أو الخطأ سبيل الحظوة بالعفو والصفح ، فإن قول إخوة يوسف : (وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ) أي مذنبين ، متضمن سؤال العفو ، وقد ظفروا به.

ولا مانع من العفو عن الخطأ وإن كان عمديا ، فهو تجاوز للحق ، أيا كانت صفته ، وكل من اقترف ذنبا متجاوز لمنهاج الحق ، واقع في الشبهة والمعصية.

٧ ـ شهد الله تعالى لنبيه يوسف عليه‌السلام بصفات المتقين الصابرين المحسنين ، وكفى بشهادة الحق فخرا ، وهذا تعليم وتدريب ومثل عملي لنا.

٨ ـ كانت عبارة يوسف : (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) مثلا رائعا في السماحة والعفو والصفح ، فهو عفو لا لوم فيه ولا تعيير ، وهو صفح في حال المقدرة على العقاب ، وهو تنازل عن أي حق دون أي حقد أو كراهية ، وأضيف إليه الدعاء بالمغفرة على الذنب والستر ، والرحمة في عالم الآخرة بين يدي أرحم الراحمين. وهو لا يكون إلا عن وحي ، فكان مرد الفضل في النهاية إلى الله تعالى.

٦٠