التفسير المنير - ج ١٣

الدكتور وهبة الزحيلي

مثال الكلمة الطيبة من السعداء ومثال الكلمة الخبيثة من الأشقياء

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (٢٤) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (٢٦) يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ (٢٧))

الإعراب :

(كَلِمَةً طَيِّبَةً) بدل من (مَثَلاً) أو تفسير له ، و (كَشَجَرَةٍ) صفة للكلمة أو خبر مبتدأ محذوف ، أي هي كشجرة.

البلاغة :

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) تعجيب من حال الفريقين : السعداء والأشقياء.

(كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ) في كل تشبيه مرسل مجمل.

(أَصْلُها .. وَفَرْعُها طَيِّبَةً) و (خَبِيثَةٍ) في كل طباق.

المفردات اللغوية :

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) أي ألم تنظر كيف اعتمده ووضعه ، والمثل : قول يشبّه بقول

٢٤١

بينهما مشابهة في شيء محسوس ، للتوضيح والبيان (كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ) أي جعل كلمة طيبة كشجرة طيبة ، والكلمة الطيبة : هي لا إله إلا الله وهي كلمة التوحيد ودعوة الإسلام والقرآن ، والشجرة الطيبة هي النخلة (ثابِتٌ) في الأرض بالعروق (وَفَرْعُها فِي السَّماءِ) أي أعلاها في جهة العلو (تُؤْتِي) تعطي (أُكُلَها) ثمرها (كُلَّ حِينٍ) كل وقت أقّته الله تعالى لإثمارها ، أي أن كلمة الإيمان ثابتة في قلب المؤمن ، وعمله يصعد إلى السماء ، ويناله ثوابه كل وقت.

(بِإِذْنِ رَبِّها) بإرادته (وَيَضْرِبُ) ويبين لأن في هذا التشبيه زيادة إفهام وتذكير (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) لعلهم يتعظون فيؤمنوا (كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ) هي كلمة الكفر (كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ) هي الحنظل (اجْتُثَّتْ) استوصلت (ما لَها مِنْ قَرارٍ) استقرار (بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) الذي ثبت بالحجة عندهم وتمكن في قلوبهم (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) فلا يزلّون إذا افتتنوا في دينهم ، كزكريا ويحيى عليهما‌السلام (وَفِي الْآخِرَةِ) فلا يتلعثمون إذا سئلوا عن معتقدهم في موقف الحساب وعند رؤيتهم أهوال الحشر ، وقيل : معناه الثبات عند سؤال القبر ، فحينما يسألهم الملكان عن ربهم ودينهم ونبيهم ، يجيبون بالصواب ، كما في حديث الشيخين. (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ) الكفار الذين ظلموا أنفسهم ، فلا يهتدون للحق والجواب الصواب ، بل يقولون : لا ندري ، كما جاء في الحديث. (وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) من تثبيت بعض وإضلال آخرين من غير اعتراض عليه.

المناسبة :

بعد أن بيّن الله تعالى أحوال الأشقياء وما آل إليهم أمرهم من العذاب في نار جهنم ، وأحوال السعداء وإدراكهم الفوز عند ربهم ، ذكر مثلا يبين حال الفريقين ، وسبب التفرقة بينهما ، بتشبيه المعنويات بالحسيات ، لترسيخ المعاني في الأذهان ، كما هو الشأن في القرآن.

التفسير والبيان :

ألم تعلم أيها المخاطب كيف اعتمد الله مثلا ووضعه في موضعه المناسب له وهو تشبيه الكلمة الطيبة وهي كلمة التوحيد والإسلام ودعوة القرآن ، بالشجرة الطيبة وهي النخلة الموصوفة بصفات أربع هي :

١ ـ كون تلك الشجرة طيبة المنظر والشكل ، وطيبة الرائحة ، وطيبة الثمرة ، وطيبة المنفعة أي يستلذ بأكلها ويعظم الانتفاع بها.

٢٤٢

٢ ـ أصلها ثابت ، أي راسخ باق متمكّن في الأرض لا ينقلع.

٣ ـ وفرعها في السماء ، أي كاملة الحال لارتفاع أغصانها إلى الأعلى ، وبعدها عن عفونات الأرض ، فكانت ثمراتها نقية طيبة خالية من جميع الشوائب.

٤ ـ تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ، أي تثمر كل وقت وقّته الله لإثمارها بإرادة ربها وإيجاده وتيسيره. ولما كانت الأشجار تؤتي أكلها كل سنة مرة ، كان ذلك في حكم الحين.

روي عن ابن عباس أن الكلمة الطيبة هي قول : «لا إله إلا الله» وأن الشجرة الطيبة هي النخلة ، وكذلك روي عن ابن مسعود أنها النخلة ، وهو مروي عن أنس وابن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وحديث ابن عمر رواه البخاري ، قال : «كنا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : أخبروني عن شجرة تشبه الرجل المسلم ـ أو كالرجل المسلم ـ لا يتحاتّ ورقها صيفا ولا شتاء ، وتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ، قال ابن عمر : فوقع في نفسي أنها النخلة ، ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمان ، فكرهت أن أتكلم ، فلما لم يقولوا شيئا ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هي النخلة».

(وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ ..) أي وهكذا يضرب الله الأمثال للناس ؛ فإن في ضرب الأمثال زيادة إفهام وتذكير وعظة وتصوير للمعاني ؛ لأن تشبيه المعاني المعقولة بالأمور المحسوسة يرسّخ المعاني ، ويزيل الخفاء والشك فيها ، ويجعلها كالأشياء الملموسة. وفي هذا لفت نظر يدعو الإنسان إلى التأمل في عظم هذا المثل ، والتدبر فيه ، وفهم المقصود منه.

ثم ذكر الله تعالى مثال حال كلمة الكفر ، فقال : (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ ..) أي وصفة الكلمة الخبيثة وهي كلمة الكفر أو الشرك كصفة الشجرة الخبيثة وهي شجرة الحنظل ونحوه ، كما قال أنس موقوفا فيما روى أبو بكر البزار ، ومرفوعا

٢٤٣

فيما روى ابن أبي حاتم : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ) : هي الحنظلة ، ووصفت الشجرة الخبيثة بصفات ثلاث هي :

١ ـ أنها خبيثة الطعم أو لما فيها من المضار ، أو الرائحة وهي الحنظلة ، وقيل : الثوم ، وقيل : الشوك.

٢ ـ اجتثت من فوق الأرض ، أي اقتلعت واستؤصلت ، وليس لها أصل ولا عرق ، فكذلك الشرك بالله تعالى ليس له حجة ولا ثبات ولا قوة.

٣ ـ ما لها من قرار ، أي ليس لها استقرار ، وهذه الصفة كالمتممة للصفة الثانية.

وهذه صفات في غاية الكمال ، فالخبث وصف للمضار ، والاجتثاث وعدم القرار وصف للخلو عن المنافع.

وبالموازنة يتبين الفرق بين كلمتي الحق والباطل ، فكلمة الحق وهي كلمة التوحيد والإيمان قوية ثابتة نافعة للناس ، وكلمة الباطل وهي كلمة الشرك أو الكفر ضعيفة ضارة ليس فيها استقرار ولا ثبات.

وأصحاب الكلمة الأولى هم المؤمنون ، وأولو الكلمة الثانية هم الكافرون والعصاة.

ثم أخبر الله تعالى عن فوز أهل الكلمة الأولى بمرادهم في الدنيا والآخرة ، فقال : (يُثَبِّتُ اللهُ ..) أي إن كرامة الله وثوابه ثابتان للمؤمنين في الآخرة بالقول الذي كان يصدر عنهم في الدنيا ، وهو الإيمان المستقر بالحجة والبرهان في قلوبهم ، والمقصود : بيان أن الثبات في المعرفة والطاعة يوجب الثبات في الثواب والكرامة من الله تعالى.

أو أن المراد أن الله يثبت المؤمنين في الدنيا بعدم تعرضهم للفتنة في دينهم

٢٤٤

بالرغم من التعذيب كبلال وغيره من الصحابة ، فتثبيتهم به في الدنيا : أنهم إذا فتنوا في دينهم ، لم يزلّوا ، كما ثبّت الذين فتنهم أصحاب الأخدود ، والذين نشروا بالمناشير ، ومشطت لحومهم بأمشاط الحديد.

وتثبيتهم في الآخرة : أنهم إذا سئلوا عن معتقدهم ودينهم في موقف الحساب ، لم يتلعثموا ، ولم تحيرهم أهوال الحشر.

وقيل وهو القول المشهور : معناه الثبات عند سؤال القبر ، والمراد بالحياة الدنيا : مدة الحياة ، والآخرة : يوم القيامة والحساب ، روى البخاري ومسلم وأحمد وبقية الجماعة كلهم عن البراء بن عازب رضي‌الله‌عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «المسلم إذا سئل في القبر ، شهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، فذلك قوله : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ). وهذا مروي أيضا عن أبي هريرة.

وروى ابن أبي شيبة الحديث المتقدم نفسه عن البراء أنه قال في الآية : التثبيت في الدنيا : إذا جاء الملكان إلى الرجل في القبر ، فقالا له : من ربك؟ قال : ربي الله ، وقالا : وما دينك؟ قال : ديني الإسلام ، وقالا : وما نبيك؟ قال : نبيي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وروى أبو داود عن عثمان بن عفان رضي‌الله‌عنه قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا فرغ من دفن الميت ، وقف عليه وقال : استغفروا لأخيكم ، واسألوا له التثبيت ، فإنه الآن يسأل».

قال الرازي : القول المشهور : أن هذه الآية وردت في سؤال الملكين في القبر ، وتلقين الله المؤمن كلمة الحق في القبر عند السؤال وتثبيته إياه على الحق (١).

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٩ / ١٢٢

٢٤٥

ثم ذكر الله تعالى مصير الكافرين بقوله : (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ) أي ويمنع الله الكافرين عن الفوز بثوابه ، أو يتركهم وضلالهم لعدم توافر استعدادهم للإيمان ، وانزلاقهم في الأهواء والشهوات.

أو يجعلهم يترددون في الجواب ويتلعثمون إذا سئلوا في قبورهم عن دينهم ومعتقدهم ؛ روى ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : «إن الكافر إذا حضره الموت ، تنزل عليه الملائكة عليهم‌السلام يضربون وجهه ودبره ، فإذا دخل قبره ، أقعد ، فقيل له : من ربك؟ لم يرجع إليهم شيئا ، وأنساه الله تعالى ذكر ربه ، وإذا قيل له : من الرسول الذي بعث إليك؟ لم يهتد له ولم يرجع إليهم شيئا ، فذلك قوله تعالى : (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ).

ثم أبان الله تعالى مشيئته المطلقة في الفريقين فقال : (وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) أي إن شاء هدى ، وإن شاء أضل. وإضلالهم في الدنيا : أنهم لا يثبتون في مواقف الفتن ، وتزلّ أقدامهم أول شيء ، وهم في الآخرة أضل وأزلّ. والضلال لسوء الاستعداد ، والميل مع أهواء النفس.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ الكلمة الطيبة وهي الإيمان أو لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، أو المؤمن نفسه : هي الثابتة الخالدة ، الطيبة النافعة. روى أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن مثل الإيمان كمثل شجرة ثابتة : الإيمان عروقها ، والصلاة أصلها ، والزكاة فروعها ، والصيام أغصانها ، التأذي في الله نباتها ، وحسن الخلق ورقها ، والكفّ عن محارم الله ثمرتها». والشجرة الطيبة في الأصح : هي النخلة ، ذكر الغزنوي والطبراني فيما رواه ابن عمر عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مثل المؤمن كالنخلة ، كل شيء منها ينتفع به».

٢٤٦

٢ ـ الأمثال والتشبيهات ، وبخاصة تشبيه المعقول بالمحسوس ، فيها ذكرى وعظة وعبرة ، وإفهام وإيقاظ للمشاعر والضمائر ، ولفت الأنظار ، وشد الانتباه إليها.

٣ ـ الكلمة الخبيثة وهي كلمة الكفر لا قرار لها ولا ثبات ، ولا جدوى ولا نفع ، ولا تعتمد على حجة مقبولة أو برهان صحيح. والشجرة الخبيثة في الأصح : شجرة الحنظل ، كما في حديث أنس ، وهو قول ابن عباس ومجاهد وغيرهما.

وكذلك الكافر لا حجة له ، ولا ثبات ، ولا خير فيه ، وليس له أصل يعمل عليه.

٤ ـ المقصود من الآية الدعوة إلى الإيمان ، ورفض الشرك.

٥ ـ يثبّت الله المؤمنين على الحق والإيمان في الدنيا ، فلا يتراجعون عنه ، ويثبّت نفوسهم ، فيلهمها الصواب والنطق بالإيمان في القبر ؛ لأن الموتى ما يزالون في الدنيا إلى أن يبعثوا ، وكذلك يلهمها الصواب في الآخرة عند الحساب.

٦ ـ يضلّ الله الظالمين عن حجتهم في قبورهم ، كما ضلّوا في الدنيا بكفرهم ، فلا يلقّنهم

كلمة الحق ، فإذا سئلوا في قبورهم قالوا : لا ندري ؛ فيقول الملك : لا دريت ولا تليت ، وعند ذلك يضرب بالمقامع (سياط من حديد ، رؤوسها معوجة) على ما ثبت في الأخبار.

٧ ـ يفعل الله ما يشاء من عذاب قوم وإضلال قوم ، وقيل : إن سبب نزول هذه الآية ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما وصف مساءلة منكر ونكير وما يكون من جواب الميت ، قال عمر : يا رسول الله ، أيكون معي عقلي؟ قال : نعم ، قال : كفيت إذن ؛ فأنزل الله عزوجل هذه الآية : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا.).

٢٤٧

كفران النعمة واتخاذ الأنداد وتهديد الكافرين بالتمتع بنعيم الدنيا

وأمر المؤمنين بإقامة الصلاة والإنفاق

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (٢٨) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (٢٩) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (٣٠) قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (٣١))

الإعراب :

(وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ قَوْمَهُمْ) : مفعول أول ، و (دارَ الْبَوارِ) : مفعول ثان.

(جَهَنَّمَ) : بدل من (دارَ الْبَوارِ) وهو ممنوع من الصرف للعلمية (التعريف) والتأنيث.

(يَصْلَوْنَها) : جملة فعلية في موضع نصب على الحال من (قَوْمَهُمْ) أو من (جَهَنَّمَ) أو منهما.

(يُقِيمُوا الصَّلاةَ) جواب الأمر وهو أقيموا وتقديره : قل لهم : أقيموا يقيموا. ويجوز جزمه بلام مقدرة ، تقديره : ليقيموا ، ثم حذف الأمر ؛ لتقدم لفظ الأمر. ويجوز كونه مجزوما على أنه جواب (قُلْ) وهذا ضعيف ؛ لأن الأمر للنبي بالقول ليس فيه أمر لهم بإقامة الصلاة.

(سِرًّا وَعَلانِيَةً) منصوبان على المصدر ، أي إنفاق سر وعلانية ، أو على الحال ، أي ذوي سر وعلانية ، أو على الظرف ، أي وقتي سر وعلانية.

البلاغة :

(سِرًّا ، وَعَلانِيَةً) بينهما طباق.

٢٤٨

(الْبَوارِ .. الْقَرارُ .. النَّارِ) سجع مرصّع.

(قُلْ : تَمَتَّعُوا) تهديد ووعيد.

المفردات اللغوية :

(أَلَمْ تَرَ) تنظر (الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً) أي بدلوا شكر نعمته كفرا ، بأن وضعوه مكانه ، وهم كفار قريش (وَأَحَلُّوا) أنزلوا (قَوْمَهُمْ) الذين شايعوهم في الكفر ، بإضلالهم إياهم (دارَ الْبَوارِ) دار الهلاك بحملهم على الكفر ، والقوم البور : هم الهالكون كقوله تعالى : (وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً) [الفتح ٤٨ / ١٢] (يَصْلَوْنَها) يدخلونها ويقاسون حرها (وَبِئْسَ الْقَرارُ) أي وبئس المقر جهنم (أَنْداداً) شركاء ، جمع ندّ : وهو المثل والشريك والشبيه (لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) وهو التوحيد أو دين الإسلام ، وليس الضلال والإضلال غرضهم في اتخاذ الأنداد ، لكن لما كان نتيجته جعل كالغرض (تَمَتَّعُوا) بدنياكم قليلا. (مَصِيرَكُمْ) مرجعكم.

(قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا) خصهم بالإضافة تنويها لهم وتنبيها على أنهم المقيمون لحقوق العبودية. ومقول (قُلْ) محذوف ، دل عليه جوابه ، أي قل لعبادي الذي آمنوا : أقيموا يقيموا الصلاة (سِرًّا وَعَلانِيَةً) أي وقت السر والعلانية أو ذوي سر وعلانية ، أو إنفاق سر وعلانية (لا بَيْعٌ فِيهِ) لا فداء ، بأن يبيع ما يفدي به نفسه (وَلا خِلالٌ) مخالة ، أي صداقة تنفع ، وذلك اليوم هو يوم القيامة.

سبب النزول : نزول الآية (٢٨):

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا ..) قال ابن عباس : هؤلاء هم كفار مكة. وأخرج الحاكم وابن جرير والطبراني وغيرهم عن عمر وعلي رضي‌الله‌عنهما أنهما قالا في المبدّلين : هم الأفجران من قريش : بنو المغيرة ، وبنو أمية ، فأما بنو المغيرة فقطع الله تعالى دابرهم يوم بدر ـ أو فكفيتموهم ـ وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين.

المناسبة :

بعد أن بيّن الله تعالى أحوال السعداء وأحوال الأشقياء ، عاد إلى وصف أحوال الكفار في هذه الآية : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا ..) وهم أهل مكة ، حيث أسكنهم الله تعالى حرمة الآمن ، وجعل عيشهم في السعة ، وبعث فيهم محمدا

٢٤٩

صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلم يعرفوا قدر هذه النعمة ، وأبان أسباب وقوعهم في سوء المصير في جهنم ، ثم أمرهم على سبيل الوعيد والتهديد بالتمتع في نعيم الدنيا ، ثم أمر المؤمنين بمجاهدة النفس والهوى بالصلاة والإنفاق.

التفسير والبيان :

يدعو الله تعالى إلى التعجب من أمر كفار مكة وأمثالهم الذين وصفهم الله بصفتين هما السبب الأول في دخولهم نار جهنم وهي :

١ ـ (بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً) أي بدلوا شكر نعمة الله كفرا ، فإن شكر النعمة واجب عقلا وشرعا ، لكنهم خرجوا عن هذا الواجب ، وجعلوا بدل الشكر كفرا وجحودا. وهم كفار أهل مكة ، وهو المشهور الصحيح عن ابن عباس في هذه الآية ، قال ابن كثير : وإن كان المعنى يعم جميع الكفار ، فإن الله تعالى بعث محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم رحمة للعالمين ، ونعمة للناس ، فمن قبلها وقام بشكرها ، دخل الجنة ، ومن ردّها وكفرها دخل النار.

٢ ـ (وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ) أي وأنزلوا قومهم الذين شايعوهم في الكفر ، واتبعوهم في الضلال ، دار الهلاك الذي لا هلاك بعده.

ودار البوار هي جهنم مقر العذاب التي يدخلونها ويقاسون حرها ، وبئس المقر جهنم.

والسبب الثاني : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) أي واتخذوا لله شركاء عبدوهم معه ، ودعوا الناس إلى ذلك ، فقالوا في الحج مثلا : لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك.

والسبب الثالث : (لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) أي اتخذوا الأنداد أو الشركاء لتكون عاقبة أمرهم إضلال من شايعهم واتبعهم ، وصرفهم عن دين الله ، وإبقاءهم

٢٥٠

في مرتع الكفر. فاللام في (لِيُضِلُّوا) لام العاقبة ؛ لأن عبادة الأوثان سبب يؤدي إلى الضلال ؛ ولأنهم لم يريدوا ضلال أنفسهم ، أي أن المقصود لا يحصل إلا في آخر المراتب.

ثم قال تعالى مهددا ومتوعدا لهم على لسان نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (قُلْ : تَمَتَّعُوا ..) أي تمتعوا بما قدرتم عليه من نعيم الدنيا ، فإن جزاءكم ومرجعكم وموئلكم إلى النار ، كما قال تعالى : (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ، ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) [لقمان ٣١ / ٢٤] وقال سبحانه : (مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ، ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ، ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) [يونس ١٠ / ٧٠]. وسمي ذلك تمتعا ؛ لأنهم تلذذوا به ، ولأنه بالنسبة إلى عقاب الآخرة تمتع ونعيم.

ونظير الآية في أمر التهديد : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) [فصلت ٤١ / ٤٠] وقوله : (قُلْ: تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً ، إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) [الزمر ٣٩ / ٨].

وبعد تهديد الكفار على تمتعهم في الدنيا ، أمر الله نبيه بأن يبلّغ الناس ويأمرهم بإقامة الصلاة التي هي عبادة بدنية ، والإنفاق في سبيله وهو عبادة مالية ، فقال : (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا ..) أي يأمر الله تعالى عباده بطاعته والقيام بحقه والإحسان إلى خلقه ، بأن يقيموا الصلاة ، وهي عبادة الله وحده لا شريك له ، وأن ينفقوا مما رزقهم الله ، بأداء الزكوات ، والنفقة على القرابات ، والإحسان إلى الأباعد.

وإقامة الصلاة : أداؤها مستكملة أركانها وشروطها ، مع المحافظة على وقتها ، والخشوع لله في جميع أجزائها.

ويكون الإنفاق مما رزق في السرّ (أي في الخفية) والعلانية وهي الجهر ، قال البيضاوي : والأحب إعلان الواجب (أي في النفقة) وإخفاء المتطوع به (أي المتبرع أو المتصدق به).

٢٥١

(مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ ..) أي وليبادروا إلى ذلك لخلاص أنفسهم ، من قبل أن يأتي يوم القيامة ، الذي لا بيع فيه ، أي لا يقبل من أحد فيه فدية ، بأن تباع نفسه ، ولا تفيد فيه صداقة ، للصفح والعفو والتخلص من العقاب ، بل هناك العدل والقسط ، كما قال تعالى : (فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ ، وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الحديد ٥٧ / ١٥] وقال سبحانه : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً ، وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ ، وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ ، وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) [البقرة ٢ / ١٢٣] وقال عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ ، وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ ، وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [البقرة ٢ / ٢٥٤].

فقه الحياة أو الأحكام :

يفهم من الآية بيان الفرق بين فريقي الكفار والمؤمنين ، أما الكافرون فاستحقوا دخول دار البوار : جهنم لأسباب ثلاثة : هي تبديلهم شكر نعمة الله عليهم كفرانا وجحودا ، واتخاذ الأنداد أي الشركاء وهي الأصنام التي عبدوها ، وإضلالهم الناس عن دين الله القويم ، بمعنى أن عاقبتهم إلى الإضلال والضلال ، ومردهم ومرجعهم إلى عذاب جهنم.

وأما المؤمنون فلهم الجنة بسبب إقامة الصلوات الخمس المفروضة ، والإنفاق في سبيل الله ، بأداء الزكاة الواجبة ، والتطوع بالصدقات المستحبة ، بإعلان الواجب ، وإخفاء التطوع ، كما قال تعالى : (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ، وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ، وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ ، وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [البقرة ٢ / ٢٧١].

ودلت الآية على أنه لا ينفع يوم القيامة فداء ولا صداقة ، وأن الطاعات الأساسية ثلاث : الإيمان بالله تعالى ، وشغل النفس بخدمة المعبود في الصلاة ،

٢٥٢

وصرف المال وبذله في طاعة الله تعالى ، ليجد الإنسان ثواب ذلك الإنفاق في يوم لا مبايعة فيه ولا مخالّة ، إلا المخالة التي يشترك فيها الأخلاء في عبودية الله تعالى ومحبة الله تعالى كما قال تعالى: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) [الزخرف ٤٣ / ٦٧].

أدلة وجود الله والتوحيد في الكون والأنفس

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (٣٢) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (٣٣) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (٣٤))

الإعراب :

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ) مبتدأ وخبر. (رِزْقاً) منصوب على المصدرية أو مفعول : (فَأَخْرَجَ) و (مِنَ الثَّمَراتِ) بيان له ، وحال منه.

(دائِبَيْنِ) حال من الشمس والقمر ، وذكّر تغليبا للقمر على الشمس ؛ لأن القمر مذكر والشمس مؤنث ، وإذا اجتمع المذكر والمؤنث ، غلّب جانب المذكر على جانب المؤنث ، لأن التذكير هو الأصل.

(مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) بالإضافة ، على تقدير مفعول محذوف ، أي وآتاكم سؤلكم من كل ما سألتموه ، مثل قوله تعالى : (وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) [النمل ٢٧ / ١٦] أي أوتينا من كل شيء شيئا. ومن قرأ بالتنوين (مِنْ كُلِ) كان المفعول ملفوظا به ، أي وآتاكم ما سألتموه من كل شيء. و (ما) هاهنا : نكرة موصوفة ، و (سَأَلْتُمُوهُ) : جملة فعلية صفة لها.

٢٥٣

البلاغة :

(لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) صيغة مبالغة على وزن فعول وفعّال.

المفردات اللغوية :

(السَّماواتِ) جمع سماء ، ولا نعرف حقيقتها ، ولكن كل ما علا الإنسان وأظله فهو سماء. (رِزْقاً لَكُمْ) الرزق : كل ما ينتفع به ، ويشمل المطعوم والملبوس. (وَسَخَّرَ) ذلل أو أعد ويسّر. (الْفُلْكَ) السفن. (بِأَمْرِهِ) بإذنه أو بمشيئته إلى حيث توجهتم. (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ) جعلها معدة لانتفاعكم وتصرفكم. (دائِبَيْنِ) دائمين في الحركة أو السير ، والإنارة والإصلاح ، لا يفتران. (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) يتعاقبان ، فالليل للنوم والسكن فيه والنهار للمعاش وابتغاء الفضل. (وَآتاكُمْ) أعطاكم. (ما سَأَلْتُمُوهُ) بلسان الحال ، على حسب مصالحكم. (نِعْمَتَ اللهِ) إنعامه ، وفيه دليل على أن المفرد يفيد الاستغراق بالإضافة. (لا تُحْصُوها) لا تطيقوا حصرها. (إِنَّ الْإِنْسانَ) الكافر. (لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) أي كثير الظلم لنفسه بالمعصية وإغفال شكرها ، وكثير الكفر أو الجحود لنعمة ربه.

المناسبة :

بعد أن أوضح الله تعالى أوصاف أحوال السعداء والأشقياء ، أتبعه بالأدلة الدالة على وجود الصانع وكمال علمه وقدرته ووحدانيته ، ليدل على وجوب شكر الصانع الموجد لها ، ويقرّع الكافرين الذين أعرضوا عن التفكر في تلك النعم.

التفسير والبيان :

يعدد الله تعالى في هذه الآيات نعمه على خلقه ، ويشير إلى دلائل وجوده وقدرته ، وهي عشرة أدلة :

١ ـ (خَلَقَ السَّماواتِ) : الله هو الذي خلق السموات سقفا محفوظا ، وزيّنها بزينة الكواكب.

٢ ـ وخلق الأرض فراشا وما فيها من المنافع الكثيرة لكم أيها الناس.

٢٥٤

٣ ـ (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ) : أي السحاب مطرا أحيا به الأرض بعد موتها ، وأنبت به الشجر والزرع ، وأخرج به ما يحتاجه الإنسان من الأرزاق للأكل والعيش ، بواسطة الثمار والزروع المختلفة الألوان والأشكال والطعوم والروائح والمنافع ، كقوله تعالى : (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً ، فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى) [طه ٢٠ / ٥٣].

٤ ـ (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ) : أي وذلل لكم السفن ، بأن ألهمكم صنعها ، وجعلها طافية على وجه الماء ، تجري في البحر من بلد لآخر للركوب والحمل ، بإذن الله ومشيئته.

٥ ـ (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ) : أي فجر لكم ينابيع الأنهار ، وشقّ الأرض من مسافة إلى مسافة ، للشرب وسقي الزروع والأشجار والبهائم وغيرها من المنافع.

٦ ، ٧ ـ (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ) : أي ذللهما وجعلهما يسيران في حركة دائمة ، لا يفتران ليلا ولا نهارا لإصلاح حياة الإنسان والنبات وغيرهما كما قال تعالى : (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ ، وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [يس ٣٦ / ٤٠].

٨ ، ٩ ـ (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) : أي جعلهما يتعاقبان ، ويتعارضان ، فمرة يطول الليل كما في الشتاء ، ومرة يطول النهار كما في الصيف ، ويقصر الآخر ، وبالعكس ، والنهار للسعي والكسب والمعاش وشؤون الدنيا ، والليل للنوم والسبات والسكن فيه كما قال تعالى : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً ، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ ، أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ، تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) [الأعراف ٧ / ٥٤] وقال تعالى : (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ ، وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ، كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ، وَأَنَ

٢٥٥

اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [لقمان ٣١ / ٢٩] وقال سبحانه : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ ، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) [القصص ٢٨ / ٧٣].

١٠ ـ (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) أي أعطاكم أيها البشر سؤلكم من كل ما شأنه أن يسأل ، ويحتاج إليه ، وينتفع به ، سواء سألتموه أو لم تسألوه ، أو أعطاكم من كل مسئول سألتموه شيئا ، والخطاب لجنس البشر ؛ لأن الله خلق لكم ما في الأرض جميعا ، وترك استخراجها واختراع ما يكتشف منها لعقولكم بمقتضى تطور العقل البشري ، وتقدم الحياة المدنية ، وبالتدريج ، وقد وصل الإنسان في القرن العشرين إلى قمة الاكتشاف والابتكار في مختلف المجالات ، معتمدا على طاقات البخار والهواء والنفط والكهرباء والذرة وغيرها.

(وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها) أي إن أردتم تعداد نعم الله المنعم بها عليكم لا تطيقوا حصرها لكثرتها. والنعمة هنا قائمة مقام المصدر ، بمعنى الإنعام ، كالنفقة والإنفاق ، ويدل ذلك على العموم ؛ لأن المفرد يفيد الاستغراق بالإضافة.

والمقصود من الجملتين الأخيرتين : (وَآتاكُمْ .. وَإِنْ تَعُدُّوا) الإخبار عن عجز العباد عن تعداد النعم ، فضلا عن القيام بشكرها.

فبعد أن ذكر الله تعالى تلك النعم العظيمة ، أبان أنه لم يقتصر عليها ، بل أعطى عباده من المنافع ما لا يتأتى معه الإحصاء ، بقوله : (وَآتاكُمْ ..) ثم ختم الكلام بقوله : (وَإِنْ تَعُدُّوا) ليبين أنه آتى العباد من كل ما احتاجوا إليه ، مما لا تصلح الأحوال والمعيشة إلا به. قال طلق بن حبيب رحمه‌الله تعالى : إن حق الله أثقل من أن يقوم به العباد ، وإن نعم الله أكثر من أن يحصيها العباد ، ولكن أصبحوا تائبين ، وأمسوا تائبين. وفي صحيح البخاري أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول : «اللهم لك الحمد غير مكفّي ، ولا مودّع ، ولا مستغنى عنه ربنا» وقال

٢٥٦

الإمام الشافعي رحمه‌الله تعالى : «الحمد لله الذي لا يؤدّى شكر نعمة من نعمه إلا بنعمة حادثة توجب على مؤديها شكره بها».

(إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) أي إن الإنسان يظلم النعمة بإغفال شكرها ، شديد الكفران لها ، والمراد بالإنسان هنا الجنس ، فلا يراد به الواحد ، بل يراد به الجمع ، أي توجد فيه هذه الخلال ، وهي الظلم والكفر ، يظلم النعمة بإغفال شكرها ، ويكفرها بجحدها.

ويلاحظ أنه تعالى قال هنا : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) وقال في سورة النحل [١٨] : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها ، إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) والفرق بين الخاتمتين : أن الكلام هنا مناسب لتعداد قبائح الإنسان من كفران النعمة والظلم الذي هو الشرك ، وأما في سورة النحل فيناسب ما ذكر في الآية من تعداد فضائل الله على الإنسان ، ومنها اتصافه بالمغفرة والرحمة ، تحريضا على الرجوع إليه (١).

وقال الرازي عن الفرق بين الآيتين : كأنه تعالى يقول : إذا حصلت النعم الكثيرة ، فأنت الذي أخذتها ، وأنا الذي أعطيتها ، فحصل لك عند أخذها وصفان : وهما كونك ظلوما كفارا ، ولي وصفان عند إعطائها ، وهما كوني غفورا رحيما. والمقصود كأنه يقول : إن كنت ظلوما فأنا غفور ، وإن كنت كفارا فأنا رحيم ، أعلم عجزك وقصورك ، فلا أقابل تقصيرك إلا بالتوفير ، ولا أجازي جفاء إلا بالوفاء (٢).

__________________

(١) البحر المحيط : ٥ / ٤٢٨ ـ ٤٢٩

(٢) تفسير الرازي : ١٩ / ١٣٠ ـ ١٣١

٢٥٧

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدتنا الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ لقد أقام الله تعالى أدلة كثيرة على وجوده وقدرته وعلمه ووحدانيته ، منها هذه الأدلة العشرة التي ذكرها في الآية من خلق السموات والأرض ، وإنزال المطر من السحاب .. إلخ.

٢ ـ إن نعم الله تعالى على البشر لا تعد ولا تحصى لكثرتها ، ولدقة إدراكها وخفائها أحيانا ، كخزائن السموات والأرض ، وعجائب تكوين الإنسان ، وبخاصة دماغه وحواسه من سمع وبصر وملاحظة الصور ، وغير ذلك من نعمة العافية ، والإمداد بالرزق منذ كونه جنينا في بطن أمه ، إلى حين ولادته وطفولته ، إلى شبابه وكهولته وشيخوخته ، وتقلّبه في أنحاء الأرض ، إلى موته فلقاء ربه.

٣ ـ إن النعم على الإنسان من الله ، فلم يبدل نعمة الله بالكفر؟! وهلا استعان بها على الطاعة؟! إن من شأن الإنسان ظلم النعمة بإغفال شكرها ، وكفرانها وجحودها. والإنسان : جنس ، أراد به العموم ، وقال بعض المفسرين : وأراد به الخصوص كأبي جهل وجميع الكفار.

دعاء إبراهيم عليه‌السلام مستقبل البيت الحرام

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (٣٥) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٦) رَبَّنا

٢٥٨

إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (٣٧) رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٣٨) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٩) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (٤٠) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (٤١))

الإعراب :

(أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي) المفعول محذوف ، تقديره : أسكنت ناسا من ذريتي بواد.

(لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ) متعلق بأسكنت ، وفصل بينهما بقوله : (رَبَّنا) لأن الفصل بالندا كثير في كلامهم.

(وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) أي واجعل من ذريتي مقيمي الصلاة ، فحذف الفعل لدلالة ما قبله عليه.

البلاغة :

(تَبِعَنِي) و (عَصانِي نُخْفِي) و (نُعْلِنُ الْأَرْضِ) و (السَّماءِ) بين كلّ طباق.

(فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) تهوي : فيه استعارة ؛ لأن حقيقة الهويّ النزول من علو إلى انخفاض ، كالهبوط ، والمراد : تسرع إليهم شوقا وحبا من مكان بعيد ، بعكس «تحنّ» فهو قد يكون من المقيم بالمكان.

(اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ) عرّف البلد هنا ، ونكّر في سورة البقرة (اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً) لأنه في البقرة كان دعاؤه قبل بنائها ، فطلب أن تجعل بلدا وآمنا ، وهنا كان بعد بنائها ، فطلب أن تكون بلد أمن واستقرار.

٢٥٩

المفردات اللغوية :

(هَذَا الْبَلَدَ) بلد مكة (آمِناً) ذا أمن لمن فيها (وَاجْنُبْنِي) أبعدني. (أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) عن أن نعبد. (رَبِّ إِنَّهُنَ) أي الأصنام (أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) بعبادتهم لها ، فلذلك سألت منك العصمة ، واستعذت بك من إضلالهن ، وإسناد الإضلال إليهن باعتبار السببية. (فَمَنْ تَبِعَنِي) على التوحيد (فَإِنَّهُ مِنِّي) من أهل ديني. (وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي ومن عصاني دون الشرك ، فإنك تقدر أن تغفر له وترحمه ابتداء ، أو بعد التوفيق للتوبة. وقوله : (فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) معناه حين يؤمنوا ؛ لأنه أراد أن الله يغفر لكل كافر بعد إيمانه ما كان منه سابقا ، لكنه عليه‌السلام استعمل هذه العبارة التي ظاهرها أن كل ذنب فلله أن يغفره حتى الشرك ، بسبب ما كان يأخذ به نفسه من القول الجميل ، والنطق الحسن ، وجميل الأدب.

(مِنْ ذُرِّيَّتِي) أي بعضها ، وهو إسماعيل مع أمه هاجر. (بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) أي مكة ، فإنها حجرية لا تنبت. (عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) الذي حرمت التعرض له والتهاون به ، أو لم يزل معظما تهابه الجبابرة ، أو منع منه الطوفان ، فلم يستول عليه ، ولذلك سمي عتيقا ، أي أعتق منه. (أَفْئِدَةً) قلوبا. (مِنَ النَّاسِ) بعضهم. (تَهْوِي إِلَيْهِمْ) تسرع إليهم شوقا وحبا ، قال ابن عباس : لو قال : أفئدة الناس ، لحنّت إليه فارس والروم والناس كلهم. والمقصود من الدعاء لإقامة الصلاة : توفيقهم لها ، أو الدعاء لهم بإقامة الصلاة. (وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ) أي بالإنبات في الوادي مع سكناهم. (لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) تلك النعمة ، فأجاب الله تعالى دعوته ، فجعله حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء ، حتى توجد فيه الفواكه الربيعية والصيفية والخريفية والشتوية في يوم واحد.

(نُخْفِي) نسرّ. (مِنْ شَيْءٍ) من : زائدة أو للاستغراق ، وقول (وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ ..) يحتمل أن يكون من كلامه تعالى أو كلام إبراهيم. والمقصود من قوله : (رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ) أنك أعلم بأحوالنا ومصالحنا ، وأرحم منا بأنفسنا ، فلا حاجة لنا إلى الطلب ، لكنا ندعوك إظهارا لعبوديتك ، وافتقارا إلى رحمتك ، واستعجالا لنيل ما عندك. وتكرير النداء للمبالغة في التضرع واللجوء إلى الله تعالى ، والرغبة في الإجابة. وأتى بضمير جماعة المتكلمين لأنه تقدم ذكره وذكر بنيه.

(وَهَبَ لِي) أعطاني. (عَلَى الْكِبَرِ) مع الكبر ، ولد إسماعيل ولأبيه تسع وتسعون سنة ، وولد إسحاق ولأبيه مائة واثنتا عشرة سنة. (اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ) أي مواظبا عليها. (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) أي واجعل من ذريتي من يقيمها ، وأتى بمن لإعلام الله تعالى له أن منهم كفارا.

(وَلِوالِدَيَ) هذا قبل أن يتبين له عداوتهما لله عزوجل ، وقيل : أسلمت أمه. وقيل : أراد بهما آدم وحواء. (يَقُومُ الْحِسابُ) يثبت ويتحقق ويوجد.

٢٦٠