التفسير المنير - ج ١٣

الدكتور وهبة الزحيلي

والسّبب في أن أكثر النّاس لا يؤمنون أنهم في غفلة عن التّفكّر في الدّلائل الدّالّة على وجود الصانع وتوحيده ، فقال : (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ ..) أي وكم من آية دالّة على توحيد الله وكمال علمه وقدرته في السّموات والأرض من كواكب ثابتة وسيّارة وجبال وبحار ، ونبات وشجر ، وحيوان وحي وميت ، وثمار متشابهة ومختلفة في الطّعوم والرّوائح والألوان والصّفات ، يمرّ على تلك الآيات ويشاهدها أكثرهم ، وهم غافلون عنها ، لا يتفكّرون بما فيها من عبر وعظات ، وكلّها تشهد على وجود الله تعالى ووحدانيته.

وفي كلّ شيء له آية

تدلّ على أنه واحد

والآية هنا : الدّليل على وجود الله تعالى وتوحيده.

وأما علماء الفضاء والفلك فدأبهم الرّصد المادي كرصد الحركة أو الثّبات ، واستنباط القوانين العلمية ، لكنهم لا يفكرون غالبا في الخالق الموجد ، وفي عظمة المدبّر والمقدّر.

(وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ ..) أي وما يكاد يقرّ أكثر المشركين بوجود الله ، كما قال تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [لقمان ٣١ / ٢٥] إلا وتراهم يقعون في الشّرك ، لإشراكهم مع الله الأصنام والأوثان في العبادة.

فكلّ عبادة أو تقديس وتعظيم لغير الله شرك ، روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يقول الله : أنا أغنى الشّركاء عن الشّرك ، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري ، تركته وشركه».

وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد بن أبي فضالة قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إذا جمع الله الأوّلين والآخرين ليوم لا ريب فيه ، ينادي مناد : من

٨١

كان أشرك في عمل عمله لله ، فليطلب ثوابه من عند غير الله ، فإن الله أغنى الشّركاء عن الشّرك».

وروى التّرمذي وحسّنه ابن عمر : «من حلف بغير الله فقد أشرك» أي حلف بغير الله قاصدا تعظيمه مثل الله فقد أشرك.

وروى أحمد عن محمود بن لبيد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن أخوف ما أخاف عليكم الشّرك الأصغر ، قالوا : وما الشّرك الأصغر يا رسول الله؟ قال : الرّياء ، يقول الله تعالى يوم القيامة : إذا جاز النّاس بأعمالهم ، اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدّنيا ، فانظروا ، هل تجدون عندهم جزاء؟».

وروى أحمد عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يا أيها النّاس ، اتّقوا هذا الشّرك ، فإنه أخفى من دبيب النّمل» ثم بيّن للصحابة كيف يتّقى الشّرك الخفي ، فقال : «قولوا : اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئا نعلمه ، ونستغفرك لما لا نعلمه».

ثم هدد الله تعالى المشركين بالعقاب فقال : (أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ) أي أفأمن هؤلاء المشركون بالله أن تأتيهم عقوبة تغشاهم وتشملهم ، أو يأتيهم يوم القيامة فجأة ، وهم لا يحسون ولا هم يشعرون بذلك ، وهذا كالتأكيد لقوله : (بَغْتَةً).

ونظير الآية قوله تعالى : (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ ، أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ. أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ. أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ ، فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) [النّحل ١٦ / ٤٥ ـ ٤٧].

وقوله تعالى : (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ. أَوَ

٨٢

أَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ. أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ؟ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) [الأعراف ٧ / ٩٧ ـ ٩٩].

وإبهام السّاعة مبعث الهيبة والخوف من الله دون وازع مشاهد أو قريب.

ثم أبان الله تعالى بعد كل تلك الأدلة هدف دعوة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وثقته بها ، فقال : (قُلْ : هذِهِ سَبِيلِي ..) أي قل يا محمد للثقلين : الإنس والجن : إن هذه الطريقة التّي أتبعها ، والدّعوة الّتي أدعو إليها وهي شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، أدعو إلى دين الله بها ، على يقين ، وحجة واضحة قاطعة ، وبرهان ، أدعو أنا ، ويدعو إليها كل من اتبعني أي آمن بي وصدّق برسالتي. وسبحان الله أي وأنزه الله وأجلّه وأعظمه وأقدسه من أن يكون له شريك أو نظير أو عديل أو نديد أو ولد أو والدّ أو صاحبة أو وزير أو مشير ، تبارك وتعالى وتقدس الله عن ذلك علوا كبيرا : (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ ، وَمَنْ فِيهِنَّ ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ، إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) [الإسراء ١٧ / ٤٤].

وبعد أن أثبت الوحدانية لله نفى الشّرك نفيا قاطعا للرّد على المشركين الذين كانوا يقرون بوجوده ثم يشركون به في العبادة إلها آخر فقال : (وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي أنا بريء من جميع المشركين على مختلف أنواعهم.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يلي :

١ ـ الإخبار بقصة يوسف وغيرها من قصص الأنبياء السّابقين مع أقوامهم من أنباء الغيب الدّالة على المعجزة : وهي كون القرآن كلام الله ، وصدق النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دعوته ، فذلك معجزة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٨٣

٢ ـ نزلت آية (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) تسلية للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي حتى ولو أخبرتهم بقصة يوسف ، فلم يؤمنوا ، أي لست تقدر على هداية من أردت هدايته.

٣ ـ مهمة كل نبي تبليغ الوحي المنزل عليه بإخلاص وقصد الثواب عند الله عزوجل ، دون تكليف النّاس بشيء من الأجر أو المقابل.

٤ ـ القرآن والوحي عظة وتذكرة للعالمين قاطبة ، لا للعرب خاصة ، إنه تذكرة لهم في دلائل التّوحيد والعدل والنّبوة ، والمعاد والقصص ، والتّكاليف والعبادات ، ففيه منافع عظيمة.

٥ ـ ما أكثر الآيات ، أي الدّلائل الدّالة على وجود الله تعالى ووحدانيته ، وقدرته وحكمته وعلمه ورحمته ، في السّموات والأرضين من نجوم وكواكب وبحار وأنهار وجبال ونباتات وأشجار ، وصحار شاسعات ، وأحياء وأموات ، وحيوان وثمرات مختلفة الطعوم والرّوائح والألوان والصّفات. وهذه كلها أدلة محسوسة.

٦ ـ إيمان المشركين مزيف باطل ، فهم يقرون بوجود الله خالقهم وخالق الأشياء كلها ، وهم يعبدون الأوثان. قال ابن عباس : نزلت في تلبية مشركي العرب : لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك. وعنه أيضا أنهم النّصارى. وعنه أيضا أنهم المشبّهة الذين يشبهون الله بخلقه ، آمنوا مجملا وأشركوا مفصّلا. وقيل : نزلت في المنافقين ، والأولى حملها على العموم ، والمعنى كما قال الحسن (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ) أي باللسان إلا وهو كافر بقلبه.

٧ ـ عذاب الله وعقابه ، وإتيان السّاعة (يوم القيامة) يأتيان فجأة ، من حيث لا يشعر النّاس بهما.

٨ ـ طريقة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسنته ومنهاجه ، ومنهاج أتباعه المؤمنين به الدّعوة

٨٤

إلى ما يؤدي إلى الجنة ، على يقين وحق ، وشعار المؤمن دائما : سبحان الله وما أنا من المشركين ، أي أنزه الله عن أي شريك ، ولست من الذين يتخذون من دون الله أندادا أي نظراء لله.

وسمي الدّين سبيلا ، لأنه الطريق الذي يؤدي إلى الثواب ، كما في قوله تعالى : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ) [النّحل ١٦ / ١٢٥].

الفصل العشرون من قصّة يوسف

العبرة من القصص القرآني

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠٩) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١١٠) لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١١١))

الإعراب :

(وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ) مبتدأ وخبر ، وهذا إضافة الصّفة بعد حذف الموصوف ، وتقديره: ولدار السّاعة أو الحال الآخرة ، وهذه الإضافة في نيّة الانفصال ، ولهذا لا يستفيد المضاف التّعريف من المضاف إليه.

٨٥

(حَتَّى إِذَا) متعلّقة بمحذوف ، دلّ عليه الكلام ، كأنه قيل : وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا فتراخى نصرهم حتى إذا استيأسوا عن النّصر.

(وَلكِنْ تَصْدِيقَ) خبر كان المقدرة ، أي ولكن كان ذلك تصديق الذي بين يديه وتفصيلا ، و (هُدىً وَرَحْمَةً) منصوبان بالعطف عليه.

المفردات اللغوية :

(إِلَّا رِجالاً) لا ملائكة. (مِنْ أَهْلِ الْقُرى) الأمصار ؛ لأنهم أعلم وأحلم ، بخلاف أهل البوادي لجفائهم وجهلهم. (أَفَلَمْ يَسِيرُوا) أهل مكة. (عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي آخر أمرهم من إهلاكهم بتكذيبهم رسلهم. (وَلَدارُ الْآخِرَةِ) أي ولدار الحال القادمة أو السّاعة الأخرى أو الحياة الآخرة وهي الجنة. (اتَّقَوْا) الله واتقوا الشّرك والمعاصي ، أي خافوا الله فلم يشركوا به ولم يعصوه. (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أهل مكة ، فيؤمنوا.

(حَتَّى) غاية محذوف ، دلّ عليه الكلام ، أي وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا ، فتراخى نصرهم. (اسْتَيْأَسَ) يئس ، أي لا يغررهم تمادي أيامهم ، فإن من قبلهم أمهلوا ، حتى أيس الرّسل من النّصر عليهم في الدّنيا أو من إيمانهم ، لانهماكهم في الكفر. (وَظَنُّوا) أيقنوا. (كُذِبُوا) أي ظنّ الأمم أنّ الرّسل أخلفوا ما وعدوا به من النّصر ، وعلى قراءة التّشديد ، أي وظنّ الرّسل أن القوم قد كذبوهم تكذيبا لا إيمان بعده فيما أو عدوهم. (فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ) وهم النّبي والمؤمنون. (بَأْسُنا) عذابنا. (عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) المشركين. (فِي قَصَصِهِمْ) أي الرّسل. (عِبْرَةٌ) أي اعتبار من حال إلى حال. (لِأُولِي الْأَلْبابِ) أصحاب العقول. (ما كانَ) هذا القرآن. (يُفْتَرى) يختلق. (الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) قبله من الكتب. (وَتَفْصِيلَ) تبيين. (كُلِّ شَيْءٍ) يحتاج إليه في الدّين. (وَهُدىً) من الضّلالة. (وَرَحْمَةً) ينال بها خير الدّارين. (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) يصدّقونه ، خصّوا بالذّكر لانتفاعهم به دون غيرهم.

المناسبة :

بعد أن أثبت القرآن الكريم نبوّة النّبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدليل إخباره عن المغيبات ، ردّ الله على منكري النّبوة ، فقد كان من شبه منكري نبوّته صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الله لو أراد إرسال رسول لبعث ملكا ، كما حكى القرآن عنهم : (لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) [فصلت ٤١ / ١٤].

٨٦

ثم أنذر الله كفار قريش وأمثالهم بالعقاب والعذاب إن لم يؤمنوا ، فإن سنّة لله في عباده واحدة أنهم إن لم يؤمنوا ، حلّ بهم العذاب.

ثم ذكر تعالى أن قصة يوسف عليه‌السلام مع أبيه وإخوته عبرة لذوي العقول والأفكار.

التّفسير والبيان :

ختمت سورة يوسف بهذه الخاتمة الدّالّة على وجوب الاتّعاظ والاعتبار بقصته المؤثرة الحادثة بين كنعان ومصر ، وفي ألوان متعددة ، تبتدئ بإلقائه في الجبّ ، ثم صيرورته في بيت العزيز ، ثم في السّجن ، ثم في أعلى مناصب الحكم ، وصف فيها كيد الإخوة وحسدهم ، ومكر النّساء وكيدهنّ ، وصبر يوسف عليه‌السلام وحكمته ومهارته في إدارة الحكم ، وأخلاقه وتسامحه مع إخوته ، وتعظيمه أبويه.

والمعنى : وما أرسلنا يا محمّد من قبلك رسلا إلا رجالا ، لا ملائكة ولا إناثا ، وكانوا من أهل المدن لا من البوادي ، وكنّا ننزل عليهم الوحي والتّشريع.

وهذا يدلّ على أن الله أرسل الرّسل من الرّجال ، لا من النّساء ، فلم تكن امرأة قط نبيّا ولا رسولا ، وعلى اختيار الرّسل من أهل المدينة ، فلم يبعث الله رسولا من أهل البادية ، لتتبعهم المدن الأخرى ، ولأن أهل البادية فيهم الجهل والجفاء ، وأن أهلا لمدن أرق طباعا وألطف من أهل البوادي ، ولهذا قال تعالى : (الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً) [التّوبة ٩ / ٩٧].

قال ابن كثير : وزعم بعضهم أن سارّة امرأة الخليل ، وأم موسى ، ومريم بنت عمران أم عيسى نبيّات ، واحتجّوا بأن الملائكة بشّرت سارّة بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ، وبقوله : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ) [القصص ٢٨ / ٧] وبأنّ الملك جاء إلى مريم فبشّرها بعيسى عليه‌السلام ، وبقوله تعالى : (وَإِذْ

٨٧

قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ. يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) [آل عمران ٣ / ٤٢ ـ ٤٣] وهذا القدر حاصل لهن ، ولكن لا يلزم من هذا أن يكنّ نبيّات بذلك (١).

ثم هدد الله المشركين على تكذيبهم بالرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال متعجّبا : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ..) أي أفلم يسر هؤلاء المكذّبون لك يا محمّد في الأرض ، فينظروا ويروا كيف كان مصير الأمم المكذّبة للرّسل ، كيف دمّر الله عليهم ، كقوم نوح وهود وصالح ولوط ، وللكافرين أمثالها ، فإن عاقبة الكافرين الهلاك ، وعاقبة المؤمنين النّجاة.

ثم حضّ الله تعالى على العمل لدار الآخرة والاستعداد لها واتّقاء المهلكات فقال : (وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) أي إن الدّار الآخرة خير للذين خافوا الله فلم يشركوا به ولم يعصوه ، فهي أفضل من هذه الدّار للمشركين المكذّبين بالرّسل ، أي وكما نجّينا المؤمنين في الدّنيا ، كذلك كتبنا لهم النّجاة في الدّار الآخرة ، وهي خير لهم من الدّنيا بكثير ؛ فإن نعيم الآخرة أكمل من نعيم الدّنيا ، وأبقى وأخلد.

(أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي أجهلتم؟ فلا تعقلون أيها المكذّبون بالآخرة ، فإنكم لو عقلتم ذلك لآمنتم.

ثم بشر الله نبيّه بالنّصر بإخباره أن نصره تعالى ينزل على رسله عليهم‌السلام عند ضيق الحال واشتداد الأزمة وانتظار الفرج من الله تعالى في أحرج الأوقات إليه ، فقال : (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ ..) فيه محذوف ، أي وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم ، فبلغوا أقوامهم رسالتهم الدّاعية إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له ، فكذّبوهم وتمادى أقوامهم في الطغيان والكفر والعناد ،

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٢ / ٤٩٦

٨٨

فتراخى نصرهم ، حتى أيس الرّسل من إيمانهم أو من النّصر عليهم ، لانهماكهم في الكفر ، وظنّت (أيقنت) الأمم أن الرّسل أخلفوا فيما وعدوهم به من النّصر ، وكذّبوهم فيما أخبروهم به عن الله من وعد النّصر ، فجاءهم نصرنا ، أي أتاهم نصر الله فجأة ، فنجّي من نشاء وهم النّبي والمؤمنون ، وحلّ العقاب بالمكذّبين الكافرين ، ولا يردّ بأسنا ، أي لا يمنع عقاب الله وبطشه عن القوم الذين أجرموا ، فكفروا بالله وكذّبوا رسله.

والمعنى على قراءة (كُذِبُوا) بالتّشديد : وظنّ الرّسل أن القوم قد كذّبوهم تكذيبا لا إيمان بعده فيما أو عدوهم.

وهذا تهديد ووعيد لكفار قريش وأمثالهم لعدم إيمانهم بالنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وللآية نظائر كثيرة في القرآن الكريم منها ما اشتمل على وعد الله الرّسل بالنّصر : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) [غافر ٤٠ / ٥١] ، وقوله تعالى : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ، إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [المجادلة ٥٨ / ٢١] ، ومنها استنجاز النّصر : (وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ، مَتى نَصْرُ اللهِ ، أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) [البقرة ٢ / ٢١٤].

ومنها بيان سبب العقاب وهو الظّلم والكفر : (أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ ، أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ ، فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ ، وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [التّوبة ٩ / ٧٠].

ومنها تقرير سنّة الله الواحدة في عباده وإلحاق النّظائر والأشباه بأمثالها ، وأنه لا ظلم فيها ولا محاباة ، فكفار قريش مثل الكفار السّابقين في استحقاقهم العذاب لارتكابهم سببه وهو الكفر: (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ ، أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ) [القمر ٥٤ / ٤٣].

ونقل تفسير الآية على قراءة التّشديد : (كُذِبُوا) على النّحو السّابق عن

٨٩

عائشة ، روى البخاري عن عائشة رضي‌الله‌عنها أنها قالت لابن أختها عروة بن الزّبير ، وهو يسألها عن قول الله تعالى : (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ) الآية : «معاذ الله لم تكن الرّسل تظنّ ذلك بربّها ، هم أتباع الرّسل الذين آمنوا بربّهم وصدّقوهم ، فطال عليهم البلاء ، واستأخر عنهم النّصر ، حتى إذا استيأس الرّسل ممن كذّبهم من قومهم ، وظنّت الرّسل أنّ أتباعهم قد كذّبوهم ، جاءهم نصر الله عند ذلك». وأنكرت عائشة المعنى على قراءة التّخفيف. وقال الرّازي عن تأويل عائشة : وهو أحسن الوجوه المذكورة في الآية.

ونقل تفسير الآية على قراءة التّخفيف (كُذِبُوا) عن ابن عباس وابن مسعود ، قال ابن عباس : «لما أيست الرّسل أن يستجيب لهم قومهم ، وظنّ قومهم أن الرّسل قد كذبوهم ، جاءهم النّصر على ذلك» ، وقال ابن مسعود في آية : (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ) : من إيمان قومهم أن يؤمنوا بهم ، وظن قومهم حين أبطأ الأمر أنهم قد كذبوا ، بالتخفيف. وهذا هو المشهور عن الجمهور (١).

والخلاصة : على قراءة التّخفيف ، الضمير في (وَظَنُّوا) عائد على المرسل إليهم ، لتقدّمهم في الذّكر في قوله تعالى : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) فيكون الضّمير عائدا إلى الذين من قبلهم من مكذّبي الرّسل ، والظّن هاهنا بمعنى التّوهم والحسبان. والمعنى : وظنّ المرسل إليهم أنهم قد كذبهم الرّسل فيما ادّعوه من النّبوة وفيما يوعدون به من لم يؤمن بهم من العذاب ، وهذا مشهور قول ابن عباس وتأويل عبد الله بن مسعود وسعيد بن جبير ومجاهد. ولا يجوز أن تكون الضّمائر في هذه القراءة على الرّسل ؛ لأنهم

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٢ / ٤٩٧ ـ ٤٩٨ ، تفسير القرطبي : ٩ / ٢٧٥

٩٠

معصومون ، فلا يمكن أن يظنّ أحد منهم أنه قد كذبه من جاءه بالوحي عن الله (١).

وعلى قراءة التّشديد وجهان :

الأول ـ أنّ الظنّ بمعنى اليقين ، أي وأيقنوا أن الأمم كذبوهم تكذيبا لا يصدر منهم الإيمان بعد ذلك ، فحينئذ دعوا عليهم ، فهنالك أنزل الله سبحانه عليهم عذاب الاستئصال ، وورود الظنّ بمعنى العلم كثير في القرآن الكريم ، قال تعالى : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) [البقرة ٢ / ٤٦] ، أي يتيقنون ذلك.

والثاني ـ أن يكون الظنّ بمعنى الحسبان ، والتّقدير : حتى إذا استيأس الرّسل من إيمان قومهم ، فظنّ الرّسل أن الذين آمنوا بهم كذبوهم ، وهذا التّأويل منقول عن عائشة رضي‌الله‌عنها ، قال الرّازي : وهو أحسن الوجوه المذكورة في الآية (٢).

وقال الزّمخشري في قراءة التّخفيف : (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) أي كذبتهم أنفسهم حين حدثتهم بأنهم ينصرون ، أو وظنّوا أنهم قد كذبهم رجاؤهم كقولهم : رجاء صادق ورجاء كاذب ، والمعنى أن مدّة التّكذيب والعداوة من الكفار ، وانتظار النّصر من الله وتأميله قد تطاولت عليهم ، وتمادت ، حتى استشعروا القنوط ، وتوهّموا أن لا نصر لهم في الدّنيا ، فجاءهم نصرنا فجأة من غير احتساب (٣).

ثم ذكر الله تعالى الهدف العام من قصص القرآن ، فقال : (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ) أي لقد كان في سرد أخبار الأنبياء المرسلين مع قومهم ، وكيف

__________________

(١) البحر المحيط : ٥ / ٣٥٤

(٢) تفسير الرّازي : ١٨ / ٢٢٦ وما بعدها.

(٣) الكشّاف : ٢ / ١٥٧

٩١

نجّينا المؤمنين ، وأهلكنا الكافرين عبرة وعظة وذكرى لأولي العقول والأفكار الصّحيحة. والاعتبار والعبرة : الانتقال والعبور من جهة إلى جهة. أما المهملون عقولهم فلا ينظرون في الأحداث ولا يستفيدون من دروس التّاريخ ، فلا يفيدهم النّصح.

ثم ذكر الله تعالى مشتملات القرآن فقال : (ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى) أي ما كان هذا القرآن الشّامل للقصة وغيرها ، أو ما كان هذا القصص والحديث الذي اشتمل عليه القرآن حديثا يختلق ويكذب من دون الله ، لأنه كلام أعجز رواة الأخبار وحملة الحديث ، وإنما هو كلام الله من طريق الوحي والتّنزيل وتصديق ما تقدّمه من الكتب السّماوية كالتّوراة والإنجيل والزّبور ، أي تصديق ما جاء فيها من الصّحيح والحقّ ، ونفي ما وقع فيها من تحريف وتبديل وتغيير ، فهو مصدّق أصولها الصّحيحة ، لا كلّ ما جاء فيها بعد من حكايات وأساطير لا يتقبّلها العقل السّليم ، وهو أيضا مهيمن عليها وحارس لها.

والقرآن أيضا فيه تفصيل كلّ شيء من الحلال والحرام والمحبوب والمكروه ، والأمر والنّهي ، والوعد والوعيد ، وصفات الله الحسنى ، وقصص الأنبياء على النّحو الثابت الواقع الذي لا تحريف فيه ولا تزويق. ونظير الآية قوله تعالى : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام ٦ / ٣٨].

والقرآن أيضا هدى للعالمين ، ويهدي النّاس إلى طريق الاستقامة والسّداد ، فيخرجهم من الظّلمات إلى النّور ، وينقلهم من الغيّ إلى الرّشاد ، ومن الضّلال إلى السّداد ، ويرشدهم إلى الحقّ والخير والصّلاح في الدّنيا والدّين.

وهو كذلك رحمة عامّة من ربّ العالمين للمؤمنين في الدّنيا والآخرة.

٩٢

فقه الحياة أو الأحكام :

تضمّنت الآيات الأحكام التّالية :

١ ـ الأنبياء دائما من الرّجال ، ولم يكن فيهم امرأة ولا جنّي ولا ملك. وهذا ردّ على ما يروى عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال في حديث غير ثابت : «إنّ في النّساء أربع نبيّات : حوّاء ، وآسية ، وأم موسى ، ومريم».

٢ ـ الأنبياء من أهل المدن ، ولم يبعث الله نبيّا من أهل البادية ، لغلبة الجفاء والقسوة على أهل البدو ، ولأن أهل الأمصار والقرى أعقل وأحلم وأفضل وأعلم. قال الحسن البصري : لم يبعث الله نبيّا من أهل البادية قط ، ولا من النّساء ، ولا من الجنّ. وقال العلماء : من شرط الرّسول : أن يكون رجلا آدميا مدنيا ؛ وإنما قالوا : آدميا ، تحرّزا من قوله : (يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِ) [الجن ٧٢ / ٦].

٣ ـ على النّاس قاطبة أن ينظروا بمصارع الأمم المكذّبة لأنبيائهم ، فيعتبروا.

٤ ـ آية (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ..) فيها تنزيه الأنبياء وعصمتهم عما لا يليق بهم.

والمعنى أو الحكم على قراءة التّخفيف (كُذِبُوا) في رأي الجمهور : ظنّ القوم أنّ الرّسل كذبوهم فيما أخبروا به من العذاب ، ولم يصدقوا. أو ظنّ الأمم أن الرّسل قد كذبوا فيما وعدوا به من نصرهم.

والمعنى أو الحكم ، على قراءة التّشديد (كُذِبُوا) أيقنوا أن قومهم كذبوهم ، أو حسبوا أن من آمن بهم من قومهم كذّبوهم ، لا أن القوم كذّبوا ، ولكن الأنبياء ظنّوا وحسبوا أنهم يكذّبونهم.

٩٣

٥ ـ في قصص الأمم الغابرة ومنها قصة يوسف عليه‌السلام وأبيه وإخوته عبرة ، أي فكرة وتذكرة وعظة ، لأولي العقول.

٦ ـ ما كان القرآن حديثا يفتري ويختلق ويكذب من دون الله ، فهو كلام معجز لا يستطيع بشر ولو كان نبيّا أن يأتي بمثله. وكذلك ما كانت قصّة يوسف حديثا يفتري من دون الله تعالى.

٧ ـ القرآن الكريم مصدّق لما تقدّمه من الكتب السّماوية من التّوراة والإنجيل وسائر كتب الله تعالى ، ومهيمن عليها وحارس لها.

٨ ـ القرآن الكريم فيه تفصيل كل شيء مما يحتاج إليه العباد من الحلال والحرام ، والشّرائع والأحكام.

وهو أيضا هداية ورحمة من الله تعالى لعباده وللمؤمنين بالغيب ، وإنقاذ للبشرية من الضّلالة إلى النّور ، ومن الفساد إلى النّظام والصّلاح : (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة ٢ / ٢].

٩ ـ يمكن توجيه الكلام إلى قصّة يوسف عليه‌السلام وحدها ، فيكون تعالى وصفها بصفات خمس هي :

أ ـ كونها عبرة لأولي الألباب.

ب ـ ما كان حديثا يفتري ، أي ليس لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يفتري ، لأنه لم يقرأ الكتب ، ولم يتتلمذ لأحد ولم يخالط العلماء ، وليس يكذب في نفسه ؛ لأنه لا يصحّ الكذب منه ، وأكّد تعالى كونه غير مفترى فقال : (وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أي أن هذه القصة وردت على الوجه الموافق لما في التّوراة وسائر الكتب الإلهية.

ج ـ وتفصيل كلّ شيء من واقعة يوسف عليه‌السلام مع أبيه وإخوته.

٩٤

د ـ كونها هدى في الدّنيا.

ه ـ كونها سببا لحصول الرّحمة في القيامة لقوم يؤمنون. خصّهم بالذّكر ؛ لأنهم هم الذين انتفعوا به ، كما في قوله تعالى : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة ٢ / ٢].

٩٥

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الرعد

مدنية وهي ثلاث وأربعون آية.

تسميتها :

سمّيت سورة الرّعد ، للكلام فيها عن الرّعد والبرق والصّواعق وإنزال المطر من السّحاب : (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً ، وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ. وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ ، وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ ، وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ) [الرّعد ١٣ / ١٢ ـ ١٣] والمطر أو الماء سبب للحياة : حياة الأنفس البشريّة والحيوان والنّبات ، والصّواعق قد تكون سببا للإفناء ، وذلك مناقض للماء الذي هو رحمة ، والجمع بين النّقيضين من العجائب.

ناسبتها لما قبلها :

هناك تناسب بين سورة الرّعد وسورة يوسف في الموضوع والمقاصد ووصف القرآن ، أما الموضوع فكلاهما تضمّنتا الحديث عن قصص الأنبياء مع أقوامهم ، وكيف نجّى الله المؤمنين المتّقين وأهلك الكافرين ، وأما المقاصد فكلّ من السّورتين لإثبات توحيد الإله ووجوده ، ففي سورة يوسف : (أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ). وفي سورة الرّعد : (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ..) [٢ ـ ٤]. (قُلْ : مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ : اللهُ) [١٦] ، وفيهما من الأدلّة على وجود الصّانع الحكيم وكمال قدرته وعلمه ووحدانيته الشيء الكثير ، ففي سورة يوسف : (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها ، وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ). وفي سورة الرّعد آيات دالّة على

٩٦

قدرة الله تعالى وألوهيّته مثل الآيات [٢ ـ ٤] ، والآيات [٨ ـ ١١] ، والآيات [١٢ ـ ١٦] ، والآيتان [٣٠ و ٣٣].

وأما وصف القرآن فختمت به سورة يوسف : (ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ ، وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ). وبدئت سورة الرّعد بقوله سبحانه : (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ ، وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ).

ما اشتملت عليه السّورة :

تحدثت سورة الرّعد عن مقاصد السّور المدنية التّي تشبه مقاصد السّور المكيّة ، وهي التّوحيد وإثبات الرّسالة النّبوية ، والبعث والجزاء ، والرّد على شبهات المشركين. وأهم ما اشتملت عليه هو ما يأتي :

١ ـ بدئت السّورة بإقامة الأدلّة على وجود الله تعالى ووحدانيته ، من خلق السّموات والأرض ، والشّمس والقمر ، والليل والنّهار ، والجبال والأنهار ، والزّروع والثّمار المختلفة الطّعوم والرّوائح والألوان ، وأن الله تعالى منفرد بالخلق والإيجاد ، والإحياء والإماتة ، والنّفع والضّر.

٢ ـ إثبات البعث والجزاء في عالم القيامة ، وتقرير إيقاع العذاب بالكفار في الدّنيا.

٣ ـ الإخبار عن وجود ملائكة تحفظ الإنسان وتحرسه بأمر الله تعالى.

٤ ـ إيراد الأمثال للحقّ والباطل ، ولمن يعبد الله وحده ولمن يعبد الأصنام ، بالسّيل والزّبد الذي لا فائدة فيه ، وبالمعدن المذاب ، فيبقي النّقي الصّافي ويطرح الخبث الذي يطفو.

٥ ـ تشبيه حال المتّقين أهل السّعادة الصّابرين المقيمي الصّلاة بالبصير ،

٩٧

حال العصاة الذين ينقضون العهد والميثاق ، ويفسدون في الأرض بالأعمى.

٦ ـ البشارة بجنان عدن للمتّقين ، والإنذار بالنّار لناقضي العهد المفسدين في الأرض.

٧ ـ بيان مهمّة الرّسول وهي الدّعوة إلى عبادة الله وحده ، وعدم الشّرك به ، وتحذيره من مجاملة المشركين في دعوتهم.

٨ ـ الرّسل بشر كغيرهم من النّاس ، لهم أزواج وذريّة ، وليست المعجزات رهن مشيئتهم ، وإنما هي بإذن الله تعالى ، ومهمّتهم مقصورة على التّبليغ ، أما الجزاء فإلى الله تعالى.

٩ ـ إثبات ظاهرة التّغير في الدّنيا ، مع ثبوت الأصل العام لمقادير الخلائق في اللوح المحفوظ.

١٠ ـ الاعلام بأن الأرض ليست كاملة التّكوير ، وإنما هي بيضاوية ناقصة في أحد جوانبها : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها).

١١ ـ إحباط مكر الكافرين بأنبيائهم في كلّ زمان.

١٢ ـ ختمت السّورة بشهادة الله لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنّبوة والرّسالة ، وكذا شهادة المؤمنين من أهل الكتاب بوجود أمارات النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كتبهم. وكان في السّورة بيان مدى فرح هؤلاء بما ينزل من القرآن مصدّقا لما عرفوه من اكتب الإلهية.

القرآن حق

(المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١))

٩٨

الإعراب :

(تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) مبتدأ وخبر.

(وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُ الْحَقُ) : مبتدأ مؤخّر ، (وَالَّذِي أُنْزِلَ) خبر مقدّم ، ويجوز أن يكون (الَّذِي) مبتدا وخبره (الْحَقُ). ويجوز أن يكون (وَالَّذِي) في موضع جر عطفا على (الْكِتابِ) أو وصفا للكتاب ، والواو زائدة.

البلاغة :

(تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) إشارة بالبعيد عن القريب ، للدّلالة على علوّ شأن الكتاب. وأل في (الْكِتابِ) للتّفخيم والتّعظيم ، أي الكتاب الكامل في بيانه ، السّامي في إعجازه.

المفردات اللغوية :

(المر) البدء بهذه الحروف الهجائية المقطّعة للتّنبيه على إعجاز القرآن الكريم وبيان أن نزوله من عند الله حق لا شكّ فيه ، بالرّغم من كونه بلغة العرب ويتكون من حروف الكلمات التّي ينطقون بها.

(تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) أي هذه الآيات آيات القرآن ، والإضافة بمعنى من ، أو أن الكتاب بمعنى السّورة ، وتلك إشارة إلى آياتها ، أي تلك الآيات آيات السّورة الكاملة. (وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ) أي القرآن المنزل إليك من ربّك عطف عام على خاص ، أو عطف صفة على صفة ، أو مبتدأ ، وخبره (الْحَقُ). (الْحَقُ) لا شكّ فيه ، والجملة كالحجّة على الجملة الأولى ، وتعريف (الْحَقُ) أعمّ من أن يكون المنزل صريحا أو ضمنا كالمثبت بالقياس وغيره مما أقرّ القرآن بحسن اتّباعه.

(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ) إما أهل مكّة ، أو على العموم. (لا يُؤْمِنُونَ) بأنه من عند الله ؛ لإخلالهم بالنّظر والتّأمل فيه.

المناسبة :

بعد أن وصف الله تعالى القرآن في آخر سورة يوسف بخمس صفات ، أصاف هنا صفة أخرى وهي كونه حقّا من عند الله تعالى.

التّفسير والبيان :

آيات هذه السّورة آيات القرآن البالغ حدّ الكمال ، أو تلك الآيات العظام القدر والشّأن آيات الكتاب وهو القرآن الكريم.

٩٩

وكلّ القرآن الذي أنزل إليك يا محمد من ربّك حقّ لا شكّ فيه ، وهو على التّفسير الأول بأن الآيات هي السّورة إجمال بعد تفصيل ، أو عموم بعد خصوص ، فبعد أن أثبت تعالى لهذه السّورة وصف الكمال والرّفعة ، عمم هذا الحكم على القرآن جميعه.

ولكن أكثر النّاس لا يصدقون بالمنزل إليك من ربّك ، ولا يقدرون ما في القرآن من سمو التّشريع والأحكام ورعاية المصالح المناسبة لكلّ عصر وزمان. وهذا كقوله تعالى في سورة يوسف : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ ، وَلَوْ حَرَصْتَ ، بِمُؤْمِنِينَ) [١٠٣] ، أي مع هذا البيان والجلاء والوضوح لا يؤمن أكثرهم لما فيهم من الشّقاق والنّفاق والعناد.

وإذا كان واقع البشريّة اليوم أن أكثر سكان العالم لا يؤمنون بالقرآن الكريم ، وأن المسلمين بالنسبة لغيرهم هم الخمس ، فيكون ذلك معجزة للقرآن الكريم الذي أخبر عن حال أكثر النّاس في الماضي كأهل مكة ، وفي مسيرة التّاريخ ، وفي الوقت الحاضر والمستقبل.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلّت الآية على أنّ آيات القرآن بالغة حدّ الكمال في الإعجاز والبيان ، وأن القرآن الكريم حقّ منزل من عند الله تعالى لا شكّ فيه ولا ريب ، باق على وجه الدهر ، ولكن مع الأسف حجب العناد والكفر كثيرا من النّاس عن الإيمان بما جاء فيه من حكم بالغة ، وأحكام رصينة ، وتشريعات محكمة. وهذا ليس إقرارا لهم ، وإنما هو على سبيل الزّجر والتّهديد.

وقد تمسّك نفاة القياس بهذه الآية ، وقالوا : الحكم المستنبط بالقياس غير نازل من عند الله تعالى ، فهو ليس حقّا ، لأنه لا حقّ إلا ما أنزله الله تعالى.

١٠٠