التفسير المنير - ج ١٣

الدكتور وهبة الزحيلي

واحتذى نبينا عليه الصلاة والسّلام حذو أخيه يوسف عليه‌السلام في هذا القول العظيم يوم فتح مكة بإعلان العفو عن قريش ، روى ابن مردويه عن ابن عباس ، والبيهقي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذ بعضادتي الباب يوم فتح مكة ، وقد لاذ الناس بالبيت فقال : «الحمد لله الذي صدق وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ، ثم قال : ماذا تظنون يا معشر قريش؟ قالوا : خيرا ، أخ كريم ، وابن أخ كريم ، وقد قدرت ، قال : وأنا أقول كما قال أخي يوسف : (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) فخرجوا كأنما نشروا من القبور».

وقال عطاء الخراساني : طلب الحوائج من الشباب أسهل منه من الشيوخ ، ألم تر قول يوسف : (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ، يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ) وقال يعقوب : (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي).

٩ ـ حدثت الفرحة الصغرى بعودة البصر إلى يعقوب حينما ألقي عليه قميص يوسف. وهو ـ في القول الأصح المروي مرفوعا عن أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيما ذكر القشيري ـ قميص إبراهيم الذي ألبسه الله أثناء إلقائه في النار من حرير الجنة ، وكان كساه إسحاق ، وكان إسحاق كساه يعقوب ، ويعقوب علقه في عنق يوسف ، لما كان يخاف عليه من العين ، وأخبره جبريل بأن أرسل قميصك فإن فيه ريح الجنة ، وإن ريح الجنة لا يقع على سقيم ولا مبتلى إلا عوفي. وهذا بإعلام الله يوسف به. وقيل : إنه قميص يوسف الذي خلعه من على بدنه ، فإنه إذا ألقي على أبيه انشرح صدره ، وحصل في قلبه الفرح الشديد ، والفرح يقوي الروح ، ويزيل الضعف عن القوى الحسية ، فيقوى بصره ، ويزول عنه ما غشيه بسبب البكاء ، والطب يؤيد ذلك.

١٠ ـ تمت الفرحة الكبرى بطلب يوسف عليه‌السلام من إخوته إحضار جميع أسرته إلى مصر لاتخاذها دارا ، وكان عددهم سبعين أو ثلاثة وتسعين ، ما بين رجل وامرأة.

٦١

الفصل السادس عشر من قصة يوسف

إخبار يعقوب بريح يوسف وتأييده ببشارة البشير

(وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ (٩٤) قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (٩٥) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٩٦) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (٩٧) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٩٨))

الإعراب :

(فَلَمَّا أَنْ جاءَ) أن لتأكيد الربط بين شرط «لما» وهو (جاءَ) وجوابها وهو (أَلْقاهُ).

البلاغة :

(تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ) هذا استنكار من القوم الحاضرين مجلس يعقوب الذين أخبرهم بأن يوسف حي ، وأكدوا كلامه بمؤكدات ثلاثة : القسم وإنّ واللام.

المفردات اللغوية :

(وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ) انفصلت عن بلد مصر وجاوزت حدودها وخرجت من العريش (قالَ أَبُوهُمْ) لمن حضره من ولد ولده ومن حوله من قومه (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ) لأحس برائحة يوسف ، أشعره الله برائحة القميص حين أقبل به إليه يهوذا من ثمانين فرسخا (١) أي حملته إليه ريح الصبا بإذنه تعالى من مسيرة ثلاثة أيام أو ثمانية أو أكثر (تُفَنِّدُونِ) تنسبوني إلى الفند : وهو ضعف العقل الحادث بسبب الهرم ، أو الخرف ، وجواب (لَوْ لا) محذوف ، تقديره : لصدقتموني ، أو لقلت : إنه قريب.

__________________

(١) الفرسخ : ٥٥٤٤ م

٦٢

(قالُوا) أي الحاضرون (لَفِي ضَلالِكَ) خطئك ، أو في إفراطك في حبه ، وإكثار ذكره ، وتوقع لقائه بعد طول العهد (فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ) يهوذا ، روي أنه قال : كما أحزنته بحمل قميصه الملطخ بالدم إليه ، فأفرحه بحمل هذا إليه ، وأن : زائدة (أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ) طرح البشير القميص على وجه يعقوب عليه‌السلام. (فَارْتَدَّ) رجع بصيرا ، لما انتعش فيه من القوة ، بسبب الفرح والبهجة.

المناسبة :

عمت الفرحة أولاد يعقوب في أرجاء مصر ، بعد تعارفهم ، وانتقل أثر الفرح إلى أرض كنعان في أسعد عودة من رحلتهم الثالثة إلى مصر ، وأظهر الله المعجزة على يد يعقوبعليه‌السلام بإحساسه برائحة يوسف ، وأيّد الله ذلك الشعور ببشارة البشير ابنه الأكبر الذي اعتصم في مصر ، حتى يأذن له أبوه بالرجوع بعد بقاء أخيه بنيامين.

روى الواحدي عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : أما قوله : (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي ، يَأْتِ بَصِيراً) فإن نمروذ الجبار ، لما ألقى إبراهيم في النار ، نزل عليه جبريل عليه‌السلام بقميص من الجنة ، وطنفسة من الجنة ، فألبسه القميص ، وأجلسه على الطنفسة ، وقعد معه يحدثه ، فكسا إبراهيم عليه‌السلام ذلك القميص إسحاق ، وكساه إسحاق يعقوب ، وكساه يعقوب يوسف ، فجعله في قصبة من فضة ، وعلقها في عنقه ، فألقي في الجب ، والقميص في عنقه.

التفسير والبيان :

ولما خرجت إبل أولاد يعقوب من حدود مصر عائدة إلى أرض كنعان (فلسطين) من بلاد الشام ، قال يعقوب النبي عليه‌السلام لمن حضره من حفدته وقومه : إني لأشم رائحة يوسف وقميصه ، لولا أن تنسبوني إلى الفند (الخرف وضعف العقل) والكبر.

٦٣

أخرج عبد الرزاق عن ابن عباس قال : لما خرجت العير ، هاجت ريح ، فجاءت يعقوب بريح قميص يوسف ، فقال : (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ ، لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ) فوجد ريحه من مسيرة ثمانية أيام.

قال الرازي : والتحقيق أن يقال : إنه تعالى أوصل تلك الرائحة إليه على سبيل إظهار المعجزات ، لأن وصول الرائحة من هذه المسافة البعيدة أمر مناقض للعادة ، فيكون معجزة ليعقوب عليه‌السلام على الأظهر أو الأقرب (١).

(قالُوا : تَاللهِ ..) قال الحاضرون في مجلس يعقوب له : والله ، إنك لفي خطئك القديم الذي طال أمده بظنك أن يوسف حي يرزق يرجى لقاؤه. قال قتادة : أي من حب يوسف ، لا تنساه ولا تسلاه ، قالوا لوالدهم كلمة غليظة لم يكن ينبغي لهم أن يقولوها لوالدهم ولا لنبي اللهعليه‌السلام.

(فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ ..) فحينما وصل البريد ، وهو ابنه يهوذا يحمل قميص يوسف ، مبشرا له ببقائه حيا هو وأخوه بنيامين ، ألقاه على وجه يعقوب ، فانقلب فورا بصيرا كما كان ، من شدة الفرح.

قال السّدّي : إنما جاء به (أي يهوذا بن يعقوب) لأنه هو الذي جاء بالقميص ، وهو ملطّخ بدم كذب ، فأحبّ أن يغسل ذلك بهذا ، فجاء بالقميص ، فألقاه على وجه أبيه ، فرجع بصيرا.

(قالَ : أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ ..) قال يعقوب لأولاده وحفدته ومن حوله : ألم أقل لكم حين طلبت منكم أثناء ذهابكم إلى مصر : ابحثوا عن يوسف ، ولا تيأسوا من روح الله ورحمته : إني أعلم من الله تعالى بوحي منه أشياء لا تعلمونها ، وأعلم أن الله سيردّ يوسف إليّ. وقوله تعالى : (إِنِّي أَعْلَمُ) كلام مستأنف مبتدأ لم يقع

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٨ / ٢٠٨

٦٤

عليه القول ، ويجوز إيقاع القول عليه وهو ما قاله لهم سابقا : (إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ ، وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ).

وحين ذاك قالوا لأبيهم مترفّقين معظّمين متوسّلين : (اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) ، فإنّا كنّا مذنبين عاصين لله ، فقد تبنا وأنبنا وندمنا على ما فعلنا معك ومع أخوينا : يوسف وبنيامين.

أجابهم والدهم يعقوب : (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) في المستقبل ، لأنّ ربّي غفور ساتر للذّنوب ، رحيم بالعباد.

فقه الحياة أو الأحكام :

يفهم من الآيات ما يأتي :

١ ـ يمتاز الأنبياء عن غيرهم بأن الله تعالى يظهر على أيديهم معجزات خارقة للعادة ، خارجة عن المألوف ، وهذا هو الذي مكّن يعقوب من الإخبار برائحة يوسف وقميصه ، قبل وصول أولاده إليه ، حاملين البشارة بلقائهم الحارّ مع أخيهم يوسف عليه‌السلام.

وقال ابن عباس : هاجت ريح ، فحملت ريح قميص يوسف إليه ، وبينهما مسيرة ثمان ليال. وعلى هذا القول أيضا يكون الإحساس بالرّائحة محتاجا إلى عناية ربّانيّة ، وتأييد روحاني عميق الإدراك.

٢ ـ وظهرت معجزة أخرى بشفاء يعقوب عليه‌السلام بوضع القميص على وجهه ، بإرادة الله تعالى وعونه ، فهو إذا أراد شيئا قال له : كن فيكون.

٣ ـ كان كلام الحاضرين في مجلس يعقوب عليه‌السلام مشوبا بالغلظة والتّهكّم ، مما لا يليق توجيهه لنبيّ إطلاقا ، وهو من بنيه زيادة في العقوق.

٤ ـ لم يجد يعقوب عليه‌السلام عنده شيئا يعطيه مكافأة للبشير ، وإنّما دعا

٦٥

له قائلا : هوّن الله عليك سكرات الموت. وهذا الدّعاء من أعظم الجوائز وأفضل العطايا والهبات. والآية دالّة على جواز البذل والهبات عند البشائر. جاء في حديث كعب بن مالك : «فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشّرني ، نزعت ثوبيّ ، فكسوتهما إيّاه ببشارته».

وتدلّ الآية أيضا على جواز إظهار الفرح بعد زوال الغمّ والتّرح ، بتفريح الصّبيان وإطعام الطّعام ونحوهما ، وقد نحر عمر بعد حفظه سورة البقرة جزورا.

٥ ـ نصر الله نبيّه يعقوب عليه‌السلام على أولاده وكلّ من حوله ، كما ينصر أنبياءه الكرام في نهاية المطاف وفي عاقبة الأمور ، وتبيّن أنّ الناس مع الأنبياء كالأقزام مع العمالقة ، فلم يجد أولاد يعقوب عليه‌السلام بدّا من الاعتذار من أبيهم ، وطلب الدّعاء منه أن يغفر الله لهم ، لأنهم أدخلوا عليه من ألم الحزن ما لم يرتفع الإثم عنه أو يسقط المأثم عنه إلا بإحلاله وتسامحه وعفوه عنهم ، كما عفا عنهم أخوهم يوسف.

وهذا الحكم ثابت فيمن آذى مسلما في نفسه أو ماله أو غير ذلك ظالما له ، فإنه يجب عليه أن يتحلّل منه ويطلب صفحة عنه ومسامحته عليه ، ويخبره بالمظلمة وقدرها ، والصّحيح أنه لا ينفعه التّحليل المطلق دون بيان السّبب ، فإنه لو أخبره بمظلمة لها قدر وبال ، ربّما لم تطب نفس المظلوم في التّحلل منها. روى البخاري وغيره عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء ، فليحلله منه اليوم ، قبل ألا يكون دينار ولا درهم ، إن كان له عمل صالح ، أخذ منه بقدر مظلمته ، وإن لم يكن له حسنات ، أخذ من سيّئات صاحبه ، فحمل عليه» ، فقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أخذ منه بقدر مظلمته» يجب أن تكون المظلمة معلومة القدر ، مشارا إليها مبيّنة (١).

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٩ / ٢٦٢

٦٦

٦ ـ لم يستعجل يعقوب عليه‌السلام بطلب المغفرة لأولاده والدّعاء لهم ، وإنّما أخّر ذلك ـ كما قال ابن عباس ـ إلى السّحر ، قال طاوس : سحر ليلة الجمعة ، ووافق ذلك ليلة عاشوراء. وهذا رأي الأكثرين.

وهذا الموقف من يعقوب يختلف عن موقف يوسف عليهما‌السلام ، لأنّ دعاء الأول كان مؤجّلا ، ودعاء الثّاني كان في الحال. والسبب أن حال الأب حال المربّي ، فهو يريد تعظيم الذّنب في أنفسهم ، ولأنّ ذنبهم لم يكن موجّها إليه مباشرة ، وإنما إلى يوسف عليه‌السلام وأخيه ، ولأن خطأهم ذنب كبير حدثت منه أضرار كثيرة ، فيحتاج إلى توبة نصوح ، وندم شديد ، ولا يمحى بمجرد طلب الاستغفار ، ثمّ إن يوسف عليه‌السلام كان قادرا على عقابهم وهم ضعاف ، فأراد المبادرة إلى تأمينهم من خوف الانتقام منهم ، وتهدئة نفوسهم ، وإظهارا للسّرور عقب المفاجأة بأنه أخوهم ، وليرى الناس فضل العفو عند المقدرة ، ويصبح للنّاس أسوة حسنة.

الفصل السابع عشر من قصة يوسف

لقاء أسرة يعقوب عليه‌السلام في مصر

(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ (٩٩) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (١٠٠))

٦٧

الإعراب :

(سُجَّداً) جمع ساجد ، كشهّد جمع شاهد ، وهو حال من واو (خَرُّوا) وهي حال مقدّرة.

البلاغة :

(إِنْ شاءَ اللهُ) جملة دعائية للتّبرّك وجعل الأمان بمشيئة الله تعالى ، وهي متقدّمة على قوله تعالى : (آمِنِينَ) ، والتّقدير : ادخلوا مصر آمنين إن شاء الله.

(وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) المراد بأبويه أبوه وأمه أو خالته من باب التّغليب للأب ، والسّجود متقدّم على الرّفع على السّرير ، لكن قدّم الرّفع لفظا للاهتمام بتعظيمه أبويه.

المفردات اللغوية :

(فَلَمَّا دَخَلُوا) في الكلام حذف ، تقديره : فرحل يعقوب عليه‌السلام بأهله أجمعين ، وساروا حتى تلقوا يوسف عليه‌السلام. (آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ) ضمّ إليه أباه وأمه ، أو خالته ، نزلت منزلة الأم تنزيل العمّ منزلة الأب في قوله تعالى : (وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) [البقرة ٢ / ١٣٣] وإسماعيل كان عمّا ليعقوب عليه‌السلام.

(وَقالَ) يوسف عليه‌السلام لهم. (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ) سرير الملك. (وَخَرُّوا لَهُ) أي أبواه وإخوته الأحد عشر. (سُجَّداً) سجود تحية وتكرمة له ، وسجود انحناء لا سجود عبادة ، ولا وضع جبهة على الأرض ، فإن ذلك كان تحيتهم في زمانهم. (تَأْوِيلُ رُءْيايَ) مآلها وعاقبتها. (إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ) لم يقل من الجبّ تكرّما ، لئلا يخجل إخوته. (الْبَدْوِ) البادية. (نَزَغَ) أفسد ووسوس ، يقال : نزغ بين الناس : أفسد بينهم بالحثّ على الشّرّ ، وأصل النّزغ : النّخس ، يقال : نزغ الرّائض الدّابة : إذا نخسها وحملها على الجري ، ونزغه الشيطان : نخسه ، ليحثّه على المعاصي. (لَطِيفٌ) لطيف التّدبير لما يشاء ، إذ ما من صعب إلا وتنفذ فيه مشيئته. (الْعَلِيمُ) بخلقه وبوجوه المصالح والتّدابير. (الْحَكِيمُ) في صنعه ، الذي يفعل كلّ شيء في وقته ، وعلى وجه يقتضي الحكمة.

المناسبة :

بعد أن طلب يوسف عليه‌السلام من إخوته أن يأتوه بأهله أجمعين ، أخبر هنا أنهم رحلوا من بلاد كنعان إلى مصر ، فخرج يوسف عليه‌السلام للقائهم ، ومعه بأمر الملك أكابر دولته.

٦٨

فتمّ لقاء الأسرة في المرّة الرّابعة من رحلات أولاد يعقوب عليه‌السلام إلى مصر ، ورأوا يوسفعليه‌السلام في عزّ وأبهة ، وتحققت رؤيا يوسف عليه‌السلام بسجود إخوته الأحد عشر مع أبيه وأمه أو خالته ، فتمّ الاجتماع بعد الفرقة ، والأنس بعد الكدر.

روي أن يوسف عليه‌السلام وجّه إلى أبيه جهازا ومائتي راحلة ، ليتجهّز إليه بمن معه ، وخرج يوسف عليه‌السلام والملك في أربعة آلاف من الجند والعظماء وأهل مصر للقاء يعقوب نبيّ اللهعليه‌السلام.

قيل : إن يعقوب وولده دخلوا مصر ، وهم اثنان وسبعون ، ما بين رجل وامرأة ، وخرجوا منها مع موسى ، والمقاتلون منهم ست مائة ألف وخمس مائة ، وبضع وسبعون رجلا سوى الصبيان والشّيوخ.

وأقام يعقوب عليه‌السلام عند ابنه يوسف عليه‌السلام أربعا وعشرين سنة ، أو سبع عشرة سنة ، وكانت مدّة فراقه ثماني عشر ، أو أربعين أو ثمانين سنة ، وحضره الموت ، فوصّى يوسفعليه‌السلام أن يحمله ويدفنه عند أبيه ، فمضى بنفسه ودفنه ثمة ، ثم عاد إلى مصر ، وأقام بعده ثلاثا وعشرين سنة.

التّفسير والبيان :

بناء على طلب يوسف عليه‌السلام من إخوته إحضار أهله أجمعين إليه من بلاد كنعان إلى مصر ، للإقامة معه فيها ، حضر أبوه وخالته وإخوته وأسرهم ، فلما أخبر يوسف عليه‌السلام باقترابهم ، خرج لتلقّيهم ، وأمر الملك أمراءه وأكابر الناس بالخروج مع يوسف عليه‌السلام ، لتلقي نبيّ الله يعقوب عليه‌السلام ، فلما دخلوا على يوسف عليه‌السلام في أبهة سلطانه ، بعد أن استقبلهم في الطريق مع جموع غفيرة ، ضمّ إليه أبويه وعانقهما : وهما أبوه وأمه على القول الذي رجّحه

٦٩

ابن جرير ، بأنّها كانت حيّة ، أو أبوه وخالته ؛ لأن أمه قد ماتت ، فتزوّج أبوه خالته.

وقال لأسرته جميعا : ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين على أنفسكم وأموالكم وأهليكم ، لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون.

ورفع أبويه على سرير ملكه بأن أجلسهما معه ، تكريما لهما ، وسجد له الإخوة الأحد عشر والأبوان سجود تحيّة وإكرام له ، لا سجود عبادة وتقديس ، وكان سجود الانحناء هو تحيّة الملوك والعظماء في زمنهم.

ويلاحظ أن في الآية حذفا في مطلعها تقديره : فجاء يعقوب وأسرته حتى وصلوا إلى مصر ، وفيها تقديم المشيئة (إِنْ شاءَ اللهُ) على قوله : (آمِنِينَ) لأن القصد اصطحاب الدّخول بالأمان والسّلامة والغنيمة ، وكذلك فيها تقديم وتأخير بين الرّفع على العرش وبين السّجود ، فالسّجود متقدّم على الرّفع على السّرير الملكي ، لكن قدّم الرّفع ، اهتماما بتعظيم أبويه.

وحينئذ أعادت الذّاكرة إلى ذهن يوسف عليه‌السلام رؤياه السابقة في عهد الصّغر ، فقال لما رأى سجود أبويه وإخوته : يا أبت ، هذا السّجود تأويل رؤياي القديمة حال صغري ، وهي : (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً ، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ، رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) وتأويل رؤياي : ما آل إليه الأمر.

إن تلك الرؤيا أصبحت حقيقة واقعة وصحيحة صدقا ، فإن رؤيا الأنبياء حقّ ثابت ، كما أن رؤيا إبراهيم ذبح ولده ، صار سببا لوجوب ذلك الذّبح عليه في اليقظة ، فكذلك صارت هذه الرؤيا التي رآها يوسف عليه‌السلام ، وحكاها ليعقوب من قبل ، سببا لوجوب ذلك السّجود.

وقد أحسن الله تعالى إليّ وأفاض عليّ من نعمه ، إذ أطلق سراحي من

٧٠

السّجن ، ورزقني الملك ، وجاء بكم من البادية ، وكانوا أهل بادية وماشية وشظف عيش ، فنقلكم إلى الحضر وترف المدينة.

ولم يذكر إخراجه من البئر ، ترفّعا عن لوم إخوته ، وتكريما لهم ، وحفاظا على حيائهم ، ولأن السّجن كان آخر المحن ، وأخطر من السّقوط في الجبّ ؛ لما فيه من اتّهام بالنّساء ، ولأنه بعد خروجه من البئر صار عبدا لا ملكا ، وصار بعد السّجن ملكا ، فكان الإخراج منه أقرب إلى الإنعام الكامل.

حدث هذا كلّه من بعد أن نزغ الشّيطان ، أي أفسد وأغوى بيني وبين إخوتي ، وقد أضاف النّزغ إلى الشّيطان ؛ لأنه سبب الإفساد ، وتكريما لإخوته.

(إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ) أي إذا أراد أمرا قيّض له أسبابا وقدّره ويسّره ، إنه هو العليم بمصالح عباده ، الحكيم في أقواله وأفعاله ، وقضائه وقدره ، وما يختاره ويريده.

فقه الحياة أو الأحكام :

يفهم من الآيات ما يأتي :

١ ـ إن العاطفة بين الولد وأبويه طبيعية فطرية ، لذا كان إكرام يوسف عليه‌السلام لأبويه أشدّ من إكرام إخوته ، فعانقهما وضمّهما إليه ، وأجلسهما على سرير الملك معه ، واكتفى بأن قال لجميع الأسرة : (ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ).

٢ ـ دلّ قوله تعالى : (ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) على تأمين الحاكم الدّاخلين إلى بلاده من قطر آخر ، وهو أمان يشمل الأنفس والأهل والأموال.

والمراد بقوله تعالى : (ادْخُلُوا مِصْرَ) كما ذكر ابن عباس : أقيموا بها آمنين ، سمّى الإقامة دخولا لاقتران أحدهما بالآخر.

٧١

والأمان الحقيقي لا يكون إلا بمشيئة الله ، لذا علقه بقوله : (إِنْ شاءَ اللهُ) مثل قوله تعالى : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) [الفتح ٤٨ / ٢٧].

٣ ـ أجمع المفسّرون على أنّ سجود أسرة يوسف عليه‌السلام له كان سجود تحيّة وانحناء على عادتهم المألوفة في التّحية ، لا سجود عبادة ولا على الأرض. وقد نسخ الله تعالى ذلك كله في شرعنا.

وبالرّغم من نسخ الانحناء في التّحية ، فإن بعض المسلمين مع الأسف ، لا يتنبهون لذلك ، وينحنون في التّحية والسّلام ، كما يفعل الغربيون الآن. روى ابن عبد البرّ في التّمهيد عن أنس بن مالك قال : قلنا : يا رسول الله ، أينحني بعضنا إلى بعض إذا التقينا؟ قال : «لا» ، قلنا : أفيعتنق بعضنا بعضا؟ قال : «لا» ، قلنا : أفيصافح بعضنا بعضا؟ قال : «نعم».

وأمّا القيام للقادم ، كما أمر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جماعة الأوس بقوله في الحديث الصحيح الذي أخرجه أبو داود عن أبي سعيد : «قوموا إلى سيّدكم وخيركم» يعني سعد بن معاذ ، فهو جائز إذا لم يؤثّر ذلك في نفسه ، فإن أثّر فيه ، وأعجب به ، ورأى لنفسه حظّا ، لم يجز إعانته على ذلك ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من سرّه أن يتمثّل له النّاس قياما ، فليتبوأ مقعده من النّار».

وتجوز الإشارة بالإصبع للبعيد عنك ، دون الدّاني القريب ، وإذا سلّم لا ينحني ، ولا أن يقبّل مع السّلام يده ، ولأن الانحناء على معنى التّواضع لا ينبغي إلا لله. وأما تقبيل اليد فإنه من فعل الأعاجم.

ولا بأس بالمصافحة ، فقد صافح النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جعفر بن أبي طالب حين قدم من الحبشة ، وأمر بها ، وندب إليها ، وقال فيما أخرجه ابن عدي عن ابن عمر ، وهو ضعيف : «تصافحوا يذهب الغلّ».

وروى غالب التّمار عن الشّعبي أن أصحاب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا إذا التقوا تصافحوا ،

٧٢

٤ ـ عدّد يوسف عليه‌السلام بعض النّعم عليه وعلى آله ، منها الخروج من السّجن ، ومجيء أهله من البادية في أرض كنعان ، واللطف أو الرّفق الإلهي بالعباد حيث جمع الأسرة هذا الجمع الكريم الحافل السّارّ ، بعد إيقاع الشّيطان الحسد بينه وبين إخوته ، وتمّ ذلك كلّه بفعل الله تعالى وفضله.

٥ ـ تحققت رؤيا يوسف الّتي رآها في عهد الصّغر ، واختلف العلماء في مقدار المدة بين تحقق الرؤيا وبين حدوثها ، فقيل : ثمانون سنة ، وقيل : سبعون ، وقيل : أربعون ، وهو قول الأكثرين ، ولذلك يقولون : إن تأويل الرؤيا إنّما صحّت بعد أربعين سنة.

٦ ـ إذا أراد الله تعالى شيئا هيّأ أسبابه ويسّرها ، فحصول الاجتماع بين يوسف عليه‌السلام وبين أبيه وإخوته مع الألفة والمحبة ، وطيب العيش ، وفراغ البال ، كان في غاية البعد ، إلا أنه تعالى لطيف بعباده ، لأنه عليم بجميع الاعتبارات الممكنة التي لا نهاية لها ، وحكيم محكم في فعله ، حاكم في قضائه ، حكيم في أفعاله ، مبرّأ عن العبث والباطل.

الفصل الثامن عشر من قصّة يوسف

دعاء جامع

يتضمّن تحدّث يوسف بنعم الله عليه وطلبه من ربّه حسن الخاتمة

(رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (١٠١))

٧٣

الإعراب :

(فاطِرَ السَّماواتِ ..) منصوب على أنه صفة المنادي أو منادى مستقل.

المفردات اللغوية :

(مِنَ الْمُلْكِ) بعض الملك وهو ملك مصر. (وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) تأويل الكتب الإلهيّة ، وتعبير الرؤيا ، و (مِنَ) أيضا للتّبعيض لأنه لم يؤت كلّ التّأويل. (فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) خالقهما ومبدعهما. (أَنْتَ وَلِيِّي) ناصري أو متولّي أمري أو منعم عليّ. (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) من آبائي ، أو بعامة الصالحين في الرّتبة ، فعاش بعد ذلك أسبوعا أو أكثر ، ومات وله مائة وعشرون سنة ، أو مائة وسبعة أعوام.

فتنازع المصريون في مدفنه ، فجعلوه في صندوق من مرمر ، ودفنوه في أعلى النّيل ، لتعمّ البركة جانبيه ، ثم نقله موسى عليه‌السلام إلى مدفن آبائه في فلسطين. أما يعقوب عليه‌السلام فأقام مع يوسف أربعا وعشرين سنة ، ثم توفي وأوصى أن يدفن بالشام إلى جنب أبيه ، فذهب به ، ودفنه ثمّة ، وعاد وعاش بعده ثلاثا وعشرين سنة.

المناسبة :

بعد أن حمد يوسف عليه‌السلام ربّه على لطفه ونعمه ، باجتماعه بأبويه وإخوته ، وما منّ الله به عليه من النّبوة والملك ، دعا هذا الدّعاء ، وسأل ربّه عزوجل ، كما أتمّ نعمته عليه في الدّنيا أن يستمر بها عليه في الآخرة ، وأن يتوفّاه مسلما ، وأن يلحقه بالصّالحين.

التفسير والبيان :

قال يوسف بعد اجتماعه بأبويه وإخوته : ربّ قد أعطيتني ملك مصر ، وجعلتني حاكما مطلق التّصرف فيها دون منازع ولا معارض ولا حاسد. روي أن يوسف عليه‌السلام أخذ بيد يعقوبعليه‌السلام ، وطاف به في خزائنه ، فأدخله خزائن الذهب والفضة ، وخزائن الحلي ، وخزائن الثياب ، وخزائن السّلاح ، فلما أدخله خزائن القراطيس ، قال : يا بني ما أغفلك! عندك هذه

٧٤

القراطيس ، وما كتبت إليّ على ثمان مراحل ، قال : نهاني جبريل عليه‌السلام عنه ، قال : سله عن السّبب ، قال : أنت أبسط إليه ، فسأله ، فقال جبريل عليه‌السلام : أمرني الله تعالى بذلك ، لقولك : (وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) فهلا خفتني؟!

(وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) أي الكتب السّماوية وأسرار كلامك ، وتعبير الرؤيا ومصداقيتها ، فتقع كما ذكرت.

و (مِنَ) في قوله : (مِنَ الْمُلْكِ ،) و (مِنْ تَأْوِيلِ ..) للتّبعيض ، لأنه لم يؤت إلا بعض ملك الدّنيا وهو ملك مصر ، وبعض التّأويل.

(فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أنت خالق السّموات والأرض ومبدعهما.

(أَنْتَ وَلِيِّي ..) أنت ناصري ومتولّي أموري وشأني كلّه في الدّنيا والآخرة ، فإن نعمك غمرتني في الدّنيا ، وأملي فيها في الآخرة.

(تَوَفَّنِي مُسْلِماً) أمتني على الإسلام منقادا خاضعا طائعا أوامرك. قال ابن عباس : «ما تمنّى نبيّ قط الموت قبل يوسف عليه‌السلام».

(وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) اجعلني ملحقا بالأنبياء والمرسلين ، على العموم ، وبآبائه على الخصوص وهم إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ، فتوفّاه الله طيّبا طاهرا بمصر ، ودفن في النّيل في صندوق من رخام ، ثم نقل موسى عليه‌السلام تابوته بعد أربع مائة سنة إلى بيت المقدس ، فدفن مع آبائه.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآية إلى أن سيرة الأنبياء عليهم‌السلام مثل أعلى في القدوة ، فإن نعم الله تعالى على يوسف عليه‌السلام في الدّنيا من إيتاء الملك وتعبير الرؤيا ، لم تحجبه عن طلب مرضاة الله تعالى في الآخرة ، لأن العبرة بحسن الخاتمة ،

٧٥

وبما يلقاه المؤمن من نعيم خالد في الآخرة ، ولأن الآخرة خير وأبقى. وبما أنه نبيّ لم يطلب أقلّ من مرتبة الأنبياء وكرامتهم ، فسأل الله أن يجعله مع الصالحين ، وهم الأنبياء والرّسلعليهم‌السلام ، في ثوابهم ومراتبهم ودرجاتهم.

أما تمني الموت فلم يكن مطلقا ، وإنما تمنى الوفاة على الإسلام ، أي إذا جاء أجلي توفّني مسلما ، وهذا قول الجمهور ، فاللهم اجعل وفاتنا على الإيمان.

ولا يجوز في شريعتنا تمنّي الموت ، بدليل ما ثبت عند الإمام أحمد وفي الصّحيحين عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يتمنين أحدكم الموت لضرّ نزل به ، فإن كان لا بدّ متمنّيا ، فليقل : اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي ، وتوفّني إذا كانت الوفاة خيرا لي» ، وعن أبي هريرة قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه أحمد ومسلم : «لا يتمنى أحدكم الموت ، ولا يدع به من قبل أن يأتيه ، إنه إذا مات أحدكم انقطع عمله ، وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرا».

الفصل التّاسع عشر من قصّة يوسف

إثبات نبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم

الإخبار عن المغيبات والإعراض عن التّأمل في الآيات ودعوة النّبي إلى التّوحيد

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (١٠٢) وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (١٠٤) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (١٠٥) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٠٦) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ

٧٦

السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٠٧) قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٨))

الإعراب :

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ .. ذلِكَ) : مبتدأ ، و (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ ، نُوحِيهِ إِلَيْكَ) :

خبران له.

(وَما أَكْثَرُ النَّاسِ .. بِمُؤْمِنِينَ ما) : نافية حجازية ، و (أَكْثَرُ) : اسمها ، و (بِمُؤْمِنِينَ) : متعلّق بخبرها. و (وَلَوْ حَرَصْتَ) اعتراضية. (بَغْتَةً) منصوب على الحال ، وأصله المصدر.

(عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي أَنَا) : تأكيد للضمير المستتر في (أَدْعُوا) وفي (عَلى بَصِيرَةٍ) لأنه حال من (أَدْعُوا) و (مَنِ اتَّبَعَنِي) عطف عليه ، يريد : أدعو إليها أنا ، ويدعو إليها من اتّبعني. ويجوز أن يكون (أَنَا) مبتدأ وخبره (عَلى بَصِيرَةٍ) خبر مقدّم ، أي على حجة وبرهان ، لا على هوى. (هذِهِ سَبِيلِي) مبتدأ وخبر.

البلاغة :

(وَلَوْ حَرَصْتَ) اعتراضية بين اسم (ما) الحجازية وخبرها ، للدّلالة على أن الهداية بيد الله وحده.

(وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) على حذف مضاف ، أي وما تسألهم على تبليغ القرآن الكريم من أجر.

(مُعْرِضُونَ) و (مُشْرِكُونَ) سجع : وهو توافق الفاصلتين في الحرف الأخير.

المفردات اللغوية :

(ذلِكَ) إشارة إلى ما ذكر من نبأ يوسف عليه‌السلام ، والخطاب للرّسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم. (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) أخبار ما غاب عنك يا محمد. (لَدَيْهِمْ) لدى إخوة يوسف عليه‌السلام. (إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ) في كيده ، أي إلقائه في الجبّ ، و (أَجْمَعُوا) : عزموا عليه. (وَهُمْ يَمْكُرُونَ) به ، أي لم تحضرهم ، فتعرف قصّتهم ، فتخبر بها ، وإنما ذلك من تعليم الله تعالى لك ، وقوله : (وَما كُنْتَ

٧٧

لَدَيْهِمْ ..) إلخ الآية دليل على صدق الإخبار بالمغيب عنك ، والمعنى : هذا النّبأ غيب لم تعرفه إلا بالوحي ، لأنك لم تحضر إخوة يوسف عليه‌السلام حين عزموا على ما همّوا به من أن يجعلوه في غيابة الجبّ ، وهم يمكرون به وبأبيه ، ليرسله معهم. ومن المعلوم الذي لا يخفى على مكذبيك أنك ما لقيت أحدا سمع ذلك ، فتعلّمته منه. وإنما حذف هذا الكلام استغناء بذكره في غير هذه القصة مثل : (ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا) [هود ١١ / ٤٩].

(وَما أَكْثَرُ النَّاسِ) أي أهل مكة. (وَلَوْ حَرَصْتَ) على إيمانهم ، وبالغت في إظهار الآيات لهم. (بِمُؤْمِنِينَ) لعنادهم وتصميمهم على الكفر. (وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ) على الإنباء أو القرآن الكريم. (مِنْ أَجْرٍ) من جعل تأخذه كما يفعل حملة الأخبار. (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ) ما هو أي القرآن الكريم إلا عظة للعالمين من الإنس والجنّ. (وَكَأَيِّنْ) وكم من آية ، والمراد بها كثير من الآيات الدّالة على وجود الصانع وحكمته وكمال قدرته وتوحيده ، فالآية هنا : دليل على وجود الصانع ووحدانيته. (يَمُرُّونَ عَلَيْها) يمرّون على الآيات ، أي يشاهدونها. (وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) لا يتفكّرون فيها ، ولا يعتبرون بها.

(وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ) حيث يقرّون بوجوده وخالقيته ، أي أنه الخالق الرّازق. (إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) به بعبادة الأصنام ، فكانوا يقولون في تلبيتهم : «لبيك لا شريك لك لبيك ، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك» ، أو يشركون باتّخاذ الأحبار أربابا من دون الله ، ونسبة التّبنّي إليه ، أو القول بالنور والظلمة. قيل : الآية في مشركي مكة ، وقيل : في المنافقين ، وقيل : في أهل الكتاب ، والأولى حملها على العموم.

(غاشِيَةٌ) نقمة تغشاهم أو عقوبة تحيط بهم وتعمّهم أو تشملهم. (بَغْتَةً) فجأة. (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بوقت إتيانها. (هذِهِ سَبِيلِي) طريقي. (أَدْعُوا إِلَى اللهِ) إلى دين الله. (عَلى بَصِيرَةٍ) حجة واضحة ومعرفة تامة. (وَمَنِ اتَّبَعَنِي) ومن آمن بي. (وَسُبْحانَ اللهِ) أنزهه تنزيها عن الشّركاء. (وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وما أنا من جملة المشركين ، وهو من جملة سبيله أيضا.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى قصة يوسف عليه‌السلام ، أراد الحقّ تعالى أن يثبت بها نبوّة النّبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، عن طريق أنها إخبار بالغيب ، والغيب لا يعلمه إلا الله تعالى ، ولم يشاهده النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا قومه ، مما يدلّ على كون القرآن كلام الله تعالى ، وكون نبوّة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم حقّا وصدقا.

ثم ندّد الله تعالى بموقف المشركين من الإيمان بالله تعالى ، فذكر أن هناك

٧٨

كثيرا من الآيات الدّالة على وجود الصانع ووحدانيته ، ولكن لا يلتفت إليها أولئك المشركون ، وإنّما يعرضون عنها.

وحسم الحقّ تعالى الموقف ، فأبان أن سبيل دعوة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الدّعوة إلى التّوحيد ، ورفض الشّرك بمختلف أشكاله وأنواعه.

التّفسير والبيان :

ذلك المذكور من قصة يوسف بدءا من رؤياه الرؤيا وإلقائه في الجبّ إلى أن أصبح حاكم مصر الفعلي ، وبيان موقف إخوته منه ، وحال أبيهم يعقوب عليه‌السلام ، هو من أخبار الغيب الّتي لم يطّلع عليها النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يرها هو وقومه ، والخطاب له ، وهي وحي من الله تعالى إليه ، لتثبيت فؤاده ، وصبره على أذى قومه وإعراضهم عن دعوته.

والمقصد الإخبار عن الغيب ، فيكون معجزا ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما طالع الكتب ، ولم يتتلمذ لأحد ، ولم يكن حاضرا معهم ، فإخباره بهذه القصة الطويلة من غير تحريف ولا غلط إعجاز.

(وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ ..) بمثابة الدّليل على كونه من الغيب ، أي وما كنت حاضرا عندهم ، ولا مشاهدا لهم ، حين عزموا على إلقائه في الجبّ ، وهم يمكرون به وبأبيه ، ولكنّا أعلمناك به وحيا إليك ، وإنزالا عليك ، كقوله تعالى في قصّة مريم : (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) [آل عمران : ٣ / ٤٤] ، وقوله سبحانه : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ) إلى قوله تعالى : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا) [القصص ٢٨ / ٤٤ ـ ٤٦] ، وقوله عزوجل : (وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) [القصص ٢٨ / ٤٥].

٧٩

وبالرّغم من هذه الأخبار المعجزة التي فيها عبرة وعظة لم يؤمن أكثر النّاس ، كما قال تعالى: (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ ..) أي وليس أكثر النّاس بمصدّقين بدعوتك ورسالتك ، ولو حرصت وتهالكت على إيمانهم ، لتصميمهم على الكفر وعنادهم. والمراد بالآية العموم ، كقوله تعالى : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) [الرّعد ١٣ / ١]. وعن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : أراد أهل مكة. ووجه اتصال الآية بما قبلها على قول ابن عباس : أن كفار قريش وجماعة من اليهود طلبوا هذه القصة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على سبيل التّعنّت ، واعتقد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه إذا ذكرها ، فربّما آمنوا ، فلمّا ذكرها أصرّوا على كفرهم ، فنزلت هذه الآية ، وكأنه إشارة إلى قوله تعالى : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ، وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [القصص ٢٨ / ٥٦] (١).

ومعنى الحرص : طلب الشّيء بأقصى ما يمكن من الاجتهاد ، وجواب (لَوْ) محذوف ؛ لأن جواب (لَوْ) لا يكون مقدّما عليها ، فلا يجوز أن يقال : قمت لو قمت.

ثم نفى تعالى أن يكون للمشركين عذر بعدم الإيمان بدعوتك فقال : (وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ..) أي ما تسأل منكري نبوّتك يا محمد على هذا النّصح والدّعاء إلى الخير والرّشد من أجر ، أي من جعل ولا أجرة ، بل تفعله ابتغاء وجه الله ونصحا لخلقه ، فما عليهم إلا الاستجابة لدعوتك ، لأنك لا تقصد إلا اتّباع أمر ربّك ونصحهم الخالص.

(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) أي ما هذا القرآن الذي أرسلك به ربّك إلا تذكير وموعظة لكلّ العالمين من الإنس والجنّ ، به يتذكّرون وبه يهتدون ، وينجون به في الدّنيا والآخرة. وهذا دلّ على عموم رسالته صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) تفسير الرّازي : ١٨ / ٢٢٣

٨٠