التفسير المنير - ج ١٣

الدكتور وهبة الزحيلي

وأما ما يذكر في المذاهب لأقصى مدة الحمل (أربع سنين عند الشافعية والحنابلة ، وخمس سنين عند المالكية ، وسنتان عند أبي حنيفة) فمستنده الاستقراء وأخبار الناس ، والناس قد يخطئون أو يتوهمون وجود الحمل في فترة زمنية ما ، وليس في ذلك أي نص شرعي ثابت.

(وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) أي وكل شيء عنده تعالى بأجل معين ، أو بقدر واحد ، لا يزيد عنه ولا ينقص ، كقوله : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) [القمر ٥٤ / ٤٩]. وجاء في الحديث الصحيح الذي رواه الجماعة عن أسامة بن زيد : أن إحدى بنات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعثت إليه أن ابنا لها في الموت ، وأنها تحب أن يحضره ، فبعث إليها يقول : «إن لله ما أخذ ، وله ما أعطى ، وكل شيء عنده بأجل مسمى ، فمروها فلتصبر ولتحتسب».

(عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي يعلم كل شيء غائب عن العباد لا تدركه أبصارهم ، ومشاهد لهم مرئي ، ولا يخفى عليه منه شيء ، الكبير الذي هو أكبر من كل شيء ، المتعال على كل شيء ، قد أحاط بكل شيء علما ، أي شمل علمه كل شيء ، وقهر كل شيء ، فخضعت له الرقاب ، ودان له العباد طوعا وكرها.

ويلاحظ أن هذه الآية استوفت بيان كمال علم الله تعالى ، ففي مطلع الآية الذي هو كلام مستأنف أوضح تعالى أنه عالم بالجزئيات والمفردات ، ثم ذكر أنه عالم بمقادير الأشياء وحدودها لا تتجاوزها ولا تقتصر عليها ، وخصص كل حادث بوقته بعينه وبحالة معينة بمشيئته الأزلية وإرادته السرمدية ، ثم أضاف أنه عالم بأشياء خفية لا يعلمها إلا هو ، وهي أشياء جزئية من خفايا علمه ، فهو يعلم الباطن والظاهر ، والغائب : وهو ما غاب عن الحس ، والشاهد : وهو ما حضر للحس ، ثم ذكر أن علمه محيط بجميع الأشياء ، لا فرق فيه بين الخفي السرّ أو الظاهر المعلن فقال : (سَواءٌ مِنْكُمْ ..) أي أنه تعالى محيط علمه بجميع خلقه ، وأنه سواء منهم من أسرّ قوله وأخفاه أو جهر به وأعلنه ، فإنه يسمعه لا يخفى عليه

١٢١

شيء ، كما قال : (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) [طه ٢٠ / ٧] وقال : (وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ) [النمل ٢٧ / ٢٥].

وقالت عائشة رضي‌الله‌عنها : سبحان الذي وسع سمعه الأصوات ، والله لقد جاءت المجادلة ، تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنا في جنب البيت ، وإنه ليخفى عليّ بعض كلامها ، فأنزل الله : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها ، وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ ، وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما ، إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) [المجادلة ٥٨ / ١].

(وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ) أي يعلم أيضا ما هو مختف في قعر بيته في ظلام الليل ، والتنصيص على هذه الحالة تنبيه على رقابة الله في كل مكان قد يظن صاحبه أنه بتواريه عن أنظار الناس ، لا يطلع عليه أحد.

(وَسارِبٌ بِالنَّهارِ) أي ظاهر ماش في ضوء النهار ، فإن كلاهما في علم الله على السواء ، كقوله تعالى : (وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ ، وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ ، وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ، وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ ، وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ ، وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [يونس ١٠ / ٦١].

ثم ذكر الله تعالى وسيلة إثبات المعلومات وخزائن المعارف والوقائع لمواجهة أصحابها بها مع علمه تعالى بكل شيء ، وهي : (لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) أي للإنسان ملائكة حفظة ، ملائكة في الليل تعقب ملائكة النهار ، وبالعكس فهم يتعاقبون يتعاقبون على حراسته وحفظه من المضار ومراقبة أحواله ، ويتعقبون أعمال العباد ويتبعونها بالحفظ والتدوين أو الكتابة ، سواء خيرا أو شرا. فالضمير عائد إلى (مِنْ) في قوله : (سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ) وقيل : الضمير يعود على اسم الله في عالم الغيب والشهادة.

١٢٢

فلهؤلاء الملائكة الحفظة وظائف ، منها : حفظ الإنسان في الليل والنهار من المضارّ والحوادث بإذن الله وأمره ورعايته ، ويقوم به ملائكة معينون وعددهم اثنان يحرسه أحدهما من ورائه والآخر من قدامه ، ومنها حفظ الأعمال من خير أو شر ، ويقوم به ملائكة آخرون ، وهما اثنان عن اليمين والشمال ، يكتبان الأعمال ، صاحب اليمين يكتب الحسنات ، وصاحب الشمال يكتب السيئات ، كما قال تعالى : (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ. ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق ٥٠ / ١٧ ـ ١٨] فصار مجموع ملائكة كل إنسان أربعة أملاك بالنهار ، وأربعة آخرين بالليل ، وهم حافظان وكاتبان ، كما جاء في الحديث الصحيح عند البخاري : «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل ، وملائكة بالنهار ، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر ، فيصعد إليه الذين باتوا فيكم ، فيسألهم وهو أعلم بكم : كيف تركتم عبادي؟ فيقولون : أتيناهم وهم يصلون ، وتركناهم وهم يصلون» وفي الحديث الآخر : «إن معكم من لا يفارقكم إلا عند الخلاء ، وعند الجماع ، فاستحيوهم وأكرموهم».

قال ابن عباس : (يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) : ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه ، فإذا جاء قدر الله خلوا عنه.

ومن علم أن الملائكة الحفظة ترصد عليه أعماله وتحصي أقواله وأفعاله ، تهيّب من مخالفة أوامر ربه ، وكان حذرا من المعاصي ، حتى لا تسجل عليه ، ويفاجأ بها يوم القيامة ، كأنه شريط مسجل من وقت التكليف (البلوغ والعقل) إلى الوفاة.

وقوله (يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) أي يحفظونه بأمر الله وبإذنه ، فحفظهم إياه متسبب عن أمر الله لهم بذلك. أو يحفظونه من بأس الله ونقمته إذا أذنب بدعائهم له ، وسؤالهم ربه أن يمهله ، رجاء أن يتوب وينيب ، كقوله : (قُلْ : مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ) [الأنبياء ٢١ / ٤٢].

ثم بيّن الله تعالى مزيد فضله وعدله بأنه لا عقاب بدون جريمة ، فقال :

١٢٣

(إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ..) أي إن الله لا يغير ما بقوم من نعمة وعافية فيزيلها عنهم وينتقم منهم إلا بتغيير ما بأنفسهم بأن يكون منهم الظلم والمعاصي والفساد وارتكاب الشرور والآثام التي تهدم بنية المجتمع وتدمر كيان الأمم.

أخرج أبو داود والترمذي وابن ماجه عن أبي بكر الصديق رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الناس إذا رأوا الظالم ، فلم يأخذوا على يديه ، يوشك أن يعمهم الله بعقاب».

وهذا مؤكد للآية : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) [الأنفال ٨ / ٢٥].

وواقع التاريخ الإسلامي في القرون الماضية يدل دلالة واضحة على أن الله تعالى لم يغيّر ما كان عليه حال الأمة الإسلامية من عزة ومنعة ، ورفاه واستقلال ، وعلم وتفوق في السياسة والاقتصاد والاجتماع ، إلا بعد أن غيروا ما بأنفسهم ، فحكموا بغير القرآن ، وأهملوا دينهم ، وتركوا سنة نبيهم ، وقلدوا غيرهم ، وضعفت روابط التعاون بينهم ، وساءت أخلاقهم ، وانتشرت الموبقات بينهم ، وقد وعد الله الأرض من يصلحها بقوله : (أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) [الأنبياء ٢١ / ١٠٥] أي الصالحون لعمارتها ، وقوله : (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ ، يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ، وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف ٧ / ١٢٨].

ثم وصف تعالى قدرته المطلقة على العذاب فقال : (وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً ..) أي وإذا أراد الله بقوم سوءا من فقر أو مرض أو احتلال ونحوها من أنواع البلاء ، فلا يستطيع أحد أن يدفع ذلك عنهم ، وما لهم من غير الله تعالى ناصر يلي أمورهم ، ويدفع عنهم ، أي يجلب لهم النفع ويدفع عنهم الضر ، فتلك الآلهة المزعومة لا تستحق الألوهية لعجزها عن فعل شيء نافع أو دفع أذى ضار.

١٢٤

وهذا يدل على أن الله قادر في أي وقت على إيقاع العذاب بالناس ، فليس من العقل والحكمة في شيء استعجالهم ذلك.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ إن الله تعالى عالم بالجزئيات وبالكليات ، وبالماضي والحاضر والمستقبل ، وبالباطن والظاهر أو السر المخفي والمعلن المجاهر به ، وبالغائب عن مسامعنا وأبصارنا والشاهد الحاضر.

٢ ـ استدل مالك والشافعي بآية : (وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ) على أن الحامل تحيض ، قال ابن عباس في تأويلها : إنه حيض الحبالى ، وهو قول عائشة ، وأنها كانت تفتي النساء ، الحوامل إذا حضن أن يتركن الصلاة. وقال عطاء والشعبي وغيرهما ، وأبو حنيفة : لا تحيض ، لأنه لو كانت الحامل تحيض ، وكان ما تراه من الدم حيضا ، لما صح استبراء الأمة بحيض ، وهو إجماع ، فتماسك الحيض علامة على شغل الرحم ، واسترساله علامة على براءة الرحم ، فمحال أن يجتمع مع الشغل ، لأنه لا يكون دليلا على البراءة لو اجتمعا.

٣ ـ وفي هذه الآية دليل أيضا على أن الحامل قد تضع حملها لأقل من تسعة أشهر وأكثر ، وأجمع العلماء على أن أقل الحمل ستة أشهر ، وأن عبد الملك بن مروان ولد لستة أشهر ، وله أمثال كثيرون.

وهذه الستة الأشهر هي بالأهلة كسائر أشهر الشريعة.

واختلف العلماء في أكثر الحمل ، فقال مالك في المشهور عنه ، خمس سنين ، وقال الشافعي وأحمد : أربع سنين ، وقال أبو حنيفة : سنتان. ولا أصل لهذه المسألة إلا الاجتهاد والرد إلى ما عرف من أحوال النساء.

١٢٥

قال ابن العربي : نقل بعض المتساهلين من المالكيين أن أكثر مدة الحمل تسعة أشهر(١).

٤ ـ تخصيص الممكنات بخواص وأوصاف معينة دليل على كمال القدرة الإلهية ، والدليل : (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) أي بقدر واحد لا يجاوزه ولا ينقص عنه ، فكلمة بمقدار تعني عدم النقصان والزيادة ، وقال قتادة : في الرزق والأجل ، والمقدار : القدر ، ويقال : (بِمِقْدارٍ) : قدر خروج الولد من بطن أمه ، وقدر مكثه في بطنها إلى خروجه. قال القرطبي : وعموم الآية يتناول كل ذلك.

٥ ـ الله عالم الغيب والشهادة ، أي هو عالم بما غاب عن الخلق وبما شاهدوه ، فالغيب : مصدر بمعنى الغائب ، والشهادة : مصدر بمعنى الشاهد. وهذا تنبيه على انفراده تعالى بعلم الغيب ، والإحاطة بالباطن الذي يخفى على الخلق ، فلا يجوز أن يشاركه في ذلك أحد.

والله سبحانه الكبير أي الذي كل شيء دونه ، المتعال عما يقول المشركون ، المستعلي على كل شيء بقدرته وقهره.

والله تعالى يعلم ما أسرّه الإنسان من خير وشر ، كما يعلم ما جهر به من خير وشر ، ويستوي في علم الله المستخفي بالليل والسارب بالنهار ، أي يستوي في علم الله السرّ والجهر ، والظاهر في الطرقات ، والمستخفي في الظلمات.

٦ ـ للإنسان بتخصيص الله ملائكة أربعة في الليل ، وأربعة في النهار ، حافظان وكاتبان ، وهي تتعاقب عليه ليلا ونهارا ، وتتعقب أعماله وتتبعها

__________________

(١) أحكام القرآن : ٣ / ١٠٩٧

١٢٦

بالحفظ والكتابة. قال الحسن البصري : المعقبات أربعة أملاك يجتمعون عند صلاة الفجر.

والمراد من قوله (مِنْ أَمْرِ اللهِ) أي بأمر الله وبإذنه ، وتكون (مِنْ) بمعنى الباء ، وحروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض. وقال الفرّاء : في الكلام تقديم وتأخير ، تقديره : له معقبات من أمر الله ، من بين يديه ومن خلفه يحفظونه.

وفائدة جعل الملائكة موكلين علينا بالحفظ : أنها تدعونا إلى الخيرات والطاعات ، وليكون الإنسان حذرا من المعاصي.

وفائدة كتابة أعمال العباد : قال المتكلمون : الفائدة في تلك الصحف وزنها ليعرف رجحان إحدى الكفتين على الأخرى ، فإنه إذا رجحت كفة الطاعات ظهر للخلائق أنه من أهل الجنة ، وإن كان بالضد فبالضد.

٧ ـ لا يغير الله ما بقوم حتى يقع منهم تغيير ، إما منهم أو من الناظر لهم ، أو ممن هو منهم بسبب ، كما غيّر الله بالمنهزمين يوم أحد بسبب تغيير الرماة بأنفسهم.

والمراد بالآية عند المفسرين : أنه تعالى لا يغير ما بالناس من النعم بإنزال الانتقال إلا بأن يكون منهم المعاصي والفساد (١).

وهذا المعنى موجّه للجماعة ، أما الفرد فقد يتعرض للمصائب بذنوب الغير ، ولا يشترط أن يتقدم منه ذنب ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد سئل : أنهلك وفينا الصالحون؟ قال فيما رواه البخاري في المناقب : «نعم إذا كثر الخبث» أي الفسق والفجور. وقال تعالى : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) [الأنفال ٨ / ٢٥].

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٩ / ٢٢

١٢٧

٨ ـ إذا أراد الله بالناس بلاء من أمراض وأسقام ، فلا مرد لبلائه وقيل : إن معنى الآية : إذا أراد الله بقوم سوءا ، أعمى أبصارهم حتى يختاروا ما فيه البلاء ويعملوه ، فيمشون إلى هلاكهم بأقدامهم ، حتى يبحث أحدهم عن حتفه بكفه ، ويسعى بقدمه إلى إراقة دمه. ولا ملجأ ولا ناصر لأحد من مراد الله وعذابه.

والأولى تفسير الآية بأنه ليس للبشرية من يلي أمورها غير الله ، الذي يجلب لهم النفع ويدفع عنهم الضر ، أما الآلهة المزعومة من أصنام وأوثان ونحوها فلا تستطيع أو تفعل شيئا ، كما قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ، وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ، ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) [الحج ٢٢ / ٧٣].

مظاهر ألوهية الله وربوبيته وقدرته

(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (١٢) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (١٣) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (١٤) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (١٥))

١٢٨

الإعراب :

(خَوْفاً وَطَمَعاً) مفعولان لأجله بتقدير حذف المضاف أي إرادة خوف وطمع ، أو حال من البرق أو من المخاطبين أي خائفين وطامعين.

(وَالَّذِينَ يَدْعُونَ الَّذِينَ) : اسم موصول ، و (يَدْعُونَ) : صلته ، وعائده محذوف أي يدعونهم ، كما حذف من قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) [الأعراف ٧ / ١٩٤] أي تدعونهم. (كَباسِطِ كَفَّيْهِ) الكاف : متعلقة بصفة مصدر محذوف ، أي الاستجابة كاستجابة باسط كفيه ، ويكون على هذا التقدير حرفا فيه ضمير انتقل إليه من : كائنة. ويجوز أن يجعل الكاف اسما ، أي الاستجابة مثل استجابة باسط كفّيه ، ولا يكون في الكاف ضمير. ويجوز الاستثناء من الفعل المصدر والظرف والحال. ولام (لِيَبْلُغَ فاهُ) متعلقة بباسط.

البلاغة :

يوجد طباق بين (خَوْفاً وَطَمَعاً) وبين (طَوْعاً وَكَرْهاً).

(إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ ..) تشبيه تمثيلي ، شبه حال الكافرين في دعاء الأصنام بمن أراد أن يغترف الماء ليشربه بكف مبسوط. أو شبه عدم استجابة الأصنام لمن يدعونها بعدم استجابة الماء لباسط كفيه إليه من بعيد.

المفردات اللغوية :

(الْبَرْقَ) شرارة ضوئية تظهر في السماء بسبب تصادم الأجرام السماوية (خَوْفاً وَطَمَعاً) أي من أجل الإخافة من الصواعق ، والطمع في المطر ، وفيها مضاف محذوف ، أي إرادة خوف وطمع ، أو إخافة وإطماعا ، أو حال أي خائفين طامعين ، وإطلاق المصدر بمعنى المفعول أو الفاعل للمبالغة. ومعنى الخوف والطمع : أن وقوع الصواعق يخاف عند لمع البرق ، ويطمع في الغيث.

(السَّحابَ) الغيم المنسحب في الهواء (الثِّقالَ) بالمطر ، وهو جمع ثقيلة ، وإنما وصف به السحاب ، لأنه اسم جنس في معنى الجمع (الرَّعْدُ) الصوت المسموع خلال السحاب بسبب احتكاك الأجرام السماوية ، أي أنه ينشأ عن احتراق الهواء بالشرارة ظهور البرق ، الذي يحدث من تصادم سحابتين مختلفتي الشحنة الكهربائية ، ثم ينشأ عن تفريغ جزء من الهواء الذي يحدثه البرق احتكاك الهواء الذي يطرده البرق وظهور الرعد.

(الصَّواعِقَ) جمع صاعقة وهي التي تحدث بسبب الاحتكاك الكهربائي بين كهربة السحب

١٢٩

وكهربة الأرض عند تقارب السحب من الأرض ، فتنشأ عنه صاعقة تحرق ما تقع عليه (وَهُمْ يُجادِلُونَ) أي الكفار يخاصمون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الله تعالى ، والجدل : شدة الخصومة (الْمِحالِ) القوة أو الأخذ للأعداء.

(لَهُ) تعالى (دَعْوَةُ الْحَقِ) أي كلمته وهي لا إله إلا الله أو الدعاء الحق ، فإنه الذي يحق أن يعبد (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ) يعبدون (مِنْ دُونِهِ) من غيره وهم الأصنام (لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ) مما يطلبونه (إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ) أي إلا استجابة كاستجابة باسط كفيه إلى الماء على حافة البئر ، يطلب منه أن يبلغه ، ليبلغ فاه بارتفاعه من البئر إليه (وَما هُوَ بِبالِغِهِ) أي بالغ فاه أبدا ، فكذلك ما هم بمستجيبين لهم (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ) أي عبادتهم الأصنام أو حقيقة الدعاء (إِلَّا فِي ضَلالٍ) ضياع وخسار وبطلان.

(وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) يحتمل أن يكون السجود على حقيقته ، فإنه يسجد له الملائكة والمؤمنون من الثقلين (الإنس والجن) طوعا حالتي الشدة والرخاء ، ويسجد له الكفار كرها حالة الشدة والضرورة. والمنافقون من الكفار ، إذ يسجدون كرها. ويحتمل أن يكون المراد : ينقادون لإحداث ما أراده الله فيهم من أفعاله ، شاؤوا أو أبوا ، لا يقدرون أن يمتنعوا عليه.

(وَظِلالُهُمْ) جمع ظل وهو الخيال المقابل للشمس الذي يظهر للشيء المادي القائم أي ويسجد ظلالهم ، أو تنقاد أيضا حيث تخضع لمشيئة الله في الامتداد والتقلص والفيء والزوال (بِالْغُدُوِّ) جمع غداة : وهي أول النهار (وَالْآصالِ) جمع أصيل : وهو ما بعد العصر إلى المغرب.

سبب النزول :

نزول الآية (١٣):

(وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ) : ذكر الرواة سببين لنزول هذه الآية ، أخرج الطبراني وغيره عن ابن عباس : أن أربد بن قيس وعامر بن الطّفيل قدما المدينة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال عامر : يا محمد : ما تجعل إليّ إن أسلمت؟ قال : لك ما للمسلمين ، وعليك ما عليهم ، قال : أتجعل لي الأمر من بعدك؟ قال : ليس ذلك لك ولا لقومك ، فخرجا ، فقال عامر : إني أشغل عنك وجه محمد بالحديث ، فاضربه بالسيف ، فرجعا ، فقال عامر : يا محمد ، قم معي أكلمك ، فقام معه ، ووقف يكلمه ، وسلّ (أربد) السيف ، فلما وضع يده على قائم

١٣٠

السيف ، يبست ، والتفت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فرآه ، فانصرف عنهما ، فخرجا ، حتى إذا كانا بالرّقم (موضع) أرسل الله على أربد صاعقة ، فقتلته ، فأنزل الله : (اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى) إلى قوله (شَدِيدُ الْمِحالِ). وأما عامر فأرسل الطاعون عليه ، فخرجت فيه غدّة كغدة الجمل ، ومات في بيت سلولية.

وذكر الواحدي ما رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده والنسائي والبزار عن أنس بن مالكرضي‌الله‌عنه : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث رجلا مرّة إلى رجل من فراعنة العرب ، فقال : اذهب فادعه لي ، فقال : يا رسول الله ، إنه أعتى من ذلك ، قال : اذهب فادعه لي ، قال : فذهب إليه ، فقال : يدعوك رسول الله ، قال : وما الله ، أمن ذهب هو ، أو من فضة أو من نحاس؟ فرجع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره ، وقال : وقد أخبرتك أنه أعتى من ذلك ، فقال : ارجع إليه الثانية فادعه ، فرجع إليه ، فعاد عليه مثل الكلام الأول ، فرجع إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره ، فقال : ارجع إليه ، فرجع الثالثة ، فأعاد عليه ذلك الكلام ، فبينا هو يكلمني ، إذ بعثت إليه سحابة حيال رأسه ، فرعدت ، فوقعت منها صاعقة ، فذهبت بقحف رأسه ، فأنزل الله تعالى : (وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ ، فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ ، وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ ، وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ)(١).

المناسبة :

بعد أن خوّف الله تعالى عباده بأنه إذا أراد السوء بقوم فلا مردّ له ، أتبعه بهذه الآيات المشتملة على أمور ثلاثة ، فهي دلائل على قدرة الله تعالى وحكمته ، وتشبه النعم والإحسان حينا ، وتشبه العذاب والقهر والنقمة حينا آخر.

__________________

(١) أسباب النزول للواحدي ١٥٦ ، تفسير ابن كثير : ٢ / ٥٠٥ ، تفسير القرطبي : ٩ / ٢٩٦ ـ ٢٩٨ الكشاف : ٢ / ١٦٢

١٣١

التفسير والبيان :

الله تعالى هو الذي يسخر البرق : وهو ما يرى من النور اللامع ساطعا من خلال السحاب ، بسبب تقارب سحابتين مختلفتين في الشحنة الكهربائية ، ويريكم إياه تخويفا ، فيخاف منه المسافر والمزارع الذي جمع حبوبه في البيدر (الجرين) ويحذر عواقبه كل إنسان من خطف البصر ، أو مجيء السيول الجارفة ، وطمعا ، أي يرجو نفع المطر من كان بحاجة إليه لسقي زرعه وشجره وغسل الجو من الأتربة والرمال والدخان والميكروبات. فالناس في الظواهر العامة قسمان : إما فرح طامع بالخير بالنسبة إليه ، وإما متشائم متبرم عابس لما يصيبه من شر أو ضر بالنسبة إليه.

(وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ) أي والله سبحانه هو الذي يوجد السحب المحملة المترعة بالماء ، وهي لكثرة مائها ثقلية قريبة إلى الأرض. قال مجاهد :السحاب الثقال : الذي فيه الماء.

(وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ) أي أن الرعد بلسان الحال لا بلسان المقال ينزه الخالق عن الشريك والعجز ، ويعلن خضوعه له ، وانقياده لقدرته وحكمته ، كما قال تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [الإسراء ١٧ / ٤٤].

وتسبح الملائكة ربهم وتنزهه عن الصاحبة والولد ، من هيبته وإجلاله.

ويرسل الله الصواعق نقمة ، ينتقم بها ممن يشاء ، ولهذا تكثر في آخر الزمان ، روى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «تكثر الصواعق عند اقتراب الساعة ، حتى يأتي الرجل القوم ، فيقول : من صعق قبلكم الغداة ، فيقولون : صعق فلان وفلان وفلان».

١٣٢

وكل من الرعد والبرق إما بشير خير أو نذير شر ، لذا أمرنا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالدعاء حين رؤيتهما ، روى البخاري وأحمد عن سالم عن أبيه قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا سمع الرعد والصواعق قال : «اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك ، وعافنا قبل ذلك».

ويسن عند رؤية البرق والرعد أن يقول : (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً ، وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ ، وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ) روى مالك في موطئه عن عبد الله بن الزبير أنه كان إذا سمع الرعد ، ترك الحديث ، وقال : «سبحان الذي يسبح الرعد بحمده ، والملائكة من خيفته». وروى أحمد عن أبي هريرة أنه كان إذا سمع الرعد قال : «سبحان من يسبح الرعد بحمده». وروى أبان عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تأخذ الصاعقة ذاكرا الله عزوجل». وقال أبو هريرة رضي‌الله‌عنه : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا سمع صوت الرعد يقول : «سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ، وهو على كل شيء قدير فإن أصابته صاعقة ، فعليّ ديته».

(وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ) وبالرغم من هذه الأدلة الدالة على قدرة الله وألوهيته ، يجادل الكفار ويشكون في عظمة الله تعالى وأنه لا إله إلا هو ، قال مجاهد : جادل يهودي النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وسأله عن الله تعالى : من أي شيء هو؟

وهو سبحانه شديد المحال أي شديد القوة والأخذ ، والمماحلة : وهي شدة المماكرة والمكايدة لأعدائه ، فيدبر لهم الحيلة لإنزال العقاب الشديد بهم من حيث لا يشعرون ، يقال : تمحل لكذا : إذا تكلف استعمال الحيلة ، واجتهد فيه.

وهو القادر على إنزال العذاب من فوقكم ومن تحت أرجلكم : (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ) [النمل ٢٧ / ٥١] (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى ، وَهِيَ ظالِمَةٌ ، إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود ١١ / ١٠٢].

١٣٣

وفي هذا تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنهم لم يقتصروا على إنكار نبوته ، بل تجاوزوا ذلك إلى إنكار الألوهية.

(لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِ) أي لله تعالى دعوة الصدق والدعاء والتضرع ، لا لغيره من الأصنام والأوثان والملائكة والبشر الذين اتخذوا آلهة. وقال ابن عباس وقتادة وغيرهما : دعوة الحق : كلمة التوحيد : لا إله إلا الله ، أي لله من خلقه أن يوحّدوه ويخلصوا له.

وذكر في الكشاف وجهان للآية : الأول ـ إضافة الدعوة إلى الحق الذي هو نقيض الباطل ، أي أن دعوة الإسلام دعوة الحق المختصة به. والثاني ـ إضافة الدعوة إلى الحق الذي هو الله عز وعلا أي أن الدعاء لله الحق الذي يسمع فيجيب (١).

وهذا وما قبله وعيد للكفار على مجادلتهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في شأن الوعيد بالعقاب الذي هددهم به. قال أبو حيان عن (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِ) : والذي يظهر أن هذه الإضافة من باب إضافة الموصوف إلى الصفة ، كقوله : (وَلَدارُ الْآخِرَةِ) والتقدير : لله الدعوة الحق ، بخلاف غيره ، فإن دعوتهم باطلة ، والمعنى أن الله تعالى ، الدعوة له هي الدعوة الحق ، وهو رد على الكفار في إثبات آلهة مع الله ، فمن يدعو الله فدعوته هي الحق ، بخلاف أصنامهم التي جادلوا في الله لأجلها ، فإن دعاءها باطل لا يتحصل منه شيء ، فقال : (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ).

(وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ..) أي إن الذين يدعون من دون الله الأصنام

__________________

(١) الكشاف : ٢ / ١٦٢ قال أبو حيان : وهذا الوجه الثاني الذي ذكره الزمخشري لا يظهر ؛ لأن مآله إلى تقدير : الله دعوة الله وهذا التركيب لا يصح.

البحر المحيط : ٥ / ٣٧٦

١٣٤

والأوثان والمعبودات الباطلة وهم المشركون ، لا يجيبونهم إطلاقا ، ولا يستجيبون لهم دعاء ، ولا يسمعون لهم نداء ، ولا يحققون لهم نفعا ولا يدفعون عنهم ضرا ، وما استجابتهم إلا كاستجابة الماء لمن بسط كفيه إليه من بعيد ، طالبا وصوله إلى فمه ، وهو عطشان ، والماء جماد لا يعقل دعاء ، ولا يلبي نداء ، ولا يشعر به. ويلاحظ ما عليه هذا التشبيه من واقعية ومن بسط الكفين كما يبسطها الداعي إلى الله.

فهذا مثل ضربه الله ليأس عبدة غير الله من الإجابة لدعائهم ، لتنبيه عقولهم وحواسهم ، والعرب تضرب لمن سعى فيما لا يدركه مثلا بالقابض الماء باليد. قال الشاعر :

فأصبحت فيما كان بيني وبينها* من الودّ مثل القابض الماء باليد (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) أي ليست عبادة الكافرين الأصنام إلا في خسار وضياع وبطلان ، فإن دعاءهم لهم غير مجاب ، كما أن دعاءهم الله غير مجاب أيضا.

ثم بين الله تعالى كمال قدرته وعظمته وسلطانه فقال : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ..) أي ولله يخضع وينقاد كل شيء طوعا من المؤمنين والملائكة في حالي الشدة والرخاء ، وكرها من الكافرين في حال الشدة ، بل كل شيء من مخلوقات الكون من إنسان وحيوان ونبات وجماد خاضع منقاد للخالق الذي خلقهم وأوجدهم. وكذلك تسجد لله وتخضع ظلال كل من له ظل مما ذكر في الصباح الباكر وفي آخر النهار ، وتخصيص هذين الوقتين بالذكر لظهور الامتداد والتقلص ، أو لإرادة الدوام ، كما هو الشأن في استعمالات العرب. والسجود لله دال على الربوبية ، فلا يستحق العبادة سوى الله تعالى.

١٣٥

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدتنا الآيات إلى ما يلي :

١ ـ بيان كمال قدرة الله تعالى ، وأن تأخير العقوبة عن العصاة ليس عن عجز ، وكل ما ذكر في الآية من البرق والسحاب والرعد والصواعق دلائل ملموسة على قدرة اللهعزوجل ، وأنه شديد القوة والأخذ ، والمحال أو المماحلة : وهي المماكرة والمغالبة.

فحدوث البرق مثلا دليل عجيب على قدرة الله تعالى : لأن السحاب مركب من أجزاء رطبة مائية ، ومن أجزاء هوائية ونارية ، والغالب عليه الأجزاء المائية ، والماء جسم بارد رطب ، والنار جسم حار يابس ، فتغليب النار على الماء المتضادين ، لا بد له من صانع مختار ، يظهر الضد من الضد.

والأجزاء المائية من السحاب ، سواء قيل : إنها حدثت في جو الهواء أو تصاعدت من أبخرة البحار ، لا بد أن يكون حدوثها بإحداث حكيم قادر محدث.

وصوت الرعد المرعب بسبب تصادم كتل الهواء نتيجة تفريع جزء منه بالبرق دليل آخر على القدرة الإلهية.

والصواعق المخيفة المدمرة المتولدة من السحاب والتي تحدث بسبب احتكاك كهربة السحب بكهربة الأرض برهان واضح على الألوهية ، ووجود موجود متعال عن النقص والإمكان.

٢ ـ كل شيء في الوجود من إنسان وحيوان ونبات وجماد وجنّ وملائكة يسبح بحمده ، فالرعد يسبح بحمد الله ، والملائكة تسبح أيضا بحمد الله من هيبته وإجلاله ، والتسبيح : التنزيه عن الشريك والوالد والولد والصاحبة ، والتقديس لله تعالى ، ولكن الناس لا يفقهون تسبيح من سواهم.

١٣٦

٣ ـ هؤلاء الكفار مع ظهور هذه الدلائل الدالة على كمال قدرة الله ، يجادلون في الله ، ويشككون في وجوده وألوهيته ، والله شديد القوة والأخذ ، والعقاب ، ومغالبة هؤلاء المشككين المجادلين بالباطل.

٤ ـ لله الدعوة الحق ، فمن يدعوه فدعوته هي الحق ، أما دعاء الأصنام وأمثالها من الآلهة المزعومة دون الله فهو باطل لا يفيد شيئا.

٥ ـ الآلهة الذين يدعونهم الكفار من دون الله لا يحققون لأحد مطلبا ، وما استجابتهم إلا كاستجابة الماء لباسط كفيه إلى الماء ، والماء جماد لا يشعر بأحد ولا بحاجته إليه ، ولا يقدر أن يجيب دعاء داعيه ، فكذلك ما يدعونه جماد لا يحس بدعائهم ، ولا يستطيع إجابتهم ، ولا يقدر على نفعهم.

٦ ـ دل قوله : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ..) على أنه يجب على كل من في السموات والأرض أن يسجد لله إما طوعا أو كرها ، فعبر عن الوجوب بالوقوع والحصول ، أو أن كل من السموات والأرض يعترفون بعبودية الله تعالى ، على ما قال : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ، لَيَقُولُنَّ : اللهُ) [لقمان ٣١ / ٢٥].

وقيل : إن السجود عبارة عن الانقياد والخضوع وعدم الامتناع ، وكل من في السموات والأرض ساجد لله بهذا المعنى ؛ لأن قدرته ومشيئته نافذة في الكل.

٧ ـ دل قوله : (وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) على أن كل شخص ، سواء كان مؤمنا أو كافرا ، فإن ظله يسجد لله. قال مجاهد : ظل المؤمن يسجد لله طوعا ، وهو طائع ، وظل الكافر يسجد لله كرها ، وهو كاره. وقيل : إن المراد من سجود الظلال أي ظلال الخلق : ميلانها من جانب إلى جانب ، وتختلف طولا وقصرا بسبب انحطاط الشمس وارتفاعها ، فهي منقادة مستسلمة في طولها وقصرها وميلها من جانب إلى جانب. وإنما خصص الغدو والآصال بالذكر ؛ لأن الظلال إنما تعظم وتكثر في هذين الوقتين.

١٣٧

وحدانية الله

ومثل المؤمن والمشرك تجاه الوحدانية

(قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (١٦))

لبلاغة :

(قُلِ : اللهُ) فيه إيجاز بالحذف ، أي الله خالق السموات والأرض.

(الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) و (الظُّلُماتُ وَالنُّورُ) فيهما طباق.

(هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ) فيهما استعارتان ، استعار لفظ الأعمى للمشرك ، والبصير للمؤمن ، واستعار لفظ الظلمات والنور للكفر والإيمان.

(أَمْ جَعَلُوا) الهمزة للإنكار ، أي بل جعلوا.

المفردات اللغوية :

(قُلْ) يا محمد لقومك (مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي خالقهما ومتولي أمرهما (قُلِ : اللهُ) إن لم يجيبوا فلا جواب غير أن تقول : الله الخالق ؛ إذ لا جواب لهم سواه ، ولأنه الجواب البين الذي لا يمكن المراء فيه ، أو أنه لقنهم الجواب (أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) أي كيف اتخذتم من غيره أصناما تعبدونها؟ والمراد أنه ألزمهم بذلك أن اتخاذهم منكر بعيد على مقتضى العقل ، والاستفهام للتوبيخ (لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا) لا يقدرون على جلب نفع إليها أو دفع ضر عنها ، فكيف يستطيعون إنفاع الغير ودفع الضر عنه؟ وكيف تركتم مالك السموات والأرض؟ وهو دليل ثان على ضلالهم وفساد رأيهم في اتخاذهم أولياء ، رجاء أن يشفعوا لهم.

١٣٨

(هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) الكافر الجاهل ، والمؤمن العالم العاقل (أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ) الكفر والإيمان؟ لا.

(أَمْ جَعَلُوا) بل أجعلوا ، والهمزة للإنكار (خَلَقُوا كَخَلْقِهِ) صفة لشركاء داخلة في حكم الإنكار (فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ) أي خلق الله بخلق الشركاء ، أي ما اتخذوا لله شركاء خالقين مثله ، حق يتشابه عليهم الخلق ، فيقولوا : هؤلاء خلقوا كما خلق الله ، فاستحقوا العبادة كما استحقها ، ولكنهم اتخذوا شركاء عاجزين لا يقدرون على ما يقدر عليه الناس ، فضلا عما يقدر عليه الخالق.

وهو استفهام إنكاري ، أي ليس الأمر كذلك ، ولا يستحق العبادة إلا الخالق (قُلِ: اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) أي لا خالق غيره ، فيشاركه في العبادة ، فهو لا شريك له في الخلق ، فلا شريك له في العبادة ، أي أنه جعل الخلق يستوجب العبادة ويلزم منه ذلك ، ثم نفاه عما سواه ليتوصل إلى الآتي وهو قوله : (وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) أي هو المتوحد بالألوهية ، الغالب على كل شيء.

المناسبة :

بعد أن بيَّن الله تعالى أن كل من في السموات والأرض ساجد له ، خاضع لقدرته وعظمته ، عاد إلى الرد على عبدة الأصنام ، لإثبات الوحدانية ، وحدانية الألوهية ووحدانية الربوبية ، حتى لا يجدوا مناصا من الاعتراف بها.

التفسير والبيان :

قل للمشركين أيها الرسول : من خالق السموات والأرض؟ ثم أجب عنهم الجواب المتعين الذي لا مناص منه ، وهو الذي يقرون به ؛ لأنهم كانوا يقرون بأن الله هو الخالق كما قال تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ : مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ؟ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [لقمان ٣١ / ٢٥] وقل لهم إذن : الله خالقهما وربهما ومدبرهما.

قال الزمخشري : وقوله : (قُلِ : اللهُ) حكاية لاعترافهم وتأكيد له عليهم ؛ لأنه إذا قال لهم : من رب السموات والأرض؟ لم يكن لهم بد من أن يقولوا : الله.

ثم قل لهم بعد أن ثبت هذا لديكم : فلم اتخذتم لأنفسكم من دون الله معبودات

١٣٩

هي جمادات ، وإذا كنتم مقرين بوجود الله ، فما بالكم اتخذتم من دونه نصراء عاجزين وأولياء تعبدونهم ، لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا؟!

وإذا كانت تلك الآلهة لا تملك لنفسها النفع والضر ، فهي لا تملك لعابديها بطريق الأولى نفعا ولا ضرا. فهل يستوي من عبد هذه الآلهة مع الله ، ومن عبد الله وحده لا شريك له ، فهو على نور من ربه؟ لهذا قال : (قُلْ : هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ ..).

أي قل لهم مبينا لهم سوء اعتقادهم : هل يتساوى الأعمى الذي لا يبصر شيئا ، والبصير الذي يدرك الحق ويهدي الأعمى إليه؟ أم هل تتساوى الظلمات والنور؟ جمع الظلمات وأفرد النور ؛ لأن طريق الحق واحدة ، وطرق الباطل والكفر متعددة.

والمراد : هل يمكن لأحد الحكم بتساوي الكافر والمؤمن ، وتساوي الكفر والإيمان ، فالكافر كالأعمى ، والكفر كالظلمات ، والمؤمن كالبصير ، والإيمان كالنور؟

(أَمْ جَعَلُوا) بل جعلوا أي جعل هؤلاء المشركون مع الله آلهة تناظر الرب وتماثله في الخلق ، وحينئذ تشابه خلق الشركاء بخلق الله عندهم ، فحينما جعلوا لله شركاء موصوفين بالخلق مثل خلق الله ، تشابه ذلك عليهم ، فيعبدونهم ، مع أنهم لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ، فكيف يشركون في العبادة ، أفمن يخلق كمن لا يخلق؟! وهذا بمعنى قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) [الحج ٢٢ / ٧٣].

والمراد : ليس الأمر على هذا النحو ، فإنه تعالى لا يشابهه شيء ، ولا يماثله شيء ، ولا ندّ له ، ولا وزير له ، ولا ولد له ولا صاحبة ، وهؤلاء المشركون عبدوا آلهة ، وهم معترفون أنها مخلوقة لله ، وهم عبيد له ، كما صرحوا في تلبيتهم :

١٤٠