التفسير المنير - ج ١٣

الدكتور وهبة الزحيلي

١
٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ـ ٢ ـ

النّفس الأمّارة بالسّوء

(وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٣))

البلاغة :

(لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) أمّارة : من صيغ المبالغة ، على وزن «فعّال» مبالغة في وصف النّفس بالاندفاع نحو المعاصي والمهالك.

المفردات اللغوية :

(وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي) من الزّلل أو السّوء. (إِنَّ النَّفْسَ) جنس النّفس. (لَأَمَّارَةٌ) كثيرة الأمر ، مائلة بالطبع إلى الشّهوات. (إِلَّا ما) بمعنى «من». والمعنى إلّا من رحم ربّي من النّفوس فعصمه ، أو إلا وقت رحمة ربّي ، وقيل : إن الاستثناء منقطع ، أي ولكن رحمة ربّي هي التي تصرف الإساءة.

والآية على الرّاجح حكاية قول امرأة العزيز : زليخا أو راعيل ، والمستثنى نفس يوسف وأمثاله. وقيل : ذلك من قول يوسف ، والمعنى : لا أنزهها ، تنبيها على أنه لم يرد بذلك تزكية نفسه والعجب بحاله ، بل إظهار ما أنعم الله عليه من العصمة والتّوفيق.

المناسبة :

هذه الآية من تتمة كلام امرأة العزيز ، متّصلة بما قبلها ، قال أبو حيان : الظاهر أن هذا كلام امرأة العزيز ، وهو داخل تحت قوله : (قالَتِ) والمعنى : ذلك الإقرار والاعتراف بالحقّ ، ليعلم يوسف أنّي لم أخنه في غيبته ، والذّبّ عنه ،

٥

وأرميه بذنب هو منه بريء ، ثم اعتذرت عمّا وقعت فيه مما يقع فيه البشر من الشّهوات بقولها : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي) ، والنّفوس مائلة إلى الشّهوات ، أمّارة بالسّوء (١). وكذلك قال ابن كثير : هذا القول أقوى وأظهر : لأن سياق الكلام كله من امرأة العزيز بحضرة الملك ، ولم يكن يوسف عليه‌السلام عندهم ، بل بعد ذلك أحضره الملك (٢).

التفسير والبيان :

قالت امرأة العزيز : الآن حصحص الحقّ ، وليعلم يوسف أنّي لم أخنه في غيبته ، وهو سجين ، أو ليعلم زوجي أني لم أخنه بيوسف ، وأني لم أرتكب الفاحشة ، فلم يحدث مني إلا مجرد المراودة أو المغازلة ، فامتنع وأبى ولاذ بالفرار ، ولا أنزّه نفسي من الزّلل والخطأ ، إن النّفوس ميّالة بالطّبع إلى الشّهوات والأهواء.

إلا من رحمه‌الله الخالق ، فصرف عنه السّوء والفحشاء كيوسف وأمثاله.

ولكني لا أيأس من رحمة الله ، إنّ ربّي كثير المغفرة ، رحيم بالعباد.

وفي قول مرجوح : إن هذه الآية حكاية لقول يوسف ، بمعنى : ليعلم العزيز أني لم أخنه في زوجه أثناء غيبته ، وحال ثقته بي ، وائتمانه على عرضه ، وما أبرئ نفسي البشريّة من خواطر القلب ، فكلّ نفس ميّالة بالطّبع للشّهوات والأهواء ، إلا النّفس التي عصمها الله من الانزلاق في المعاصي ، ووفقها للاستقامة ، وتلك هي نفس الأنبياء ، وسيرة الصّلحاء ، إنّ ربّي غفّار لذنوب المخطئين ، رحيم بهم إذا بادروا إلى التّوبة والإنابة والتّضرّع إلى الله ، ليخلصهم من آثار الذّنوب ، ويطهّر نفوسهم من شوائب المعاصي.

__________________

(١) البحر المحيط : ٥ / ٣١٧

(٢) تفسير ابن كثير : ٢ / ٤٨٢

٦

فقه الحياة أو الأحكام :

دلّت الآية على أنّ أكثر النّفوس نزّاعة للشّهوة ، ميّالة للهوى ، ذات نزعة شريرة ، تحتاج إلى مجاهدة ومكافحة ومراقبة وتحذير. جاء في الخبر عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما تقولون في صاحب لكم ، إن أنتم أكرمتموه وأطعمتموه وكسوتموه أفضى بكم إلى شرّ غاية ، وإن أهنتموه وأعريتموه وأجعتموه أفضى بكم إلى خير غاية؟! قالوا : يا رسول الله! هذا شرّ صاحب في الأرض. قال : فو الذي نفسي بيده إنها لنفوسكم التي بين جنوبكم».

واستدلّ أهل السّنّة بآية : (إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي) على أن الطّاعة والإيمان لا يحصلان إلا من الله ، وعلى أن انصراف النّفس من الشّر لا يكون إلا برحمته.

ودلّت الآية أيضا على مدى فضل الله وإحسانه فهو غفور لذنوب عباده ، رحيم بهم إذا هم تابوا وأنابوا وأحسنوا العمل ، أي يغفر للمستغفر لذنوبه ، المعترف على نفسه ، ويرحمه ما استغفره واسترحمه مما ارتكبه.

الفصل التّاسع من قصّة يوسف يوسف

في رئاسة الحكم ووزارة الماليّة

(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (٥٤) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (٥٥) وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٧))

٧

المفردات اللغوية :

(أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي) أجعله خالصا لنفسي دون شريك. (فَلَمَّا كَلَّمَهُ) أي فلما أتوا به فكلّمه ، وشاهد منه الرّشد والدّهاء. (مَكِينٌ) ذو مكانة ومنزلة. (أَمِينٌ) مؤتمن على كلّ شيء. (خَزائِنِ الْأَرْضِ) أرض مصر. (إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) ذو حفظ وعلم بأمرها ، وقيل : كاتب حاسب.

(وَكَذلِكَ) أي كإنعامنا عليه بالخلاص من السّجن. (فِي الْأَرْضِ) أرض مصر. (يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ) ينزل من بلاد مصر أي مكان أراد ، فصار صاحب الأمر والحكم بعد الضّيق والحبس. وفي القصّة كما يقول السّيوطي : أن الملك توّجه وختّمه وولاه مكان العزيز ، وعزله ، ومات بعد ، فزوّجه امرأته ، فوجدها عذراء ، وولدت له ولدين ، وأقام العدل بمصر ، ودانت له الرّقاب.

(نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ) في الدّنيا والآخرة. (وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) بل نوفّي أجورهم عاجلا وآجلا. (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ) من أجر الدّنيا. (وَكانُوا يَتَّقُونَ) الشّرك والفواحش ، لعظمه ودوامه.

المناسبة :

بعد أن تحقق الملك الأكبر من أمر النّسوة بناء على طلب يوسف عليه‌السلام ، وظهرت له براءته وعفّته ، طلب إحضاره إليه من السّجن ، ليصطفيه لنفسه ، فلما سمع منه تعبير رؤياه ، أعجب به وبعلمه وحسن أدبه ، وأعزّه وأنزله لديه مكانة عالية ، وآمنه على نفسه ، وائتمنه على كلّ شيء ، وسلّمه مقاليد الحكم والسّلطة ، وفوّض إليه تصريف وإدارة الأمور السياسيّة والماليّة في جميع أنحاء مصر.

التفسير والبيان :

المراد بالملك هنا : الملك الأكبر ، وليس العزيز على الرّأي الرّاجح ، لطلب يوسف منه أن يجعله على خزائن الأرض ، ولأنه كان قبل ذلك خالصا للعزيز ، والآن يريد الملك الأكبر (الرّيان بن الوليد) استخلاصه لنفسه.

٨

والمعنى : وقال الملك : أحضروه إليّ من سجنه ، أجعله من خاصّتي وأهل مشورتي وموضع ثقتي ، فلما خاطبه الملك وتعرّف عليه ، ورأى فضله وعلمه وبراعته ، وحسن أدبه ، وسموّ أخلاقه ، قال له : إنك عندنا اليوم وما بعده أصبحت ذا مكانة وعزّة وأمانة تؤتمن على كلّ شيء في أمور الحكم ، وصاحب التّصرف التّام في شؤون البلاد.

روي أن يوسف لما خرج من السّجن اغتسل وتنظّف ولبس ثيابا جددا ، فلما دخل على الملك قال : اللهم إني أسألك من خيره ، وأعوذ بعزّتك وقدرتك من شرّه ، ثم سلّم عليه بالعربيّة ، فقال الملك : ما هذا اللسان؟ فقال : لسان عمي إسماعيل ، ودعا له بالعبريّة ، فقال : ما هذا اللسان؟ قال : لسان آبائي.

وكان إبراهيم وأولاده وحفدته من العرب القحطانيين ، وكان ملوك مصر من العرب الذين يسمون بالرّعاة (الهكسوس).

قال يوسف : اجعلني أيها الملك على خزائن الأرض : وهي الخزن التي تخزن فيها الغلال ، وهي الأهرام التي يجمع فيها الغلّات لما يستقبلونه من السّنين التي أخبرهم بشأنها ، أي ولّني عليها ، لأشرف عليها ، وأتصرّف فيها حتى أجعل توازنا اقتصاديا بين سنوات الخصب وسني القحط ، فأنقذ البلاد من المجاعة التي تهدد أهلها ، بحسب الرؤيا التي رأيت ؛ لأني حفيظ عليم ، أي خازن أمين ، ذو علم وبصيرة بما يتولاه. وفي هذا إيماء لأهمية التّخطيط والتّنظيم المالي وإقامة التوازن بين الموارد الماليّة والنفقات.

فأجابه الملك إلى طلبه ، وجعله وزير المال والخزانة ، وأطلق له سلطة التّصرف في شؤون الحكم ، لما لمس لديه من رجاحة عقل ، وخبرة وضبط وسياسة ، وحسن تصرّف ، وقدرة على إحكام النّظام.

(وَكَذلِكَ مَكَّنَّا ..) أي ومثل هذا الإنعام الذي أنعمنا على يوسف في

٩

تقريبه إلى قلب الملك ، وإنجائه من السّجن ، مكّنّا له في الأرض ، أي أقدرناه على ما يريد ، وجعلنا له مكانة ومنزلة في أرض مصر ، فانتقل من كونه مملوكا إلى أن أصبح مالكا آمرا ناهيا ، ذا نفوذ وسلطة ، مطاعا بعد أن كان تابعا لغيره مطواعا ، حرّا طليقا بعد أن كان سجينا أسيرا ، وذلك لما تحلّى به من صبر ، وإطاعة لله عزوجل ، وعفّة وخلق وعقل حكيم ، فإنه صبر على أذى إخوته ، وفي الحبس بسبب امرأة العزيز ، وعفّ عن السّوء والفحشاء ، وامتنع من اقتراف المنكر ، فأعقبه الله النّصر والتّأييد ، وأصبح في منصب سيّده السّابق الذي اشتراه من مصر ، العزيز زوج التي راودته ، قال مجاهد : وأسلم الملك على يدي يوسفعليه‌السلام.

وما أضاعه ربّه ورحمه وصانه ، والله تعالى يخصّ برحمته من يشاء ورحمته وسعت كل شيء ، فيعطي الملك والغنى والصّحة ونحوها من يريد من عباده. وقوله تعالى : (بِرَحْمَتِنا) أي بإحساننا ، والرّحمة : النّعمة والإحسان.

(وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) أي لا نضيع ثواب الذين يحسنون أعمالهم ، فنمنحهم في الدّنيا سعادة وعزّا ومكانة ، وفي الآخرة خلودا في الجنان.

(وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ ..) أي إنّ ثواب الآخرة للمؤمنين الأتقياء ، وهو التّنعم في الجنان خير وأعظم وأكثر من خير الدّنيا وما فيها من متاع العزّ والسّلطان ، والجاه والملك ، والمال والزّينة ونحو ذلك.

والله تعالى يخبر بهذا أن ما ادّخره لنبيّه يوسف عليه‌السلام في الدّار الآخرة أعظم وأكثر وأجلّ مما أنعم عليه من التّصرّف والنّفوذ في الدّنيا ، كقوله في حقّ سليمان عليه‌السلام : (هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ. وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) [ص ٣٨ / ٣٩ ـ ٤٠].

ومن جمع له الله السّعادتين في الدّنيا والآخرة ، كان فضل الله عليهم أكثر ،

١٠

وعطاؤه أتمّ ، لقيامهم بواجب الطّاعة ، واجتنابهم المعصية ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدتنا الآيات إلى ما يلي :

١ ـ إنّ الحوار وسيلة التّعارف والتّعرف على فضائل الإنسان ومعارفه ، وبه يزن العاقل مقادير الرّجال.

٢ ـ إن المقوّمات العالية من علم وخلق وأدب وحسن تصرّف تبوئ صاحبها المنزلة السّامية والمكانة الرّفيعة.

٣ ـ يجوز طلب الولاية وإظهار كون الشّخص مستعدّا لها ، إذا كان من أجل التّعريف للمغمور غير المعروف ، وكان الشّخص واثقا من نفسه ودينه وعلمه ، وأهلا لما يطلب.

وأما النّهي عن طلب الإمارة في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعبد الرّحمن بن سمرة فيما أخرجه الشيخان: «لا تسأل الإمارة» والنّهي عن مدح النّفس في قوله تعالى : (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) [النجم ٥٣ / ٣٢] فالمراد به في الحديث لمن لا يثق بنفسه من القيام بحقّ الولاية لضعفه وعجزه ، أو لأغراض نفسه ، والمراد بالآية تزكية النّفس حال العلم بكونها غير متزكية ، وكل من المحذورين لا ينطبق على النّبي يوسف عليه‌السلام وأمثاله الأنبياء ، لأنه يجب عليه رعاية مصالح الأمة بقدر الإمكان ، ولأن السّعي في إيصال النّفع إلى المستحقين ودفع الضّرر عنهم أمر مستحسن في العقول ، وعلم يوسف أنه لا أحد يقوم مقامه في العدل والإصلاح وتوصيل الحقوق إلى الفقراء ، فرأى أن قيامه بهذه الأمور فرض متعيّن عليه ، وقال يوسف عن نفسه: (إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) عند من لا يعرفه ، فأراد تعريف نفسه.

١١

٤ ـ يباح للرّجل الفاضل أن يعمل للرّجل الفاجر ، والسّلطان الكافر ، إذا علم أنه لا سبيل إلى إقامة الحقّ وسياسة الخلق إلا بالاستعانة به ، وكان مفوّضا في فعله لا يعارضه فيه ، فيصلح منه ما شاء. وأما إذا كان عمله بحسب مراد الفاجر وهواه ، فلا يجوز.

فإن كان المولّي ظالما فللعلماء قولان : أحدهما ـ جواز تولّي العمل له إذا عمل بالحقّ فيما تقلّده : لأن يوسف عليه‌السلام ولّي من قبل فرعون ، ولأن الاعتبار بفعله لا بفعل غيره.

الثاني : أنه لا يجوز ذلك : لما فيه من إعانة الظّالم على ظلمه ، وتزكيته ودعمه وتأييده بتقلّد أعماله. وأما فرعون يوسف فكان صالحا ، وعن مجاهد : أن الملك أسلم على يده. وإنما الطّاغي فرعون موسى ، ثم إنّ يوسف نظر في مصالح الأمة والبلاد وأملاك الملك دون أعماله ، فزالت التّبعة عنه.

٥ ـ للإنسان أن يصف نفسه بما فيه من علم وفضل إذا دعته الضرورة إليه ، كالكسب المعيشي ونحوه.

٦ ـ قوله تعالى : (وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) شهادة من الله تعالى على أن يوسف عليه‌السلام كان من المحسنين.

٧ ـ غمرت رحمة الله وفضله وإحسانه يوسف عليه‌السلام لصبره وتقواه ، وإنه سبحانه ما أضاع يوسف لصبره في الجبّ ، وفي الرّقّ ، وفي السّجن ، وعلى أذى إخوته ، وصبره عن محارم الله عما دعته إليه المرأة.

٨ ـ إن ثواب الآخرة وعطاء الله فيها أجلّ وأعظم وأكثر من عطاء الدّنيا لمن كان مؤمنا تقيّا ، لأن أجر الآخرة دائم ، وأجر الدّنيا منقطع ، وظاهر الآية : (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ ...) العموم في كلّ مؤمن متّق ، وهي تدلّ دلالة خاصة على

١٢

فضل الله على يوسف عليه‌السلام ، فإن ما سيعطيه الله له في الآخرة خير وأفضل مما أعطاه إيّاه في الدّنيا من الملك والسّلطان والمكانة والسّمو.

ودلّت هذه الآية بخصوصها على أن يوسف عليه‌السلام من الذين آمنوا وكانوا يتّقون ، وهذا تنصيص من الله عزوجل.

والخلاصة :

تضمّنت الآيات شهادتين من الله تعالى ليوسف عليه‌السلام الأولى أنه كان من المحسنين ، والثانية أنه كان من المؤمنين المتّقين. ودلّت آية أخرى وهي : (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) على أنه من المخلصين ، فصارت الشّهادات من الله تعالى ليوسف ثلاثة : كونه من المتّقين ، ومن المحسنين ، ومن المخلصين. وسبب هذه الشّهادات الصّبر على مراد الله فيه ، والطّاعة والتّقوى وإخلاص العمل وصفاء النّفس من الأحقاد والضّغائن.

الفصل العاشر من قصة يوسف

أولاد يعقوب يشترون القمح من أخيهم يوسف

ومطالبته إياهم بإحضار أخيهم

(وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٨) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٥٩) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (٦٠) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (٦١) وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٦٢))

١٣

البلاغة :

(فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) بين عرف وأنكر : طباق.

المفردات اللغوية :

(وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ) وهم أحد عشر إلا بنيامين ليمتاروا لما بلغهم أن عزيز مصر يعطي الطعام بثمنه. (فَعَرَفَهُمْ) أنهم إخوته ، والمعرفة وعرفان الشيء : التّفكّر في أثره. (وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) الإنكار : ضدّ المعرفة ، أي أنهم لم يعرفوه لبعد عهدهم به وظنّهم هلاكه. (جَهَّزَهُمْ) أو في لهم كيلهم من القمح الذي جاؤوا لطلبه من عنده ، أي جعله تاما وافيا. وجهاز السّفر : أهبته وحوائجه ، وجهاز العروس : حوائج الزّفاف. (بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) أي بنيامين لأعلم صدقكم فيما قلتم. (أُوفِي الْكَيْلَ) أتمّه من غير بخس. (الْمُنْزِلِينَ) المضيفين الضيوف ، وكان أحسن إنزالهم وضيافتهم.

(فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي) أي ميرة. (وَلا تَقْرَبُونِ) نهي أو عطف على محل : (فَلا كَيْلَ) أي تحرموا ولا تقربوا ، أي فلا تقربوني ولا تدخلوا دياري. (سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ) سنجتهد في طلبه من أبيه ، ونستميله لتحقيق هذه الرّغبة برفق. (وَإِنَّا لَفاعِلُونَ) ذلك لا نتوانى فيه. (لِفِتْيانِهِ) لغلمانه الكيالين ، جمع فتى. (بِضاعَتَهُمْ) ثمن ما أتوا به من الطعام ، وكانت دراهم فضة ، وإنما فعل ذلك توسيعا وتفضّلا عليهم وترفّعا من أن يأخذ ثمن الطّعام منهم. (فِي رِحالِهِمْ) أوعيتهم. (لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها) لعلهم يعرفون حقّ ردّها ، أو لكي يعرفوها. (إِذَا انْقَلَبُوا) انصرفوا ورجعوا إلى أهلهم ، وفتحوا أوعيتهم. (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) لعل معرفتهم ذلك تدعوهم إلى الرّجوع.

أضواء من التّاريخ :

قال ابن عباس وغيره (١) : لما أصاب النّاس القحط والشدّة ، ونزل ذلك بأرض كنعان ، بعث يعقوب عليه‌السلام ولده للميرة ، وذاع أمر يوسف عليه‌السلام في الآفاق ، للينه وقربه ورحمته ورأفته وعدله وسيرته ، وكان يوسف عليه‌السلام حين نزلت الشّدّة بالنّاس يجلس عند البيع بنفسه ، فيعطيهم من الطعام على عدد رؤوسهم ، لكلّ رأس وسقا (٢).

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٩ / ٢٢٠

(٢) الوسق : ستون صاعا ، والصّاع (٢٧٥١ غم) ، وعند الحنفيّة (٣٩٠٠ غم).

١٤

وذكر السّدّي ومحمد بن إسحاق وغيرهما من المفسرين : أن السّبب الذي من أجله أقدم إخوة يوسف بلاد مصر : أن يوسف عليه‌السلام ، لما باشر الوزارة بمصر ، ومضت السّبع السّنين المخصبة ، ثم تلتها السّبع السّنين المجدبة ، وعمّ القحط بلاد مصر بكمالها ، ووصل إلى بلاد كنعان : وهي التي فيها يعقوب عليه‌السلام وأولاده ، وحينئذ احتاط يوسف عليه‌السلام للنّاس في غلّاتهم ، وجمعها أحسن جمع ، فحصل من ذلك مبلغ عظيم ، وهدايا متعددة ، وورد عليه الناس من سائر الأقاليم والمعاملات ، يمتارون لأنفسهم وعيالهم ، فكان لا يعطي الرّجل أكثر من حمل بعير في السّنة ، وكان عليه‌السلام لا يشبع نفسه ، ولا يأكل هو والملك وجنودهما إلا أكلة واحدة في وسط النّهار ، حتى يتكفأ الناس بما في أيديهم مدّة السّبع السنين ، وكان رحمة من الله تعالى على أهل مصر (١).

وغير هذه الرّوايات هي من الإسرائيليات.

التفسير والبيان :

وجاء إخوة يوسف عليه‌السلام من أرض كنعان (فلسطين) إلى مصر ، يطلبون شراء القمح ، لأن القحط عمّ بلاد الشّام ومصر ، لما بلغهم أن عزيز مصر يعطي الناس الطعام بثمنه.

فلما دخلوا على يوسف ، وهو في منصبه الرّفيع ، عرفهم حين نظر إليهم ، لأن ملامح الكبار لا تتغيّر كثيرا ، وهم له منكرون ، أي لا يعرفونه ، لأنهم فارقوه ، وهو صغير حدث ، وباعوه للسّيّارة ، والملامح في حال الصّغر تتغيّر كثيرا في حال الكبر ، ولأنهم قدروا هلاكه ، وما دار في خلدهم أنه سيصير إلى ما صار إليه ، ولنسيانهم له بطول العهد.

وزاد في الأمر أنه ـ كما ذكر السّدّي ـ شرع يخاطبهم ، فقال لهم كالمنكر

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٢ / ٤٨٣

١٥

عليهم : ما أقدمكم بلادي؟ فقالوا : أيّها العزيز ، إنّا قدمنا للميرة ، قال : فلعلكم عيون؟ قالوا : معاذ الله ، قال : فمن أين أنتم؟ قالوا : من بلاد كنعان وأبونا يعقوب نبيّ الله ، قال : وله أولاد غيركم؟ قالوا : نعم ، كنّا اثني عشر ، فذهب أصغرنا هلك في البريّة ، وكان أحبّنا إلى أبيه وبقي شقيقه ، فاحتبسه أبوه ليتسلّى به عنه ، فأمر بإنزالهم وإكرامهم.

لكن يبعد من يوسف عليه‌السلام أن يتّهم إخوته وينسبهم إلى أنهم جواسيس وعيون ، لأنه يعرف براءتهم عن هذه التّهمة. وعلى كل حال إنه سؤال لا يقتضي صحته.

ولما جهّزهم بجهازهم ، أي لما أوفى لهم كيلهم ، وحمل أحمالهم من القمح ، وهي عشرة أحمال وزادهم حملين آخرين لأبيهم وأخيهم ، قال : ائتوني في المرة القادمة بأخ لكم من أبيكم؟ وهو بنيامين ، ألا ترون أني أتمّ لكم الكيل الذي تريدون دون بخس ، وأزيدكم حمل بعير آخر لأجل أخيكم ، وأنا خير المنزلين ، المضيفين للضيوف ، وكان أحسن ضيافتهم؟ وقصده من ذلك ترغيبهم في الرّجوع إليه ، وكان السّبب في سؤال يوسف عن حال أخيهم أنهم ذكروا أن لهم أبا شيخا كبيرا وأخا بقي في خدمة أبيه ، ولا بدّ لهما أيضا من شيء من الطعام ، فجهّز لهما أيضا بعيرين آخرين من الطعام ، فقال يوسف : فهذا يدلّ على أن حبّ أبيكم له أزيد من حبّه لكم ، فجيئوني به حتى أراه.

ثم أنذرهم بقوله : (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ ، فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي) أي إن لم تقدموا به في المرة الثّانية فليس لكم عندي ميرة ، (وَلا تَقْرَبُونِ) أي ولا تدخلون بلادي.

(قالُوا : سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ) سنجتهد في طلبه من أبيه ، ونحاول إقناعه بذلك برفق ، وإنّا لفاعلون ذلك لا محالة ، أي سنحرص على مجيئه إليك بكلّ إمكاناتنا ولا نبقي مجهودا نبذله ، لتعلم صدقنا فيما قلناه.

١٦

وقال لفتيانه أي لغلمانه ، اجعلوا بضاعتهم في رحالهم أي اجعلوا البضاعة التي اشتروا بها الطعام ، وقدموا بها للميرة معاوضة ، في أمتعتهم التي لهم من حيث لا يشعرون.

(لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها ..) لعلهم يعرفون حقّ ردّها وحقّ إكرامنا لهم بإعادتها إليهم ، لعلهم يرجعون إلينا ، بعد عودتهم إلى أهلهم ، وفتح متاعهم.

فقه الحياة أو الأحكام :

يفهم من الآيات ما يأتي :

١ ـ قد لا يعرف الأخ أخاه بسبب طول العهد والمدّة ، لا سيما إذا تبدل حال الأخ من أدنى درجات الحال إلى أعلاها ، مما يبعد عن التّصور في الذّهن احتمال معرفته.

٢ ـ تحقيق الغايات قد يستعمل من أجله التّرغيب والتّرهيب معا ، كما فعل يوسف من أجل إحضار أخيه بنيامين ، فالتّرغيب هو قوله : (أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ ، وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) ، والتّرهيب هو قوله : (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ ، فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ) لأنهم كانوا في نهاية الحاجة إلى تحصيل الطعام ، وما كان يمكنهم تحصيله إلا من عنده ، فإذا منعهم من الحضور عنده ، كان ذلك نهاية التّرهيب والتّخويف.

٣ ـ اتّفق أكثر المفسّرين على أن إخوة يوسف ما كانوا عالمين بجعل البضاعة في رحالهم.

٤ ـ السّبب الذي لأجله أمر يوسف بوضع بضاعتهم في رحالهم : هو ترغيبهم في العود إليه ، والحرص على معاملته ، حينما يعلمون أن بضاعتهم ردت إليهم ، كرما من يوسف ، وسخاء محضا.

١٧

٥ ـ استجاز يوسف إدخال الحزن على أبيه بطلب أخيه ، لأنه يجوز أن يكون الله عزوجل أمره بذلك ابتلاء ليعقوب ، ليعظم له الثّواب ، فاتّبع أمره فيه ، وهذا هو الأظهر كما قال القرطبي. وربّما كان السّبب تنبيه أبيه على حاله ، أو لتتضاعف المسرّة لأبيه برجوع ولديه عليه ، أو إيثارا لأخيه بالاجتماع معه قبل إخوته ، لميله إليه.

الفصل الحادي عشر من قصّة يوسف

مفاوضة إخوة يوسف أباهم لإرسال أخيهم بنيامين معهم في

المرة القادمة

(فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٦٣) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٦٤) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (٦٥) قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٦٦))

الإعراب :

(خَيْرٌ حافِظاً) وقرئ : حفظا : وهما منصوبان على التّمييز ، مثل قولهم : لله درّه فارسا. (ما نَبْغِي) : ما : استفهامية في موضع نصب ، لأنها مفعول (نَبْغِي) وتقديره: أي شيء نبغي. (لَتَأْتُنَّنِي بِهِ) اللام لام القسم.

١٨

(إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ) قال الزمخشري : هذا استثناء متّصل ، مفعول له أي لأجله ، والكلام المثبت الذي هو قوله : (لَتَأْتُنَّنِي بِهِ) في تأويل المنفي ، ومعناه : لا تمتنعون من الإتيان به إلا للإحاطة بكم ، أي لا تمتنعون منه لعلة من العلل إلا لعلة واحدة ، وهي أن يحاط بكم.

المفردات اللغوية :

(مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ) حكم بمنعه بعد هذا إن لم ترسل أخانا بنيامين. (نَكْتَلْ) نتمكن من اكتيال ما نحتاج إليه. (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) من أن يناله مكروه. (قالَ) يعقوب لهم (هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ) أي ما آمنكم عليه إلا كما آمنتكم على أخيه يوسف من قبل ، وقد قلتم فيه : (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) ثم فعلتم به ما فعلتم.

(فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً) فأتوكّل عليه وأفوض أمري إليه. (وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) فأرجو أن يرحمني بحفظه ، ولا يجمع عليّ مصيبتين. (ما نَبْغِي) ما : استفهامية ، أي : أيّ شيء نطلب من إكرام الملك أعظم من هذا؟ وكانوا ذكروا له إكرامه لهم. (هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا) استئناف موضح لقوله : (ما نَبْغِي).

(وَنَمِيرُ أَهْلَنا) نأتي بالميرة لهم وهي الطعام ، وهو معطوف على محذوف ، أي ردّت إلينا ، فنستظهر بها ، ونمير أهلنا بالرّجوع إلى الملك. (وَنَحْفَظُ أَخانا) من المخاوف في ذهابنا وإيابنا. (وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ) لأخينا ، أي مكيل بعير. (ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ) سهل على الملك لسخائه ، أو سهل لا عسر فيه لتوافر الغلال لديه.

(حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً) حتى تعطوني عهدا. (مِنَ اللهِ) بأن تحلفوا به. (إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ) بأن تموتوا أو تغلبوا ، فلا تطيقوا ذلك ولا تستطيعوا الإتيان به ، وهو استثناء مفرّغ من أعمّ الأحوال ، والتّقدير : لتأتنني به على كل حال إلا حال الإحاطة بكم. (فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ) أعطوه عهدهم بذلك. (قالَ : اللهُ عَلى ما نَقُولُ) من طلب الموثق وإتيانه (وَكِيلٌ) شهيد ، ورقيب مطّلع.

المناسبة :

الكلام وثيق الصّلة بما قبله ، فبعد أن ذكر الله تعالى مطالبة يوسف عليه‌السلام إخوته بإحضار أخيه بنيامين ، ذكر هنا مفاوضتهم أباهم لإنجاز المطلوب ، وإبداءه مخاوفه عليه كمخاوفه القديمة التي أظهرها عند ما تآمروا على أخذ يوسف عليه‌السلام للصّحراء بقصد الرّتع واللعب.

١٩

التفسير والبيان :

حينما رجع أولاد يعقوب إلى أبيهم قالوا حين رجوعهم إلى أبيهم : إن عزيز مصر منع عنّا الكيل في المستقبل إن لم ترسل معنا أخانا بنيامين ، فإن لم ترسله لا نكتل ، فأرسله معنا نكتل من الطعام بقدر عددنا ، وإنّا له لحافظون من كلّ مكروه وسوء في الذّهاب والإياب ، فلا تخف عليه ، فإنه سيرجع إليك.

قال يعقوب : هل أنتم صانعون به إلا كما صنعتم بأخيه من قبل ، تغيّبونه عنّي وتحولون بيني وبينه ، وقد فرّطتم في يوسف ، فكيف آمنكم على أخيه؟ (فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً) أي فإني أثق به وأتوكّل عليه وأفوض أمري إليه ، (وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) أي هو أرحم الرّاحمين بي ، وسيرحم كبري وضعفي وتعلّقي بولدي ، وأرجو الله أن يرحمني بحفظه ، وأن يردّه عليّ ، ويجمع شملي به ، إنه أرحم الرّاحمين.

وهذا دليل على موافقته على إرساله معهم ، للحاجة الشّديدة إلى الطعام ، وعدم ملاحظته وجود قرائن تدلّ على الحسد والحقد فيما بينهم وبين بنيامين ، خلافا لحال يوسف.

ولما فتح إخوة يوسف متاعهم وأوعية طعامهم ، وجدوا فيها بضاعتهم أي ثمن الطعام ، ردّت إليهم ، وهي التي كان يوسف أمر غلمانه بوضعها في رحالهم.

فلما وجدوها في رواحلهم قالوا : يا أبانا ، ماذا نريد زيادة على هذا الإكرام وإحسان الملك إلينا ، كما حدثناك ، هذه دراهمنا ردّها إلينا ، وإذا ذهبنا بأخينا نزداد كيل بعير بسبب حضوره. وهذا إذا جعلت ما استفهامية ، فإن كانت نافية كان المعنى : لا نبغي شيئا آخر ، هذه بضاعتنا ردّت إلينا ، فهي كافية لثمن الطعام في الذّهاب الثّاني ، ثم نفعل كذا وكذا من جلب الميرة وغيرها.

٢٠