التفسير المنير - ج ١٣

الدكتور وهبة الزحيلي

(كِتابٌ) أي هو كتاب. (لِتُخْرِجَ النَّاسَ) بدعائك إياهم إلى ما تضمنه. (مِنَ الظُّلُماتِ) من أنواع الضلال والكفر. (إِلَى النُّورِ) إلى الهدى والإيمان. (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) بأمره وتيسيره وتسهيله وتوفيقه. (إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) إلى طريق الغالب ، المحمود المثنى عليه من نفسه ومن عباده. وإضافة الصراط إلى الله تعالى إما لأنه مقصده أو المظهر له. والتخصيص بالوصفين المذكورين للتنبيه على أنه لا يذل سالكه ، ولا يخيب سابله.

(لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ملكا وخلقا وعبيدا. (وَيْلٌ) هلاك وعذاب. (يَسْتَحِبُّونَ) يختارون. (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) بتعويق الناس عن الإيمان ، واعتناق دين الإسلام. (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) يطلبون السبيل معوجة ، أو يطلبون لها زيغا واعوجاجا وانحرافا عن الحق ليقدحوا فيه. (أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) أي الكافرون ضلوا عن الحق وانحرفوا عنه. (بِلِسانِ) بلغة. (لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) ليفهمهم ما أتى به ، ويوضح لهم ما آمروا به ، فيفقهوه عنه بيسر وسرعة ، ثم ينقلوه لغيرهم ، فإنهم أولى الناس بالدعوة ، وأحق بالإنذار.

(فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ) فيخذله عن الإيمان. (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) بالتوفيق له. (وَهُوَ الْعَزِيزُ) في ملكه ، فلا يغلب على مشيئته. (الْحَكِيمُ) في صنعه ، فلا يهدي ولا يضل إلا لحكمة.

التفسير والبيان :

هذا كتاب أنزلناه إليك يا محمد ، وهو القرآن العظيم ، لتخرج الناس به مما هم فيه من ظلمات الكفر والضلال والغي والجهل ، إلى نور الإيمان والهدى والرشد ، بما اشتمل عليه من أصول الحكم السديد ، والدعوة إلى الحياة الكريمة والمدنية والحضارة السامقة ، كما قال تعالى : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ ، يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ) [البقرة ٢ / ٢٥٧] وقال عزوجل : (هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ ، لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) [الحديد ٥٧ / ٩].

وقد دلت الآية على أن القرآن موصوف بكونه منزلا من عند الله تعالى.

(بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) أي بتوفيقه وتيسيره ، فهو الهادي بإرسال نور الهداية إلى قلوبهم. لكن أسند الفعل (لِتُخْرِجَ) إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه الداعي والمبلّغ.

٢٠١

(إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) إلى الطريق المستقيم ، طريق الله العزيز الذي لا يغالب ، بل هو القاهر لكل ما سواه ، الحميد أي المحمود في جميع أفعاله وأقواله ، وشرعه ، وأمره ونهيه ، والصادق في خبره.

(اللهِ الَّذِي ..) أي الإله الذي له كل ما في السموات والأرض خلقا وملكا وعبيدا وتصريفا وتدبيرا. وتكرار هذه الصفة كثيرا في القرآن للتنبيه على عظمة الخالق ، ولإعمال النظر في المخلوقات ، والإفادة منها.

(وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ ..) أي هلاك وعذاب شديد يوم القيامة لمن كفر برسالتك وجحد بوحدانية الله. وهذا وعيد شديد لهم.

ثم وصفهم الله تعالى بصفات ثلاث بقوله :

١ ـ (الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ ..) أي الذين يختارون الحياة الدنيا على الآخرة ، ويقدمونها ويؤثرونها عليها ، ويعملون للدنيا ، ونسوا الآخرة وتركوها.

٢ ـ (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي ويمنعون من اتباع الرسل ، ويعوقون عن الإيمان بالله ، ويصرفون عن الإسلام كل من أراده.

٣ ـ (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) أي ويحبون أن تكون سبيل الله عوجا مائلة ، منحرفة عن الحق ، لتوافق أهواءهم وأغراضهم ، وهي في واقعها مستقيمة في نفسها لا تقبل الانحراف عن الحق. والسبيل : تذكر وتؤنث.

قال في الكشاف : الأصل في الكلام أن يقال : ويبغون لها عوجا ، فحذف الجار وأوصل الفعل.

ومن أمثلة ذلك في العصر الحديث الانصراف عن تطبيق الحدود الشرعية والقصاص ، بحجة قسوتها ، وعدم ملاءمتها لروح العصر ، ومنافاتها للإنسانية : (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) [الكهف ١٨ / ٥]. وقد

٢٠٢

أدى هذا الاتجاه إلى كثرة الجرائم ، حتى إنه في كل ثانية يقع في بريطانيا مثلا خمس عشرة ألف جريمة ، وأما في أمريكا فأكثر من ذلك.

(أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) أولئك الكفار الموصوفون بتلك الصفات السابقة في ضلال بعيد كل البعد عن الحق ، وفي جهل سحيق ، لا يرجى لهم ـ والحالة هذه ـ صلاح ولا فلاح.

وبعد أن بين تعالى مقاصد القرآن وأثره في الهداية ، بيّن أنه سبيل ميسر للاهتداء به ، لكونه بلغة قوم الرسول ، فقال : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ ..) هذا من لطفه تعالى أنه يرسل إليهم رسلا منهم بلغاتهم ، ليفهموا عنهم ما يريدون ، وما أرسلوا به إليهم ، كما قال تعالى : (وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا : لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ) [فصلت ٤١ / ٤٤] وأخرج الإمام أحمد عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لم يبعث الله عزوجل نبيا إلا بلغة قومه».

(فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ ..) أي أنه بعد البيان وإقامة الحجة على الناس يكون الناس فريقين : فريق يضله الله عن وجه الهدى ، لإيغاله في الكفر واجتراحه السيئات والآثام ، وعناده ، وفريق يهديه الله إلى الحق ، ويشرح صدره للإسلام ، فيتبع سبيل الرشاد. وهذا كلام مستأنف وليس بمعطوف على (لِيُبَيِّنَ) لأن الإرسال إنما وقع للتبيين ، لا للإضلال.

(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) والله سبحانه القوي الذي لا يغلب ، فما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ، والحكيم في صنعه وأفعاله ، فيضل من يستحق الإضلال ، ويهدي من هو أهل لذلك ، فلا يفعل شيئا إلا على وفق الحكمة والعلم.

فقه الحياة أو الأحكام :

يفهم من الآيات ما يأتي :

١ ـ قوله تعالى : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ) دليل على أن القرآن منزل من عند الله

٢٠٣

تعالى ، وأن مهمته إخراج الناس من ظلمات الكفر والضلالة والجهل إلى نور الإيمان والهدى والعلم ، وذلك بتوفيق الله إياهم ولطفه بهم. وفيه إنعام على الرسول بتفويضه هذا المنصب العظيم ، وعلى الناس لإرساله لهم من خلصهم من ظلمات الكفر ، وأرشدهم إلى نور الإيمان.

٢ ـ قال المعتزلة : في هذه الآية دلالة على إبطال القول بالجبر من جهات ثلاث :

أحدها ـ إخراج الكفر من الكافر بالكتاب.

وثانيها ـ أنه أضاف الإخراج من الظلمات إلى النور إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وثالثها ـ الإخراج من الكفر بالكتاب بتلاوته عليهم ليتدبروه وينظروا فيه ، فيتوصلوا إلى كونه تعالى عالما قادرا حكيما ، وإلى أن القرآن معجزة صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيقبلوا منه كل ما أداه إليهم من الشرائع ، باختيارهم.

قال أهل السنة : إن المؤثر الأول في صدور الفعل من العبد وترجيح جانب الوجود على جانب العدم هو الله تعالى.

وفعل العبد مخلوق لله تعالى ؛ لقوله سبحانه : (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) أي بمشيئته وتخليقه.

٣ ـ طرق الكفر والجهل والبدعة كثيرة ، وطريق الخير واحد ؛ لأنه تعالى قال : (لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) فعبر عن الجهل والكفر بالظلمات وهو جمع ، وعبر عن الإيمان والهداية بالنور ، وهو لفظ مفرد.

٤ ـ قدم ذكر العزيز على الحميد ؛ لأن الواجب أولا في العلم بالله : العلم بكونه تعالى قادرا ، ثم العلم بكونه عالما ، ثم العلم بكونه غنيا عن الحاجات ، والعزيز : هو القادر ، والحميد : هو العالم الغني.

٢٠٤

٥ ـ لله ما في السموات وما في الأرض ملكا وعبيدا واختراعا وخلقا ، وهذا يدل على أنه تعالى غير مختص بجهة العلو البتة ؛ لأن كل ما سماك وعلاك فهو سماء ، وبما أن كل ما في السموات فهو ملكه ، فهو منزه عن الحصول في جهة فوقية. وأما قوله تعالى : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ) [الملك ٦٧ / ١٦] فالمراد به سلطانه وقدرته.

وتدل الآية أيضا على الحصر ، أي كل ما في السموات والأرض له ، لا لغيره ، وهو يدل على أنه لا مالك إلا الله ، ولا حاكم إلا الله عزوجل.

ولهذا عطف عليه وعيد الكفار بقوله : (وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ) لأنهم تركوا عبادة الله تعالى الذي هو مالك السموات والأرض وما فيهما ، إلى عبادة ما لا يملك ضرا ولا نفعا ، ويخلق ولا يخلق ، ولا إدراك لها ولا فعل.

٦ ـ استحقاق الكافرين الهلاك والعذاب في نار جهنم لصفات ثلاث : هي تفضيلهم أو إيثارهم الدنيا على الآخرة ، ومنعهم الناس من الوصول إلى سبيل الله ودينه ، وهو المنهج القويم والطريق المستقيم ، وطلبهم لسبيل الله زيغا وميلا واعوجاجا ، لموافقة أهوائهم ، وقضاء حاجاتهم وأغراضهم ، فهم في ضلال بعيد عن الحق.

٧ ـ من فضل الله وتيسيره الاهتداء بهدايته إرسال كل رسول إلى قومه بلغتهم ، ليبين لهم أمر دينهم ، وليفهموا منه شرائع الله ، ويفقهوها عنه بيسر وسرعة ، ثم ينقلوها لغيرهم.

وإرسال جميع الرسل بلغة قومهم يقتضي تقدم حصول اللغات على إرسال الرسل ، وهو يدل على أن اللغات حاصلة بالاصطلاح ، وليست توقيفية ، كما ذكر الرازي.

٨ ـ قوله : (فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ ، وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) رد على القدرية في

٢٠٥

نفوذ المشيئة ، وإخبار بأن الضلال والهداية من الله تعالى ، فهو تعالى يضل من يشاء إضلاله ، ويهدي من يشاء هدايته حسبما يعلم من استعداد العبد واختياره ، وليس على ذلك الرسول غير التبليغ والتبيين ، ولم يكلف أن يهدي ، بل الهدى بيد الله على ما سبق قضاؤه.

وقال الزمخشري على طريقة الاعتزال : والمراد بالإضلال : التخلية ومنع الألطاف ، وبالهداية : التوفيق واللطف ، وكان ذلك كناية عن الكفر والإيمان (١).

ويؤكد الرأي الأول لأهل السنة ما روي : أن أبا بكر وعمر أقبلا في جماعة من الناس ، وقد ارتفعت أصواتهما ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما هذا؟» فقال بعضهم : يا رسول الله ، يقول أبو بكر : الحسنات من الله ، والسيئات من أنفسنا ، ويقول عمر : كلاهما من الله ، وتبع بعضهم أبا بكر ، وبعضهم عمر ، فتعرف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما قاله أبو بكر ، وأعرض عنه حتى عرف ذلك في وجهه ، ثم أقبل على عمر ، فتعرف ما قاله ، وعرف البشر في وجهه. ثم قال : «أقضي بينكما كما قضى به إسرافيل بين جبريل وميكائيل ، قال جبريل مثل مقالتك يا عمر ، وقال ميكائيل مثل مقالتك يا أبا بكر ، فقضاء إسرافيل : أن القدر كله خيره وشره من الله تعالى ، وهذا قضائي بينكما» (٢).

ثم ذكر الرازي تأويلات ثلاثة للآية ، بعد أن قال : لا يمكن حمل الآية على أنه تعالى يخلق الكفر في العبد (٣) :

الأول ـ أن المراد بالإضلال : هو الحكم بكونه كافرا ضالا ، كما يقال : فلان يكفّر فلانا ويضلله ، أي يحكم بكونه كافرا ضالا.

__________________

(١) الكشاف : ٢ / ١٧١

(٢) تفسير الرازي : ١٩ / ٨٠

(٣) المرجع السابق ٨١

٢٠٦

والثاني ـ أن يكون الإضلال : عبارة عن الذهاب بهم عن طريق الجنة إلى النار ، والهداية : عبارة عن إرشادهم إلى طريق الجنة.

والثالث ـ أنه تعالى لما ترك الضال على إضلاله ، ولم يتعرض له ، صار كأنه أضله ، والمهتدي لما أعانه بالألطاف ، صار كأنه هو الذي هداه.

والخلاصة : إنه لا إجبار على الإيمان والكفر ، ولا يخلق العبد كافرا أو لا يخلق الكفر في العبد ، وإنما المراد بالإضلال والهداية بيان طريقي الشر والخير ، كما قال تعالى : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) [البلد ٩٠ / ١٠].

مهمة الرسول موسى عليه‌السلام ونصائحه لقومه

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٥) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٦) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (٧) وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (٨))

٢٠٧

الإعراب :

(أَنْ أَخْرِجْ أَنْ) : إما أن يكون لها موضع من الإعراب ، وهو النصب ، وتقديره : بأن أخرج قومك ، فحذف حرف الجر ، فاتصل الفعل به ، وإما ألا يكون لها موضع من الإعراب ، وتكون مفسّرة بمعنى أي ، مثل (أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا) [ص ٣٨ / ٦].

(وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ) أتى بالواو هنا ، ليدل على أن الثاني غير الأول ، وحذفت في غير هذا الموضع في سورة البقرة ، ليدل على البدل ، وأن الثاني بعض الأول ، أي أنه في سورة البقرة تفسير لما سبق ، وهنا غير تفسير ، وإنما التذبيح نوع آخر من العذاب غير الأول.

(إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) حذفت الفاء من جواب الشرط للشهرة.

البلاغة :

(شَكَرْتُمْ) و (كَفَرْتُمْ) بينهما طباق.

(صَبَّارٍ شَكُورٍ) صيغة مبالغة فيهما.

شديد .. حميد فيهما سجع.

المفردات اللغوية :

(بِآياتِنا) الجمهور على أنها الآيات التسع التي أجراها الله على يد موسى عليه‌السلام ، يعني اليد والعصا وسائر معجزاته. وقيل : هي الجراد والقمل والضفادع ونحوها. (أَنْ أَخْرِجْ) أي بأن أخرج ، أو بمعنى أي كأن في الإرسال معنى القول. (قَوْمَكَ) بني إسرائيل. (مِنَ الظُّلُماتِ) الكفر والجهالات. (إِلَى النُّورِ) الإيمان بالله وتوحيده وجميع ما أمروا به (وَذَكِّرْهُمْ) عظهم ، (بِأَيَّامِ اللهِ) وقائعه التي وقعت على الأمم السابقة ، وأيام العرب : حروبها. وقيل : بنعمائه وبلائه. (صَبَّارٍ) كثير الصبر على البلاء والطاعة. (شَكُورٍ) أي كثير الشكر للنعم.

(وَإِذْ قالَ) واذكر حين قال موسى. (يَسُومُونَكُمْ) يذيقونكم العذاب السيء الشديد. (وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ) المولودين. (وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) يبقونهم أحياء للذل والعار ؛ لقول بعض الكهنة : إن مولودا يولد في بني إسرائيل يكون سبب ذهاب ملك فرعون. (وَفِي ذلِكُمْ) الإنجاء أو العذاب. (بَلاءٌ) إنعام أو ابتلاء واختبار.

(وَإِذْ تَأَذَّنَ) واذكر حين أعلم وآذن. (لَئِنْ شَكَرْتُمْ) نعمتي بالتوحيد والطاعة. (وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ) جحدتم النعمة بالكفر والمعصية ، لأعذبنكم ، دل عليه (إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ).

(لَغَنِيٌ) عن خلقه. (حَمِيدٌ) مستحق للحمد في ذاته ، محمود في صنعه بهم ، تحمده

٢٠٨

الملائكة وتنطق بنعمه المخلوقات ، فما ضررتم بالكفران إلا أنفسكم ، حيث حرمتموها مزيد الإنعام ، وعرضتموها للعذاب الشديد.

المناسبة :

بعد أن بيّن الله تعالى أنه أرسل محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الناس ليخرجهم من الظلمات إلى النور ، وأن إرساله نعمة له ولقومه ، أتبع ذلك بذكر قصة موسى عليه‌السلام ، ثم بقصص أنبياء آخرين مع أقوامهم ، تنبيها على أن المقصود من بعثة الرسل واحد : وهو إخراج الناس من الظلمات إلى النور ، وتصبيرا للرسول على أذى قومه ، وإرشادا له إلى كيفية معاملتهم ومكالمتهم.

التفسير والبيان :

كما أرسلناك يا محمد وأنزلنا عليك الكتاب لتخرج الناس كلهم من الظلمات إلى النور ، كذلك أرسلنا موسى إلى بني إسرائيل بالآيات التسع ، وأمرناه قائلين له : أخرج قومك من الظلمات إلى النور ، أي أدعهم إلى الخير ، ليخرجوا من ظلمات ما كانوا فيه من الجهل والضلال ، إلى نور الهدى وبصيرة الإيمان.

وعظهم بأيام الله ، أي بوقائعه التي مرت على أمم الأنبياء السابقين ، وكيف نجا المؤمنون ، وهلك الكافرون!!

أو ذكّرهم بنعم الله عليهم في إخراجهم من أسر فرعون وقهره ، وظلمه وغشمه ، وإنجائه إياهم من عدوهم ، وفلقه لهم البحر ، وتظليله إياهم الغمام ، وإنزاله عليهم المن والسلوى ، وغير ذلك من النعم.

روى الإمام أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم حديثا مرفوعا عن ابن عباس عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله تعالى : (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) قال : بنعم الله تعالى.

وأيام الله في عهد موسى : إما محنة وبلاء : وهي الأيام التي كان فيها

٢٠٩

بنو إسرائيل تحت قهر فرعون واستعباده ، وإما نعمة كإنجائهم من عدوهم ، وفلق البحر لهم ، وإنزال المن والسلوى عليهم.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ ..) أي إن في ذلك التذكير لدلائل على وحدانية الله وقدرته ، وإن فيما صنعنا ببني إسرائيل حين أنقذناهم من بطش فرعون ، وأنجيناهم مما كانوا فيه من العذاب المهين لعبرة ، لكل كثير الصبر على الطاعة والبلاء أو الضراء ، شكور في حال النعمة والرفاه والسرور. قال قتادة : نعم العبد عبد إذا ابتلي صبر ، وإذا أعطي شكر. وجاء في صحيح البخاري عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن أمر المؤمن كله عجب ، لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا له ، إن أصابته ضرّاء صبر ، فكان خيرا له ، وإن أصابته سرّاء ، شكر ، فكان خيرا له».

فعلى المسلم أن يكون صابرا شكورا ، يصبر عند البلاء والمحنة ، ويشكر عند الرخاء والنعمة.

(وَإِذْ قالَ مُوسى ...) واذكر حين قال موسى لقومه : يا قوم ، تذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون ، وما كانوا يذيقونكم من العذاب والإذلال ، ويكلفونكم من الأعمال ما لا تطيقون ، وكانوا يذبحون أبناءكم المولودين الصغار ، خوفا من ظهور ولد يكون سببا في تدمير ملك فرعون ، كما فسرت الرؤيا لفرعون مصر ، وكانوا يتركون الإناث أحياء ذليلات مستضعفات ، وذلك من أعظم البلاء ، فأنقذكم الله من عذابهم ، وهذه نعمة عظيمة.

(وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) أي وفيما ذكرت لكم اختبار عظيم من ربكم ، سواء في حال النقمة ، أو في حال النعمة ، ليعرف الإنسان أيشكر أم يكفر؟! كما قال تعالى : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ، وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) الأنبياء ٢١ / ٣٥] وقال سبحانه : (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ ، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الأعراف ٧ / ١٦٨].

٢١٠

(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ ..) واذكروا يا بني إسرائيل حين آذنكم ربكم وأعلمكم بوعده لكم ، وهو قوله : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) أي لئن شكرتم نعمتي عليكم لأزيدنكم منها.

أخرج البخاري عن أنس حديثا فيه : «ومن ألهم الشكر لم يحرم الزيادة».

ويحتمل أن يكون المعنى : وإذ أقسم ربكم وآلى بعزته وجلاله وكبريائه ، كقوله تعالى : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) [الأعراف ٧ / ١٦٧].

(وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ ..) أي ولئن جحدتم النعم وسترتموها ، فلم تؤدوا حقها من الشكر. (إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) أي إن عقابي أليم وقعة ، شديد تأثيره وألمه ، في الدنيا بزوال تلك النعم ، وسلبها عنهم ، وفي الآخرة بالعقاب على كفرانهم ، والمراد بالكفر هما : الكفران. جاء في الحديث الثابت الذي رواه الحاكم عن ثوبان : «إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه».

(وَقالَ مُوسى ..) أي وأعلن موسى مبدأ أساسيا في الدين ، حينما لا حظ منهم أمارات الكفر والعناد ، وهو أن منافع الشكر ومضار الكفران لا تعود إلا إلى الإنسان ، أما الله فهو غني عن عباده ، فقال : إن تجحدوا نعمة الله عليكم أنتم وجميع من في الأرض من الثقلين : الإنس والجن ، فإن الله غني عن شكر عباده. وهو المحمود ، وإن كفر به من كفر ، كما قال تعالى: (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ) [الزمر ٣٩ / ٧] وقال تعالى : (فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ ، وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) [التغابن ٦٤ / ٦] وقال سبحانه : (وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) [الزمر ٣٩ / ٧].

جاء في صحيح مسلم عن أبي ذر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما يرويه عن ربه عزوجل ـ أنه قال : «يا عبادي ، لو أن أولكم وآخركم ، وإنسكم وجنكم ، كانوا على

٢١١

أتقى قلب رجل واحد منكم ، ما زاد ذلك في ملكي شيئا ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم ، كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ، ما نقص ذلك في ملكي شيئا ، يا عبادي ، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم ، قاموا في صعيد واحد ، فسألوني ، فأعطيت كل إنسان مسألته ، ما نقص ذلك من ملكي شيئا ، إلا كما ينقص المخيط إذا دخل البحر».

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يلي :

١ ـ إن المقصود من بعثة الأنبياء واحد ، وهو أن يسعوا في إخراج الناس من ظلمات الكفر والضلالات إلى أنوار الإيمان والهدايات.

٢ ـ على الناس الاعتبار والاتعاظ بأيام الله تعالى ، أي الوقائع العظيمة التي وقعت فيها ، وتذكر نعم الله عليهم.

وذلك جمع بين الترغيب والترهيب والوعد والوعيد ، فالترغيب والوعد : أن يذكرهم النبي موسى أو غيره ما أنعم الله عليهم وعلى من قبلهم ممن آمن بالرسل ، في سائر ما سلف من الأيام. والترهيب والوعيد : أن يذكرهم بأس الله وعذابه وانتقامه ممن كذب الرسل ، ممن سلف من الأمم فيما سلف من الأيام ، مثل ما نزل بعاد وثمود وغيرهم من العذاب ، ليرغبوا في الوعد فيصدقوا ، ويحذروا من الوعيد فيتركوا التكذيب.

٣ ـ إن في ذلك التذكير والتنبيه دلائل لمن كان صبارا شكورا. ففي حال المحنة والبلية يصبر ، وفي حال المنحة والعطية يشكر ، وهذا تنبيه على أن المؤمن يجب ألا يخلو زمانه عن أحد هذين الأمرين : الصبر أو الشكر. روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال فيما رواه البيهقي عن أنس ، وهو ضعيف: «الإيمان نصفان :

٢١٢

فنصف في الصبر ، ونصف في الشكر» ثم تلا هذه الآية : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ).

٤ ـ لقد تعرض بنو إسرائيل في زمن فرعون للحالتين : المحنة والنعمة ، ولكنهم لم يقدروا النعمة ولم يشكروها ، ولم يصبروا عند المحنة ، وذلك ملحوظ من نصح موسى عليه‌السلام لهم حينما رأى أمارات الكفر والعناد فيهم.

٥ ـ إن شكر النعمة سبب لزيادتها ، وكفرانها سبب لزوالها ، فالآية نص واضح في أن الشكر سبب المزيد ، وأن جحود النعمة سبب النقص والزوال ، فمن اشتغل بشكر نعم الله ، زاده الله من نعمه ، ومن كفر بنعمة الله فهو جاهل ، والجهل بالله سبب لأعظم أنواع العقاب والعذاب ، فالمراد بقوله : (وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ) الكفران ، لا الكفر.

والشكر : هو عبارة عن الاعتراف بنعمة المنعم ، مع تعظيمه وتوطين النفس على هذه الطريقة.

والخلاصة : الاشتغال بكفران النعم يوجب العذاب الشديد ، وحصول الآفات في الدنيا والآخرة ، والاشتغال بشكر النعمة يستوجب زيادتها.

٦ ـ إن منافع الشكر ومضار الكفران لا تعود الا إلى صاحب الشكر وصاحب الكفران. أما المعبود المشكور فإنه متعال عن أن ينتفع بالشكر أو يستضر بالكفران.

والمراد من قول موسى : (إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ ..) بيان أنه تعالى إنما أمر بهذه الطاعات ، لمنافع عائدة إلى العابد ، لا لمنافع عائدة إلى المعبود ، بدليل قوله : (فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) أي لا يلحقه بذلك نقص ، بل هو الغني ، وهو المحمود في جميع الأحوال.

٢١٣

بعض أخبار الرسل السابقين مع أممهم

(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٩) قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٠) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (١٢))

الإعراب :

(وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ ما) : استفهامية في موضع رفع مبتدأ ، وخبره (لَنا) وأن في (أَلَّا) في موضع نصب على تقدير حذف حرف الجر ، تقديره : وما لنا في ألا نتوكل على الله ، وهو في موضع نصب على الحال ، والتقدير : أيّ شيء ثبت لنا غير متوكلين.

٢١٤

البلاغة :

(فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) جناس اشتقاق.

المفردات اللغوية :

(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا) استفهام تقرير ، وهذا من كلام موسى عليه‌السلام ، أو كلام مستأنف أو مبتدأ من الله. (نَبَؤُا) خبر. (وَثَمُودَ) قوم صالح. (لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ) جملة اعتراضية ، والمعنى : أنهم لكثرتهم لا يعلم عددهم إلا الله ، لذا قال ابن مسعود رضي‌الله‌عنه : كذب النسابون. (بِالْبَيِّناتِ) الحجج الواضحة على صدقهم. (فَرَدُّوا) أي الأمم. (أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ) أي فعضوها غيظا مما جاءت به الرسل عليهم‌السلام ، كقوله تعالى : (عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ). (بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ) أي في زعمكم. (مُرِيبٍ) موقع في الريبة ، أي الاضطراب والقلق (أَفِي اللهِ شَكٌ) استفهام إنكاري ، أي لا شك في توحيده ، للدلائل الظاهرة عليه. (فاطِرِ) خالق ومبدع على أكمل نظام. (يَدْعُوكُمْ) إلى طاعته. (مِنْ ذُنُوبِكُمْ مِنْ) : صلة زائدة ، أو تبعيضية ، والمراد على الأول : أن الإيمان أو الإسلام يغفر به ما قبله ، وعلى الثاني يكون القصد هو إخراج حقوق العباد.

(وَيُؤَخِّرَكُمْ) بلا عذاب (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أجل الموت. (قالُوا : إِنْ) أي ما. (عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا) من الأصنام. (بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي برهان أو حجة ظاهرة قوية على صدقكم. (إِنْ نَحْنُ) أي ما نحن. (يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ) بالنبوة. (وَما كانَ لَنا) وما ينبغي. (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي بأمره ؛ لأنا عبيد مربوبون لله تعالى ، فليس في قدرتنا الإتيان بالآيات. وفيه دليل على أن النبوة عطائية ، وأن ترجيح بعض الجائزات على بعض بمشيئة الله تعالى. (فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) يثقوا به ، في الصبر على معاندتكم ومعاداتكم ، عمموا الأمر للإشعار بما يوجب التوكل ، وقصدوا به أنفسهم أولا.

(وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ) أي لا مانع لنا من ذلك ، ولا عذر لنا في ألا نتوكل عليه. (وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا) التي نعرفه بها ونعلم أن الأمور كلها بيده. (وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا) على أذاكم ، وهو جواب قسم محذوف ، أكدوا به توكلهم وعدم مبالاتهم بما يجري من الكفار عليهم. (فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) فليثبت المتوكلون على ما استحدثوه من توكلهم الناشئ عن إيمانهم.

المناسبة :

هذا تذكير بأيام الله بانتقامه من الأمم المكذبة بالرسل ، بعد تذكير موسى لقومه بما أنعم الله عليهم من نعم ، ودفع عنهم من نقم ، وبما وعد به تعالى

٢١٥

الشاكرين بالزيادة ، والجاحدين بالعذاب ، وبأن الكفران لا يضرّ إلا أهله.

ويحتمل أن يكون المذكور هنا من تتمة كلام موسى وخطابا منه لقومه ، ليخوفهم بمثل هلاك من تقدم ، وهذا رأي ابن جرير ، ويحتمل أن يكون ذلك خطابا جديدا مستأنفا من الله لقوم موسى وغيرهم ، لتذكيرهم أمر القرون الأولى. والمقصود إنما هو العبرة بأحوال المتقدمين ، وهذا حاصل على التقديرين.

إلا أن الأكثرين ذهبوا إلى أنه ابتداء مخاطبة لقوم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا قول الرازي ، وقال ابن كثير : والظاهر أنه خبر مستأنف من الله تعالى لهذه الأمة ، فإنه قد قيل : إن قصة عاد وثمود ليست في التوراة ، فلو كان هذا من كلام موسى لقومه ، وقصصه عليهم ، لا شك أن تكون هاتان القصتان في التوراة (١).

التفسير والبيان :

ألم يأتكم خبر أقوام من قبلكم : وهم قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم من الأمم المكذبة للرسل ، مما لا يحصي عددهم إلا الله عزوجل. وضمير الخطاب في (يَأْتِكُمْ) لأمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وضمائر : جاءتهم رسلهم ، فردوا أيديهم في أفواههم للكفار.

جاءت هؤلاء رسلهم بالمعجزات والحجج والدلائل الواضحة الباهرة القاطعة ، التي تثبت صدقهم ودعواهم الرسالة عن الله ، لإخراجهم من ظلمات الكفر والجهالة إلى نور الإيمان والهداية.

(فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ) أي إلا أن هؤلاء القوم عضوا أناملهم من شدة الغيظ ، لما جاءهم به الرسل ، أي اغتاظوا منهم وعادوهم ونفروا منهم ، كما فعل العرب مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدليل قوله سبحانه : (عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ ،

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٩ / ٨٨ ، تفسير ابن كثير : ٢ / ٥٢٤

٢١٦

قُلْ : مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ ، إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) [آل عمران ٣ / ١١٩]. والمراد أنهم كذبوا واستهزءوا ولم يؤمنوا. فهو ـ كما قال أبو عبيدة والأخفش ـ مثل.

(وَقالُوا : إِنَّا كَفَرْنا ..) أي وقالوا للرسل : إنا كفرنا بما أرسلتم به من الآيات ، أي كفرنا بدلالتها على صدق رسالتكم.

وإنا لفي شك موقع في الريبة والقلق والاضطراب مما تدعوننا إليه من الإيمان بالله وحده ، وترك ما سواه.

وتساءل الرازي بقوله : فإن قيل : كيف تنازلوا إلى الشك في صحة قولهم بعد تصريحهم بالكفر برسالتهم؟ ثم أجاب بأنهم أرادوا أنهم كافرون في الواقع وبنحو جازم متيقن بدعوتهم ، فإن لم نكن جازمين فلا أقل من أن نكون شاكين مرتابين في صحة نبوتكم ، وعلى التقديرين فلا سبيل إلى الاعتراف بنبوتكم.

(قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : أفي وجود الله شك؟! فإن الفطرة تقرّ بوجوده ، ومجبولة على الإقرار به. وهل في تفرده بالألوهية ووجوب عبادته شك وهو الخالق لجميع الموجودات ، ولا يستحق العبادة إلا هو وحده لا شريك له؟! فإن غالب الأمم كانت مقرة بالصانع ، ولكن تعبد معه غيره من الوسائط التي يظنون أنها تقربهم من الله زلفى.

وأما دليل الفطرة فثابت كما أخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله فيما رواه ابن عدي والطبراني والبيهقي عن الأسود بن سريع : «كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه ، أو يمجّسانه».

وأما دليل الخلق فهو أمر حسي مشاهد ، وهو ما نبّه إليه بقوله مباشرة : (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي كيف تشكون في الله ، وهو خالق السموات والأرض ومبدعهما على غير مثال سبق ، وعلى هذا النظام المحكم البديع؟!

وهو تعالى عدا كونه خالقا وهو دليل وجوده ، هو كامل الرحمة لقوله :

٢١٧

(يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) أي يدعوكم إلى الإيمان الكامل به ، من أجل أن يغفر لكم في الدار الآخرة ذنوبكم ـ على أن من صلة زائدة ـ أو بعض ذنوبكم ـ على أن من تبعيضية ـ فهو يغفر الذنوب المتعلقة به ، لا الذنوب التي لها صلة بحقوق العباد. وهذا هو الغرض الأول من الدعوة إلى الإيمان.

ويلاحظ أنه تعالى في كل موضع ذكر فيه مغفرة ذنوب الكفار ، جاء بلفظ (من) وفي كل موضع ذكر فيه مغفرة ذنوب المؤمنين ، جاء بغير لفظ (من). مثال الحالة الأولى : قوله تعالى : (وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ ، يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) [نوح ٧١ / ٣ ـ ٤] وقوله سبحانه : (يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ ، يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) [الأحقاف ٤٦ / ٣١] لأنه يدعوهم إلى الإيمان الذي هو أصل الدين.

ومثال الحالة الثانية : قوله عزوجل : (قُلْ : إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ ، فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ ، وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) [آل عمران ٣ / ٣١] وقوله عزت أسماؤه : (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ، يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) [الصف ٦١ / ١١ ـ ١٢] لأنه بعد توافر الإيمان لا تكون المغفرة إلا إلى المعاصي.

(وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) هذا هو الغرض الثاني من الدعوة إلى الإيمان ، وهو الإمهال والتأخير إلى وقت محدد معين في علم الله تعالى ، وهو منتهى العمر ، إن حدث الإيمان ، وإلا عاجلكم الهلاك والعذاب بسبب الكفر.

فالإيمان يتحقق به رحمتان أو نعمتان وهما مغفرة الذنوب والإمهال إلى نهاية الأعمار.

ثم ذكر الله تعالى ردّ تلك الأمم على رسلها من نواح ثلاث هي :

١ ـ (قالُوا : إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) أي كيف نتبعكم بمجرد قولكم ، ولما نر منكم معجزة ، فما أنتم إلا مثلنا في البشرية ، ولا فضل لكم علينا ، فلم تخصصون بالنبوة دوننا ، ولو شاء الله أن يبعث إلى البشر رسلا ، لبعث من جنس أفضل.

٢١٨

٢ ـ (تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا) أي وأنتم تريدون أن نترك ما وجدنا عليه آباءنا ، بهذه الدعوى التي لا دليل على صحتها.

٣ ـ (فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي فأتونا بأمر خارق نقترحه عليكم ، أو بحجة ظاهرة تدلّ على صحة ادعائكم النبوة ، فنحن لا نؤمن إلا بالحسيّات ، أما خلق السموات والأرض وما فيهما من عجائب ، فلا نعقلهما ، ولا يصلح دليلا على صحة ما تقولون.

ثم ذكر الله ما ردّ به الأنبياء على شبهاتهم الثلاث ، وهو المصادقة والتسليم للشبهتين الأولى والثانية ، وإسناد الأمر إلى الله في الثالثة ، فقال : (قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ ..) أي قالت الرسل للأمم : ما نحن إلا بشر مثلكم كما ذكرتم ، نأكل ونشرب وننام ونمشي في الأسواق ونبحث عن الرزق ، ولكن الله سبحانه يتفضل على من يشاء من عباده بالرسالة والنبوة : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [الأنعام ٦ / ١٢٤] وقد منّ الله علينا بالرسالة.

وأما تقليدكم الآباء لمجرد كونهم آباء فهذا شيء لا يقبله العقل.

وأما طلبكم الحجة والبرهان على صدق رسالتنا ، والإتيان بسلطان على وفق ما سألتم ، بالرغم من المعجزات التي ظهرت لنا ، فأمره إلى الله ، ولا نتمكن من الإتيان بسلطان إلا بمشيئة الله وإرادته ، ولا نقدر عليه.

(وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي على جميع المؤمنين أن يتكلوا على الله في جميع أمورهم ، لدفع شرّ عدوهم ، والصبر على معاداتهم.

ثم أكدوا اعتمادهم على الله فقالوا : (وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ ..) أي وكيف لا نتوكل على الله الذي هدانا إلى سبيل المعرفة ، وأرشدنا إلى طريق النجاة؟! وما يمنعنا من التوكل عليه ، وقد هدانا لأقوم الطرق وأوضحها وأبينها.

٢١٩

(وَلَنَصْبِرَنَّ ..) أي ولنصبرن على إيذائكم لنا بالكلام السيء والأفعال السخيفة.

ثم مدحوا التوكل فقالوا : (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) أي فليستمر وليثبت المتوكلون من المؤمنين على توكلهم على الله ، وليثقوا به ، وليتحملوا كل أذى في سبيله ، ولا يبالوا بشيء صعب مهما كان.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ على الناس الاعتبار بأحوال المتقدمين الذين كذبوا رسلهم ، وسخروا منهم ، واستهزءوا بهم ، فكان عاقبتهم الدمار والهلاك.

٢ ـ كانت مواقف الكفار من أنبيائهم على مراتب ثلاث :

المرتبة الأولى ـ أنهم سكتوا عن قبول قول الأنبياء عليهم‌السلام ، وحاولوا إسكات الأنبياء عن تلك الدعوى.

والمرتبة الثانية ـ أنهم صرحوا بكونهم كافرين بتلك البعثة.

والمرتبة الثالثة ـ أنهم أخيرا وعلى الأقل صاروا شاكين مرتابين في صحة النبوة.

وكل ذلك دليل منهم على عدم الاعتراف بالنبوة.

٣ ـ أقام الأنبياء الأدلة على وجود الله ووحدانيته بأن الفطرة السليمة شاهدة على ذلك ، وبأن خلق السموات والأرض على غير مثال سبق الدال على معنى الحدوث والإبداع والتسخير للمخلوقات دليل قاطع على وجود الخالق وألوهيته وتفرده بوجوب العبادة له ، فلا يبقى شك لدى عاقل بوحدانية الله تعالى ، بعد

٢٢٠