التفسير المنير - ج ١٣

الدكتور وهبة الزحيلي

وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال : قالت قريش حين أنزل : (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) : ما نراك يا محمد تملك من شيء ، لقد فرغ من الأمر ، فأنزل الله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ)(١).

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى عذاب الكفار في الدّنيا والآخرة ، أتبعه بذكر ثواب المتّقين وما أعدّه للمؤمنين من جنّات النّعيم ، وذلك هو شأن القرآن الكريم ، إذا وصف النّار وعذابها ، ذكر الجنّة ونعيمها ، مثل المذكور في سورة الفرقان : (بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ ، وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً. إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ ، سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً. وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ ، دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً. لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً ، وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً. قُلْ : أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ، كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً. لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ ، كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً) [١١ ـ ١٦].

ثم ذكر تعالى فرح مؤمني أهل الكتاب بتوافق القرآن مع المنزل إليهم من ربّهم ، وإنكار فئة آخرين لذلك.

ثم أورد الله تعالى شبهات المشركين لإبطال نبوّة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كالطّعن بتعدّد الزّوجات ، وعجزه عن الإتيان بالمعجزات ، فردّ الله عليهم بأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كسائر الأنبياء له أزواج وأولاد ، وأن أمر المعجزات مفوّض إلى الله تعالى ، لا إلى أحد سواه ، وأن إنزال العذاب محدد بأجل معيّن ، ولكلّ أجل كتاب ، أي لكل حادث وقت معيّن.

__________________

(١) لباب النّقول في أسباب النّزول بهامش تفسير الجلالين للسيوطي ٣٣٤

١٨١

التّفسير والبيان :

فيما نقصّه عليك ، أو فيما يتلى عليك صفة الجنّة ونعتها الذي يشبه المثل في الغرابة ، تلك الجنّة التي وعدها الله للمتّقين ، ذات أنهار تجري في أرجائها وجوانبها ، وحيث شاء أهلها ، يفجّرونها تفجيرا ، ويوجّهونها حيث أرادوا ، كما قال تعالى : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ، فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ ، وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ ، وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ ، وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى ، وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ ، وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ ، كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ ، وَسُقُوا ماءً حَمِيماً ، فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) [محمّد ٤٧ / ١٥].

(أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها) أي ما يؤكل فيها من الفواكه والمطاعم والمشارب لا ينقطع ، ولا يفنى ، وكذلك ظلّها دائم لا ينسخ ولا يزول ، فليس فيها شمس ولا حرّ ولا برد : (لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً) [الدّهر ٧٦ / ١٣]. وفي الصّحيحين من حديث ابن عباس في صلاة الكسوف ، وفيه : قالوا : يا رسول الله ، رأيناك تناولت شيئا في مقامك هذا ، ثم رأيناك تكعكعت ، فقال : «إنّي رأيت الجنّة ، فتناولت منها عنقودا ، ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدّنيا».

وبعد وصف الجنّة بهذه الصّفات الثلاث ، قال تعالى : (تِلْكَ عُقْبَى ..) أي تلك الجنّة هي عاقبة ومصير أهل التّقوى ، وعاقبة الكافرين النار ، بسبب كفرهم وذنوبهم ، كما قال تعالى : (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ ، أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) [الحشر ٥٩ / ٢٠].

والمراد أن ثواب المتّقين منافع خالصة عن الشّوائب موصوفة بصفة الدّوام. والآية إطماع للمؤمنين المتّقين ، وإقناط للكافرين.

ثم ذكر الله تعالى انقسام أهل الكتاب فئتين من القرآن ، فقال : (وَالَّذِينَ

١٨٢

آتَيْناهُمُ) أي والذين آتيناهم الكتاب من اليهود والنّصارى قسمان : فالقائمون بمقتضاه يفرحون بما أنزل إليك من القرآن الكريم ؛ لما في كتبهم من الشواهد على صدقه ، والبشارة به ، كما قال تعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ ، أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) [البقرة ٢ / ١٢١] ، وهم جماعة من اليهود كعبد الله بن سلام وأصحابه ، وجماعة من النّصارى وهم ثمانون رجلا من الحبشة واليمن ونجران.

ومن الأحزاب ، أي ومن جماعة أهل الكتاب الذين تحزّبوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مثل كعب بن الأشرف اليهودي ، والسيد والعاقب أسقفيّ نجران وأتباعهم ، من ينكر بعض ما جاءك من الحقّ ، وهو ما لم يوافق شرائعهم أو ما حرّفوه منها.

وأمام هذا الانقسام في الرأي بين اليهود والنّصارى بالنّسبة للقرآن الكريم ذكر تعالى طريق النّجاة والسّعادة ، فقال : (قُلْ : إِنَّما أُمِرْتُ ..) أي قل يا محمد : إنّما بعثت بعبادة الله وحده لا شريك له ، كما أرسل الأنبياء من قبلي ، فإلى سبيله وطاعته وعبادته أدعو الناس ، وإليه وحده مرجعي ومصيري ومصيركم للجزاء والحساب.

وذلك كقوله تعالى : (قُلْ : يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ ، وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً ، وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ ، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا : اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) [آل عمران ٣ / ٦٤].

والآية تشير إلى مبدأ التّوحيد ورفض الشّرك ، كما تشير إلى مبدأ البعث والحساب والجزاء يوم القيامة.

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا) أي وكما أرسلنا قبلك المرسلين ، وأنزلنا عليهم الكتب ، كذلك أنزلنا عليك القرآن الكريم محكما لا زيغ فيه ، معربا

١٨٣

بلسان قومك ، ليسهل عليهم فهمه وحفظه. وهذا دليل على أن كلّ رسول أرسل بلغة قومه ، كما قال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ ، لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) [إبراهيم ١٤ / ٤].

وأراد بالحكم : أنه يفصل بين الحقّ والباطل ، ويحكم في الأمور ، مبيّنا الحلال والحرام ، والشّرائع والأنظمة المؤدية إلى سعادتي الدّنيا والآخرة.

ثم قال تعالى على سبيل الافتراض : (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ ..) أي ولئن اتّبعت آراءهم وجاملتهم ، كالتّوجّه إلى قبلتهم في بيت المقدس بعد تحويلها إلى البيت الحرام ، فليس لك ناصر ينصرك من الله ، ولا حافظ ولا مانع يمنع عنك العقاب ، وينقذك من العذاب. وهذا تعريض بهم على طريقة : (إياك أعني واسمعي يا جارة) وهو وعيد شديد لأهل العلم أن يتّبعوا سبل أهل الضّلالة ، بعد ما عرفوا الدّين الحقّ ، وهو أيضا حسم وقطع لأطماع الكفار ، وتهييج للمؤمنين على الثبات في دينهم. والخطاب للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمراد : الأمة.

ثمّ ردّ الله تعالى على طعن المشركين على النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتعدّد الزّوجات ، فقال : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً ..) أي وكما أرسلناك يا محمد رسولا بشرا ، كذلك قد بعثنا المرسلين قبلك بشرا ، يأكلون الطّعام ، ويمشون في الأسواق ، ويأتون الزّوجات ، ولهم ذريّة وأولاد ، قال تعالى : (قُلْ : إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَ) [الكهف ١٨ / ١١٠] ، وفي الصّحيحين عن أنس أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أما أنا فأصوم وأفطر ، وأقوم وأنام ، وآكل اللحم ، وأتزوّج النّساء ، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي» ، وروى الإمام أحمد والتّرمذي عن أبي أيوب قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أربع من سنن المرسلين : التّعطّر ، والنّكاح ، والسّواك ، والحناء».

أما تعدّد زوجات النبي بعد سنّ الأربع والخمسين ـ وهي سنّ تضعف فيه عادة

١٨٤

الرغبة إلى النّساء ـ فكان من أجل نشر الدّعوة الإسلامية ، وما تقتضيه المصلحة في التّأليف بين القبائل العربية ، وضرب المثل في الأخلاق والعدل بين الزّوجات والرّأفة ببعض النّساء تعويضا عن زوجها الذي فقدته في الجهاد أو غيره.

ثمّ ردّ الله على طعنهم بعجزه عن تلبية ما اقترحوه من آيات فقال : (وَما كانَ لِرَسُولٍ ..).

أي وما صحّ لرسول ولم يكن في وسعه أن يأتي قومه بمعجزة أو خارق للعادة ، إلا إذا أذن له فيه ، ليس ذلك إليه ، بل إلى الله عزوجل ، يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، وقد جاءكم القرآن الكريم معجزة خالدة على ممر الزّمان ، فيه تحدّ وإفحام يثبت كونه من عند الله تعالى.

(لِكُلِّ أَجَلٍ ..) لكلّ حادث وقت معيّن وزمن محدد ، فالآيات تأتي في وقتها لحكمة وفي زمن يعلمه الله ، وكلّ شيء عنده بمقدار : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) [القمر ٥٤ / ٤٩] ، فقوله تعالى : (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) أي لكلّ مدّة كتاب مكتوب ، مثل قوله تعالى : (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ) [الأنعام ٦ / ٦٧]. وقال الزّمخشري : لكل وقت حكم يكتب على العباد ، أي يفرض عليهم ما يقتضيه صلاحهم ، والشّرائع مصالح تختلف باختلاف الأحوال والأوقات. فشرائع الأنبياء السّابقين كموسى وعيسى عليهما‌السلام ، ثمّ شريعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاءت فيما يناسب عصورها ، وأعمار النّاس وآجالهم وأرزاقهم وحدوث أعمالهم لها أوقات محددة لا تتقدّم ولا تتأخّر كما قال تعالى : (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) [الأعراف ٧ / ٣٤].

(يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ ..) أي ينسخ الله ما شاء وما يستصوب نسخه من الشّرائع ، ويثبت بدله ما أراد إثباته وما رأى المصلحة في إثباته ، وهو القرآن الكريم الذي أنزله الله على رسوله صلوات الله وسلامه عليه ، أو يتركه غير منسوخ.

أو يمحو من ذلك الكتاب ما يشاء أن يوقعه بأهله ويأتي به.

١٨٥

(وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) أصل كلّ كتاب ، وهو اللوح المحفوظ ؛ لأن كلّ كائن مكتوب فيه ، أو عنده الذي لا يتغيّر منه شيء ، أو علم الله وجميع ما يقع في صحف الملائكة لا يكون إلا موافقا لما يثبت فيه ، فهو الأمّ لذلك.

قال ابن عمر : سمعت النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «يمحو الله ما يشاء ويثبت إلا السّعادة والشّقاوة والموت». وقال ابن عباس : يمحو الله ما يشاء ويثبت إلا أشياء : الخلق والخلق والأجل والرّزق والسّعادة والشّقاوة.

قال ابن كثير : ومعنى الآية أن الأقدار ينسخ الله ما يشاء منها ، ويثبت منها ما يشاء (١) ، وقد يستأنس لهذا القول بما رواه الإمام أحمد والنّسائي وابن ماجه عن ثوبان ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الرّجل ليحرم الرّزق بالذّنب يصيبه ، ولا يردّ القضاء إلا الدّعاء ، ولا يزيد في العمر إلا البرّ» وفي رواية الحاكم «الدعاء يرد القضاء ، وإن البر يزيد في الرزق ، وإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه». وثبت في الصّحيح أن صلة الرّحم تزيد في العمر ، وفي حديث آخر : «إنّ الدّعاء والقضاء ليعتلجان بين السّماء والأرض».

والخلاصة : إن الآية عامة في جميع الأشياء ، والمحو والإثبات وارد فيها ، وأصل الكتاب لا يتغيّر ، واستثناء السّعادة والشّقاء والخلق والخلق والرّزق ؛ لأنها أمور لا تتغيّر ، وهي مما لا يدرك بالرّأي والاجتهاد ، وإنما يؤخذ عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن صحّ فالقول به يجب(٢).

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات ما يأتي :

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٢ / ٥١٩

(٢) تفسير القرطبي : ٩ / ٣٢٩

١٨٦

١ ـ الجنّة مخلوقة أعدّها الله للمتّقين ، وقال تعالى : (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ ، أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران ٣ / ١٣٣].

٢ ـ ثمر الجنّة لا ينقطع ، وظلّها لا يزول ، وهذا ردّ على الجهميّة في زعمهم أن نعيم الجنّة يزول ويفنى.

٣ ـ النّار أيضا مخلوقة أعدّها الله للكافرين المكذّبين ، قال تعالى : (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ ، أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) [البقرة ٢ / ٢٤].

٤ ـ بعض اليهود والنّصارى كابن سلام وسلمان الفارسي ، والذين جاؤوا من الحبشة يفرح بالقرآن الكريم ، لتصديقه كتبهم. ويفرح بذكر الرّحمن لكثرة ذكره في التّوراة.

قال أكثر العلماء : كان ذكر الرّحمن في القرآن قليلا في أول ما نزل ، فلما أسلم عبد الله بن سلام وأصحابه ، ساءهم قلّة ذكر الرّحمن في القرآن ، مع كثرة ذكره في التّوراة ؛ فسألوا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك ؛ فأنزل الله تعالى : (قُلِ : ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ ، أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) فقالت قريش : ما بال محمد يدعو إلى إله واحد ، فأصبح اليوم يدعو إلهين ، الله والرّحمن! والله ما نعرف الرّحمن إلا رحمن اليمامة ، يعنون مسيلمة الكذّاب ؛ فنزلت : (وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ) ، (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ) ففرح مؤمنو أهل الكتاب بذكر الرّحمن ، فأنزل الله تعالى : (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ).

٥ ـ ومن الأحزاب يعني مشركي مكّة ، ومن لم يؤمن من اليهود والنّصارى والمجوس ، أو هم العرب المتحزّبون على النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من ينكر بعض ما في القرآن الكريم ؛ لأن فيهم من كان يعترف ببعض الأنبياء ، وفيهم من كان يعترف بأن الله خالق السّموات والأرض.

٦ ـ دعوة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الناس مقصورة على الدّعوة إلى عبادة الله وحده

١٨٧

لا شريك له ، وإلى الإيمان بالبعث والحساب والجزاء ؛ لقوله تعالى : (إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ) أي إلى عبادته أدعو النّاس ، وأرجع في أموري كلّها.

٧ ـ كما أنزل الله تعالى الكتب على الرّسل بلغاتهم ، كذلك أنزل القرآن الكريم إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عربيّا ، أي بلسان العرب. والمراد بالحكم : ما فيه من الأحكام. وقيل : أراد بالحكم العربي : القرآن كلّه ؛ لأنه يفصل بين الحقّ والباطل ويحكم.

٨ ـ من اتّبع أهواء المشركين في عبادة ما دون الله تعالى ، وفي الاتّجاه إلى غير الكعبة ، بعد أن قام الدّليل العلمي القاطع على صدق رسالة القرآن الكريم والنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ليس له ناصر ينصره ، ولا واق يمنع من عذابه.

٩ ـ الأنبياء قاطبة بشر ، يقضون ما أحلّ الله من شهوات الدّنيا ، ولهم زوجات وأولاد ، وإنما التّخصيص بالوحي.

١٠ ـ آية (وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً) تدلّ على التّرغيب في النّكاح والحضّ عليه ، وتنهى عن التّبتّل ، وهو ترك النّكاح ، وهذه سنّة المرسلين ، كما نصّت عليه هذه الآية ، والسّنّة واردة بمعناها ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه البيهقي وهو ضعيف : «تزوّجوا فإنّي مكاثر بكم الأمم» وقال فيما رواه الطبراني عن أنس ، وهو ضعيف : «من تزوّج فقد استكمل نصف الإيمان ، فليتّق الله في النّصف الباقي» ، ومعنى ذلك أنّ النّكاح يعفّ عن الزّنى ، والعفاف أحد الخصلتين اللتين ضمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهما الجنّة ، فقال فيما رواه الموطأ وغيره : «من وقاه الله شرّ اثنتين ، ولج الجنّة : ما بين لحييه ، وما بين رجليه» ، وتقدم حديث وأصلّي وأرقد ، وأتزوّج النّساء ، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي».

١١ ـ ليس للرّسول بإرادته أن يأتي بمعجزة خارقة للعادة ، وإنّما ذلك بإذن الله ومشيئته.

١٢ ـ لكلّ أجل كتاب ، أي لكلّ أمر قضاه الله كتاب عند الله تعالى. يمحو

١٨٨

الله من ذلك الكتاب ما يشاء أن يوقعه بأهله ويأتي به ، ويثبت ما يشاء ، أي يؤخّره إلى وقته. وعنده أصل الكتاب الذي لا يتغيّر منه شيء ، فنزول العذاب على الكفار ، ونصر المؤمنين لهما وقت معيّن مخصوص.

والمحو يشمل الأقدار ، والدّعاء يفيد في ردّ القدر ، وقد يحرم الإنسان الرّزق بسبب ذنب يرتكبه ، وقد يزداد عمره بصلة الرّحم وبرّ الأقارب. وقد تقدّم في الصّحيحين عن أبي هريرة حديث: «من سرّه أن يبسط له في رزقه ، وينسأ له في أثره ، فليصل رحمه».

وأصول الأشياء لا تتغيّر : وهي الخلق والخلق ، والأجل والرّزق ، والسّعادة والشّقاوة. والذي في علم الله ثابت لا يتبدّل ، مثل قيام السّاعة ، وأجل بقاء النّاس في القبور وكلّ ما كتب من الآجال وغيرها.

سئل ابن عباس عن أمّ الكتاب ، فقال : علم الله ما هو خالق ، وما خلقه عاملون ، فقال لعلمه : كن كتابا ، ولا تبديل في علم الله تعالى.

وقال عكرمة : يمحو ما يشاء بالتّوبة جميع الذّنوب ، ويثبت الذّنوب حسنات ، قال تعال : (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً ، فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ ، وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) [الفرقان ٢٥ / ٧٠].

والخلاصة : عقيدتنا هي أنه لا تبديل لقضاء الله تعالى ، وهذا المحو والإثبات مما سبق به القضاء. والقضاء منه ما يكون واقعا محتوما ، وهو الثّابت ، ومنه ما يكون مصروفا بأسباب ، وهو الممحو. ويكون المحوّ إما بالدّعاء أو بصلة الرّحم وبرّ الأقارب ، أو بالذّنب المقترف. ويشمل المحو نسخ الشّرائع ، فقد تنسخ شريعة بأخرى ، كالنّسخ بالقرآن لما عداه ، لمصلحة وحكمة تقتضيها ، ونسخ التّوجّه إلى بيت المقدس وتحويل القبلة إلى الكعبة ، ونحو ذلك.

والكلّ بقضاء الله وقدره ، والأمور مرهونة بأوقاتها.

١٨٩

مهمة الرّسول تبليغ الشّريعة والله شاهد له ومحاسب وحاكم بين

العباد ومحبط مكر الكفار

(وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (٤٠) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤١) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (٤٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (٤٣))

الإعراب :

(وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ مَنْ) : إما اسم موصول ، و (عِنْدَهُ) : صلته ، وإما نكرة موصوفة ، و (عِنْدَهُ) الصفة. ومحله : إما الجرّ عطفا على لفظ المجرور في قوله تعالى: (كَفى بِاللهِ) ، وإما الرّفع عطفا على موضعه ؛ لأن موضعه الرّفع ؛ لأن تقديره : كفى الله. وذلك مثل : (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) [فاطر ٣٥ / ٣] إما بالجرّ حملا على اللفظ ، أو بالرّفع حملا على الموضع. و (عِلْمُ الْكِتابِ) مرفوع بالظّرف (عِنْدَهُ) لأن الظّرف إذا وقع صلة أو صفة فإنه يرفع كما يرفع الفعل. (لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) محل ذلك النّصب على الحال ، أي يحكم نافذا حكمه.

البلاغة :

(فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) قصر إضافي من قصر الموصوف على الصفة ، أي ليس لك إلا صفة التّبليغ.

١٩٠

المفردات اللغوية :

(وَإِنْ ما) فيه إدغام نون. «إن» الشّرطية في «ما» المزيدة. (نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) به من العذاب في حياتك ، وهو فعل الشّرط ، وجوابه محذوف ، أي فذاك. (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) قبل تعذيبهم. (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) ما عليك إلا البلاغ. (وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) إذا صاروا إلينا ، فنجازيهم.

(أَوَلَمْ يَرَوْا) أي أهل مكة. (أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ) أي أرض الحياة التي يعيشون فيها. (أَطْرافِها) جوانبها ، والنقص منها بما نفتحه على المسلمين منها. (وَاللهُ يَحْكُمُ) في خلقه بما يشاء. (لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) لا رادّ ولا مبطل له ، والمعقّب : الذي يتعقّب الشيء فيبطله بالنّقد ، ويقال لصاحب الحقّ : معقّب ؛ لأنه يتابع غريمه المدين بالطّلب ، والمعنى : أنه حكم للإسلام بالإقبال وعلى الكفر بالإدبار ، وذلك كائن لا يمكن تغييره. (وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ) يحاسبهم عما قريب في الآخرة بعد ما عذّبهم بالقتل والإجلاء في الدنيا.

(وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأمم بأنبيائهم ، كما مكروا بك. والمكر : إرادة الشيء في خفية. (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً) أي لا يؤبه بتدبير دون تدبيره ، فإنه القادر على ما هو المقصود منه دون غيره. (يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ) فيعدّ جزاءها ، وهذا هو المكر «التّدبير» كلّه ؛ لأنه يأتيهم به من حيث لا يشعرون. (وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ) المراد به كلّ كافر. (لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ) أي العاقبة المحمودة في الدّار الآخرة ، ألهم ، أم للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه.

(شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) على صدقي. (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) أي المطّلع على حقيقة الكتاب الإلهي من مؤمني اليهود والنّصارى. ومن هاهنا : لابتداء الغاية.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى اقتراح المشركين إنزال آيات واستعجال العذاب ، ذكر هنا احتمال وقوع ما توعّدوا به ، وبيان أن وظيفة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم التّبليغ ، وأن آثار حصول تلك المواعيد وعلاماتها قد ظهرت وقويت ، بفتح المسلمين جوانب الأرض ، وأن الله يحكم في خلقه ما يريد.

ثم أبان أنّ مكر هؤلاء المشركين ومن تقدّمهم لا يضرّ المسلمين شيئا ، فالنّصر سيكون لهم ، والهزيمة والعذاب لغيرهم.

١٩١

ثمّ ردّ الله على اليهود الذين أنكروا رسالة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه شاهد له بالصّدق ، وحسبه شهادة الله ومن آمن من أهل الكتاب.

التفسير والبيان :

إن أريناك يا محمد في حياتك بعض الذي نعد أعداءك المشركين وغيرهم من الخزي والنّكال في الدّنيا ، أو نتوفينّك قبل أن نريك ذلك ، فما عليك إلا تبليغ رسالة ربّك ، وإنما أرسلناك لتبلّغهم رسالة الله ، وقد فعلت ما أمرت به ، وليس عليك التّوصل إلى صلاحهم ، فإنما علينا حسابهم وجزاؤهم على الخير والشّرّ ، كقوله تعالى : (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ، إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ ، فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ ، إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) [الغاشية ٨٨ / ٢١ ـ ٢٦].

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ ..) أي أنسي هؤلاء المشركون في مكة أو شكّوا أنّا نأتي الأرض ، فنفتحها لك أرضا بعد أرض ، وتنتصر عليهم ، وتمتد رقعة الإسلام ، وتتقلّص رقعة الكفر ، ويدخل النّاس في دين الله أفواجا ، كقوله تعالى : (أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ) (نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها ، أَفَهُمُ الْغالِبُونَ) [الأنبياء ٢١ / ٤٤].

وتدلّ الآية في نطاق العلم الحديث على كون الأرض مفلطحة بيضاوية ، ليست كرة تامّة التّدوير ، بل هي ناقصة الأطراف.

وأما في الماضي فيراد بالآية كما أوضحت ظهور الإسلام على الشّرك قرية بعد قرية ، كقوله تعالى : (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى) [الأحقاف ٤٦ / ٢٧]. وقال ابن عباس : المراد موت أشرافها وكبرائها وعلمائها وذهاب الصّلحاء والأخيار. ولكن اللائق الرّأي الأول ، كما قال الواحدي.

(وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) أي والله يقضي القضاء المبرم ، ولا يرد حكمه

١٩٢

النّافذ ، فلا رادّ لقضائه ، ولا يستطيع أحد أن يطعن فيه أو يبطله أو ينقضه ، ومن حكم الله تعالى أن الأرض يرثها عباده الصّالحون بالعدل والإصلاح والعمران.

(وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ) أي والله محاسب عباده قريبا في الآخرة ، وعقابه آت لا محالة ، فلا تستعجل عقابهم ، فإن الله معذّبهم في الآخرة بعد أن عذّبهم في الدّنيا بالقتل والأسر والخزي والذّل والنّكال.

(وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ..) هذا تسلية للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على مكائد قومه ، وتصبير له على أذاهم ، فإن النّصر له في النّهاية حتما ، أي لقد مكر الكفار السابقون برسلهم ، وأرادوا إخراجهم من بلادهم ، وعذّبوهم ، كما فعل النّمرود بإبراهيم ، وفرعون بموسى ، واليهود بعيسى ، وكما فعلت عاد وثمود وإخوان لوط ، فمكر الله بهم ، وجعل العاقبة للمتّقين ، أي دبّر لهم ما أوقعهم في الهلاك بسبب ظلمهم وفسادهم.

(فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً) أي لا يؤبه بتدبير دون تدبيره ، ولا يضرّ مكر الماكرين إلا بإذنه تعالى ، ولا يؤثر إلا بمشيئته وتقديره ، فلا خوف إلا منه.

وهذا كقوله تعالى في مكر المشركين بالنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبيل الهجرة : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ، وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ ، وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) [الأنفال ٨ / ٣٠] ، وقوله سبحانه : (وَمَكَرُوا مَكْراً ، وَمَكَرْنا مَكْراً ، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ ، فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا) [النّمل ٢٧ / ٥٠ ـ ٥٢].

(يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ) أي أنه تعالى عالم بجميع السّرائر والضّمائر ، وسيجزي كلّ عامل بعمله ، فينصر أولياءه ، ويعاقب الماكرين.

١٩٣

وهذا وعيد شديد وتهديد لكلّ كافر ماكر ، وتسلية للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمان له من مكرهم.

(وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ ..) أي وسيتحقق الكفار يوم القيامة لمن العاقبة المحمودة من الفريقين: المؤمنين والكافرين ، حيث تكون العاقبة لأتباع الرّسل في الدّنيا والآخرة ، ففي الدّنيا النّصر ، وفي الآخرة الجنّة.

ثمّ ردّ الله على منكري نبوّة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال تعالى : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا ..) أي يقول الكافرون الجاحدون نبوّتك : لست رسولا مرسلا من عند الله ، تدعو النّاس إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، وتنقذهم من الظّلمات إلى النّور ، ومن عبادة الأصنام والأوثان ، إلى عبادة الله الواحد الأحد ، ومن الظّلم والفساد إلى العدل والصّلاح.

أخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي‌الله‌عنه قال : قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسقف من اليمن ، فقال له عليه الصّلاة والسّلام : «هل تجدون في الإنجيل رسولا؟» ، قال : لا ، فأنزل الله تعالى : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا : لَسْتَ مُرْسَلاً) الآية.

(قُلْ : كَفى بِاللهِ ..) قل يا محمد لهم : حسبي وكفايتي أن الله شاهد لي بصدق رسالتي ، ومؤيّد دعوتي ، بما أنزله عليّ من القرآن المعجز ، ومن الآيات البيّنات الدّالّة على صدقي ، كما قال تعالى : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ، وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) [الفتح ٤٨ / ٢٨].

وكفاني أيضا بعد شهادة الله شهادة علماء أهل الكتاب الذين آمنوا من اليهود والنّصارى ، بما وجدوه لديهم في التّوراة والإنجيل من بشارة برسالتي ، وعلامات لا تنطبق على من سواي ، وهم عبد الله بن سلام ـ اليهودي الأصل ـ وأصحابه.

أخرج ابن جرير وابن المنذر عن قتادة قال : كان من أهل الكتاب قوم

١٩٤

يشهدون بالحقّ ويعرفونه ، منهم عبد الله بن سلام ، والجارود ، وتميم الدّاري ، وسلمان الفارسيرضي‌الله‌عنهم.

وذلك كما دلّت آية أخرى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ ، وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [البقرة ٢ / ١٤٦].

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ إنّ مهمّة الرّسول مقصورة على إبلاغ الرّسالة للأمّة ، وليس عليه هداهم وصلاحهم.

٢ ـ الله تعالى هو الذي يحقّق الأحداث والوقائع ، فينجز الوعد والوعيد ، وينزل العقاب الشّديد متى شاء ، وقد يكون ذلك في حال حياة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو بعد وفاته.

٣ ـ الله تعالى هو المتكفّل القائم بحساب العباد على ما قدّموا من خير أو شرّ.

٤ ـ إن امتداد رقعة الإسلام واتّساع الفتوحات الإسلامية ، وانحسار الكفر وتضييق رقعة بلاد الكافرين بيد الله تعالى وحده.

٥ ـ إن الأرض ليست تامّة الكروية ، وإنما هي مفلطحة بيضاوية ناقصة الأطراف والتّكوير.

٦ ـ لا رادّ لقضاء الله تعالى ولا معقّب لحكمه ، ولا يستطيع أحد تعقيب حكمه بنقص أو نقض أو إبطال أو تغيير.

٧ ـ الله تعالى سريع الحساب من العباد ، أي الانتقام من الكافرين ، سريع الثّواب للمؤمن.

٨ ـ تخيب أو تفشل كلّ مخططات الأعداء الكافرين ومكائدهم أمام تدبير الله

١٩٥

تعالى ، ولا يضرّ مكرهم إلا بإذنه تعالى ، وفي هذا تسلية للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وشدّ من عزيمته ، وبيان أن النّصر في النّهاية له ، وأنّ الدّائرة ستدور على الكفار.

٩ ـ يعلم الله ما تعمل به كلّ نفس من خير وشرّ ، فيجازي عليه.

١٠ ـ سيتحقق الكفار لمن العاقبة المحمودة ، أي عاقبة دار الدّنيا ثوابا وعقابا ، أو لمن الثّواب والعقاب في الدّار الآخرة ، وهذا تهديد ووعيد.

١١ ـ إن إنكار مشركي العرب واليهود رسالة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقولهم له : لست بنبيّ ولا رسول ، وإنما أنت متقوّل ، لما لم يأتهم بما اقترحوا من الآيات ، إن إنكارهم لا يغض من الحقيقة شيئا ، ولا يغيّر من الواقع ، وكفى بالله شهيدا على صدقه ، وحسبه شهادة مؤمني أهل الكتاب كعبد الله بن سلام ، وسلمان الفارسي ، وتميم الدّاري ، والنّجاشي وأصحابه.

لكن قال ابن جبير : السّورة مكيّة ، وابن سلام أسلم بالمدينة بعد هذه السّورة ، فلا يجوز أن تحمل الآية على ابن سلام ، فمن عنده علم الكتاب جبريل ، وهو قول ابن عباس. وقال الحسن ومجاهد والضّحّاك : هو الله تعالى.

وأما من قال : إنهم جميع المؤمنين فصدق ؛ لأن كلّ مؤمن يعلم الكتاب ، ويدرك وجه إعجازه ، ويشهد للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بصدقه. والكتاب على هذا هو القرآن الكريم (١).

ويجوز أن يكون المراد به : الذي حصل عنده علم التّوراة والإنجيل ، يعني : أن كلّ من كان عالما بهذين الكتابين ، علم اشتمالهما على البشارة بمقدم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإذا أنصف ذلك العالم ولم يكذب ، كان شاهدا على أنّ محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسول حقّ من عند الله تعالى (٢).

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٩ / ٣٣٦ ـ ٣٣٧

(٢) تفسير الرّازي : ١٩ / ٧٠

١٩٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة إبراهيم عليه‌السلام

مكية وهي اثنتان وخمسون آية.

تسميتها :

سمّيت سورة إبراهيم لاشتمالها على جزء من قصّة إبراهيم أبي الأنبياء عليه‌السلام ، يتعلّق بحياته في مكّة ، وصلته بالعرب وإسماعيل ، وأنّ إبراهيم وإسماعيل بنيا البيت الحرام ، وأنهما كانا يدعو ان الله تعالى بالهداية ، وأن إبراهيم دعا أن يجنّبه وبنيه عبادة الأصنام ، وأن يرزق زوجته وابنه إسماعيل اللذين أسكنهما في مكّة من الثّمرات ، وأن يجعله هو وذريّته مقيمي الصّلاة ، وذلك في الآيات [٣٥ ـ ٤١].

مناسبتها لما قبلها :

هذه السّورة امتداد لما ذكر في سورة الرّعد ، وتوضيح لما أجمل فيها ، فكلّ منهما تحدّث عن القرآن ، ففي سورة الرّعد ذكر تعالى أنه أنزل القرآن حكما عربيا [الآية ٣٧] ، وهنا ذكر حكمة ذلك والغاية من تنزيل القرآن ، وهي إخراج الناس من الظّلمات إلى النّور بإذن الله [الآية : ١].

وكلّ منهما ذكر فيه تفويض إنزال الآيات الكونية إلى الله وبإذنه ، فقال تعالى في سورة الرّعد : (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ ، لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) [٣٨] ، وهنا ذكر ذلك على لسان الرسل : (ما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) [١١].

١٩٧

وفي كليهما ذكرت الآيات الكونية من رفع السّماء بغير عمد ومدّ الأرض وتسخير الشّمس والقمر ، وجعل الرّواسي في الأرض ، وخلق الثّمرات المختلفة الطّعوم والألوان.

وتعرّضت السّورتان لإثبات البعث ، وضرب الأمثال للحقّ والباطل ، والكلام على مكر الكفار وكيدهم وعاقبته ، والأمر بالتّوكّل على الله تعالى.

ما اشتملت عليه هذه السّورة :

اشتملت سورة إبراهيم على ما يأتي :

١ ـ إثبات أصول العقيدة من الإيمان بالله وبالرّسل وبالبعث والجزاء ، وإقرار التّوحيد ، والتّعريف بالإله الحقّ خالق السّموات والأرض ، وبيان الهدف من إنزال القرآن الكريم ، وهو إخراج النّاس من الظّلمات إلى النّور ، واتّحاد مهمّة الرّسل ودعوتهم في أصول الاعتقاد والفضائل وعبادة الله والإنقاذ من الضّلال.

٢ ـ الوعد والوعيد : ذمّ الكافرين ووعيدهم على كفرهم وتهديدهم بالعذاب الشّديد ، ووعد المؤمنين على أعمالهم الطّيّبة بالجنان [الآية ٢ ، والآية ٢٣ ، والآيات ٢٨ ـ ٣١].

٣ ـ الحديث عن إرسال الرّسل بلغات أقوامهم ، لتسهيل البيان والتّفاهم [الآية ٤].

٤ ـ تسلية الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببيان ما حدث للرّسل السّابقين مع أقوامهم : قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم ، والتّذكير بعقابهم ، كما في الآيات [٩ ـ ١٢] ، والآيات [١٣ ـ ١٨].

١٩٨

٥ ـ ابتدأ من بين قصص بعض الأنبياء المتقدّمين عليهم‌السلام بمحاورة موسى لقومه ودعوته إيّاهم لعبادة الله تعالى [الآيات ٥ ـ ٨].

٦ ـ دعوات إبراهيم عليه‌السلام بعد بناء البيت الحرام لأهل مكة بالأمان والرّزق وتعلّق القلوب بالبيت الحرام ، وتجنيبه وذريّته عبادة الأصنام ، وشكره ربّه على ما وهبه من الأولاد بعد الكبر ، وتوفيقه وذريّته لإقامة الصّلاة ، وطلبه المغفرة له ولوالديه وللمؤمنين [الآيات ٣٥ ـ ٤١]. ٧ ـ بيان مشهد من مشاهد الحوار بين أهل النّار في عالم الآخرة [الآيات ١٩ ـ ٢٣].

٨ ـ ضرب الأمثال لكلمة الحقّ والإيمان وكلمة الباطل والضّلال بالشّجرة الطّيّبة والشّجرة الخبيثة [الآيات ٢٤ ـ ٢٧].

٩ ـ التّذكير بأهوال القيامة وتهديد الظالمين وبيان ألوان عذابهم [الآيات : ٤٢ ـ ٥٢].

١٠ ـ بيان الحكمة من تأخير العذاب ليوم القيامة ، وهو ما ختمت به السّورة [الآيتان : ٥١ ـ ٥٢].

الغاية من إنزال القرآن وذم الكافرين

وكون الرسول بلسان قومه

(الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١) اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ

١٩٩

(٢) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٣) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤))

الإعراب :

(الر) إما خبر مبتدأ محذوف تقديره : هذه الر ، وإما في موضع نصب على تقدير: الزم أو اقرأ الر ، وتكون جملة : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ) مفسّرة.

(كِتابٌ أَنْزَلْناهُ كِتابٌ) : خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : هذا كتاب. و (أَنْزَلْناهُ):جملة فعلية في موضع رفع صفة (كِتابٌ). (إِلى صِراطِ) بدل من قوله (إِلَى النُّورِ).

(اللهِ الَّذِي) بالجر بدل من قوله (الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) ويقرأ بالرفع ، فيكون مبتدأ ، وما بعده خبره ، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : هو الله الذي له ما في السموات. (الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ) نعت للكافرين.

(عِوَجاً) منصوب على المصدر في موضع الحال. وقيل : إنه مفعول «يبغون» واللام محذوفة من المفعول الأول ، تقديره : ويبغون لها عوجا.

(فَيُضِلُّ اللهُ) مرفوع على الاستئناف والاقتطاع من الأول.

البلاغة :

(مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) استعارة ، استعار الظلمات للكفر والضلال ، والنور للهدى والإيمان. (أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ) جناس اشتقاق.

(فَيُضِلُ) .. (وَيَهْدِي) بينهما طباق.

الحميد .. شديد .. بعيد فيها سجع.

المفردات اللغوية :

(الر) الابتداء بالحروف الهجائية في بعض السور لبيان طبيعة تكوين القرآن وأنه من جنس الحروف التي ينطق بها العرب ، فهي للتحدي وبيان إعجاز القرآن ، وأنه من كلام الله ، بدليل العجز عن الإتيان بأقصر سورة من مثله ، بالرغم من تكوينه من حروف اللغة العربية.

٢٠٠