التفسير المنير - ج ١٣

الدكتور وهبة الزحيلي

«لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك» وكما أخبر القرآن عنهم : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزّمر ٣٩ / ٣]. وتضمن هذا الاستفهام التعجب منهم والإنكار عليهم والتهكم بهم.

وبعد أن ناقشهم تعالى في فساد اعتقادهم ، وأبان عدم وجود المسوغات لاتخاذ غير الله إلها معه ، لعجزه وضعفه ، قرر الحكم النهائي بقوله : (قُلِ : اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ..) أي قل لهم يا محمد مبينا وجه الحق : الله خالق كل شيء ، خالقكم وخالق أصنامكم وخالق جميع المخلوقات ، فإذا فكرتم تفكيرا سويا وجدتم أن الله هو المتفرد بالخلق والإيجاد وهو المتوحد بالألوهية ، المستحق للعبادة وحده ، الغالب على كل شيء ، فكيف تعبدون أصناما لا تنفع ولا تضر؟!

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآية على ما يأتي :

١ ـ تثبيت الحقيقة الأبدية الخالدة وهي أن الله تعالى وحده هو خالق السموات والأرض وجميع مخلوقات الكون.

ومن له صفة الخلق والإيجاد هو المستحق للعبادة والتقديس.

٢ ـ دل قوله : (قُلْ : أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) على اعترافهم بأن الله هو الخالق ، وهو معنى آية أخرى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ : اللهُ) [العنكبوت ٢٩ / ٦١] أي فإذا اعترفتم بأن الله هو الخالق فلم تعبدون غيره؟ وذلك الغير لا ينفع ولا يضر ، وهو إلزام صحيح بالحجة القاطعة التي لا مجال لردها أو الطعن فيها.

٣ ـ ضرب الله مثلا للمشركين بالأعمى للكافر والبصير للمؤمن ، وإذا كان مسلّما لدى كل البشر ألا يستوي الأعمى والبصير ، فكذلك لا يستوي المؤمن الذي يبصر الحق والمشرك الذي لا يبصر الحق.

١٤١

ثم ضرب الله تعالى مثلا للشرك والإيمان بالظلمات والنور.

٤ ـ طمس الله على عقول المشركين ، فلم يقتنعوا بما سبق ، بل جعلوا لله شركاء فاقدة أهم مقومات الألوهية وهو الخلق والإبداع ، فهي عاجزة عن خلق أي شيء ، فلا يمكن بعدئذ أن تنافس مخلوقات الله ، ولو كان للعالم صانعان لاشتبه الخلق ، ولم يتميز فعل هذا عن فعل ذلك ، فبم يعلم أن الفعل من اثنين؟! والمشركون حينما اتخذوا آلهة خلقوا مخلوقات كالتي خلقها الله ، التبس الأمر عليهم ، فلا يدرون خلق الله من خلق آلهتهم. وهو تهكم بهم ، فإنهم في الحقيقة يرون كل شيء من خلق الله ، وأن هذه الآلهة لم تخلق شيئا ، ومع هذا فإنهم يعبدونها من دون الله.

٥ ـ الله خالق كل شيء ، فلزم لذلك أن يعبده كل شيء. والآية رد على المشركين والقدرية الذين زعموا أنهم خلقوا كما خلق الله. والله تعالى هو الواحد قبل كل شيء ، والقهار الغالب لكل شيء ، الذي يغلب في مراده كل مريد ، فكيف يصح بعد هذا القول بشريك لله؟!

٦ ـ استدل أهل السنة بهذه الآية على خلق الأفعال ، أي أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى ، وأن العبد لا يخلق فعل نفسه ؛ لأن فعله شيء والله خالق كل شيء ، وإنما يحصل منه الكسب والتوجيه واختيار ما خلق الله له.

أما المعتزلة فقالوا : إن العبد يفعل ويحدث ، ولا نقول : إنه يخلق كخلق الله تعالى ، وإنما يفعل لجلب منفعة ودفع مضرة ، والله تعالى منزه عن ذلك كله ، فلا يلزمهم أنهم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه.

وقال المجبرة : عين ما هو خلق الله تعالى هو كسب العبد وفعل له. وهذا عين الشرك ؛ لأن الإله والعبد في خلق تلك الأفعال بمنزلة الشريكين ، وكل شريك له حق في فعل الآخر.

١٤٢

مثل الحق والباطل ومآل السعداء والأشقياء

(أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ (١٧) لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٨) أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٩))

الإعراب :

(وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ) جار ومجرور ، في موضع نصب على الحال من الضمير المجرور في (عَلَيْهِ) وتقديره : ومما يوقدون عليه كائنا أو مستقرا في النار.

(ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ) منصوب على المصدر في موضع الحال من ضمير (يُوقِدُونَ). ولا يجوز أن يكون (فِي النَّارِ) متعلقا بيوقدون ؛ لأنهم لا يوقدون في النار ، وإنما يوقدون على الذهب ، كائنا في النار.

(زَبَدٌ مِثْلُهُ) مبتدأ ، و (مِثْلُهُ) : صفة له ، وخبره إما (يُوقِدُونَ) أو (فِي النَّارِ).

(جُفاءً) حال من ضمير (فَيَذْهَبُ) عائد على الزبد (لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى) مبتدأ مؤخر وخبر مقدم (وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا) مبتدأ ، خبره : (لَوْ أَنَّ ..).

١٤٣

البلاغة :

(أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً ..) تشبيه تمثيلي ، وجه الشبه منتزع من متعدد ، شبّه فيه الحق بالماء المستقر على الأرض ، وبالجوهر الصافي من المعادن ، وشبّه الباطل برغوة الماء وخبث المعدن الطافي عليه لا يلبث أن يتلاشى ويضمحل.

(فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها) أي فسالت مياه الأودية ، فهو مجاز عقلي من إسناد الشيء لمكانه.

(يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ) فيه إيجاز بالحذف ، أي أمثال الحق وأمثال الباطل.

(لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا .. وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا) بينهما طباق السلب.

(كَمَنْ هُوَ أَعْمى) شبه الكافر الجاهل بالأعمى على سبيل الاستعارة.

المفردات اللغوية :

(مِنَ السَّماءِ ماءً) مطرا من السحاب أو من جانب السماء (أَوْدِيَةٌ) أنهار ، جمع واد : وهو الموضع الذي يسيل فيه الماء بكثرة ، ثم استعمل للماء الجاري فيه ، وتنكيرها ؛ لإتيان المطر على التناوب بين البقاع (بِقَدَرِها) بمقدارها الذي علم الله تعالى أنه نافع ، أو بمقدار مثلها في الصغر والكبر (فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً) رفعه ، والزبد : ما يعلو وجه الماء من رغوة وقذر ونحوه (رابِياً) عاليا عليه مرتفعا فوقه (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ) من جواهر الأرض وفلزاتها كالذهب والفضة والنحاس والحديد ومن : للابتداء ، أو للتبعيض ، والضمير للناس ، وإضماره للعلم به (ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ) طلب زينة (أَوْ مَتاعٍ) ينتفع به كالأواني إذا أذيبت ، وآلات الحرب والحرث ، والمقصود من ذلك بيان منافعها (زَبَدٌ مِثْلُهُ) أي مثل زبد السيل ، وهو خبثه وهو الذي ينفيه الكير (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ) أي المذكور مثل الحق والباطل وأهل كل.

(فَأَمَّا الزَّبَدُ) من السيل وما أوقد عليه من المعادن (فَيَذْهَبُ جُفاءً) يزول باطلا مرميا به ، فالجفاء : ما يرميه الوادي من الزبد إلى جوانبه (وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ) من الماء والمعادن (فَيَمْكُثُ) يبقى وينتفع به أهلها (فِي الْأَرْضِ) زمانا ، كذلك الباطل يضمحل وينمحق ، وإن علا على الحق في بعض الأوقات ، والحق ثابت باق ، أي أن الحق في إفادته وثباته كالماء النافع الذي يستقر في الأرض ، وكالمعدن الذي ينتفع به في صوغ الحلي واتخاذ الأمتعة المختلفة ويدوم ذلك مدة متطاولة ، والباطل في قلة نفعه وسرعة زواله كزبد الماء أو غثائه ورغوته ، وخبث المعدن وشوائبه (كَذلِكَ) المذكور (يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ) يبين ، لإيضاح المشتبهات.

(لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ) أطاعوه ، أي للمؤمنين الذين استجابوا بالطاعة لله ، واللام متعلقة

١٤٤

بيضرب (الْحُسْنى) الجنة (وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ) وهم الكفار (لَافْتَدَوْا بِهِ) من العذاب (أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ) المؤاخذ بكل ما عملوه ، لا يغفر منه شيء ، أو المناقشة في الحساب ، بأن يحاسب الإنسان بذنبه ، لا يغفر منه شيء (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) مرجعهم النار (وَبِئْسَ الْمِهادُ) المستقر والفراش هي ، والمخصوص بالذم محذوف.

(أَفَمَنْ يَعْلَمُ ..) الهمزة للإنكار ، أي فيؤمن ويستجيب كالحمزة (كَمَنْ هُوَ أَعْمى) عمى القلب لا يؤمن بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كأبي جهل ، والمراد لا يستويان ، ولا يتشابهان (يَتَذَكَّرُ) يتعظ (أُولُوا الْأَلْبابِ) أصحاب العقول.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى وجود دعوتين : دعوة الحق ، ودعوة الباطل ، وأن دعوة الله هي دعوة الحق ودعوة ما يعبدون من دونه هي دعوة الباطل ، ولما شبه تعالى المؤمن والكافر والإيمان والكفر ، بالبصير والأعمى ، والنور والظلمات ، ذكر مثلا آخر للإيمان والكفر ، وأبان مثلا للحق وأهله ، والباطل وحزبه ، فجعل مثل الحق وأهله في ثباته وبقائه بالماء النازل من السماء فينفع الأرض والناس ، وبالمعدن الذي ينتفعون به في صوغ الحلي منه ، واتخاذ الأواني والآلات المختلفة ، وجعل مثل الباطل في اضمحلاله وفنائه وسرعة زواله وانعدام منفعته بزبد السيل الذي يرمي به ، وزبد المعدن الذي يطفو فوقه إذا أذيب.

التفسير والبيان :

اشتملت الآية الأولى على مثلين للحق وهو القرآن أو الإيمان في ثباته وبقائه ونفعه ، والباطل وهو الكفر في اضمحلاله وفنائه ، فقال تعالى : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ..).

أي أنزل الله تعالى من السحاب مطرا ، فأخذ كل واد بحسبه صغرا وكبرا ، وهو إشارة إلى القلوب وتفاوتها في استيعاب الإيمان سعة وضيقا ، فحمل السيل

١٤٥

المتجمع من ذلك المطر زبدا عاليا طافيا فوقه ، وهذا هو المثل الأول للحق والباطل أو الإيمان والكفر.

ثم ذكر تعالى المثل الثاني : (وَمِمَّا يُوقِدُونَ ..) أي ومثل الحق أو الإيمان كالمعدن النافع من ذهب أو فضة أو حديد أو نحاس ونحوها الذي يستخلص من التراب والشوائب ، بواسطة السبك في النار ، ليجعل حلية أو آنية أو سلاحا أو متاعا ينتفع به ، ويعلوه الخبث والشوائب الطافية عند الانصهار ، وهو مثل الباطل.

(كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ) أي المذكور مثل الحق والباطل إذا اجتمعا ، فالحق في استقراره ونفعه كالماء المستقر النافع والمعدن النقي الصافي ، والباطل في زواله وعدم نفعه كالرغوة التي يقذفها السيل على جوانبه ، وخبث المعدن عند انصهاره ، فالباطل لا دوام له أمام الحق.

ثم ذكر الله تعالى اضمحلال الباطل وذهابه بقوله : (فَأَمَّا الزَّبَدُ ..) أي أن الزبد الطافي فوق الماء يتبدد ويزول ويذهب في جانبي السيل ، ويعلق على حافتيه ، فتنسفه الرياح ، وأما النافع من الماء والمعدن فيبقى مستقرا في الأرض ، أما الماء فنشربه ونسقي به الزرع ، وأما المعدن فنستفيد منه إما بالحلي أو بصناعة الأواني والأسلحة والأمتعة ، كما قال تعالى عن الحديد : (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) [الحديد ٥٧ / ٢٥].

(كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ) أي أنه تعالى كما بيّن لكم هذه الأمثال ، فكذلك يضربها بيّنات ، لإيضاح الفوارق بين أصول الاعتقاد الجوهرية من الإيمان والكفر ، والحق والباطل.

والخلاصة : إن القرآن الكريم الذي تجسد فيه الحق ونور الإيمان مثله في إحياء القلوب به مثل الماء الذي يحيي الأرض بعد موتها ، ومثل المعدن النقي

١٤٦

الصافي الذي يحقق منافع كثيرة للناس. وأما الكفر وضلالات الشرك وباطل اعتقاد المشركين ، فهو عديم النفع سريع الزوال ، يتبدد فورا ، فهو كرغوة الماء وغثاء السيل الذي يضمحل وتعصف به الرياح ، وخبث المعدن الذي يستبعد ويلقى جانبا.

وما ضرب هذا المثل الرائع إلا لخير الإنسان ، الذي عليه أن يقدر مآل أمره ، وما ينتظره من سعادة وشقاوة في المعاد ، فإذا كان يوم القيامة وعرض الناس وأعمالهم على ربهم ، فيزيغ الباطل ويتلاشى ، وينتفع أهل الحق بالحق.

وقد ضرب الله تعالى في أول سورة البقرة للمنافقين مثلين من النار والماء ، فقال تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً ، فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ..) [١٧] ثم قال : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ) [١٩].

وضرب سبحانه للكافرين في سورة النور مثلين ، فقال تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ) [٣٩] والسراب يكون في شدة الحر ، ثم قال : (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ ..) [٤٠].

وجاء في السنة أمثال مشابهة ، فشبّه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحوال المنتفعين بسنته بأحوال أراض ثلاث سقط عليها الماء ، ففي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي‌الله‌عنه أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا ، فكان منها طائفة قبلت الماء ، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكانت منها أجادب أمسكت الماء ، فنفع الله بها الناس ، فشربوا ورعوا وسقوا وزرعوا ، وأصابت طائفة منها أخرى إنما هي قيعان ، لأتمسك ماء ، ولا تنبت كلأ ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه الله بما بعثني ونفع به ، فعلم وعلم ، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به» وهذا مثل مائي يشبه المثل الذي ضربه الله تعالى للمنافقين.

١٤٧

وروى الإمام أحمد والشيخان عن أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد نارا ، فلما أضاءت ما حوله ، جعل الفراش وهذه الدواب التي يقعن في النار ، يقعن فيها ، وجعل يحجزهن ويغلبنه ، فيقتحمن فيها ، فذلك مثلي ومثلكم أنا آخذ بحجزكم عن النار ، هلّم عن النار ، فتغلبوني ، فتقتحمون فيها» وهذا مثل ناري أبان فيه النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم حرصه على إبعاد أمته من النار ، وتساقط بعضهم فيها كتساقط الفراش ، وهو كالمثل الذي ضربه الله للمنافقين.

ثم أبان الله تعالى مستأنفا الكلام مصير أهل الحق وأهل الباطل ، ومآل السعداء والأشقياء ، ترغيبا وترهيبا ، فقال : (لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا ..) أي الجنة للذين أطاعوا الله ورسوله ، وانقادوا لأوامره ، وصدقوا أخباره الماضية والآتية ، فلهم الجزاء الحسن ونعيم الجنة والثواب العظيم ، كما قال تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس ١٠ / ٢٦] وقال : (وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ، فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى ، وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً) [الكهف ١٨ / ٨٨].

(وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا ..) أي والذين لم يطيعوا الله ورسوله ، لا ينفعهم في الآخرة الفداء بجميع ما في الدنيا وضعف ما فيها ، أي لا يمكنهم في الدار الآخرة أن يفتدوا من عذاب الله بملء الأرض ذهبا ، ومثله معه. ولو كان لهم ذلك لافتدوا به ، ولكن لا يتقبل الله منهم ؛ لأنه تعالى لا يقبل منهم يوم القيامة صرفا ولا عدلا ، أي فداء وتوبة.

أولئك الذين لم يطيعوا الله لهم سوء العذاب في الدار الآخرة ، ويناقشون على كل ما قدموه ، لا يغفر منه شيء ، ومن نوقش الحساب عذب ، ومرجعهم إلى النار وبئس المستقر مستقرهم. وفي هذا تهويل شديد ، وتخويف عظيم ، لغفلتهم من اتباع أوامر ربهم ، وتقربهم إليه ، وانغماسهم في شهواتهم.

١٤٨

ثم نزل في حمزة رضي‌الله‌عنه وأبي جهل ، كما ذكر ابن عباس قوله تعالى : (أَفَمَنْ يَعْلَمُ ..) أي لا يستوي من يعلم من الناس أن المنزل إليك يا محمد من ربك هو الحق الذي لا شك فيه ولا لبس فيه ، بل هو كله حق ، فأخباره كلها حق ، وأوامره ونواهيه عدل ، كما قال تعالى : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً) [الأنعام ٦ / ١١٥] أي صدقا في الإخبار ، وعدلا في الطلب ، لا يستوي من صدّق بما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومن لم يصدق به ، وكان أعمى لا يستبصر ، ولا يهتدي إلى خير ، ولا يفهمه ، ولو فهمه ، ما انقاد له ولا صدقه ، ولا اتبعه.

إنما الذي ينتفع بهذه الأمثال ويعتبر بها ويتعظ ويعقل هم أولو العقول السليمة ، والأفكار الصحيحة ، والآراء الرشيدة.

ونظير الآية : (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ ، وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ ، أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) [الحشر ٥٩ / ٢٠].

فقه الحياة أو الأحكام :

أبانت الآيات أمورا ثلاثة :

١ ـ تشبيه الحق والإيمان بالماء المستقر والمعدن النقي الصافي ، وتشبيه الباطل والكفر بالزبد الذي يعلو الماء ، فإنه يضمحل ويعلق بجنبات الأودية ، وتنسفه الرياح ، أو تشبيهه بالطافي فوق المعدن المذاب فكذلك الكفر وشبهاته وخيالاته تذهب وتضمحل ، ويبقى الجوهر الصافي من الماء ، والمعدن النقي.

وهذان المثلان اللذان ضربهما الله للحق في ثباته ، والباطل في اضمحلاله ، يلفتان النظر إلى عواقب الأمور.

وقيل وهو ما يروى عن ابن عباس : المراد تشبيه القرآن وما يدخل منه

١٤٩

القلوب بالمطر ، لعموم خيره وبقاء نفعه ، وشبّه القلوب بالأودية ، يدخل فيها من القرآن مثلما يدخل في الأودية بحسب سعتها وضيقها.

٢ ـ للطائعين أهل السعادة الذين أجابوا إلى ما دعا الله من التوحيد والنبوات الجزاء الحسن ، وهو النصر في الدنيا ، والنعيم المقيم غدا في الآخرة.

وللعصاة أهل الشقاوة الذين لم يجيبوا إلى الإيمان بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لا يتمكنون من فداء أنفسهم في الآخرة بملء الأرض ذهبا ، ومثله معه ، ولهم سوء العذاب ، فلا يقبل لهم حسنة ، ولا يتجاوز لهم عن سيئة ، ومسكنهم ومقامهم النار ، وبئس الفراش الذي مهدوا لأنفسهم ، فهذه أربعة أنواع من العذاب والعقوبة : عدم قبول الفداء ، والتعرض لسوء الحساب ، ومأواهم جهنم ، وبئس المهاد مهادهم أي بئس المستقر هي.

٣ ـ مثل آخر للمؤمن والكافر ، روي أنه نزل في حمزة بن عبد المطلب رضي‌الله‌عنه ، وأبي جهل خزاه الله ، فالمؤمن بالمنزل من الله على نبيه ، المتحقق بصدقه ، العامل بما بلغه إليه منه هو المستبصر الواعي العاقل ، والكافر هو الجاهل بالدين أعمى القلب ، وأولو العقول هم المتعظون المعتبرون بذلك.

أوصاف أولي الألباب السعداء وجزاؤهم

(الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (٢٠) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (٢١) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (٢٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ

١٥٠

مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (٢٤))

الإعراب :

(الَّذِينَ يُوفُونَ) إما صفة لأولي الألباب ، وإما مبتدأ ، خبره : (أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ).

(وَمَنْ صَلَحَ) مرفوع بالعطف على ضمير (يَدْخُلُونَها) المرفوع ، وحسن العطف لوجود الفصل بضمير المفعول. ويجوز نصبه على أنه مفعول معه. ولا يجوز عطفه بالجر على (لَهُمْ عُقْبَى) لأن العطف على الضمير المجرور إنما يكون بإعادة حرف الجر. وأجاز الكوفيون ذلك من غير إعادة حرف الخفض.

(جَنَّاتُ عَدْنٍ) بدل من (عُقْبَى الدَّارِ) ، أو مبتدأ ، خبره : (يَدْخُلُونَها).

(بِما صَبَرْتُمْ) متعلق بعليكم ، أو بمحذوف ، أي هذا بما صبرتم ، ولا يتعلق بسلام ؛ فإن الخبر فاصل ، والباء : للسببية أو البدلية.

البلاغة :

(سِرًّا) و (عَلانِيَةً) و (بِالْحَسَنَةِ) و (السَّيِّئَةَ) بينهما طباق.

المفردات اللغوية :

(الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ) المأخوذ عليهم ، وهم في عالم الذر أو كل عهد ، وهو ما عقدوه على أنفسهم من الاعتراف بربوبيته حين قالوا : بلى ، أو ما عهده الله تعالى عليهم في كتبه. (وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ) ما وثقوه من المواثيق بينهم وبين الله تعالى وبين العباد ، والنقض : الفك بترك الإيمان أو الفرائض ، وهو تعميم بعد تخصيص. (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) من الإيمان بجميع الأنبياء عليهم‌السلام ، والرحم وموالاة المؤمنين ، ويندرج في ذلك مراعاة جميع حقوق الناس. (وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) تمتلئ قلوبهم مهابة منه وجلالا له. والخشية : الخوف مع العلم بمن تخشاه.

(وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ) فيحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا ، ويخشون خطر الحساب. (وَالَّذِينَ صَبَرُوا) على الطاعة والبلاء وعن المعصية. (ابْتِغاءَ) طلب. (وَجْهِ رَبِّهِمْ) أي طلب رضاه ، لا غيره من أغراض الدنيا ، كالفخر أو السمعة ونحوهما. (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) المفروضة. (وَأَنْفَقُوا ..) في الطاعة بعض ما رزقهم الله. (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) ويدفعون

١٥١

السيئة بالحسنة ، فيجازون الإساءة بالإحسان كالأذى بالصبر ، والجهل بالحلم ، أو يتبعون السيئة الحسنة ، فتمحوها. (عُقْبَى الدَّارِ) أي العاقبة المحمودة في الدار الآخرة ، وهي (جَنَّاتُ عَدْنٍ) إقامة يقيمون فيها. (وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) أي ومن صلح ، وإن لم يعملوا بعملهم ، يكونون في درجاتهم تكرمة لهم ، وهو دليل على أن الدرجة تعلو بالشفاعة ، والتقييد بالصلاح دلالة على أن مجرد الأنساب لا تنفع. (مِنْ كُلِّ بابٍ) من أبواب الجنة أو من أبواب المنازل ، أول دخولهم للتهنئة. (سَلامٌ) قائلين : سلام عليكم ، بشارة بدوام السلامة. (بِما صَبَرْتُمْ) بصبركم في الدنيا. (فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) عقباكم.

المناسبة :

هذه الآية متعلقة بما قبلها ، فهي تذكر الصفات الحميدة لأولي الألباب ، أو الصفات المذكورة في قوله تعالى : (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُ) ومن اتصف بهذه الصفات لهم سعادة الدنيا والآخرة.

التفسير والبيان :

يصف الله تعالى أولي الألباب من المؤمنين الذين تحققوا من نبوة النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم واعتقدوا أن ما أنزل إليه هو الحق ، يصفهم بالصفات التالية :

١ ـ الوفاء بالعهد :

الذين يوفون بما عقدوه على أنفسهم من الاعتراف بربوبية الله تعالى ، وبالمواثيق بينهم وبين ربهم ، وبينهم وبين العباد. وعهد الله : كل ما قام الدليل على صحته من الأدلة العقلية والسمعية ، والعهد : اسم للجنس ، أي بجميع فروض الله ، وهي أوامره ونواهيه التي وصى بها عبيده ، ويدخل فيه التزام جميع الفروض ، وتجنب جميع المعاصي.

٢ ـ عدم نقض الميثاق :

أي لا يخلّون بواجبات العهد والتزاماته ، ولا ينقضون عهد الإيمان مع ربهم ، ولا بالعقود التي يبرمونها مع الناس من بيع وشراء وسائر المعاملات ، حتى لا يكونوا

١٥٢

كالمنافقين الذين إذا عاهد أحدهم غدر ، وإذا خاصم فجر ، وإذا حدث كذب ، وإذا ائتمن خان ، روى الشيخان والترمذي والنسائي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان» وفي رواية أربع ومنها : «وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر».

فعدم نقض الميثاق في رأي الأكثرين قريب من الوفاء بالعهد ، وهما مفهومان متلازمان ، وإن كانا متغايرين ، ونص على منع النقض تأكيدا عليه. أو أنه تعميم بعد تخصيص. قال قتادة : إن الله ذكر الوفاء بالعهد والميثاق في بضع وعشرين موضعا في القرآن ، عناية بأمره ، واهتماما بشأنه.

٣ ـ صلة الرحم ورعاية جميع الحقوق الواجبة لله وللعباد :

الذين يصلون كل ما أمر الله بصلته ونهى عن قطعه من حقوق الله ، ومنها مؤازرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ونصرته في الجهاد ، وحقوق العباد ، ومنها صلة الرحم. جاء في الصحيحين عن أنس رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أحبّ أن يبسط له في رزقه ، وينسأ له في أثره ، فليصل رحمه» ومنها الإحسان إلى الفقراء والمحاويج وبذل المعروف. ونص على هذا الوصف مع دخوله في الوصفين السابقين للتأكيد ، ولئلا يظن ظان أن الوفاء بالعهد مقصور على ما بين الإنسان وبين الله تعالى.

٤ ـ الخوف من الله :

ويخشون ربهم فيما يأتون وما يذرون من الأعمال ، يراقبون الله في ذلك. والخشية : خوف مقرون بالتعظيم والعلم بمن يخشاه ، لذا خص الله العلماء بمزيد الخشية ، فقال : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [فاطر ٣٥ / ٢٨].

١٥٣

٥ ـ الخوف من العذاب :

ويحذرون سوء الحساب في الدار الآخرة ، فيخافون المناقشة في الحساب ؛ لأن من نوقش الحساب عذّب ، ويحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا ؛ لأن الحساب يشمل كل صغير وكبير ، ومن خاف الحساب أقبل على الطاعة ، وتجنب المعصية. ويلاحظ أن الوصف الرابع إشارة إلى الخشية من الله ، وهذا يقتضي خوف الجلال والمهابة والعظمة ، وهذا الوصف إشارة إلى الخوف من سوء الحساب.

٦ ـ الصبر :

وهو حبس النفس على ما تكره : والذين صبروا على الطاعة وعن المعصية ، وحال البلاء ، ففعلوا الطاعات والتكاليف ، وامتنعوا من المعاصي والسيئات أو المنكرات ، ورضوا بالقضاء والقدر عند التعرض للمصائب ، وكان صبرهم بقصد مرضاة الله عزوجل ونيل ثوابه ، لا رياء ولا سمعة.

٧ ـ إقامة الصلاة :

والذين أقاموا الصلاة أي أدّوها مستكملة أركانها وشروطها التامة ، مع خشوع القلب لله تعالى على الوجه المرضي.

٨ ـ الإنفاق في وجوه الخير :

وأنفقوا بعض ما رزقناهم في السر والجهر بحسب مقتضى الحال ، فيسرّون النفقة بينهم وبين ربهم حتى لا يكون قصدهم الرياء والسمعة ، ويعلنونها أحيانا للناس إذا كانت بقصد التشجيع والتعليم والقدوة ، سواء كان إنفاقا واجبا كالإنفاق على الزوجة والولد والأقارب الفقراء ، أو مندوبا كالإنفاق على الفقراء والمساكين الأباعد.

١٥٤

٩ ـ مقابلة السيئة بالإحسان :

ويدفعون الإساءة بالإحسان كالجهل بالحلم ، والأذى بالصبر ، كما قال تعالى : (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا : سَلاماً) [الفرقان ٢٥ / ٦٣] (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) [الفرقان ٢٥ / ٧٢] ، ويتبعون السيئة بالحسنة لمحوها ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يرويه أحمد عن أبي ذر : «إذا عملت سيئة ، فاعمل بجنبها حسنة تمحها» وفي رواية أحمد والترمذي والحاكم والبيهقي عن أبي ذر : «وأتبع السيئة الحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن».

والثابت أن المعاملة الكريمة مع المسيء وغيره أفضل وأجدى وأوقع أثرا ؛ لأنها تهوّن الأمر ، وتستل الأحقاد ، وتكون عاقبتها أسلم.

وبعد أن وصف الله المؤمنين العقلاء بتلك الصفات الحميدة ، ذكر جزاءهم بقوله : (أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) أي أولئك الموصوفون بما ذكر لهم العقبى الحسنة والسعادة في الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا فهو النصر على الأعداء ، وأما في الآخرة فهو الجنة.

ثم أوضح هذه العقبى فقال : (جَنَّاتُ عَدْنٍ ..) أي تلك العقبى هي الجنات التي يقيمون فيها إقامة دائمة.

يدخلونها هم والصالحون المؤمنون من أزواجهم وأصولهم وفروعهم ، وهو دليل على أن سمو الدرجة يكون بالشفاعة ، وأن التقييد بالصلاح يدل على أن مجرد الأنساب لا تنفع ، فلا تفيد الأنساب شيئا إذا لم تقرن بالعمل الصالح ، وكما قال تعالى : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ) [المؤمنون ٢٣ / ١٠١] وقال سبحانه : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء ٢٦ / ٨٨ ـ ٨٩] وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لفاطمة في مرض موته فيما رواه الترمذي : «يا فاطمة بنت محمد ، سليني من مالي ما شئت ، لا أغني عنك من الله شيئا».

١٥٥

وتأتيهم الملائكة عند دخولهم الجنة من أبواب مختلفة قائلين لهم : سلام عليكم بصبركم ، أي أمن دائم عليكم ، ورحمة من ربكم ، فنعم عقبى الدنيا الجنة. فقوله (سَلامٌ) مشتمل على محذوف تقديره : ويقولون : سلام عليكم.

روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي أمامة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يزور قبور الشهداء في رأس كل حول ، فيقول لهم : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ ، فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) وكذلك كان يفعل أبو بكر وعمر وعثمان.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على الأحكام التالية :

١ ـ وجوب الوفاء بالعهد : وهو يشمل كل حقوق الله وفرائضه وحقوق العباد.

٢ ـ تحريم نقض المواثيق الإلهية والبشرية : فإذا عقد الإنسان عهدا في طاعة الله ، أو مع الناس ، لم يجز نقضه.

٣ ـ وجوب صلة الأرحام ورعاية جميع حقوق الله وحقوق العباد ، وذلك يتناول جميع الطاعات والإيمان بجميع الكتب والرسل كلهم.

٤ ـ الخوف من سوء الحساب : وهو الاستقصاء فيه والمناقشة ، ومن نوقش الحساب عذّب ، كما روى الشيخان عن عائشة.

٥ ـ الصبر بإخلاص لله تعالى على الطاعة ، وعن المعصية ، وعلى الرزايا والمصائب ، والحوادث والنوائب.

٦ ـ إقامة الصلاة : وهو أداؤها بفروضها وخشوعها في مواقيتها.

١٥٦

٧ ـ الإنفاق من بعض المال سرا وجهرا ، بأداء الزكاة المفروضة والتطوع بالصدقات المندوبة في سبيل الله تعالى.

٨ ـ درء السيئة بالحسنة ، أي الدفع بالعمل الصالح السيء من الأعمال ، كالتخلق بالأخلاق الطيبة في مواجهة أذى الناس ، كالحلم في وجه الجهل ، والصبر في وجه الأذى ، ودفع الشر بالخير ، والمنكر بالمعروف ، واتباع السيئة بالحسنة لمحو أثرها ؛ لقوله تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) [هود ١١ / ١١٤] وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه أحمد والترمذي والحاكم والبيهقي عن أبي ذر : «وأتبع السيئة الحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن».

٩ ـ للسعداء الطائعين عاقبة الآخرة : وهي الجنة بدل النار ، والدار غدا داران : الجنة للمطيع ، والنار للعاصي.

وجنان عدن : وسط الجنة ، وسقفها عرش الرحمن ، جاء في صحيح البخاري «إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس ، فإنه أوسط الجنة ، وأعلى الجنة ، وفوقه عرش الرحمن ، ومنه تفجّر أنهار الجنة».

١٠ ـ يدخل الجنة مع المؤمن الصالح آباؤه وأزواجه وأبناؤه إن صدقوا وصلحت أعمالهم ، وإن لم يعملوا مثل أعمالهم ، واشتراط العمل الصالح كاشتراط الإيمان ، ولكن من فضل الله تعالى وإكرام المؤمن وثواب المطيع : سروره واجتماعه مع قراباته في الجنة ، وحضور أهله معه فيها ، وان دخلها كل إنسان بعمل نفسه من زاوية العدل ، وبرحمة الله تعالى من ناحية الفضل.

١١ ـ التقييد بالصلاح بقوله : (وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ ..) دليل على أن مجرد الأنساب لا تنفع ، فلا تفيد الأنساب شيئا إذا لم تقرن بالعمل الصالح.

١٢ ـ تدخل أفواج الملائكة من مختلف أبواب الجنة مهنئة المؤمنين ، ومبشرة لهم بالسلامة ، قائلين لهم : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ ، فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) أي قد

١٥٧

سلمتم من الآفات والمحن ، أو هو خبر بمعنى الدعاء ، أي ندعو لكم بدوام السلامة ، سلمكم الله ، وهذا يتضمن الاعتراف بالعبودية. والسلام عليكم كان بصبركم على ملازمة الطاعة ، ومفارقة المعصية ، فنعم عاقبة الدار التي كنتم فيها ، عملتم فيها ما أعقبكم هذا الذي أنتم فيه ، فالعقبى على هذا اسم ، وهو قول ابن سلام. أو فنعم عقبى الجنة عن النار أو عن الدنيا ، وهو قول أبي عمران الجوني.

١٣ ـ استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن الملك أفضل من البشر فقال : إنه سبحانه ختم مراتب سعادات البشر بدخول الملائكة عليهم على سبيل التحية والإكرام والتعظيم ، فكانوا به أجل مرتبة من البشر ، ولو كانوا أقل مرتبة من البشر ، لما كان دخولهم عليهم لأجل السلام والتحية موجبا علو درجاتهم وشرف مراتبهم (١).

صفات الأشقياء وجزاؤهم

(وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٢٥))

المفردات اللغوية :

(وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ) ذكر في مقابلة الأولين الذين يوفون بعهد الله. (وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) بالكفر والظلم والمعاصي وإثارة الفتن. (لَهُمُ اللَّعْنَةُ) الطرد أو البعد من رحمة الله. (وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) العاقبة السيئة في الدار الآخرة ، وهي جهنم ، أو سوء عاقبة الدنيا ؛ لأنه في مقابلة عقبى الدار للسعداء.

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٩ / ٤٥ ـ ٤٦

١٥٨

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى صفات السعداء وجزاءهم الذي أعده لهم في دار الكرامة ، ذكر حال الأشقياء وما هيأه لهم من عذاب النار ، وأتبع الوعد بالوعيد ، والثواب بالعقاب ، على ما هي عليه عادة القرآن للموازنة والمقابلة ، وليكون البيان كاملا فيكون أدعى للامتثال والزجر ، فقال : (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ).

التفسير والبيان :

وصف الله تعالى الأشقياء بصفات ثلاث هي :

١ ـ نقض العهد : والذين ينقضون عهد الله الذي ألزمه عباده وأمر به. سواء ما يتعلق به سبحانه من الإيمان بوحدانيته وقدرته وإرادته ، والإيمان بأنبيائه ورسله وكتبه وما أوحى لهم به ، أو ما يتعلق بحقوق الناس.

ونقض العهد : بألا ينظر في الأدلة الدالة على وجود الله وتوحيده أصلا ، أو بأن ينظر فيها ويعلم صحتها ثم يعاند ، فلا يعمل بعلمه ، أو بأن ينظر في الشبهة ، فيعتقد خلاف الحق.

وقوله : (مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) أي من بعد الإقرار بصحته والالتزام به.

٢ ـ قطع ما أمر الله به أن يوصل ، أي قطع كل ما أوجب الله وصله ، من لإيمان به وبرسله ، وقطع الرحم والقرابات ، وعدم صلة المؤمنين وسائر أصحاب الحقوق وعدم التعاون معهم.

٣ ـ الإفساد في الأرض ، أي ويفسدون في الأرض بأعمالهم الخبيثة ، يظلمون أنفسهم وغيرهم ، ويدعون إلى غير دين الله ، ويلحقون الظلم بالنفوس

١٥٩

والأموال ، ويرتكبون كل ما يؤدي إلى تخريب البلاد ، وإثارة الفتن ، وتأجيج نار الحرب والدمار.

ثم أبان تعالى ما يستحق هؤلاء من عقاب ، فقال : (أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ) أي أولئك الموصوفون بما ذكر يستحقون اللعنة ، أي الطرد من رحمة الله والإبعاد من خيري الدنيا والآخرة.

(وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) أي ولهم سوء العاقبة والمآل ، وهو عذاب جهنم ، وليس فيها إلا ما يسوء الصائر إليها ، كما قال سبحانه سابقا : (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) [الآية : ١٨].

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآية إلى الأحكام التالية :

١ ـ تحريم نقض العهد الإلهي بالإيمان وإيتاء الحقوق ، الذي أقام عليه تعالى لأدلة العقلية والسمعية ، وأوجب الوفاء به في قرآنه وكتبه المنزلة على أنبيائه.

٢ ـ تحريم قطع ما أمر الله بوصله من صلة الأرحام والإيمان بجميع الأنبياء ، والتعاون مع المؤمنين.

٣ ـ تحريم الإفساد في الأرض بالكفر وارتكاب المعاصي والظلم وإثارة الفتن ، وارتكاب كل ما يؤدي إلى دمار البلاد وتخريبها ، وإتلاف الأموال والحقوق واغتصابها والاعتداء عليها.

٤ ـ المرتكبون لهذه المنكرات والفواحش لهم اللعنة ، أي الطرد والإبعاد من لرحمة ، ولهم سوء الدار ، أي سوء المنقلب ، وهو جهنم.

١٦٠