التفسير المنير - ج ١٣

الدكتور وهبة الزحيلي

إننا إذا ذهبنا مع أخينا في المرّة الثّانية وأرسلته معنا ، نأتي بالميرة إلى أهلنا من مصر.

ونحفظ أخانا بنيامين بعنايتنا ورعايتنا ، فلا تخف عليه.

ونزيد مكيال بعير لأجله ، لأن عزيز مصر كان يعطي لكلّ رجل حمل بعير ، دون زيادة ولا نقص ، اقتصادا وحسن تدبير.

وذلك الحمل الزّائد أمر يسير قليل ، أو سهل لا عسر فيه على هذا الرّجل السّخي الرّحيم في مقابلة أخذ أخينا.

قال يعقوب ، وقد تذكّر ماضي يوسف : لن أرسل بنيامين معكم حتى تعاهدوني عهدا موثقا باليمين ، لتعودنّ به على أي حال كنتم ، إلا في حال يمتنع ذلك عنكم بأن تهلكوا وتموتوا أو تغلبوا على أمركم وتقهروا كلكم ، ولا تقدرون على تخليصه. ويلاحظ أن العهد المؤكّد باليمين يسمّى يمينا ، وإن أكّد ووثّق بما يقتضي زيادة العناية بحفظه والوفاء به بغير اليمين يسمّى ميثاقا.

فلما آتوه أي أعطوه موثقهم ، أي عهدهم المؤكّد باليمين ، قال يعقوب : الله على ما نقول جميعا وكيل ، أي شهيد رقيب حفيظ مطّلع ، وأفوض أمري إليه ، وقد وافق على إرساله اضطرارا من أجل الميرة التي لا غنى لهم عنها.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلّت الآيات على ما يأتي :

١ ـ كان أولاد يعقوب فيما أخبروا به أباهم من منع الكيل صادقين ، حتى يرسل معهم أخاهم ، كما وعدوا عزيز مصر.

٢ ـ تعهد أولاد يعقوب عليه‌السلام بالمحافظة على أخيهم بنيامين ، وكأنهم لم

٢١

يريدوا تكرار مأساة يوسف عليه‌السلام ، لأنهم كانوا يحملون في صدورهم الحقد والحسد عليه ، خلافا لحال بنيامين.

٣ ـ تعلّق إخوة يوسف بزيادة الكسب والرّبح ، وطمحوا أن يأتوا مرة أخرى بطعام لهم من مصر من غير ثمن.

٤ ـ كان إكرام يوسف لإخوته وردّه ثمن الطعام إليهم عاملا مرغّبا قويّا في عودتهم إليه مرة أخرى ، مصطحبين معهم أخاهم بنيامين.

٥ ـ إن يعقوب النّبي عليه‌السلام كان في حديثه مع أولاده مطمئنا إلى حفظ الله ورحمته ، فهو نعم الوكيل الحافظ ، وهو أرحم الرّاحمين بعباده ، لا سيّما حال الضّعفاء وكبار السّن أمثاله ، فحفظ الله له خير من حفظكم إيّاه.

٦ ـ تشدّد يعقوب عليه‌السلام هذه المرة مع أولاده أكثر مما حدث عند إذنه بإرسال يوسفعليه‌السلام ، بعد تلك التّجربة القاسيّة وما أعقبها من حزن شديد وألم ، فطلب منهم الميثاق وهو العهد المؤكّد باليمين على إحضاره إليه إلا في حال العذر القاهر والإحاطة بهم ، قال مجاهد معناها : إلا أن تهلكوا أو تموتوا.

وقد دلّ قوله تعالى : (هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ ..) على أنه أجابهم إلى إرساله معهم.

٧ ـ أراد أولاد يعقوب عليه‌السلام تطييب نفس أبيهم بقولهم : (ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا ..؟) فهم حشدوا لإقناعه وتطييب نفسه كلّ الأسباب والبواعث المادية واستغلّوا حاجتهم الشديدة : أخذ الطعام دون ثمن ، إعالة الأهل ، إضافة حمل بعير ، وضمّوا إلى ذلك كلّه التّعهد بالحفظ والرّعاية ، فلم يجد بدّا من الموافقة على إرسال بنيامين معهم.

٨ ـ قوله تعالى : (لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ)

٢٢

دليل على جواز الكفالة (الحمالة) بالعين والوثيقة بالنّفس (كفالة النّفس) وللعلماء فيها رأيان : رأي الجمهور : هي جائزة إذا كان المكفول به مالا. ولا تجوز الكفالة بالحدود والقصاص في رأي المذاهب الأربعة ، وأجاز الشافعية الكفالة بالقصاص ، والقذف ، والتّعزير ، لما فيها من حقّ العبد. وقال بعضهم : لا تجوز الكفالة بالنّفس ، لتعذّر إحضار المكفول بنفسه ، ولقوله تعالى على لسان العزيز في قصّة يوسف عليه‌السلام : (قالَ : مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ ، إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ).

الفصل الثاني عشر من قصة يوسف

وصية يعقوب لأولاده بالدخول إلى مصر من أبواب متفرقة

(وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (٦٧) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦٨))

الإعراب :

(مِنْ شَيْءٍ) إما مفعول وإما فاعل ، والتقدير على المفعولية : ما كان يغني من قضاء الله شيئا ، وعلى الفاعلية : ما كان يغني عنهم من الله شيء مع قضائه.

البلاغة :

(لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ) فيه طباق السلب ، وفيه إطناب : وهو زيادة اللفظ على المعنى ، للتأكيد والتقرير وتمكين المعنى في النفس.

٢٣

المفردات اللغوية

(لا تَدْخُلُوا) مصر. (وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ) لأنهم كانوا ذوي جمال وأبهة مشتهرين في مصر بالكرامة والحظوة عند العزيز ، فخاف عليهم أن يدخلوا جماعة واحدة فتصيبهم العين. ولعله لم يوصهم بذلك في المرة الأولى ، لأنهم كانوا مجهولين حينئذ. (وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) أي وما أدفع عنكم بقولي ذلك شيئا قدره الله عليكم وقضاه ، وإنما ذلك شفقة ، فإن الحذر لا يمنع القدر. ومن : صلة زائدة لتمكين النفي.

(إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) أي ما الحكم إلا لله وحده ، يصيبكم لا محالة إن قضي عليكم سوء ، ولا ينفعكم ذلك. (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) به وثقت. (فَلْيَتَوَكَّلِ) الفاء لإفادة التسبب ، فإن فعل الأنبياء سبب لأن يقتدى بهم. والواو في قوله (وَعَلَيْهِ) للعطف ، وقدم (عَلَيْهِ) في عطف الجملة على الجملة للاختصاص.

(مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ) أي من أبواب متفرقة في البلد. (ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ) أي ما كان يفيد رأي يعقوب واتباعهم له مما قضاه الله عليهم شيئا ، فحدث وضع الصواع في رحل بنيامين ، وتضاعفت المصيبة على يعقوب.

(إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها) استثناء منقطع ، أي ولكن حاجة في نفسه يعني شفقته عليهم وحرصه على ألا يعانوا (تصيبهم العين) وقضاها أي أظهرها ، ووصى بها. (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ) إن يعقوب عليم بحقائق الأمور وأن العين لا توقع ضررا إلا بإذن الله ، لتعليمنا إياه بالوحي وإقامة الحجج ، ولذلك قال : (وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) ولم يغتر بتدبيره.

(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ) وهم الكفار. (لا يَعْلَمُونَ) سر القدر ، وأنه لا يغني عنه الحذر ، وأن الحكم لله. وهذا ثناء من الله على يعقوب عليه‌السلام.

المناسبة :

بعد أن أبان الله تعالى موافقة يعقوب على إرسال بنيامين مع إخوته إلى مصر ، ذكر هنا وصيته لأولاده لما عزموا على الخروج إلى مصر ، وهي الدخول من أبواب متفرقة ، ليروا مدى الاهتمام والاستقبال لكل واحد منهم حين رؤية بنيامين شقيق يوسف ، أو لئلا يحسدهم الحساد ، وتصيبهم العين جميعا.

٢٤

التفسير والبيان :

أمر يعقوب بنيه لما جهزهم مع أخيهم بنيامين إلى مصر ألا يدخلوا كلهم من باب واحد ، وليدخلوا من أبواب متفرقة ، لأنهم كانوا من أهل جمال وكمال ، وذلك في رأي جمهور المفسرين لئلا تصيبهم العين ، فإنه خاف من العين عليهم ، والعين حق أي أنها سبب حق في الظاهر قد تؤدي إلى الضرر ، ولكن بإذن الله وإرادته ، بدليل قوله بعدئذ : (وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ). أو ليروا من العزيز فرق الاستقبال بينهم وبين أخيهم بنيامين.

(وَما أُغْنِي ..) أي وما أدفع عنكم بوصيتي وتدبيري من قضاء الله شيئا ، إذ لا يغني حذر من قدر ، أي إن هذا الاحتراز لا يرد قدر الله وقضاءه ، فإن الله إذا أراد شيئا لا يخالف ولا يمانع ، ولكنا مأمورون باتخاذ وسائل الحيطة والحذر : (وَخُذُوا حِذْرَكُمْ) [النساء ٤ / ١٠٢] أخذا بالأسباب العادية الظاهرية التي لا تؤثر في الواقع شيئا إلا بإذن الله ، واستعانة بالله ، وفرارا منه إليه ، وليس دفعا للقدر ، وتحديا للقضاء ، فلا يملك الإنسان من أمره شيئا ، فما أراد الله بكم سوءا لم ينفعكم ولم يدفع عنكم ما أشرت به من التفرق ، وهو مصيبكم لا محالة.

وما إنفاذ الأحكام وتدبير الأمور إلا لله وحده ، عليه وحده توكلت ، وبه وثقت ، وإليه فوضت أمري ، دون حولي وقوتي ، وعليه تعالى وحده فليتوكل المتوكلون ، لا على أنفسهم ولا على أمثالهم من البشر.

ولما دخلوا أي أولاد يعقوب مصر ، التي كان لها أربعة أبواب ، من حيث أمرهم أبوهم ، أي من أبواب متفرقة ، ما كان رأي يعقوب ودخولهم على هذا النحو متفرقين يفيدهم شيئا قط ، حيث أصابهم ما ساءهم ، مع تفرقهم ، من نسبة السرقة إليهم ، وافتضاحهم بذلك ، وأخذ أخيهم فداء لوجدان الصواع في رحله ، وتضاعف المصيبة على أبيهم.

٢٥

ولكن حاجة في نفس يعقوب قضاها ، أي مجرد شيء في نفسه أظهره ، وهي شفقته عليهم ، وإظهارها بما قاله لهم ووصاهم به.

وإنه أي يعقوب لذو علم بأن الحذر لا يمنع القدر ، لتعليمنا إياه بالوحي. وقال قتادة والثوري : لذو عمل بعلمه ، وهذا ثناء من الله على يعقوب عليه‌السلام.

ولكن أكثر الناس وهم المشركون أو الكفار لا يعلمون ذلك أي مثل ما علم يعقوب ، أو لا يعلمون أن يعقوب بهذه الصفة والعلم ، فإنهم لا يعلمون كيف أرشد الله أولياءه إلى العلوم التي تنفعهم في الدنيا والآخرة. ومن تلك العلوم الأخذ بالأسباب الظاهرة وتفويض الأمر لله تعالى.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ قول يعقوب لأولاده : (لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ) دليل في رأي جمهور المفسرين على التحرز من العين ، والعين في الظاهر حق ، ومرد النتيجة في الحقيقة إلى الله وحده ، وتكون العين مجرد سبب ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخرجه أحمد بسند صحيح «العين حق» أي شيء ذو أثر موجود عند الناس ، وذكر النسفي : «إن العين لتدخل الرجل القبر ، والجمل القدر» وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتعوّذ فيقول : «أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامّة ، ومن كل عين لامّة» وكان يعوّذ الحسن والحسين فيقول : «أعيذ كما بكلمات الله التّامة من كل شيطان وهامّة ، ومن كل عين لامة» ويقول : وهكذا كان يعوّذ إبراهيم إسماعيل وإسحاق صلوات الله عليهم.

وروى عبادة بن الصامت قال : دخلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أول النهار ، فرأيته شديد الوجع ، ثم عدت إليه آخر النهار ، فرأيته معافى ، فقال : إن

٢٦

جبريل عليه‌السلام أتاني فقال فيما أخرجه أحمد عن عائشة وعبادة. «بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك ، ومن كل عين وحاسد ، الله يشفيك».

وعلى كل مسلم أعجبه شيء أن يبرّك ، فإنه إذا دعا بالبركة ، صرف المحذور لا محالة ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعامر : «ألا برّكت» فدل على أن العين لا تضر إذا برّك العائن. والتبريك أن يقول : تبارك الله أحسن الخالقين ، اللهم بارك فيه. ويقال : إن العين أسرع إلى الصغار منها إلى الكبار.

والعائن إذا أصاب بعينه ولم يبرّك ، يؤمر بالاغتسال ، ويجبر على ذلك إن أباه ، لأن الأمر على الوجوب ، وقد أمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث أبي أمامة العائن بالاغتسال للمعين ، وأمر بالرقية.

ومن عرف بالإصابة بالعين ، منع من مداخلة الناس ، دفعا لضرره.

٢ ـ دل قوله تعالى : (وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) على أن الحذر لا ينفع مع القدر ، فدخول أولاد يعقوب مصر من أبواب متفرقة ما كان ذلك التفرق يغني من الله من شيء. قال ابن عباس : ذلك التفرق ما كان يرد قضاء الله ولا أمرا قدره الله.

٣ ـ الحكم لله ، أي الأمر والقضاء لله وحده ، وعلى المؤمن الاتكال على الله ، أي الاعتماد عليه والثقة به وحده ، لأن حصول كل الخيرات ودفع كل الآفات من الله تعالى.

٤ ـ إن وصية يعقوب لأولاده بالدخول من أبواب متفرقة مجرد خاطر خطر بقلبه ،. وتحرز ظاهري ، مع أنه عليم من طريق الوحي بأمر دينه ، وأكثر الناس لا يعلمون ما يعلم يعقوب من أمر دينه. وقيل : المقصود بالعلم هنا العمل ، أي لذو عمل بعلمه ، فإن العلم أول أسباب العمل ، فسمي بما هو بسببه.

٢٧

٥ ـ أفادت الآية أن على المسلم أن يحذّر أخاه مما يخاف عليه ، ويرشده إلى ما فيه طريق السلامة والنجاة ، فإن الدين النصيحة ، والمسلم أخو المسلم.

الفصل الثالث عشر من قصة يوسف

معرفة يوسف أخاه بنيامين واتخاذه التدابير لإبقائه لديه

(وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٩) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (٧٠) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ (٧١) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (٧٢) قالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (٧٣) قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (٧٤) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٧٥) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (٧٦))

الإعراب :

(جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ جَزاؤُهُ) مبتدأ ، والهاء عائد للسّرق ، وتقديره : جزاء

٢٨

السّرق أخذ من وجد في رحله. وقوله : (مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ) جملة هي في موضع خبر المبتدأ ، أي فالاستعباد جزاء السّرق ، وفاء : (فَهُوَ) متضمنة معنى الشرط أو جواب له على أن (مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ) شرطية ، والجملة الشرطية كما هي : خبر المبتدأ الاول : (جَزاؤُهُ) على إقامة الظاهر فيها مقام الضمير ، كأنه قيل : جزاؤه من وجد في رحله ، فهو هو ، إلا أنه أقام الظاهر مقام المضمر للتأكيد والمبالغة في البيان.

(فَهُوَ جَزاؤُهُ) مبتدأ وخبر ، والجملة خبر المبتدأ (مَنْ وُجِدَ) الذي هو الاسم الموصول.

البلاغة :

(وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ) فيه جناس الاشتقاق. (أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ) فيه أيضا جناس الاشتقاق.

المفردات اللغوية :

(آوى إِلَيْهِ أَخاهُ) ضم إليه بنيامين على الطعام أو في المنزل. (فَلا تَبْتَئِسْ) تحزن. (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) من الحسد لنا ، وأمره ألا يخبرهم ، وتواطأ معه على أنه سيحتال على أن يبقيه عنده. (جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ) أعد لهم الطعام بسرعة. (السِّقايَةَ) في الأصل : المشربة أو وعاء يسقى به ، والمراد به هنا المكيال الذي كان يكال به الطعام للناس ، وهو صواع الملك ، فهو كان مشربة ، ثم جعل صاعا يكال به ، ويقدر بكيلة مصرية ١٢ / ١ من الإردب المصري ، والإردب ١٩٨ لترا ، أو ١٥٦ كغ. قيل : كان من فضة ، وقيل : كان من ذهب. (فِي رَحْلِ أَخِيهِ) بنيامين. (أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ) نادى مناد ، أو أعلم وأخبر ، وهو يفيد الكثرة والتكرار. (أَيَّتُهَا الْعِيرُ) القافلة أو الجمال التي تحمل الطعام ، والمراد أصحابها. (ما ذا تَفْقِدُونَ) أيّ شيء ضاع منكم ، والفقد : غيبة الشيء عن الحس بحيث لا يعرف مكانه.

(صُواعَ الْمَلِكِ) صاعه أو مكياله. (حِمْلُ بَعِيرٍ) من الطعام جعلا له. (وَأَنَا بِهِ) بالحمل. (زَعِيمٌ) كفيل وضامن ، أؤديه إلى من ردّه.

(تَاللهِ) قسم فيه معنى التعجب. (لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ ..) استشهدوا بعلمهم على براءة أنفسهم ، لما عرفوا منهم في كرتي مجيئهم ، مما يدل على فرط أمانتهم ، مثل ردّ البضاعة التي جعلت في رحالهم.

(قالُوا : فَما جَزاؤُهُ) أي قال المؤذن وأصحابه ، فما جزاء السارق. (إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ) في قولكم : ما كنا سارقين ، ووجد فيكم. (قالُوا : جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ) أي عقوبة السارق استعباد أو استرقاق من وجد في رحله. (فَهُوَ جَزاؤُهُ) تأكيد لما سبق أي فأخذ السارق جزاء

٢٩

المسروق لا غير ، وكان ذلك سنة آل يعقوب. (كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) أي مثل هذا الجزاء جزاء الظالمين بالسرقة ، وهذا تصريح منهم ليوسف بتفتيش أوعيتهم.

(فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ) ففتشها. (قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ) قبل تفتيش وعاء أخيه بنيامين لئلا يتهم. (ثُمَّ اسْتَخْرَجَها) أي السقاية أو الصواع. (كَذلِكَ كِدْنا) أي مثل ذلك الكيد (أي التدبير الخفي) كدنا ليوسف ، علمناه الحيلة في أخذ أخيه وأوحينا به إليه. (ما كانَ) يوسف. (لِيَأْخُذَ أَخاهُ) رقيقا من السرقة. (فِي دِينِ الْمَلِكِ) في قانون أو نظام أو حكم أو شرع ملك مصر ؛ لأن جزاءه في ذلك النظام الضرب وتغريم مثلي المسروق ، لا الاسترقاق. (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) أن يجعل ذلك الحكم حكم الملك ، وهو أخذه بحكم أبيه ، أي لم يتمكن من أخذه إلا بمشيئة الله بإلهامه سؤال إخوته ، وجوابهم بنظامهم أو سنتهم. والاستثناء متصل من أعم الأحوال ، ويجوز أن يكون استثناء منقطعا ، أي لكن أخذه بمشيئة الله وإذنه.

(نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) بالعلم كيوسف. (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ) من المخلوقين. (عَلِيمٌ) أعلم منه ، حتى ينتهي إلى الله تعالى.

المناسبة :

الربط بين الآيات هنا واضح ، إذ هي تعرض أجزاء ومشاهد قصة واحدة ذات حلقات متسلسلة ، فبعد أن اتجه أولاد يعقوب إلى مصر لجلب الميرة ، مزودين بوصية والدهم ، وصلوا إلى مكان وجود العزيز الذي يتولى بيع الطعام للناس ، فلما دخلوا عرف أخاه وضمه إليه.

التفسير والبيان :

حينما دخل أولاد يعقوب على يوسف في مجلسه الخاص ومنزل ضيافته ، ومعهم أخوه شقيقه بنيامين ، بعد أن كانوا دخلوا القصر من أبواب متفرقة ، ضم إليه أخاه واختلى به ، وأطلعه على شأنه ، وعرّفه أنه أخوه ، وقال له : لا تبتئس أي لا تأسف ولا تحزن على ما صنعوا بي ، وأمره ألا يطلع إخوته على ما أطلعه عليه من أنه أخوه ، وتواطأ معه أنه سيتخذ تدبيرا يبقيه عنده معززا مكرما.

روي أنهم قالوا له : هذا أخونا ، قد جئناك به ، فقال لهم : أحسنتم

٣٠

وأصبتم ، وستجدون ذلك عندي ، فأنزلهم وأكرمهم ، ثم أضافهم وأجلس كل اثنين منهم على مائدة ، فبقي بنيامين وحده ، فبكى وقال : لو كان أخي يوسف حيا لأجلسني معه ، فقال يوسف : بقي أخوكم وحيدا ، فأجلسه معه على مائدته ، وجعل يواكله ، وقال : أنتم عشرة ، فلينزل كل اثنين منكم بيتا ، وهذا لا ثاني له ، فيكون معي ، فبات يوسف يضمه إليه ، ويشم رائحته ، حتى أصبح وسأله عن ولده ، فقال : لي عشرة بنين ، اشتققت أسماءهم من اسم أخ لي هلك ، فقال له : أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك؟ قال : من يجد أخا مثلك؟! ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل (أمهما) فبكى يوسف وقام إليه وعانقه ، وقال له : إني أنا أخوك يوسف ، فلا تحزن بما كانوا يعملون بنا في الماضي ، فإن الله قد أحسن إلينا ، وجمعنا على خير ، ولا تعلمهم بما أعلمتك (١).

(فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ ..) فلما أعدّ لهم الطعام ، وحمل لهم أبعرتهم طعاما ، أمر بعض فتيانه أن يضع السقاية (الصواع أو المكيال ، وهي إناء من فضة في قول الأكثرين ، وقيل : من ذهب) في رحل أخيه بنيامين ، دون علم أحد.

(ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ) ثم نادى مناد حينما عزموا على الخروج : أيتها العير أي يا أصحاب العير ، إنكم قوم سارقون ، فقفوا. فبهتوا وذهلوا.

فالتفتوا إلى المنادي وقالوا : أي : قال إخوة يوسف للمنادي ومن معه : أيّ شيء تفقدونه؟ فأجابوهم : نفقد صاع الملك الذي يكيل به ، ولمن أتى به حمل بعير من القمح ، وهذا يدل على أن عيرهم الإبل ، وأنا به زعيم أي كفيل ضامن ، وهذا من باب الجعالة والضمان والكفالة.

قال إخوة يوسف بعد اتهامهم بالسرقة : والله لقد خبرتمونا وجربتمونا في المرة الأولى وحين عودتنا إذ رددنا بضاعتنا إليكم ، وتحققتم منذ عرفتمونا ، وشاهدتم

__________________

(١) الكشاف : ٢ / ١٤٧

٣١

سيرتنا الحسنة أنا ما جئنا لنفسد في أرض بسرقة ولا غيرها من التعدي على حقوق الناس ، ولم نكن يوما ما سارقين ، فليست سجايانا تقتضي هذه الصفة.

فقال لهم فتيان يوسف : فما جزاء السارق إن كان فيكم ، إن كنتم كاذبين في نفي التهمة عنكم؟ أي أيّ عقاب للسارق في شرعكم إن وجدنا فيكم من أخذه ، وأنتم تدّعون البراءة؟

فأجابوهم : جزاؤه أخذ من وجد في رحله ، ومثل هذا الجزاء نجزي الظالمين للناس بسرقة أموالهم في شريعتنا أن يسترقوا ، وهكذا كانت شريعة إبراهيم ويعقوب عليهما‌السلام : أن السارق يدفع إلى المسروق منه ، فيصيرا عبدا له ، وهذا هو ما أراده يوسف عليه‌السلام.

ولهذا بدأ بتفتيش أوعيتهم قبل وعاء أخيه للتورية وحتى لا يتهم ، ثم استخرج السقاية من وعاء أخيه بنيامين ، فأخذه منهم بحكم اعترافهم والتزامهم ، وإلزاما لهم بما يعتقدونه ويحكمون به.

قوله : (فَهُوَ جَزاؤُهُ) تقرير للحكم السابق وتأكيد له ، بعد تأكيد ثقتهم وبراءتهم بأنفسهم.

(كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ) أي مثل ذلك الكيد وهو التدبير الخفي ، كدنا ليوسف ، أي دبرنا له في الخفاء وأوحينا إليه أن يفعله. وهذا من الكيد المحبوب المراد الذي يحبه الله ويرضاه ، لما فيه من الحكمة والمصلحة المطلوبة. وهو دليل على جواز التوصل إلى الأغراض المشروعة بما ظاهره الحيلة إذا لم يخالف نصا تشريعيا أو حكما مقررا ، فهي حيلة جائزة مشروعة ، لا ممنوعة محظورة ، لما يترتب عليها من الخير والمصلحة ، دون إلحاق ضرر بأحد ، مع اطمئنان بنيامين إلى البراءة ، بسبب التواطؤ السابق بينه وبين أخيه يوسف.

٣٢

وسبب ذلك التدبير الخفي أن يوسف ما كان يتمكن من أخذ أخيه في حكم ملك مصر الذي لا يبيح استرقاق السارق ، ولكن قيض الله له أن التزم له إخوته بما التزموه وهو أن يستعبد السارق ، وهو كان يعلم ذلك من شريعتهم ، ولهذا مدحه الله تعالى بقوله : (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) بالعلم ، كما قال تعالى : (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) [المجادلة ٥٨ / ١١].

وقوله : (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) استثناء من أعم الأحوال أي ما كان ليأخذ أخاه في نظام الملك في حال من الأحوال إلا في حال مشيئة الله ، فإنه فعل ذلك بإذن الله ووحيه ، مما يدل على أن تلك الحيلة بإقرار الشرع ، ووحي الله تعالى.

(وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) أي فوق كل عالم من هو أعلم منه ، قال الحسن البصري : ليس عالم إلا فوقه عالم حتى ينتهي إلى الله عزوجل. فإذا كان إخوة يوسف علماء فإن يوسف كان أعلم منهم.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ كانت فرحة غامرة من أفراح العمر لقاء الأخوين : يوسف وبنيامين ، فضم يوسف أخاه إليه ، وتعرّف عليه بعد فراق دام أكثر من ربع قرن ، وتواطأ معه على خطة إبقائه لديه.

٢ ـ دل قول يوسف لأخيه (فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) على التحلي بصفة العفو والتسامح ، وإظهار الحب والود لإخوته ، ونسيان الماضي وتجاوز أخطائهم معه في مقتبل العمر.

٣ ـ كان وضع الصواع في رحل بنيامين بأمر يوسف عليه‌السلام تعليما

٣٣

وإلهاما ووحيا من الله ، وكان إبقاء أخيه لديه عملا بشريعة إبراهيم ويعقوب ، وإلزاما لإخوته بما حكموا به.

٤ ـ لم يكن وصف أولاد يعقوب بأنهم سارقون كذبا من يوسف عليه‌السلام ، وإنما المراد أيتها العير حالكم حال السّرّاق ، والمعنى : إن شيئا لغيركم صار عندكم من غير رضا الملك ولا علمه. أو أن ذلك كان حيلة لاجتماع شمله بأخيه ، وفصله عنهم إليه ، أو أنهم سارقون باعتبار ما كان منهم حينما أخذوا يوسف من أبيه ، فألقوه في الجبّ.

٥ ـ دل قوله : (وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ) على جواز الجعالة (١) وضمان الجعل قبل إنجاز العمل أو قبل إتمامه. وقد أجيز للضرورة ، فجاز فيه من الجهالة ما لا يجوز في غيره ، وهو من العقود الجائزة التي يجوز لأحدهما فسخه ، إلا أن المجعول له يجوز أن يفسخه قبل الشروع بالعمل وبعده ، إذا رضي بإسقاط حقه ، وليس للجاعل أن يفسخه إذا شرع المجعول له في العمل. ولا يشترط في عقد الجعالة حضور المتعاقدين ، كسائر العقود ؛ لقوله تعالى : (وَلِمَنْ جاءَ بِهِ ..) وبهذا كله قال الشافعي ، وكذا المالكية والحنابلة ، ولم يجز الحنفية الجعالة للجهالة.

ولم يكن قوله (حِمْلُ بَعِيرٍ) ضمان المجهول ، لأن حمل البعير كان معينا معلوما عندهم كالوسق (٦٠ صاعا) فصح ضمانه ، غير أنه كان بدل مال عن المسروق ، وهو كفالة بما لم يجب ، لأنه لا يحل للسارق أن يأخذ شيئا على رد السرقة ، فلعله كان يصح في شرعهم ، أو كان هذا جعالة.

__________________

(١) الجعالة : التزام بعوض على شيء معلوم أو مجهول ، وهو تصرف بإرادة منفردة ، مثل الإعلان عن مكافأة أو جعل لمن يجد شيئا ضائعا ، أو يكتشف علاجا لمرض معين ، أو لمن يتفوق في قضية علمية أو اكتشاف علمي.

٣٤

٦ ـ دل قوله : (وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) على جواز الكفالة بنوعيها : الكفالة بالمال والكفالة بالنفس ، وهذا مطابق للحديث النبوي الذي أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه ابن حسان وصححه عن أبي أمامة الباهلي وغيره : «الزعيم غارم» وهو رأي المذاهب الأربعة ، ولم يجز بعضهم الكفالة بالنفس لعجز الكفيل عن إحضار المكفول بنفسه.

وهل يلزم الكفيل بالنفس ضمان المال أو لا؟ قال الحنفية : لا يلزمه إن مات المكفول بنفسه : لأنه إنما تكفل بالنفس ولم يتكفل بالمال ، فمحال أن يلزمه ما لم يتكفل به. وقال المالكية والليث والأوزاعي : يغرم المال ، ويرجع به على المطلوب ؛ لأن الكفيل يعلم أن المضمون بنفسه إنما يطلب بمال ، فإذا ضمن إحضاره ولم يأته به ، فكأنه فوّته عليه ، فلزمه المال.

وإذا انعقدت الكفالة جاز في رأي الجمهور للدائن المكفول له أن يطالب بالمال أو الدين من شاء من المدين الأصيل أو الكفيل. ورأي مالك الأخير : ألا يطالب الكفيل إلا أن يفلس الغريم (المدين) أو يغيب ؛ لأن البدء بمطالبة من عليه الحق أولى ؛ إلا أن يكون معدما ، فيؤخذ الدين من الكفيل ، لأنه معذور في أخذه في هذه الحالة.

والكفالة لا تصح إلا في الحقوق التي تجوز النيابة فيها ، مما يتعلق بالذمة من الأموال ، وكان الدين ثابتا مستقرا ، أي لازما. فلا تصح الكفالة بنجوم (أقساط) الكتابة ؛ لأنها ليست بدين لازم أو ثابت مستقر. وأما الحقوق التي لا يمكن لأحد القيام بها عن أحد كالحدود فلا كفالة فيها عند الأكثرين ؛ لأن درء هذه الحدود مطلوب ما أمكن ، ويسجن المدعى عليه الحد ، حتى ينظر في أمره. وأجاز أبو يوسف ومحمد الكفالة في الحدود والقصاص ، لجواز الكفالة بالنفس. وأجاز الشافعية كفالة تسليم النفس في الحدود الخالصة للآدمي كقصاص وحد قذف وتعزير ؛ لأنها حق لآدمي ، فصحت الكفالة ، كسائر حقوق الآدميين المالية.

٣٥

٧ ـ كان استرقاق أو استعباد السارقين دين يعقوب عليه‌السلام وحكمه ، وقد فهم هذا من جواب أولاده : (جَزاؤُهُ : مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ ، فَهُوَ جَزاؤُهُ) وفي الجملة معنى التوكيد ، كما تقول : جزاء من سرق القطع ، فهذا جزاؤه ؛ لأنهم التزموا استرقاق من وجد في رحله.

وكان حكم السارق عند أهل مصر أن يغرم ضعفي ما أخذ.

وأما قطع يد السارق في شريعتنا فهو ناسخ لما تقدم من الشرائع ، أو لما كان في شرع يعقوب من استرقاق السارق.

٨ ـ يجوز التوصل إلى الأغراض أو الحقوق المشروعة إذا لم تخالف شريعة ، ولا هدمت أصلا. وأجاز الحنفية والشافعية الحيلة إلى المباح ، واستخراج الحقوق ، لفعل يوسف بوضع الصواع في رحل أخيه ، ولفعل أيوب مع امرأته : (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ) [ص ٣٨ / ٤٤] ولأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببيع التمر الرديء بالدراهم ، ثم شراء التمر الجيد (الجنيب) بالدراهم.

واجمع العلماء على أن للرجل قبل حلول الحول التصرف في ماله بالبيع والهبة إذا لم ينو الفرار من الصدقة ، فإذا حال الحول لا يحل له التحيل ولا النقصان ، ولا أن يفرّق بين مجتمع ، ولا أن يجمع بين متفرق.

وقال مالك : إذا فوّت من ماله شيئا ينوي به الفرار من الزكاة قبل الحول بشهر أو نحوه ، لزمته الزكاة عند الحول ، أخذا منه بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خشية الصدقة».

وقال أبو حنيفة : إن نوى بتفريقه الفرار من الزكاة قبل الحول بيوم لا يضرّه ؛ لأن الزكاة لا تلزم إلا بتمام الحول ، ولا يتوجه إليه معنى الحديث السابق : «خشية الصدقة» (١) إلا حينئذ.

__________________

(١) نص الحديث الذي أخرجه البخاري عن أنس : «ولا يجمع بين متفرّق ولا يفرّق بين مجتمع خشية الصدقة» (سبل السلام ٣ / ٥٩١ ، ط بيروت).

٣٦

٩ ـ شاء الله أن يجري على ألسنة أولاد يعقوب حكم بني إسرائيل في استرقاق السارق ، مع أنه كان حكم الملك الضرب والتغريم ضعفي المسروق.

١٠ ـ لله في خلقه شؤون ، يعزّ قوما ويذلّ آخرين ، ويرفع من يشاء درجات بالعلم والإيمان. قال ابن عباس : يكون ذا أعلم من ذا ، وذا أعلم من ذا ، والله فوق كل عالم. وقال أيضا : الله العليم ، وهو فوق كل عالم. والآية تدل على أن العلم أشرف المقامات وأعلى الدرجات.

الفصل الرابع عشر من قصة يوسف

نقاش حادّ بين أولاد يعقوب وبين يوسف وبين أبيهم حول

السرقة المزعومة

(قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (٧٧) قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٧٨) قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (٧٩) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٠) ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (٨١) وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ

٣٧

الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٨٢) قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٨٣) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (٨٤) قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (٨٥) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٦) يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (٨٧))

الإعراب :

(أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) بدل من أسرّها. (مَعاذَ اللهِ) منصوب على المصدر ، حذف فعله وأضيف إلى المفعول.

(اسْتَيْأَسُوا) استفعلوا من يئس ييأس (نَجِيًّا) حال من (خَلَصُوا) و (نَجِيًّا) لفظه لفظ المفرد ، والمراد به الجمع ، كعدو وصديق ، فإنهما يوصف بهما الجمع على لفظ المفرد.

(ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَمَّا) إما مصدرية في موضع نصب بالعطف على قوله تعالى : (أَباكُمْ) وتقديره : ألم تعلموا أن أباكم وتفريطكم ، وإما أن تكون زائدة ، أي ومن قبل فرطتم ، مثل (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ) أي فبرحمته.

(يا أَسَفى) في موضع نصب ؛ لأنه منادى مضاف ، وأصله : يا آسفي ، فأبدل من الكسرة فتحة ، فانقلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ، فصار : (يا أَسَفى). و (عَلى يُوسُفَ) في موضع نصب ؛ لأنه من صلة المصدر.

٣٨

البلاغة :

(فَأَسَرَّها .. وَلَمْ يُبْدِها) بينهما طباق. (شَيْخاً كَبِيراً) فيه إطناب للاستعطاف. (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) مجاز مرسل علاقته المحلية أي أهل القرية. (يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ) بينهما جناس الاشتقاق. (تَاللهِ تَفْتَؤُا) إيجاز بالحذف ، أي والله لا تفتأ.

(وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ) استعار الروح وهو تنسيم الريح الطيبة النسيم ، للفرج بعد الكرب ، واليسر بعد الشدة.

المفردات اللغوية :

(إِنْ يَسْرِقْ) بنيامين. (فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) قيل : ورثت عمته من أبيها منطقة إبراهيم عليه‌السلام ، وكانت تحضن يوسف وتحبه ، فلما شبّ أراد يعقوب انتزاعه منها ، فشدت المنطقة على وسطه ، ثم أظهرت ضياعها ، فتفحص عنها ، فوجدها محزومة عليه ، فصارت أحق به في حكمهم. وقيل : كان لأبي أمه صنم من ذهب ، فسرقه ، وكسره ، وألقاه في الجيف ، لئلا يعبده. (فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها) لم يظهرها لهم ، والضمير يعود للكلمة أو الجملة التي في قوله : (قالَ : أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) أي فأسرّ الجملة أو الكلمة التي هي قوله : (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً).

(قالَ) في نفسه. (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) أي شر منزلة من يوسف وأخيه ، لسرقتكم أخاكم من أبيكم وظلمكم له. (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ) أي والله عالم أنه لم يصح لي ولا لأخي سرقة ، وليس الأمر كما تذكرون من أمره ، أو وهو يعلم أن الأمر ليس كما تصفون.

(إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً) في السن أو القدر ، يحبه أكثر منا ، ويتسلى به عن ولده الهالك ، ويحزنه فراقه ، وهذا استعطاف له عليه. (فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ) استعبده بدلا منه ، فإن أباه مستأنس به. (مِنَ الْمُحْسِنِينَ) في أفعالك إلينا ، فأتمم إحسانك ، أو من المتعوّدين الإحسان ، فلا تغير عادتك. (مَعاذَ اللهِ) أي نعوذ بالله ونلجأ إليه. (أَنْ نَأْخُذَ) من أن نأخذ ، ولم يقل : من سرق ، تحرزا من الكذب. (إِنَّا إِذاً) إن أخذنا غيره مكانه (لَظالِمُونَ) في مذهبكم ، لو أخذنا غيره مكانه ، كنا من الظلمة.

(اسْتَيْأَسُوا) يئسوا يأسا كثيرا من يوسف وإجابته إياهم ، وزيادة السين والتاء للمبالغة. (خَلَصُوا) انفردوا واعتزلوا الناس. (نَجِيًّا) متناجين متشاورين سرا ، يناجي بعضهم بعضا ، وإنما وحده لأنه مصدر أو بزنة المصدر ، كما قيل : هم صديق ، وجمعه أنجية كنديّ وأندية.

(قالَ كَبِيرُهُمْ) سنا : روبيل أو يهوذا ، أو كبيرهم في الرأي وهو شمعون. (مَوْثِقاً) عهدا. (مِنَ اللهِ) في أخيكم ، وإنما جعل حلفهم بالله موثقا منه ، لأنه بإذن منه وتأكيد من

٣٩

جهته. (وَمِنْ قَبْلُ) هذا. (ما فَرَّطْتُمْ) قصرتم في شأنه ، و (فَلَمَّا) زائدة أو مصدرية في موضع نصب بالعطف على مفعول : تعلموا ، ولا بأس بالفصل بين العاطف والمعطوف بالظرف ، أو معطوف على اسم أن ، وخبره : (فِي يُوسُفَ). ويصح كونه مبتدأ وخبره : من قال قال البيضاوي : وفيه نظر : لأن قبل إذا كان خبرا ، أو صلة ، لا يقطع عن الإضافة ، حتى لا ينقص. ويصح أن تكون موصولة ، أي ما فرطتموه بمعنى : ما قدمتموه في حقه من الخيانة.

(فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ) لن أفارق أرض مصر (حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي) بالعودة أو الرجوع إليه (أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي) أو يقضي الله لي بخلاص أخي (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) أعدلهم ؛ لأن حكمه لا يكون إلا بالحق.

(وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا) وما شهدنا عليه إلا بما تيقنا من مشاهدة الصاع في رحله واستخراجه من وعائه (وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ) لما غاب عنا وهو باطن الحال ، حين إعطاء الموثق (حافِظِينَ) أي فلا ندري أنه سرق ، أو ما كنا للعواقب عالمين ، فلم ندر حين أعطيناك الموثق أنه سيسرق.

(وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ ..) واسأل أهل مصر (وَالْعِيرَ) أصحاب الإبل (الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها) وهم قوم من كنعان (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) في قولنا ، فرجعوا إليه ، وقالوا له ذلك (سَوَّلَتْ) زينت (أَمْراً) ففعلتموه ، اتهمهم لما سبق منهم من أمر يوسف (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) أي صبري صبر جميل (أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ) يوسف وأخويه (الْعَلِيمُ) بحالي (الْحَكِيمُ) في صنعه.

(وَتَوَلَّى عَنْهُمْ) أعرض عنهم تاركا خطابهم (يا أَسَفى) يا حزني (وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ) انمحق سوادهما وتبدل بياضا من بكائه (مِنَ الْحُزْنِ) عليه (كَظِيمٌ) مملوء غيظا ، مغموم مكروب لا يظهر كربه (تَاللهِ تَفْتَؤُا) لا تفتأ أي لا تزال تذكره تفجعا عليه (حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً) مريضا مشرفا على الهلاك ، لطول مرضك ، وهو مصدر يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث (الْهالِكِينَ) الموتى.

(قالَ) يعقوب لهم (بَثِّي) هو عظيم الحزن الذي لا يصبر عليه حتى يبث إلى الناس من. البث : وهو النشر (وَحُزْنِي إِلَى اللهِ) لا إلى غيره ، فهو الذي تنفع الشكوى إليه ، فخلوني وشكايتي (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) من أن رؤيا يوسف صدق وهو حي ، وأعلم من الله أي من صنعه ورحمته فإنه لا يخيب داعيه (فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ) اطلبوا خبرهما (وَلا تَيْأَسُوا) تقنطوا (مِنْ رَوْحِ اللهِ) رحمته وفرجه.

المناسبة :

هزت السرقة أعماق نفوس أولاد يعقوب ، فثار النقاش الحاد والحوار الشديد

٤٠