التفسير المنير - ج ١٣

الدكتور وهبة الزحيلي

أن تبين وأقرت الأمم بأنه الخالق لجميع الموجودات ، وبأنه يستحيل وجود شيء كدار مثلا يتميز بالإبداع والترتيب والنظام والنقش الجميل من دون موجد عالم حكيم ، وإذا كان الله هو الخالق ، فلا يستحق العبادة إلا هو وحده لا شريك له.

٤ ـ الله تعالى فاطر السموات والأرض متصف أيضا بكمال الرحمة والكرم والجود ، بدليل أن الغرض من دعوة الناس إلى الإيمان به وبتوحيده أمران : الأول ـ مغفرة الذنوب والخطايا والآثام ، وفيها تطهير للنفس يبوئها لدخول الجنان التي لا يستحقها إلا الأطهار. والثاني ـ تأخير الناس إلى نهاية أعمارهم وهو الموت ، فلا يعذبهم في الدنيا.

٥ ـ كانت أجوبة الكفار واهية مشتملة على شبهات ثلاث :

الأولى ـ التساوي في الإنسانية يمنع وجود التفاضل بينهم ، بأن يكون الواحد منهم رسولا من عند الله ، مطلعا على الغيب ، مخالطا لزمرة الملائكة ، والباقون غافلون عن كل هذه الأحوال ، وهذا معنى قولهم : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا).

والثانية ـ التمسك بطريق التقليد : وهي أنهم وجدوا آباءهم وعلماءهم وكبراءهم متفقين على عبادة الأوثان ، ويعبد أنهم لم يعرفوا بطلان هذا الدين ، وهذا معنى قولهم : (تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا).

والثالثة ـ المعجز لا يدل على الصدق أصلا ، وإن سلّم أنه يدل على الصدق ، فإن ما جاء به الرسل أمور معتادة ، وليست من باب المعجزات الخارجة عن قدرة البشر ، وهذا معنى قولهم : (فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ).

٦ ـ كان ردّ الأنبياء على تلك الشبهات الثلاث ما يأتي :

أما الشبهة الأولى : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) فجوابها أن التماثل في البشرية

٢٢١

والإنسانية لا يمنع من اختصاص بعض البشر بمنصب النبوة ؛ لأنه منصب يمنّ الله به على من يشاء من عباده.

وأما الشبهة الثانية : وهي توافق السلف على ذلك الدين ، مما يدل على كونه حقا ، فجوابها : أن التمييز بين الحق والباطل ، والصدق والكذب عطية من الله تعالى وفضل منه ، ولا يبعد أن يخص بعض عبيده بهذه العطية ، وأن يحرم الجمع العظيم منها.

وأما الشبهة الثالثة : وهي أنا لا نرضى بهذه المعجزات التي أتيتم بها ، وإنما نريد معجزات قاهرة قوية ، فالجواب عنها أن الأشياء التي طلبتموها أمور زائدة ، والحكم فيها لله تعالى ، فإن أظهرها فله الفضل ، وإن لم يخلقها فله العدل ، ولا يطلب منه شيء بعد توافر قدر الكفاية.

٧ ـ لا سبيل أمام الأنبياء إلا الصبر على الأذى والاعتصام بالله وتفويض الأمر إليه والتوكل التام عليه ، فإن الصبر مفتاح الفرج ، ومطلع الخيرات ، والتوكل على الله والاعتماد على فضله محقق للنصر والفتوح.

وفائدة تكرار الأمر بالتوكل : أمر أنفسهم به أولا ثم أمر أتباعهم به ، فبعد أن أمروا أنفسهم بالتوكل على الله في قوله : (وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ) أمروا أتباعهم بذلك وقالوا : (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) وهو يدل على أن الآمر بالخير لا يؤثر قوله إلا إذا أتى بذلك الخير أولا.

٢٢٢

تهديد الكفار لرسلهم بالطرد أو الردة والوحي بأن العاقبة للأنبياء

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (١٤) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (١٦) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (١٧) مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٨))

الإعراب :

(وَمِنْ وَرائِهِ) الهاء : إما عائدة على الكافر ، ويكون معنى (مِنْ وَرائِهِ) أي قدّامه ، كقوله تعالى : (وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ) [الكهف ١٨ / ٧٩] أي قدّامهم ؛ وإما عائدة على العذاب ، ويكون المعنى : إن وراء هذا العذاب عذاب غليظ.

(مَثَلُ الَّذِينَ ..) في إعرابه أربعة أوجه :

الأول ـ أنه مبتدأ ، وخبره محذوف ، تقديره : فيما يتلى عليكم مثل الذين كفروا.

الثاني ـ أنه مبتدأ على تقدير حذف مضاف ، والخبر : (كَرَمادٍ) ، تقديره : مثل أعمال الذين كفروا مثل رماد.

٢٢٣

الثالث ـ أنه مبتدأ أول ، و (أَعْمالُهُمْ) : مبتدأ ثان ، و (كَرَمادٍ) : خبر المبتدأ الثاني ، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره خبر عن المبتدأ الأول.

الرابع ـ أنه مبتدأ ، و (أَعْمالُهُمْ) : بدل منه ، و (كَرَمادٍ) : خبره.

(فِي يَوْمٍ عاصِفٍ عاصِفٍ) في تقديره وجهان : إما في يوم ذي عصوف ، كقولهم : رجل نابل ورامح أي ذو نبل ورمح ، وإما في يوم عاصف ريحه ، كقولك : مررت برجل حسن وجهه ، ثم يحذف الوجه إذا علم المعنى.

البلاغة :

(وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ) استعارة لما يغشاه من كروب وشدة ، فقد يوصف المغموم بأنه في حالة موت.

(لَنُخْرِجَنَّكُمْ .. أَوْ لَتَعُودُنَ) بينهما طباق.

(وَعِيدِ) و (عَنِيدٍ) و (صَدِيدٍ) و (الْبَعِيدُ) فيها سجع (أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ) تشبيه تمثيلي ، وجه الشبه فيه : منتزع من متعدد.

المفردات اللغوية :

(لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَ) حلفوا على أن يكون أحد الأمرين : إما إخراجهم للرسل أو عودتهم إلى ملتهم (أَوْ لَتَعُودُنَ) لتصيرن ، وتستعمل عاد بمعنى صار ، ويجوز أن يكون الخطاب لكل رسول ولمن آمن معه ، فغلبوا الجماعة على الواحد. (فِي مِلَّتِنا) الملة : الشريعة والدين (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ) أي أوحى إلى الرسل (لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ) الكافرين ، على إضمار القول ، أو على إجراء الإيحاء مجراه ؛ لأنه نوع منه.

(الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي أرضهم وديارهم من بعد هلاكهم ، كقوله تعالى : (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا) [الأعراف ٧ / ١٣٧]. (ذلِكَ) إشارة إلى الموحى به وهو إهلاك الظالمين وإسكان المؤمنين (لِمَنْ خافَ مَقامِي) موقفي وقيامي للحساب أو مقامه بين يدي (وَخافَ وَعِيدِ) أي وعيدي بالعذاب أو عذابي الموعود للكفار (وَاسْتَفْتَحُوا) أي طلبوا الفتح بالنصرة على الأعداء أي استنصر الرسل بالله على قومهم ، وقيل : واستفتح الكفار على الرسل ظنا منهم بأنهم على الحق. (وَخابَ) خسر وهلك (كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) كل متعاظم متكبر عن طاعة الله ، معاند للحق المخالف له ، مجانب له.

(مِنْ وَرائِهِ) أي أمامه ، ومن بين يديه ، وبعد ذلك ينتظره (جَهَنَّمُ) يدخلها

٢٢٤

(وَيُسْقى) فيها (مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ) هو ما يسيل من جلود أو جوف أهل النار ، مختلطا بالقيح والدم (يَتَجَرَّعُهُ) سقيته جرعة بعد جرعة ، بالشدة والقهر (يُسِيغُهُ) يستطيبه أو يزدرده ، لقبحه وكراهته (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ) أي تأتيه أسبابه وتحيط به من كل جانب ، وتغشاه أنواع الكروب والعذاب (وَمِنْ وَرائِهِ) بعد ذلك العذاب (عَذابٌ غَلِيظٌ) قوي متصل ، وشديد غير منقطع.

(مَثَلُ) صفة (أَعْمالُهُمْ) الصالحات كصلة الرحم والصدقة على الفقراء في عدم الانتفاع بها (كَرَمادٍ) أثر النار بعد احتراقها (عاصِفٍ) شديد الريح ، أي أعمالهم كالرماد الذي عصفت به الرياح العاتية ، فجعلته هباء منثورا ، لا يقدر عليه (لا يَقْدِرُونَ) أي الكفار (مِمَّا كَسَبُوا) عملوا في الدنيا (عَلى شَيْءٍ) لا يجدون له ثوابا ، لعدم توافر شرطه : وهو الإيمان. (ذلِكَ) إشارة إلى ضلالهم مع حسبانهم أنهم محسنون (هُوَ الضَّلالُ) الهلاك (الْبَعِيدُ) الغاية في البعد عن الحق.

المناسبة :

بعد أن أرشد الله تعالى الأنبياء إلى التوكل عليه والاعتماد على حفظه وصيانته ، في دفع شرور أعدائهم ، ذكر موقف الكفار العصبي المبالغ في السفاهة ، وهو التهديد بأحد أمرين : الإخراج والطرد من البلاد ، أو العودة إلى الملة الوثنية القديمة المتوارثة ، وهذا هو الشأن في كل زمان ، يعتمد فيه أهل الباطل والفسق والظلم على القوة والبطش لقوتهم ، ويستغلون ضعف أهل الحق لقلتهم. ولكن قدرة الله فوق كل شيء ، والله غالب على أمره ، فجعل العاقبة والنصر في النهاية للمتقين وأن الهزيمة للكافرين ، وأعلمهم بالعذاب في الآخرة ، وتلك سنة الله في خلقه مع كل الأمم والرسل.

ثم ضرب الله مثلا لأعمال الكافرين ، بالرماد الذي عصفت به الرياح الهوج ، فجعلته هباء منثورا ، لعدم توافر شرطه وهو الإيمان.

التفسير والبيان :

هذا تطور طبيعي للحوار والصراع بين الرسل والأمم الكافرة ، فبعد أن

٢٢٥

أفلست الأمم في مناقشتها ، وهزمت حجتها أمام حجة الرسل وبيانهم ، لم يجدوا سبيلا إلا تأزم الوضع والدخول في صدام وعمل عدواني ، فتوعدوا رسلهم بأحد أمرين :

إما الطرد والإخراج والنفي من البلاد ، وإما العودة إلى ملتهم وشرعهم الموروث عن الآباء والأجداد ، كما قال قوم شعيب له ولمن آمن به : (لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا ، أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) [الأعراف ٧ / ٨٨] وقال تعالى إخبارا عن مشركي قريش : (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ ، لِيُخْرِجُوكَ مِنْها ، وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً) [الإسراء ١٦ / ٧٦] وقال سبحانه في إلجاء النبي إلى الهجرة : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ..) [الأنفال ٨ / ٣٠].

والسبب في هذا التهديد والوعيد : اغترار الكفار بقوتهم وكثرتهم ، وقلة عدد المؤمنين وضعف عددهم. وأما قولهم (لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) فلا يعني أن الرسل كانوا وثنيين ، وإنما كانوا في ظاهر الأمر معهم ، من غير إظهار مخالفة ، فظن القوم أنهم كانوا على دينهم.

(فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ ..) أي فأوحى الله إلى رسله قائلا لهم : لنهلكن الظالمين المشركين ، ولنسكننكم أرضهم وديارهم من بعد هلاكهم ، عقوبة لهم على تهديدهم وإنذارهم بالطرد والإبعاد.

وهذا تهديد ووعد من الله للمشركين في مقابل تهديدهم الرسل ، وشتان بين التهديدين ، كما قال سبحانه : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) [الصافات ٣٧ / ١٧٠ ـ ١٧٣] وقال تعالى : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ، إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [المجادلة ٥٨ / ٢١] وقال عزوجل : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) [الأنبياء ٢١ / ١٠٥] وآيات كثيرة أخرى في المعنى.

٢٢٦

(ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي ..) أي ذلك الموحى به من إهلاك الظالمين وإسكان المؤمنين ديارهم ، أي ذلك الأمر حق ، لمن خاف موقفي للحساب أو مقامه بين يدي ، وخاف وعيدي بالعذاب والعقاب ، فخشي لقائي ، واتقاني بطاعتي ، وتجنب سخطي وغضبي. وهذا هو سبب النصر والوحي المذكور.

(وَاسْتَفْتَحُوا ..) أي واستنصرت الرسل بالله على أممهم أو أقوامهم ، أي على أعدائهم ، كما قال تعالى : (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) [الأنفال ٨ / ١٩] والمراد أنهم سألوا من الله الفتح على أعدائهم ، أو القضاء بينهم وبين أعدائهم ، كما قال تعالى : (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِ) [الأعراف ٧ / ٨٩] والضمير يعود للرسل أو الأنبياء عليهم‌السلام.

وقيل : يعود الضمير على الكفار ، أي واستفتح الكفار على الرسل ، ظنا منهم بأنهم على الحق ، والرسل على الباطل. وقيل : للفريقين ، فإنهم كلهم سألوه أن ينصر المحق ، ويهلك المبطل ، كما قال تعالى في شأن استفتاح الأمم على أنفسها : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ، فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ ، أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [الأنفال ٨ / ٣٢].

ولكن كانت النتيجة أن النصر للمتقين والخيبة والخسارة والهلاك للمشركين ، فقال سبحانه: (وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) أي وخسر وهلك كل متكبر متعاظم عن طاعة الله ، معاند للحق ، منحرف عنه ، كقوله تعالى : (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ ، مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ ، مُعْتَدٍ مُرِيبٍ ، الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ، فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ) [ق ٥٠ / ٢٤ ـ ٢٦].

(مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ) أي أمام هذا الجبار العنيد جهنم له بالمرصاد تنتظره ، كما قال تعالى: (وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) [الكهف ١٨ / ٧٩] أي أمامهم.

٢٢٧

(وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ) أي ليس له في النار شراب إلا ما يسيل من جلود أهل النار ولحومهم من ماء مختلط بالقيح والدم ، كما قال تعالى : (هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ ، وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ) [ص ٣٨ / ٥٧ ـ ٥٨] وهذا أي الحميم حار في غاية الحرارة ، وهذا أي الغساق بارد في غاية البرد والنتن.

(يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ) أي يتحساه جرعة بعد جرعة ، ولا يكاد يزدرده ، لكراهته ، وسوء طعمه ولونه وريحه ، مما يدل على التألم حين ابتلاعه ، كما قال تعالى : (وَسُقُوا ماءً حَمِيماً ، فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) [محمد ٤٧ / ١٥] وقال : (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ ، يَشْوِي الْوُجُوهَ ، بِئْسَ الشَّرابُ ، وَساءَتْ مُرْتَفَقاً) [الكهف ١٨ / ٢٩].

(وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ ..) أي وتأتيه أسباب الموت من الشدائد وألوان العذاب من كل جهة ، ولكنه لا يموت ، كما قال تعالى : (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا ، وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) [فاطر ٣٥ / ٣٦].

(وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ) أي وله من بعد هذه الحال عذاب آخر غليظ ، أي مؤلم صعب شديد ، أغلظ من الذي قبله وأدهى وأمر ، وهو دائم غير منقطع ، كما قال تعالى عن شجرة الزقوم : (إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ ، طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ ، فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ ، ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ ، ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ) [الصافات ٣٨ / ٦٤ ـ ٦٨] وقال عزوجل : (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ ، طَعامُ الْأَثِيمِ ، كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ ، كَغَلْيِ الْحَمِيمِ ، خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ ، ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ ، ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ، إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ) [الدخان ٤٤ / ٤٣ ـ ٥٠] وقال : (وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ ، فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ ، وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ ، لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ) [الواقعة ٥٦ / ٤١ ـ ٤٤]. وقال تعالى : (هذا وَإِنَ

٢٢٨

لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ ، جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ ، هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ ، وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ) [ص ٣٨ / ٥٥ ـ ٥٨].

وبالرغم مما سيلاقيه الكفار من العذاب في نار جهنم ، فإنهم يأسفون على أعمالهم الصالحة في الدنيا التي ضاعت هدرا ، ولم تنفعهم في الآخرة ، فضرب الله المثل لأعمالهم فقال : (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ..).

أي مثل أعمالهم الصالحة كالصدقة وصلة الرحم وبر الوالدين ، يوم القيامة ، إذا طلبوا ثوابها من الله تعالى ، كمثل الرماد الذي اشتدت به الريح العاصفة ، في يوم عاصف أي ذي ريح شديدة عاصفة قوية ، فلم يقدروا على شيء من أعمالهم التي كسبوا في الدنيا ، إلا كما يقدرون على جمع هذا الرماد ، في هذا اليوم ، ذلك هو الضلال البعيد ، أي سعيهم وعملهم على غير أساس ولا استقامة ، فهو مغرق في البعد عن الحق ، حتى فقدوا ثوابه ، لفقدهم شرط قبوله وهو الإيمان.

ونظير الآية قوله تعالى : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ ، فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) [الفرقان ٢٥ / ٢٣] وقوله : (مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ ، أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ، فَأَهْلَكَتْهُ ، وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ ، وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [آل عمران ٣ / ١١٧].

فقه الحياة أو الأحكام :

دلتنا الآيات على الفوائد التالية :

١ ـ لا قيمة لتهديد الكفار رسلهم بالطرد من البلاد أو الإكراه على العودة إلى الملة القديمة ، أمام تهديد الله ، فالأول يتبدد ، والثاني يتحقق ، وهذه سيرة الله تعالى في رسله وعباده.

٢ ـ استحقاق النصر على الأعداء منوط بالخوف من جلال الله وهيبته

٢٢٩

وموقفه للحساب في الآخرة ، وخشيته من عذابه وبأسه ونقمته.

٣ ـ سواء استفتح الرسل أو الكفار أو الفريقان ، أي طلبوا الفتح والنصرة على أعدائهم ، فإن النصر في النهاية للمتقين والرسل ؛ لأنهم المؤمنون حق الإيمان بالله ربهم الذي يطلبون منه النصر ، وتكون الخيبة والخسارة والهلاك للكافرين المتجبرين المتعاظمين عن طاعة الله ، المعاندين للحق ، والمجانبين له ؛ لأنهم كفروا بالله ، وتنكروا لطاعة الله ، وانحازوا عن منهج الحق وسبيله.

٤ ـ وكما يكون الهلاك للكافرين في الدنيا ، يكون أمامهم العذاب في نار جهنم تنتظرهم ، فمن بعد الهلاك في الدنيا ، يأتي أيضا العذاب في الآخرة.

٥ ـ ماء أهل جهنم هو صديد أهل النار الذي يسيل من أجسامهم من القيح والدم ، والكافر يتحساه جرعة بعد جرعة ، لا مرة واحدة ، لمرارته وحرارته ، ويؤلم إساغته ، فهو لا يكاد يسيغه ، ولكن تحصل الإساغة بصعوبة ، لقوله تعالى : (يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ) [الحج ٢٢ / ٢٠ ـ ٢١].

وتأتيه أسباب الموت من كل جهة عن يمينه وشماله ، ومن فوقه وتحته ومن قدّامه وخلفه ، كقوله تعالى : (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ ، وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) [الزمر ٣٩ / ١٦].

ومن أمامه عذاب شديد متواصل الآلام من غير فتور.

هذه أوصاف عذاب الكفار ، في الظاهر والباطن ، أولها ـ (مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ) ثانيها ـ (وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ) وثالثها ـ (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ ، وَما هُوَ بِمَيِّتٍ) ورابعها ـ (وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ).

٢٣٠

٦ ـ لا جدوى ولا فائدة في الآخرة لأعمال الكفار الطيبة التي عملوها في الدنيا ، مثل إطعام الطعام ، وإغاثة الملهوف ، وفعل المعروف ، والصدقة ، وصلة الرحم ، وبر الوالدين ، ولا ثواب على عمل البر في الدنيا ؛ لإحباطه بالكفر ، وذلك هو الخسران الكبير.

فقد ضرب الله هذه الآية مثلا لأعمال الكفار ، في أنه يمحقها كما تمحق الريح الشديدة الرماد في يوم عاصف. والعصف : شدة الريح ، وإنما كان ذلك ؛ لأنهم أشركوا فيها غير الله تعالى ، فلم يتوافر فيها أساس القبول وهو الإيمان بالله وحده لا شريك له.

دليل وحدانية الله ووجوده وقدرته على معاد الأبدان

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٩) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (٢٠))

البلاغة :

(يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ) بينهما طباق.

المفردات اللغوية :

(أَلَمْ تَرَ) تنظر أي تعلم يا مخاطب ، وهو خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد به أمته ، وهو استفهام تقرير ، والرؤية هنا : رؤية القلب ؛ لأن المعنى : ألم ينته علمك إليه؟ (بِالْحَقِ) متعلق بخلق ، أي بالحكمة والوجه الذي يحق أن يخلق عليه (يُذْهِبْكُمْ) يعدمكم (وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) بدلكم أي يخلق خلقا آخر مكانكم ، وهو مرتب على كونه خالقا للسموات والأرض ، استدلالا به عليه ، فإن من خلق أصولهم ، ثم كونهم بتبديل الصور وتغيير الطبائع ، قادر أن يبدلهم بخلق آخر ، ولم يمتنع ذلك

٢٣١

عليه ، كما قال : (وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) بممتنع أو متعسر ، فإنه قادر لذاته ، لا اختصاص ل بمقدور دون مقدور ، ومن هذا شأنه كان حقيقا بأن يؤمن به ويعبد ، رجاء لثوابه ، وخوفا من عقابه يوم الجزاء.

المناسبة :

بعد أن بيّن الله تعالى أن أعمال الكفار تصير باطلة ضائعة ، بيّن أن الإبطال والإحباط إنما جاء بسبب صدر منهم وهو كفرهم بالله وإعراضهم عن العبودية ، فإن الله تعالى لا يبطل أعمال المخلصين ، وكيف يليق بحكمته أن يفعل ذلك ، وأنه تعالى ما خلق كل هذا العالم إلا لحكمة وصواب؟!

التفسير والبيان :

يخبر الله تعالى عن قدرته على معاد الأبدان يوم القيامة ، بأنه خلق السموات والأرض التي هي أكبر من خلق الناس ، أفليس الذي قدر على خلق هذه السموات ، في ارتفاعها واتساعها وعظمتها ، وما فيها من الكواكب الثوابت والسيارة ، وهذه الأرض بما فيها من مهاد ووهاد وأوتاد ، وصحارى وقفار ، وبحار وأشجار ، ونبات وحيوان على اختلاف أصنافها ومنافعها وأشكالها وألوانها.

(أَلَمْ تَرَ ..) ألم تعلم أيها المخاطب أن الله أنشأ السموات والأرض بالحكمة وعلى الوجه الصحيح الذي يحق أن يخلقا عليه ، ومن قدر على خلقهما على هذا النحو البديع ، فهو قادر على إفنائكم إذا خالفتم أوامره ، والإتيان بخلق جديد سواكم على غير صفتكم ، وما ذلك بممتنع أو متعذر عليه ، بل هو سهل عليه.

ونظير الآية كثير في القرآن منها : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ، وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ ، بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى ، بَلى ، إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الأحقاف ٤٦ / ٣٣].

٢٣٢

ومنها : (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ ، فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ. وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ : مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ، قُلْ : يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ ، وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ. الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً ، فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ. أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ، بَلى ، وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ، إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ : كُنْ فَيَكُونُ. فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [يس ٣٦ / ٧٧ ـ ٨٣].

فقه الحياة أو الأحكام :

الآية للاستدلال بها على قدرته تعالى ، فمن خلق السموات والأرض على ما يوافق الحكمة والصواب ، قادر على إعادة الخلق بعد الموت ، فالله هو القادر على الإفناء ، كما هو قادر على إيجاد الأشياء ، فلا تعصوه ، فإنكم إن عصيتموه يعدمكم ، ويأت بخلق جديد أفضل وأطوع منكم ، إذ لو كانوا مثل الأولين ، فلا فائدة في الإبدال ، وما ذلك على الله بمنيع متعذر.

والمقصود أن الكفار أغرقوا في الكفر بالله ، مع قيام الأدلة على قدرته وحكمته تعالى ، وأنه الحقيق بالطاعة ، الذي يرجى ثوابه ويخاف عقابه في دار الجزاء.

الحوار بين الأشقياء يوم العذاب والمناظرة بين الشيطان وأتباعه

وظفر السعداء بالجنة

(وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ

٢٣٣

عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (٢١) وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٢) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (٢٣))

الإعراب :

(بِمُصْرِخِيَ) فتحت الياء لإدغام ياء الجمع في ياء الإضافة ، بعد حذف نون الإضافة ، على لغة من يفتحها ، وبقيت الفتحة على حالها ، أو أن فتحها لالتقاء الساكنين على لغة من أسكنها ، فياء الإضافة فيها لغتان : الفتح والإسكان. وعلى قراءة كسر الياء فهو عدول إلى الأصل ، وهو الكسر ، ليكون مطابقا لكسر همزة : (إِنِّي كَفَرْتُ ..).

(أَنْ دَعَوْتُكُمْ) أن وصلتها : في موضع نصب على الاستثناء المنقطع. (بِما أَشْرَكْتُمُونِ) ما : مصدرية أي بإشراككم.

(تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) جملة فعلية في موضع نصب صفة جنات. (خالِدِينَ) حال من (الَّذِينَ).

و (تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) جملة اسمية في موضع نصب على الحال من (الَّذِينَ) وهي حال بقدرة ، أو حال من الضمير في (خالِدِينَ) فلا تكون حالا مقدرة. أو في موضع نصب على لوصف لجنات.

٢٣٤

والهاء والميم في (تَحِيَّتُهُمْ) إما تأويل فاعل ، أضيف المصدر إليه ، أي يحيي بعضهم بعضا بالسلام ، وإما في موضع مفعول لم يسم فاعله (نائب فاعل) أي يحيّون بالسلام ، على معنى : تحيّيهم الملائكة بالسلام.

البلاغة :

(فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) طباق السلب.

(جَزِعْنا) و (صَبَرْنا) بينهما طباق.

المفردات اللغوية :

(وَبَرَزُوا) أي الخلائق ، أي ظهروا بالبراز : وهي الأرض المتسعة ، أي مجتمع الناس في ذلك اليوم ، ومنه امرأة برزة أي تظهر للرجال ، والتعبير فيه وفيما بعده بالماضي لتحقق وقوعه. (الضُّعَفاءُ) الأتباع ، أي ضعاف الرأي والفكر. (لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) المتبوعين ، وهم الرؤساء الأقوياء الذين استنفروهم. (تَبَعاً) جمع تابع. (مُغْنُونَ) دافعون. (مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) من الأولى : للتبيين ، والثانية : للتبعيض. (لَهَدَيْناكُمْ) لدعوناكم إلى الهدى. (ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) من : زائدة ، ومحيص : ملجأ ومنجى ومهرب.

(الشَّيْطانُ) إبليس. (لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ) لما أحكم وفرغ منه ، ودخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار. (إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِ) وعدا من حقه أن ينجز ، أو وعدا أنجزه ، وهو الوعد بالبعث والجزاء ، فصدقكم الوعد. (وَوَعَدْتُكُمْ) وعد الباطل وهو ألا بعث ولا حساب. (فَأَخْلَفْتُكُمْ) قدر إبليس تبين خلف وعده كالإخلاف منه. (مِنْ سُلْطانٍ) من : زائدة ، والسلطان : القوة والقدرة والتسلط ، فألجئكم على الكفر والمعاصي ، واقهركم على متابعتي. (إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ) لكن. (فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) أسرعتم إجابتي. (وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) على إجابتي وإطاعتي ، ولم تطيعوا ربكم لما دعاكم.

(بِمُصْرِخِكُمْ) بمغيثكم ، والمستصرخ : المستغيث. (بِما أَشْرَكْتُمُونِ) بإشراككم إياي مع الله. (مِنْ قَبْلُ) في الدنيا. (إِنَّ الظَّالِمِينَ) الكافرين ، وهو قول الله تعالى. (لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) مؤلم. (تَحِيَّتُهُمْ فِيها) من الله ومن الملائكة وفيما بينهم.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى ألوان عذاب الكفار في الآخرة ، ثم ذكر عقيبه أن أعمالهم تصير محبطة باطلة ، ذكر هنا مدى خجلهم أمام أتباعهم وافتضاحهم

٢٣٥

عندهم ، وأبان هذا بصورة محاورة بين السادة والأتباع ، ومناظرة بين الشيطان وأتباعه الإنس ، ثم ذكر جزاء المؤمنين السعداء وظفرهم بجنان الخلد.

التفسير والبيان :

وبرزت الخلائق كلها برّها وفاجرها لله الواحد القهار في موقف الحساب ، واجتمعوا له في مكان متسع لا ساتر فيه ، خلافا لحال الدنيا حيث يظن الكفار والعصاة أن الله لا يراهم.

فقال الضعفاء ، أي الأتباع للقادة والسادة والكبراء في العقل والتفكير ، أولئك القادة الذين استكبروا عن عبادة الله وحده وعن اتباع الرسل : إنا كنا تابعين لكم ، مقلدين في الأعمال ، نأتمر بأمركم ونفعل فعلكم ، فكفرنا بالله ، وكذبنا الرسل متابعة لكم ، فهل أنتم تدفعون عنا اليوم بعض عذاب الله ، كما كنتم تعدوننا وتمنوننا.

فأجابهم القادة المتبوعون متنصلين من الدفاع عنهم : لو هدانا الله لدينه الحق ، ووفقنا لاتّباعه ، وأرشدنا إلى الخير ، لهديناكم وأرشدناكم إلى سلوك الطريق الأقوم ، ولكنه لم يهدنا ، فحقت كلمة العذاب على الكافرين.

ثم أعلنوا يأسهم من النجاة فقالوا : (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا ..) أي ليس لنا خلاص ولا منجى مما نحن فيه إن صبرنا عليه أو جزعنا منه ، أي أن الجزع والصبر سيّان ، فلا نجاة لنا من عذاب الله تعالى.

قال ابن كثير : والظاهر أن هذه المراجعة (أي الحوار) في النار ، بعد دخولهم فيها (١) ، كما قال تعالى : (وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ ، فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا : إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً ، فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ. قالَ

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٢ / ٥٢٨

٢٣٦

الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا : إِنَّا كُلٌّ فِيها ، إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ) [غافر ٤٠ / ٤٧ ـ ٤٨] وقال تعالى : (قالَ : ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ ، كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها ، حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً ، قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ : رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا ، فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ ؛ قالَ : لِكُلٍّ ضِعْفٌ ، وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ. وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ : فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) [الأعراف ٧ / ٣٨ ـ ٣٩] وقال تعالى : (رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا ، فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا ، رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ ، وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) [الأحزاب ٣٣ / ٦٧ ـ ٦٨].

ثم ذكر الله تعالى محاورة أخرى بين الشيطان وأتباعه من الإنس ، فقال : (وَقالَ الشَّيْطانُ ..) أي وقال إبليس لأتباعه الإنس ، بعد ما قضى الله بين عباده ، فأدخل المؤمنين الجنات ، وأسكن الكافرين الدركات : إن الله وعدكم بالبعث والجزاء وعد الحق على ألسنة رسله ، وكان وعدا حقا وخبرا صدقا ، وأما أنا فوعدتكم ألا بعث ولا جزاء ، ولا جنة ولا نار ، فأخلفتكم موعدي ، إذ لم أقل إلا باطلا من القول وزورا ، كما قال تعالى : (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ ، وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) [النساء ٤ / ١٢٠] وقد اتبعتموني وتركتم وعد ربكم.

(وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) أي وما كان لي عليكم فيما دعوتكم إليه دليل ولا حجة ، ولا قوة ولا تسلط فيما وعدتكم به.

(إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ ..) أي ولكن حينما دعوتكم استجبتم لي ، بمجرد ذلك.

(فَلا تَلُومُونِي ..) أي فلا توجهوا اللوم إلي اليوم ، ولوموا أنفسكم ؛ لأنكم أسرعتم إلى إجابتي باختياركم ، فإن الذنب ذنبكم ؛ لكونكم لم تستمعوا إلى دعاء ربكم ، وقد دعاكم دعوة الحق بالحجج والبينات ، فخالفتم البراهين الداعية لكم إلى الصواب.

٢٣٧

(ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ ..) ما أنا بمغيثكم ولا نافعكم ولا منقذكم ومخلصكم مما أنتم فيه من العذاب ، وما أنتم بمغيثي ولا نافعي بإنقاذي مما أنا فيه من العذاب والنكال ، كما قال تعالى : (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا ، وَرَأَوُا الْعَذابَ) [البقرة ٢ / ١٦٦].

(إِنِّي كَفَرْتُ ..) إني أنكرت أو جحدت اليوم بإشراككم إياي من قبل أي في الدنيا مع الله تعالى في الطاعة ، كما قال سبحانه : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) [فاطر ٣٥ / ١٤] والمراد بذلك تبرؤه من الشرك وإنكاره له ، كما قال تعالى : (إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ، كَفَرْنا بِكُمْ) [الممتحنة ٦٠ / ٤] وقال سبحانه. (كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ ، وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) [مريم ١٩ / ٨٢].

(إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) هذا في الأظهر من قول الله عزوجل ، ويحتمل أن يكون من جملة قول إبليس المحكي في القرآن قطعا لأطماع أولئك الكفار عن الإعانة والإغاثة ، والمعنى : إن الكافرين في إعراضهم عن الحق ، واتباعهم الباطل ، لهم عذاب مؤلم.

والمقصود تنبيه الناس إلى تبرؤ الشيطان من وساوسه في الدنيا ، وحضهم على الاستعداد ليوم الحساب ، وتذكر أهوال الموقف.

وبعد أن أبان الله تعالى أحوال الأشقياء ، أوضح أحوال السعداء ، وكلا الفريقين كانوا قد برزوا للحساب والجزاء بين يدي الله ، فقال : (وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا ..).

أي ويدخل الملائكة الذين صدقوا بالله ورسوله ، وأقروا بوحدانيته ، واتبعوا أوامره ، واجتنبوا نواهيه ، جنات (بساتين) فيها الأنهار الجارية في كل

٢٣٨

مكان ، وهم ماكثون فيها أبدا ، لا يحولون عنها ولا يزولون منها ، وذلك بإذن ربهم ، أي بتوفيقه وفضله وأمره.

تحييهم الملائكة بالسلام بإذن ربهم ، ويحيون بعضهم بعضا بالسلام ، كما قال تعالى : (حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها ، وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها : سَلامٌ عَلَيْكُمْ) [الزمر ٣٩ / ٧٣] وقال سبحانه : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ : سَلامٌ عَلَيْكُمْ) [الرعد ١٣ / ٢٣ ـ ٢٤] وقال عزوجل : (وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً) [الفرقان ٢٥ / ٧٥] ويحييهم ربهم بالسلام : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) [يس ٣٦ / ٥٨] وتحية بعضهم كما قال تعالى : (دَعْواهُمْ فِيها : سُبْحانَكَ اللهُمَّ ، وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ ، وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [يونس ١٠ / ١٠].

فقه الحياة أو الأحكام :

يفهم من الآيات ما يأتي :

١ ـ العتاب والنزاع والخصام قائم بين أهل النار ، فهذه محاورة بين القادة والأتباع تدل على عجز السادة عن تحقيق أي شيء لأتباعهم الذين اتبعوهم في الدنيا ، فهم لا يستطيعون تخليص أنفسهم من عذاب الله ، ولا تحقيق أي نفع لذواتهم ، فبالأولى لا يتمكنون من نفع غيرهم ، والكل لا يجدون مهربا ولا ملجأ من عذاب الله وعقابه على الكفر والعصيان ، وذلك سواء صبروا على العذاب أو جزعوا وضجروا.

٢ ـ إقرار السادة بالضلال ، فدعوا أتباعهم إلى الضلال ، ولو هدوا وأرشدوا لأرشدوا غيرهم ، وهذا كذب منهم ، كما قال تعالى حكاية عن المنافقين : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً ، فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ) [المجادلة ٥٨ / ١٨].

٣ ـ أعقب الله المناظرة التي وقعت بين الرؤساء والأتباع من كفرة الإنس ، بالمناظرة التي وقعت بين الشيطان وأتباعه من الإنس ، وموضوع المناظرتين

٢٣٩

واحد : وهو تبرؤ المتبوع من التابع ، ولكن الشيطان كان أصدق في هذه المحاورة من الإنسان ؛ لأنه أعلن أن الله وعد الناس وعد الحق وهو البعث والجزاء على الأعمال ، فوفى لهم بما وعدهم ، وأما هو فوعد الناس بخلاف ذلك وأنه لا بعث ولا جزاء ، فأخلف الوعد.

٤ ـ قال الرازي عن آية (إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) : هذه الآية تدل على أن الشيطان الأصلي هو النفس ؛ لأن الشيطان بيّن أنه ما أتى إلا بالوسوسة ، فلو لا الميل الحاصل بسبب الشهوة والغضب والوهم والخيال ، لم يكن لوسوسته تأثير البتة ، فدل هذا على أن الشيطان الأصلي هو النفس (١).

ومن المعلوم أن الملائكة والشياطين هي أجسام لطيفة ، والله تعالى ركبها تركيبا عجيبا ، ولا يستبعد أن تنفذ الأجرام اللطيفة في عمق الأجرام الكثيفة أي في بنية الإنسان.

٥ ـ للظالمين عذاب أليم ، لا مرد له ، جزاء ظلمهم ، أي كفرهم ، فالعصيان والكفر باختيارهم وكسبهم.

٦ ـ للمؤمنين المتقين جنات تجري من تحتها الأنهار ، بأمر ربهم ، ومشيئته وتيسيره ، يحيون فيها بالسلام من الله تعالى ، ومن الملائكة ، وتكون تحية بعضهم بعضا هي السلام.

٧ ـ كانت مواعيد الشيطان باطلة ، ووعد الله هو الحق ، واتبع الناس قول الشيطان بلا حجة ولا برهان ، وتبرأ الشيطان منهم ومن عملهم ، فليس لهم لوم عليه ، إنما عليهم اللوم ، وأيأسهم بأنه لا نصر عنده ولا عون ولا إغاثة ، بل هو محتاج إلى من ينصره ، وكفر بشركهم له في الدنيا ، وهذا تنبيه لهم مما سيلقونه من العذاب.

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٩ / ١١١

٢٤٠