التفسير المنير - ج ٨

الدكتور وهبة الزحيلي

نوح. وكان من أوسطهم وأفضلهم حسبا ، فكذبوه ، وازدادوا عتوا وتجبرا ، فأمسك الله عنهم القطر ثلاث سنين ، حتى جهدوا ، وكان الناس إذا نزل بهم بلاء ، طلبوا إلى الله تعالى الفرج منه عند بيته المحرم ، مسلمهم ومشركهم ، وأهل مكة إذ ذاك العماليق أولاد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح ، وسيدهم معاوية بن بكر.

فجهزت عاد إلى مكة من أماثلهم سبعين رجلا ، منهم : قيل بن عنز ومرثد بن سعد الذي كان يكتم إسلامه ، فلما قدموا نزلوا على معاوية بن بكر وهو بظاهر مكة خارجا عن الحرم ، فأنزلهم وأكرمهم ، وكانوا أخواله وأصهاره ، فأقاموا عنده شهرا يشربون الخمر ، وتغنيهم الجرادتان (قينتان كانتا لمعاوية) فلما رأى طول مقامهم وذهولهم باللهو عما قدموا له ، أهمّه ذلك ، وقال : قد هلك أخوالي وأصهاري ، وهؤلاء على ما هم عليه ، وكان يستحيي أن يكلمهم ، خيفة أن يظنوا به ثقل مقامهم عليه ، فذكر ذلك للقينتين ، فقالتا : قل شعرا نغنيهم به ، لا يدرون من قاله ، فقال معاوية :

ألا يا قيل ، ويحك قم فهينم

لعل الله يسقينا غماما

فيسقي أرض عاد إن عادا

قد امسوا ما يبينون الكلاما

فلما غنّتا به قالوا : إن قومكم يتغوّثون (١) من البلاء الذي نزل بهم ، وقد أبطأتم عليهم ، فادخلوا الحرم ، واستسقوا لقومكم ، فقال لهم مرثد بن سعد : والله لا تسقون بدعائكم ، ولكن إن أطعتم نبيكم ، وتبتم إلى الله سقيتم ، وأظهر إسلامه.

فقالوا لمعاوية : احبس عنا مرثدا ، لا يقدمن معنا مكة ، فإنه قد اتبع دين هود ، وترك ديننا ، ثم دخلوا مكة ، فقال قيل : اللهم اسق عادا ما كنت تسقيهم.

__________________

(١) غوّث الرجل تغويثا : قال : وا غوثاه.

٢٦١

فأنشأ الله تعالى سحابات ثلاثا : بيضاء ، وحمراء ، وسوداء ، ثم ناداه مناد من السماء : يا قيل ، اختر لنفسك ولقومك ، فقال : اخترت السوداء ، فإنها أكثرهن ماء ، فخرجت على عاد من واد لهم يقال له المغيث ، فاستبشروا بها ، وقالوا : هذا عارض ممطرنا ، فجاءتهم منها ريح عقيم ، فأهلكتهم ، ونجا هود والمؤمنون معه ، فأتوا مكة ، فعبدوا الله فيها حتى ماتوا (١).

وذكر هود في القرآن الكريم سبع مرات ، في سورة الأعراف في الآية ٦٥ ، وفي سورة هود في الآيات : ٥٠ ، ٥٣ ، ٥٨ ، ٦٠ ، ٨٩ ، وفي سورة الشعراء في الآية ١٢٤.

وظل هود عليه‌السلام ينذر قومه ويحذرهم بأس الله ، ويذكرهم بقوم نوح وبنعم الله تعالى عليهم : طول القامة وقوة البدن ، والإقامة في أرض كثيرة الخير من الزروع والماشية ، ويدعوهم إلى نبذ عبادة الأصنام ، ثم توحيد الله تعالى ، والتوبة والاستغفار من الشرك في العبادة.

ولكن أغلب القوم كذبوه ، ووصفوه بالسفاهة ، لتركه ما ورثوه عن الآباء من عبادة الأصنام ، وإفراد الله تعالى بالعبادة.

ثم اشتطوا فاتهموه بالجنون والخبال والعته ، وأن آلهتهم مستة بسوء ، فتبرأ من تلك الآلهة ، وتحداهم وسخر من تأثيرها المزعوم ، وأعلن أن الله وحده هو المؤثر الآخذ بنواصي كل ما على الأرض من دابة ، وأنذرهم أنه إن لم يستمعوا لنصيحته ، فإن الله تعالى سيبيدهم ويستخلف قوما غيرهم ، وسيحل بهم عذاب قريب : (قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ).

وعتا قوم هود وتجبروا وعصوا هودا وكذبوه وجحدوا بآيات الله التي أيده الله بها لتصديقه في أنه رسول من ربه. ومع ذلك ظل هود عليه‌السلام يحذرهم

__________________

(١) الكشاف : ١ / ٥٥٤ وما بعدها.

٢٦٢

ويذكرهم بأن نجاتهم بالإيمان بدعوته والعمل بنصائحه ، فزادهم ذلك عتوا إلى أن دمرهم الله بالريح العقيم ، سلطها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما.

ونجىّ الله هودا والذين آمنوا معه برحمة منه ، وظل هود بعد هلاك عاد ساكنا بلاد حضرموت ، إلى أن مات ، ودفن في شرقي بلادهم ، على نحو مرحلتين من مدينة «تريم» قرب وادي برهوت. روى ابن جرير عن علي كرم الله وجهه أنه مدفون في كثيب أحمر وعند رأسه سمرة (سدر) في حضرموت.

التفسير والبيان :

وأرسلنا إلى قبيلة عاد أخاهم هودا ، ليس أخا في الدين ، وإنما كان واحدا من تلك القبيلة أو من جنسهم جنس بني آدم ، لا من جنس الملائكة ، وذلك ليفهموا كلامه ويأنسوا بمنطقه وأفعاله ، ولتكون أخلاقه دليلا معروفا على سلوكه ، فيكونوا أقرب إلى تصديقه.

قال هود : يا قوم ، اعبدوا الله وحده ، ولا تجعلوا معه إلها آخر. أفلا تتقون ربكم ، وتبتعدون عما أنتم عليه من الشرك والمعصية؟

فقال الملأ أي الجمهور والسادة والقادة منهم : إنا لنراك في خفة حلم ، وسخافة عقل ، حيث تهجر دين قومك إلى دين آخر. وجعلت السفاهة ظرفا على طريق المجاز ، للإشارة إلى تمكنه فيها. ووصف الملأ هنا بالكفر دون ملأ قوم نوح ؛ لأن منهم من كان قد آمن وكتم إسلامه مثل مرثد بن سعد.

وإنا لنظنك في كلامك وادعائك أنك رسول من رب العالمين أنك أحد الكاذبين الذين يكذبون على الله في ادعائهم الرسالة من الله.

قال لهم غاضا عن اتهامهم بأدب حسن وخلق عظيم : ليس بي سفاهة أي ضلالة وحماقة ، ولكني بحق رسول من رب العالمين ، أرسلني إليكم لتبليغكم

٢٦٣

ما أرسلت به من التكاليف الإلهية ، وأنا لكم ناصح فيما أدعوكم إليه ، أمين فيما أبلغكم إياه ، فلا أكذب على الله. وهذه هي صفات الرسل : التبليغ والنصح والأمانة.

ولا تعجبوا أن بعث الله إليكم رسولا من أنفسكم لينذركم أيام الله ولقاءه ، بل احمدوا الله على ذاكم. فقوله : (أَوَعَجِبْتُمْ) معطوف على محذوف تقديره : أكذبتم وعجبتم من إنزال وحيه بتذكيركم وعظتكم على لسان رجل منكم ، لينذركم عقابه ويحذركم من بأسه؟!

واذكروا فضل الله عليكم ونعمته ، إذ جعلكم ورثة نوح ، ومنحكم طولا في القامة وقوة في الجسد تفوق أمثالكم من أبناء جنسكم.

واذكروا آلاء الله ، أي نعمه ومننه عليكم ، واشكروه عليها بإخلاص العبادة وترك الشرك به لتفوزوا بجنان الخلد والنعيم الأبدي.

فردوا عليه متمردين بقولهم : أجئتنا لأجل أن نعبد الله وحده ، ونفرده بالتعظيم ، ونترك ما كان عليه آباؤنا من اتخاذ الأصنام شركاء معه؟ أي أنهم أنكروا عليه دعوته ، واستبعدوا اختصاص الله وحده بالعبادة ، وترك دين الآباء في اتخاذ الأصنام شركاء معه ، حبا لما نشؤوا عليه ، وإلفا لما يتدين به آباؤهم.

وازدادوا طغيانا وعنادا وإنكارا على هود عليه‌السلام ، بل اشتطوا في الحماقة والتحدي فطلبوا إنزال العذاب عليهم على ترك الإيمان به ، قائلين : (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي استعجل إنزال العذاب علينا إن كنت صادقا في تهديدك ووعيدك.

فأجابهم هود عليه‌السلام : إنه قد وجب عليكم وحقّ بمقالتكم هذه من ربّكم عذاب وسخط وطرد من رحمته ، أو قد نزل عليكم ، جاعلا المتوقع الذي لا بدّ من نزوله بمنزلة الواقع ، وقد كان عذابهم ريحا صرصرا (شديدة الصوت) عاتية تلقي

٢٦٤

الناس على الأرض (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) [القمر ٥٤ / ٢٠] أي أصول نخل قلع من جذره.

أتحاجونني في هذه الأصنام التي سميتموها أنتم وآباؤكم آلهة ، وهي لا تضر ولا تنفع ، وما أنزل الله من حجّة ولا برهان أو دليل على عبادتها؟!

ثم هددهم وأوعدهم بقوله : (فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) أي انتظروا نزول العذاب الشديد من الله الذي طلبتموه بقولكم : (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) إني معكم أحد المنتظرين لنزوله بكم.

وقد نزل بهم العذاب ونجّى الله هودا والذين آمنوا معه برحمة عظيمة من الله ، واستأصل الكافرين ، وقطع دابر الذين جحدوا بآيات الله ؛ لأنهم لم يكونوا مؤمنين بالله تعالى ، وكذبوا بآيات الله ، فهاتان صفتان استوجبتا التّعذيب ، وهما : التّكذيب بآيات الله ، والكفر أو عدم الإيمان.

وكان العذاب كما في آيات أخرى بالأعاصير الهوجاء والرّيح العاتية : (وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ ، ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) [الذّاريات ٥١ / ٤١ ـ ٤٢] ، (وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ. سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً ، فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى ، كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ ، فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ) [الحاقة ٦٩ / ٦ ـ ٨] ، فلما تمرّدوا وعتوا أهلكهم الله بريح عاتية ، فكانت تحمل الرّجل منهم ، فترفعه في الهواء ، ثمّ ترميه على رأسه ، فتخلع رأسه ممن بين جثّته (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها ، فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ) [الأحقاف ٤٦ / ٢٥].

ومظاهر عتوّهم : عبادة الأوثان ، وظلم الناس ، والاغترار بالقوّة : (فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا : مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً؟) [فصلت ٤١ / ١٥] ، وبناء الأبنية الضخمة في كلّ مكان عبثا بغير نفع ، فعاتبهم هود

٢٦٥

وكلمهم : (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ. وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ. وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ. فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ ...) [الشعراء ٢٦ / ١٢٨ ـ ١٣١] ، (قالُوا : يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ ، وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ، إِنْ نَقُولُ : إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) [هود ١١ / ٥٣ ـ ٥٤] أي بجنون.

فقه الحياة أو الأحكام :

في قصة هو مع قومه عبر وعظات أهمها ما يأتي :

١ ـ ضرورة التّحلّي بالصبر بسبب معاناة الأنبياء الشديدة في دعوة أقوامهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، ورفض الإشراك به معه إلها آخر. فقد دعا هود قومه إلى عبادة الله وحده ، وذكّرهم بنعم الله وأفضاله عليهم من التّمكين في الأرض وزيادة القوة البدنية وطول القامة ، قال ابن عباس : كان أطولهم مائة ذراع ، وأقصرهم ستين ذراعا.

٢ ـ خيبة الآمال بالتّفوق حين استمر عناد القوم (قوم عاد) وتمرّدهم وإنكارهم دعوة نبيّهم ، فقد حملهم غرورهم بقوتهم الجسدية والمادية في البناء والمصانع على الاستهانة بتهديد النّبي ووعيده ، فاستعجلوا إنزال العذاب عليهم.

٣ ـ النّبي يكون عادة من جنس قومه ، فهو بشر مثلهم ، وهو أيضا واحد من القبيلة ، لكنه يكون من أوسطهم نسبا وأفضلهم حسبا ، وأكرمهم معشرا ، وأرفعهم خلقا وأدبا. وهذا كلّه كان منطبقا على هود عليه‌السلام ، بدليل إجابته لقومه الذين اتّهموه بالسّفاهة إجابة صادرة عن الحكمة ، والتّرفّع عمّا قالوا ووصفوه بالسّفاهة والضّلالة. وهذا منهج أصحاب السّمو والرّفعة ، يقابلون السّفهاء بالحلم ، ويغضون عن قول السّوء بالصّفح والعفو والمغفرة.

٢٦٦

٤ ـ إنّ نتيجة التّمرّد والعتو والطّغيان هي الانهيار والدّمار ، وقد دمّر الله عادا بسبب تكذيبهم بآيات الله ، وكفرهم وعدم إيمانهم ، فعصف بهم بالرّيح العاتية.

٥ ـ نجّى الله هودا وجماعة الإيمان ؛ لاستحقاقهم الرّحمة بسبب إيمانهم ، وأنزل على عاد عذاب الاستئصال الذي هو الرّيح ، معجزة لهود عليه‌السلام.

قصة صالح عليه‌السلام

(وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٧٤) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٧٥) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٧٦) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧٧) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٧٨) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي

٢٦٧

وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (٧٩))

الإعراب :

(آيَةً) حال ، عاملها معنى الإشارة ، وكانوا سألوه أن يخرجها من صخرة عينوها (بُيُوتاً) حال مقدرة لأن الجبل لا يكون بيتا في حال النّحت. (لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) بدل من قوله : (لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) بإعادة العامل الجارّ ، كقوله تعالى : (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ) [الزّخرف ٤٣ / ٣٣] : فقوله : (لِبُيُوتِهِمْ) بدل من قوله : (لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ) وهذا يدلّ على أن العامل في البدل غير العامل في المبدل منه.

أما الضمير (مِنْهُمْ) فإن رجع إلى (قَوْمِهِ) فهو بدل الشيء من الشيء ، وهما لعين واحدة ، وإن رجع إلى (لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) فهو بدل بعض من كلّ. وعلى الأوّل يكون المعنى : أن استضعافهم كان مقصورا على المؤمنين ، وعلى الثاني لم يكن الاستضعاف مقصورا عليهم ، ويدلّ على أن المستضعفين كانوا مؤمنين وكافرين.

البلاغة :

(هذِهِ ناقَةُ اللهِ) إضافة تشريف وتكريم.

(وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ) التّنكير للتّقليل والتّحقير ، أي لا تمسّوها بأدنى سوء.

(مُؤْمِنُونَ) و (كافِرُونَ) بينهما طباق.

المفردات اللغوية :

(ثَمُودَ) قبيلة عربية كانت تسكن الحجر بين الحجاز والشّام ، إلى وادي القرى قرب تبوك ، سمّوا باسم جدّهم : ثمود بن عامر بن إرم بن سام بن نوح. فإذا كانت ممنوعة من الصّرف فيراد بها القبيلة ، وإذا صرفت يراد بها الحي ، أو باعتبار الأصل ؛ لأنه اسم أبيهم الأكبر.

(أَخاهُمْ صالِحاً) هو نبيّهم ، وكان من أشرفهم نسبا وأعلاهم حسبا ، وأخوته لثمود كأخوة

٢٦٨

هود لقومه : أخوة في القبيلة أو الجنس ، أي من بني آدم ومن جنسهم لا من جنس الملائكة ، فهي أخوة في النّسب لا في الدّين.

(بَيِّنَةٌ) معجزة ظاهرة الدّلالة من الله على صدقه. (وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ) بعقر أو ضرب. (وَاذْكُرُوا) تذكّروا (إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ) أي في الأرض. (وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) أسكنكم فيها أو أنزلكم فيها ، والأرض : أرض الحجر بين الحجاز والشام. (مِنْ سُهُولِها قُصُوراً) تسكنونها في الصيف. (وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً) تسكنونها في الشتاء. والنّحت : نحر الشيء الصّلب. (فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ) تذكّروا نعم الله الكثيرة. (وَلا تَعْثَوْا) من العثيّ والعثو : الفساد.(اسْتَكْبَرُوا) تكبّروا عن الإيمان به.

(فَعَقَرُوا النَّاقَةَ) نحروها بالذّبح ، وأصل العقر : الجرح ، وعقر الإبل : قطع قوائمها ، وكانوا يفعلون ذلك بها قبل نحرها لتموت في مكانها ولا تنتقل. والذي عقرها هو : «قدار بن سالف» حيث قتلها بأمرهم بالسّيف ، وإنّما نسب الفعل إليهم جميعا ؛ لأن العقر كان برضاهم وأمرهم ، والآمر والرّاضي بالفعل : شريك في الجريمة.

(وَعَتَوْا) تمرّدوا مستكبرين. (الرَّجْفَةُ) الزّلزلة الشديدة من الأرض أو الحركة والاضطراب ، والصّيحة من السّماء. (جاثِمِينَ) باركين على الرّكب ، أو قاعدين لا حراك بهم ، والمراد : أنهم أصبحوا جثثا هامدة ميتة لا تتحرّك.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله في أوّل السّورة قصة آدم الدّالة على قدرته وتوحيده وربوبيته ، وأقام الأدلّة الدّامغة على صحّة البعث بعد الموت ، أتبع ذلك بقصص الأنبياء وموقف أقوامهم المعاندين لهم ، فذكر قصة نوح ثمّ قصة هود ، ثم قصة ثمود ، وكان قوم ثمود يتلون قوم عاد في الوجود والظّهور بين الأمم ، كما قال تعالى على لسان صالح عليه‌السلام : (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ).

أضواء من التاريخ :

ثمود بن عاثر بن إرم بن نوح ، وهو أخو جديس بن عائز ، وكذلك قبيلة طسم ، كلّ هؤلاء من العرب العاربة البائدة قبل إبراهيم الخليل عليه‌السلام.

٢٦٩

وكانت ثمود ـ قوم صالح ـ بعد عاد ، ورثوا أرضهم وديارهم ، وكانت مساكنهم بالحجر بين الحجاز والشّام ، إلى وادي القرى وما حوله. ومدائن صالح ظاهرة إلى اليوم ، تعرف ب «فجّ النّاقة». وحجر ثمود في الجنوب الشرقي من أرض مدين ، وهي مصاقبة لخليج العقبة. وقد كان يقال لعاد : عاد إرم ، إلى أن هلكوا ، فقالوا : ثمود إرم.

وقد مرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ديارهم ومساكنهم ، وهو ذاهب إلى تبوك سنة تسع ، قال الإمام أحمد عن ابن عمر قال : لما نزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالناس على تبوك ، نزل بهم الحجر عند بيوت ثمود ، فاستقى الناس من الآبار التي كانت تشرب منها ثمود ، فعجنوا منها ، ونصبوا لها القدور ، فأمرهم النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأهرقوا القدور ، وعلفوا العجين الإبل ، ثم ارتحل بهم ، حتى نزل على البئر التي كانت تشرب منها النّاقة ، ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذبوا ، وقال : «إني أخشى أن يصيبكم مثل ما أصابهم ، فلا تدخلوا عليهم». وروى أحمد أيضا عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو بالحجر : «لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين ، فإن لم تكونوا باكين ، فلا تدخلوا عليهم ، أن يصيبكم مثل ما أصابهم» وأصل هذا الحديث مخرج في الصحيحين من غير وجه.

وكانت قبيلة ثمود مثل قوم نوح وعاد تدين بعبادة الأصنام يشركونها مع الله في العبادة ، وآتاهم الله نعما كثيرة ، فأرسل الله إليهم صالحا نبيّا عليه‌السلام ، واعظا لهم ومذكّرا لهم بنعم الله وآياته الدّالة على توحيده وأنه لا شريك له ، وأنه يجب إفراده بالعبادة دون سواه.

فآمن به المستضعفون من قومه ، وكفر الملأ (السّادة والأشراف والقادة) ولم يؤمنوا به ، وعصوا وتكبروا وكفروا ، وأنكروا نبوته : (أُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا؟ بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ) [القمر ٥٤ / ٢٥] ، وقالوا للمستضعفين : (أَتَعْلَمُونَ

٢٧٠

أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ؟ قالُوا : إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ) [الأعراف ٧ / ٧٥] ، فأجاب المستكبرون : (إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) [الأعراف ٧ / ٧٦].

وطلب المستكبرون منه آية على صدقه ، فأيّده الله بالنّاقة وقال لهم : (لَها شِرْبٌ ، وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) [الشعراء ٢٦ / ١٥٥] ، (إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ ، وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ ، كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ) [القمر ٥٤ / ٢٧ ـ ٢٨] ، فكانت تشرب ماء البئر أو النّهر الصغير في يوم ، ويشربون منه في اليوم التالي ، ويحلبون منها ما شاؤوا فلا ينضب حليبها.

وأمرهم ألا يمسّوها بسوء ، وأن يذروها تأكل في أرض الله ، وبذل صالح عليه‌السلام قصارى جهده في تذكير قومه بنعم الله تعالى عليهم ، ونهاهم عن أن يعثوا في الأرض مفسدين.

فتكبّروا عن الإيمان به ، واستخفّوا به ، وعاندوه ، وعتوا عن أمر ربّهم ، وعقروا النّاقة ، عقرها قدار بن سالف بأمرهم : (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ ، وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ ، وَقالُوا : يا صالِحُ : ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) [الأعراف ٧ / ٧٧] ، (فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ) [القمر ٥٤ / ٢٩].

فقال لهم : (تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) [هود ١١ / ٦٥] ، (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ ، وَقالَ : يا قَوْمِ ، لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) [الأعراف ٧ / ٧٩] ، ثم نزل عليهم العذاب عذاب الرّجفة (الواقعة الشديدة من صوت الرّعد ، المصحوبة بقطعة من نار تحرق ما أتت عليه) أو عذاب الصيحة : (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ ، فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) [الأعراف ٧ / ٧٨] ، وقال تعالى : (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ. إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً ، فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) [القمر ٥٤ / ٣٠ ـ ٣١] ، وعبّر تعالى عنها أيضا بالصاعقة ، وتارة بالطاغية. وكلّ ذلك صحيح ؛ لأن الصاعقة تكون

٢٧١

مصحوبة بصوت شديد ، وقد تصحب برجفة أشبه بالزّلزال ، وقد تكون في مكان ويطغى تأثيرها إلى مكان آخر.

ونجّى الله صالحا والذين آمنوا معه من العذاب ، فذهبوا إلى الرّملة بنواحي فلسطين ؛ لأنها بلاد خصبة. وكان عددهم كما ذكر الألوسي مائة وعشرين ، وأما الهالكون فكانوا أهل خمسة آلاف بيت : (أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ ، أَلا بُعْداً لِثَمُودَ) [هود ١١ / ٦٨].

وذكر اسم صالح في القرآن تسع مرّات ، في سورة الأعراف في الآيات : (٧٣ ، ٧٥ ، ٧٧) ، وفي سورة هود في الآيات : (٦١ ، ٦٢ ، ٦٦ ، ٨٩) ، وفي سورة الشعراء في الآية (٤٢). وصالح كما ذكر البغوي : هو صالح بن عبيد بن أسف بن ماشخ بن عبيد بن حاذر بن ثمود.

التفسير والبيان :

ولقد أرسلنا إلى قبيلة ثمود أخاهم صالحا ، ليس أخا في الدين ، وإنما من القبيلة أو من جنسهم البشري لا من الملائكة.

فقال صالح ثمود : يا قوم اعبدوا الله وحده لا شريك له ، فما لكم من إله تعبدونه غيره ، وهكذا جميع الرسل يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، كما قال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء ٢١ / ٢٥] وقال : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [النحل ١٦ / ٣٦].

قد جاءتكم حجة وبرهان على صدق ما جئتكم به ، وكانوا هم الذين سألوا صالحا أن يأتيهم بآية ، واقترحوا عليه بأن تخرج لهم من صخرة صماء عينوها بأنفسهم ، وهي صخرة منفردة في ناحية الحجر يقال لها : الكاتبة. فأخذ عليهم العهود والمواثيق : لئن أجابهم الله إلى سؤالهم ليؤمنن به وليتبعنّه ، فلما أعطوه على

٢٧٢

ذلك عهودهم ومواثيقهم ، قام صالح عليه‌السلام إلى صلاته ، ودعا الله عزوجل ، فتحركت تلك الصخرة ، ثم انصدعت عن ناقة جوفاء وبراء يتحرك جنينها بين جنبيها ، كما سألوا ، والله على كل شيء قدير.

فآمن عندئذ رئيسهم جندع بن عمرو ومن كان معه على أمره ، وأراد بقية أشراف ثمود أن يؤمنوا ، فصدهم ذؤاب بن عمرو بن لبيد ، والحباب صاحب أوثانهم ، ورباب بن صعر بن جلهس.

وأقامت الناقة وفصيلها بعد ما وضعته بين أظهرهم مدة تشرب من بئرها يوما ، وتدعه لهم يوما ، وكانوا يشربون لبنها يوم شربها ، يحتلبون ، فيملئون ما شاؤوا من أوعيتهم وأوانيهم (١) ، كما قال في الآية الأخرى : (وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ) [القمر ٥٤ / ٢٨] وقال أيضا : (هذِهِ ناقَةٌ ، لَها شِرْبٌ ، وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) الشعراء ٢٦ / ١٥٥] قال ابن عباس : كانوا يستعيضون عن الماء يوم شربها بلبنها.

قال لهم : (هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً) أي أنها دليل قاطع على صدق نبوتي ، وأضاف الناقة إلى الله للتشريف والتكريم وتعظيم شأنها ؛ لأنها جاءت من عنده مكونة من غير أم ولا أب ، بل من صخرة عظيمة.

ثم أمرهم أن يتركوها تأكل في أرض الله ما شاءت ، وألا يتعرضوا لها بسوء في نفسها ولا في أكلها ، فإنكم إن فعلتم ذلك أصابكم عذاب أليم.

ثم ذكّرهم بنعم الله عليهم وبوجوب شكرها وعبادته تعالى فقال : (وَاذْكُرُوا ...) أي تذكروا نعم الله وأفضاله وإحسانه عليكم ، إذ جعلكم خلفاء لعاد في الحضارة والعمران وقوة البأس ، وأورثكم أرضهم وديارهم ، وأسكنكم منازلهم ، تتخذون من سهولها قصورا عالية ، بما ألهمكم من حذق الصناعة

__________________

(١) تفسير الكشاف : ١ / ٥٥٥ ـ ٥٥٦ ، تفسير ابن كثير : ٢ / ٢٢٨

٢٧٣

والاستفادة من التراب بصنع اللبن والآجر ومن سهولة الأرض ، وتنحتون من الجبال أحجارا تبنون بها بيوتا محصنة ، يسكنونها في الشتاء لقوتها ، فلا تؤثر فيها الأمطار والعواصف ، ويسكنون في السهول بقية الفصول للزراعة.

فتذكروا هذه النعم الكثيرة العظيمة ، واشكروا الله عليها بتوحيده وإفراده بالعبادة ، وإياكم أن تفسدوا في الأرض ، بأي نوع من أنواع الفساد.

فقال الملأ أي الأشراف والسادة والزعماء للفقراء المستضعفين الذين هم أسرع الناس عادة إلى إجابة دعوة الرسل ، وهم المؤمنون منهم : أتعلمون أن صالحا رسول من عند الله؟ وهو سؤال يراد به التهكم والسخرية والاستهزاء بهم. فأجابهم هؤلاء : نحن نعلم يقينا أنه رسول من عند ربه بلا ريب ولا شك ، وإنا بما أرسل به صالح من الحق والهدى مؤمنون مصدّقون ومقرون بأنه من عند الله. سألوهم عن العلم بإرساله ، فجعلوا إرساله أمرا معلوما لا شك فيه ، وإنما الكلام في وجوب الإيمان به ، فنخبركم أنا به مؤمنون. وقوله : (لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) بدل من الذين استضعفوا ، كما بينا ؛ لأن المستضعفين هم المؤمنون ، وهو بدل البعض من الكل ، وهو الراجح.

فأجاب الكفرة الذين استكبروا عن الإيمان برسالة صالح : إنا بالذي صدقتم وآمنتم به من نبوة صالح جاحدون منكرون.

وإنما لم يقولوا : إنا بما أرسل به صالح كافرون ؛ لأن ذلك يتضمن شهادتهم على أنفسهم بإثبات رسالته ، ثم بإنكارها وجحودها عنادا. وقال الزمخشري : وضعوا : (آمَنْتُمْ بِهِ) موضع : أرسل به ردّا لما جعله المؤمنون معلوما وجعلوه مسلّما.

ولما اشتد تكذيبهم لصالح النبي عليه‌السلام عزموا على قتل الناقة ، ليستأثروا بالماء كل يوم ، فاتفقوا على قتلها ، وعقروا الناقة أي نحروها ، ونسب

٢٧٤

الفعل إليهم جميعا مع أن قاتلها واحد ، كما جاء في سورة القمر (فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ) [٢٩] لرضاهم جميعا بفعله ، وكما قال تعالى : (فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها ، فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها ، وَلا يَخافُ عُقْباها) [الشمس ٩١ / ١٤ ـ ١٥] وجاء في صحيح البخاري مرفوعا : «فانتدب لها رجل ذو عزة ومنعة في قومه كأبي زمعة».

وعتوا عن أمر ربهم أي تمردوا عن اتباع رسالة صالح وأعرضوا عن امتثال أمر ربهم ، وأمر ربهم : ما أمر به على لسان صالح عليه‌السلام ، من قوله : (فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ ...) أو شأن ربهم وهو دينه. وقالوا : يا صالح ، ائتنا بما وعدتنا به من العذاب والانتقام ، إن كنت رسولا ، وتدعي الصدق فيما تبلغ به عن الله ، وهذه سمة الحمقى والسفهاء والأغرار.

روى الإمام أحمد والحاكم عن جابر قال : لما مرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحجر قال : «لا تسألوا الآيات ، فقد سألها قوم صالح ، فكانت ـ يعني الناقة ـ ترد من هذا الفج ، وتصدر من هذا الفج ، فعتوا عن أمر ربهم ، فعقروها. وكانت تشرب ماءهم يوما ، ويشربون لبنها يوما ، فعقروها ، فأخذتهم صيحة ، أخمدهم الله بها من تحت أديم السماء ، إلا رجلا واحدا كان في حرم الله ، فقالوا : من هو يا رسول الله؟ قال : أبو رغال ، فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه».

(فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) وفي سورة هود : (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) وفي سورة فصلت : (فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ) وفي سورة الذاريات : (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ ، وَهُمْ يَنْظُرُونَ) والمراد بالجميع واحد : وهو الصيحة الشديدة التي زلزلت لها الأرض واضطربوا لها. وسببها اصطكاك الأجرام السماوية.

فأصبحوا في دارهم أي في بلادهم أو في مساكنهم جثثا هامدة موتى لا يتحركون.

٢٧٥

فتولى عنهم صالح عليه‌السلام ، والظاهر أنه كان مشاهدا لما جرى عليهم ، وأنه تولى عنهم بعد ما أبصرهم جاثمين ، تولّي مغتم متحسر على ما فاته من إيمانهم ، حزنا عليهم.

وقال : يا قوم ، لقد بذلت فيكم منتهى وسعي وجهدي في إبلاغكم النصيحة لكم ، ولكنكم لا تحبون الناصحين ، فوجبت عليكم كلمة العذاب. وهذا تقريع من صالح عليه‌السلام لقومه ، لما أهلكهم الله بمخالفتهم إياه ، وتمردهم على الله ، وإبائهم عن قبول الحق.

روي أن عقرهم الناقة كان يوم الأربعاء ، ونزل بهم العذاب يوم السبت.

وروي أنه خرج في مائة وعشرة من المسلمين وهو يبكي ، فالتفت فرأى الدخان ساطعا ، فعلم أنهم قد هلكوا ، وكانوا ألفا وخمسمائة دار ، وروي غير ذلك.

ونداء صالح عليه‌السلام لقومه بعد الموت كنداء النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعض قتلى قريش ببدر ، بعد دفنهم في القليب (البئر غير المطوية أو غير المبنية) : «يا أبا جهل بن هشام ، يا عتبة بن ربيعة ، يا شيبة بن ربيعة ، ويا فلان بن فلان ، أيسرّكم أنكم أطعتم الله ورسوله ، فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا ، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟!».

قال راوي الحديث أبو طلحة الأنصاري ـ فيما أخرجه البخاري وغيره ـ قال عمر : يا رسول الله ، ما تكلم من أقوام قد جيّفوا؟ ـ أي أجساد لا أرواح لها أو فيها وقد أنتنوا ـ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والذي نفسي بيده ، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ، ولكن لا يجيبون.

٢٧٦

فقه الحياة أو الأحكام :

ثمود (١) مثل عاد من القبائل العربية العاربة ، بعث الله إليهم صالحا نبيا ، فهم قوم صالح عليه‌السلام ، وكان صالح من أوسطهم نسبا ، وأفضلهم حسبا ، فدعاهم إلى الله تعالى حتى شاب ، فلم يتبعه إلا قليل مستضعفون. وقال المستكبرون : نحن كافرون بما جاء به صالح.

قال الرازي : وهذه الآية من أعظم ما يحتج به في بيان أن الفقر خير من الغنى ، وذلك لأن الاستكبار إنما يتولد من كثرة المال والجاه ، والاستضعاف إنما يحصل من قلتهما ، فبين تعالى أن كثرة المال والجاه حملهم على التمرد ، والإباء ، والإنكار ، والكفر. وقلة المال والجاه حملهم على الإيمان ، والتصديق والانقياد ، وذلك يدل على أن الفقر خير من الغنى(٢).

واستدل بقوله تعالى : (تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً) أي تنبون القصور بكل موضع ، وقوله : (وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً) اتخذوا البيوت في الجبال لطول أعمارهم ؛ فإن السقوف والأبنية كانت تبلى قبل فناء أعمارهم ، استدل بهذه الآية من أجاز البناء الرفيع كالقصور ونحوها. وبقوله : (قُلْ : مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) [الأعراف ٧ / ٣٢] وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه ابن أبي الدنيا عن علي بن زيد بن جدعان مرسلا : «إن الله تعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده في مأكله ومشربه». ومن آثار النعمة : البناء الحسن ، والثياب الحسنة.

وكره ذلك آخرون ، منهم الحسن البصري وغيره. واحتجوا بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه الطبراني والخطيب عن جابر وهو ضعيف : «إذا أراد الله بعبد شرا ، خضر

__________________

(١) ثمود : لم ينصرف لأنه جعل اسما للقبيلة كما ذكر سابقا ، وقال أبو حاتم : لم ينصرف لأنه اسم أعجمي ، قال النحاس : وهذا غلط ؛ لأنه مشتق من الثّمد : وهو الماء القليل.

(٢) تفسير الرازي : ١٤ / ١٦٥

٢٧٧

له في الطين واللّبن حتى يبنى» وفي خبر آخر أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال فيما رواه الطبراني وأبو نعيم عن ابن مسعود : «من بنى فوق ما يكفيه ، كلّف يوم القيامة أن يحمله على عنقه» وأخرج الدار قطني عن جابر بن عبد الله قال : قال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وما أنفق المؤمن من نفقة ، فإن خلفها على الله عزوجل ، إلا ما كان في بنيان أو معصية».

ودل قوله تعالى : (فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ) على أن الكفار منعم عليهم.

وفي قوله : (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا ..) دلالة على أن السادة والزعماء هم الذين تكبروا عن الإيمان ، شأنهم في ذلك أمثالهم مع كل نبي ومصلح يتمردون ويستعلون عليه. وفيه دلالة أيضا على أن المستضعفين هم الذين آمنوا برسالة صالح عليه‌السلام ، وهو الشأن الغالب أيضا مع كل نبي ، يبادر الضعفاء والفقراء إلى الإصغاء لكلمة الحق والهدى والإيمان ، فيكونون أهل الجنة ، وأولئك المتكبرون هم أهل النار والعذاب في الدنيا.

وأما قول صالح : (وَقالَ : يا قَوْمِ ، لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ ...) فيحتمل أنه قال ذلك قبل موتهم ، ويحتمل أنه قاله بعد موتهم ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقتلى بدر : «هل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟» فقيل : أتكلم هؤلاء الجيف؟ فقال : «ما أنتم بأسمع منهم ، ولكنهم لا يقدرون على الجواب». قال القرطبي : والأول أظهر ، يدل عليه : (وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) أي لم تقبلوا نصحي. وذكر ابن كثير وغيره : أن صالحا قال لهم ذلك بعد هلاكهم تقريعا وتوبيخا.

وقوله تعالى : (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) والفاء للتعقيب : يدل على أن الرجفة أخذتهم عقيب ما ذكروا ذلك الكلام ، لكن ليس الأمر كذلك ؛ لأنه تعالى قال في آية أخرى : (فَقالَ : تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ، ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) [هود ١١ / ٦٥].

ولا تناقض بين تعبير الرجفة هنا ، والطاغية والصيحة والصاعقة ، كما ذكرنا

٢٧٨

في آيات أخرى ، لأن الرجفة هي الزلزلة في الأرض ، وهي حركة خارجة عن المعتاد ، فلم يبعد إطلاق اسم الطاغية عليها. والطاغية : اسم لكل ما تجاوز حده ، والهاء للمبالغة. وأما الصيحة : فالغالب أن الزلزلة لا تنفك عن الصيحة العظيمة الهائلة. وأما الصاعقة : فالغالب أنها الزلزلة ، وكذلك الزجرة ، قال تعالى : (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ ، فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) [النازعات ٧٩ / ١٣ ـ ١٤].

وفي هذه القصة معجزات هي : أن القوم قد شاهدوا خروج الناقة من الصخرة ، وشاهدوا أن الماء الذي كان شربا لكل أولئك الأقوام في أحد اليومين ، كان شربا لتلك الناقة الواحدة في اليوم الثاني ، ثم إن القوم لما نحروها ، وكان صالح عليه‌السلام قد توعدهم بالعذاب الشديد إن نحروها ، فلما شاهدوا بعد إقدامهم على نحرها آثار العذاب ، اقتضاهم العدول عن إصرارهم على الكفر والتوبة منه. روي أنهم احمروا في اليوم الأول ، ثم اصفروا في اليوم الثاني ، ثم اسودوا في اليوم الثالث.

وأما الناقة فكانت تسرح في الأودية ، ترد من فج (طريق) وتصدر (تعود) من غيره ، ليسعها ؛ لأنها كانت تتضلع من الماء ، وكانت على ما ذكر خلقا هائلا ، ومنظرا رائعا ، إذا مرت بأنعامهم نفرت منها.

قصة لوط عليه‌السلام

(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٨٠) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (٨١) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ

٢٧٩

يَتَطَهَّرُونَ (٨٢) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٨٣) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٨٤))

الإعراب :

(وَلُوطاً) منصوب بتقدير فعل ، تقديره : واذكروا لوطا ، أو أرسلنا لوطا. (إِذْ قالَ) بدل مما سبق. قال النحويون : إنما صرف لوط ونوح لخفته ، فإنه مركب من ثلاثة أحرف ، وهو ساكن الوسط.

(إِنَّكُمْ) الهمزة الأولى همزة الاستفهام ، والثانية همزة : «إن».

(شَهْوَةً) منصوب على المصدر ، أي تشتهونهم شهوة ، ويجوز أن يكون مصدرا في موضع الحال.

البلاغة :

(أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) استفهام إنكار وتوبيخ.

(إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) هذا تعريض بما يوهم الذم ، قال ابن عباس : عابوهم بما يمدح به.

المفردات اللغوية :

(وَلُوطاً) لوط : هو ابن هاران بن آزر ، وهو ابن أخي إبراهيم الخليل عليهما‌السلام، ولد في «أور الكلدانيين» في الطرف الشرقي من جنوب العراق ، وكانت تسمى أرض بابل. هاجر بعد موت والده مع عمه إبراهيم إلى ما بين النهرين إلى جزيرة قورا ، حيث توجد مملكة آشور ، ثم ذهب معه إلى الأرض الشام ، حيث أسكنه إبراهيم شرقي الأردن ، وعاش في المكان المسمى بعمق السديم قرب البحر الميت (أو بحر لوط) وهي قرى خمس ، سكن لوط في إحداها المسماة بسدوم ، ثم بعثه الله إلى أهل سدوم وما حولها من القرى ، يدعوهم إلى الله عزوجل ، ويأمرهم بالمعروف ، وينهاهم عن المنكر وما يرتكبونه من الفاحشة التي لم يسبقهم بها أحد من بني آدم ولا غيرهم ، وهو إتيان الذكور دون الإناث ، وهذا شيء لم يكن بنو آدم تعهده ولا تألفه ، حتى صنع ذلك أهل سدوم. (لَتَأْتُونَ الرِّجالَ) يقال : أتى المرأة : غشيها. (مُسْرِفُونَ) متجاوزون الحلال إلى الحرام. (أَخْرِجُوهُمْ) أي لوطا وأتباعه. (يَتَطَهَّرُونَ) من أدبار الرجال. (الْغابِرِينَ) الباقين في العذاب.

٢٨٠