التفسير المنير - ج ٨

الدكتور وهبة الزحيلي

أولئك جميعا ينالهم ما كتب عليهم في كتاب المقادير الذي سجل فيه نظام العالم كلّه ، وقدّر لهم من الأرزاق والأعمار ، وكتب لمن كذب على الله أن وجهه مسود ، أي لهم ما وعدوا به من خير أو شرّ ، بالرّغم من ظلمهم وافترائهم على الله.

حتى إذا جاءتهم الرّسل وهم ملائكة الموت يتوفّونهم ويقبضون أرواحهم ، قالوا لهم أي سألهم الرّسل تأنيبا وتوبيخا : أين الشّركاء الذين كنتم تدعونهم وتعبدونهم في الدّنيا من دون الله؟! ادعوهم يخلصونكم مما أنتم فيه! أجابوهم : غابوا عنّا وذهبوا ، فلا ندري مكانهم ، ولا نرجو منهم النّفع والخير ، ولا دفع الضّرّ.

وأقرّوا واعترفوا على أنفسهم بأنهم كانوا بدعائهم وعبادتهم إيّاهم كافرين.

ومفاد هذا زجر الكفار عمّا هم عليه من الكفر ، ودفعهم إلى النّظر والتّأمل في عواقب أمورهم القائمة على الكفر والضّلال.

ونظير المعنى في هذه الآية قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ. مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ، ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ، ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) [يونس ١٠ / ٦٩ ـ ٧٠] ، وقوله : (وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ ، إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ، فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا ، إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ. نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) [لقمان ٣١ / ٢٣ ـ ٢٤].

ثمّ أخبر الله تعالى عمّا تقوله الملائكة لهؤلاء المشركين به ، المفترين عليه ، المكذّبين بآياته : ادخلوا النّار مع أمم أمثالكم وعلى صفاتكم ، قد سبقتكم في الكفر ، سواء من الجنّ والإنس ، فالقائل : إما مالك خازن النّار ، أو هو الله عزوجل ، أي قال الله : ادخلوا.

كلّما دخلت جماعة منهم النّار ، ورأت العذاب والخزي والنّكال ، لعنت أختها في الملّة والدّين التي ضلّت بالاقتداء بها ، إذ هي قد ضلّت باتّباعها وتقليدها في الكفر ، كما قال تعالى : (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ ، وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ

٢٠١

بَعْضاً) [العنكبوت ٢٩ / ٢٥] ، وهكذا يلعن أصناف الكفار بعضهم بعضا ، ويتبرّأ بعضهم من بعض ، كما قال تعالى : (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا ، وَرَأَوُا الْعَذابَ ، وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ ، وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا : لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا ، كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ ، وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) [البقرة ٢ / ١٦٦ ـ ١٦٧].

حتى إذا تداركوا وتلاحقوا في النّار ، واجتمعوا فيها كلّهم ، قالت أخراهم دخولا أو منزلة ، وهم الأتباع والسّفلة ، لأولاهم منزلة أو دخولا ، وهم المتبوعون والقادة والرؤساء ، لأنهم أشدّ جرما من أتباعهم ، فدخلوا قبلهم ، قالت قولا يتضمن شكوى الأتباع إلى الله يوم القيامة ، لأنهم هم الذين أضلّوهم عن سواء السّبيل. قال الزّمخشري : معنى (لِأُولاهُمْ) : لأجل أولاهم ، لأن خطابهم مع الله ، لا معهم. أي قالوا في شأنهم وحقّهم ولأجل إضلالهم.

وتلك الشكوى أنهم يقولون مخاطبين الله : ربّنا هؤلاء السّادة أضلّونا عن الحقّ ، فأعطهم عذابا مضاعفا من النّار ، أي ضاعف عليهم العقوبة ، كما قال تعالى : (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ : يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا. وَقالُوا : رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا. رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ ، وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) [الأحزاب ٣٣ / ٦٦ ـ ٦٨].

فأجابهم الله : لكلّ منكم ومنهم عذاب مضاعف ، وقد فعلنا ذلك ، وجازينا كلّا بحسبه إما بالإضلال أو بالتقليد والضلال ، لأن كلّا من القادة والأتباع كانوا ضالّين مضلّين ، ولكنّكم لا تعلمون عذابهم. والضّعف : المثل الزّائد على مثله مرّة أو مرّات. وهو مثل قوله تعالى : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ) [النحل ١٦ / ٨٨] ، وقوله : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) [العنكبوت ٢٩ / ١٣] ، وقوله : (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) [النحل ١٦ / ٢٥].

٢٠٢

(وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ ...) أي قال المتبوعون للأتباع : إذا كنا قد أضللناكم ، فليس لكم فضل علينا ، فقد ضللتم كما ضللنا ، فنحن وأنتم سواء في استحقاق الضعف ، أي قد كفرتم وفعلتم كما فعلنا ، فليس تستحقون تخفيفا من العذاب.

فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون ، أي تلقوا عذاب الله بما تسببتم به من الكفر والضلال. وهذا من قول القادة ، أو من قول الله لهم جميعا. وهو مثل قوله تعالى : (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ. قالُوا : إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ. قالُوا : بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ. وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ ، بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ. فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا : إِنَّا لَذائِقُونَ. فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ. فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) [الصّافات ٣٧ / ٢٧ ـ ٣٣]. والمقصود من قوله : (فَذُوقُوا الْعَذابَ) التّخويف والزّجر ، لأنه تعالى لما أخبر عن الرؤساء والأتباع أن بعضهم يتبرأ من بعض ، ويلعن بعضهم بعضا ، كان ذلك سببا لوقوع الخوف الشديد في القلب.

فقه الحياة أو الأحكام :

أيّ ظلم أشنع من الافتراء على الله تعالى بالتّحليل والتّحريم من غير حكم الله ، والتّكذيب بآيات الله قولا أو استهزاء أو استكبارا عن اتّباعها؟!

وبالرغم من هذا فإنّ هؤلاء المكذّبين ينالهم ما كتب لهم من رزق وعمر وعمل ، وما وعدوا به من خير وشرّ.

ومعنى : ما كتب لهم في اختيار الطّبري ، وهو المروي عن ابن زيد وابن عباس وابن جبير : ما قدر لهم من خير وشرّ ورزق وعمل وأجل.

والمقرر أن السّادة والأتباع في الكفر سواء ، يدخلون النّار ، ويضاعف لهم العذاب ، إما بالإضلال وهو فعل السّادة ، أو بالتّقليد وإهمال العقل ، وهو فعل

٢٠٣

الأتباع. والتّعذيب ليس تشفّيا وانتقاما ، وإنما هو بسبب اقتراف السّيئات واعتقاد الكفر.

جزاء الكافرين

(إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (٤٠) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٤١))

الإعراب :

(وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) : (غَواشٍ) : مبتدأ مرفوع ، وخبره : (وَمِنْ فَوْقِهِمْ). وأصل (غَواشٍ) : ألا ينصرف ، لأنه جمع بعد ألفه حرفان على وزن فواعل ، وهو جمع غاشية ، إلا أن التّنوين دخلها عوضا عن حذف الياء.

البلاغة :

(لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ) كناية عن عدم قبول العمل يوم القيامة. (حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) فيه تشبيه ضمني ، أي لا يدخلون الجنة إلا إذا دخل الجمل في ثقب الإبرة ، وهو تمثيل للاستحالة.

(لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) استعارة لما يحيط بهم من كلّ جانب مثل قوله : (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ ، وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) [الزمر ٣٩ / ١٦].

المفردات اللغوية :

(بِآياتِنا) أدلّتنا على أصول الدّين وأحكام الشّرع ، كأدلّة إثبات وجود الله ووحدانيته ، وإثبات النّبوة ، والبعث والحساب والجزاء في الآخرة. (وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها) تكبّروا عنها فلم يؤمنوا بها. (لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ) لا يصعد لهم عمل صالح ولا دعاء ، أو لا تفتح لأرواحهم أبواب السماء إذا عرج بأرواحهم إليها بعد الموت ، فيهبط بها إلى سجّين (جهنم) بخلاف المؤمن ، فتفتح له ، ويصعد بروحه إلى السماء السابعة ، كما ورد في الحديث.

(يَلِجَ) يدخل. (الْجَمَلُ) البعير الذي نبت نابه. (سَمِّ الْخِياطِ) ثقب الإبرة ، وهو غير ممكن ، فكذا دخولهم الجنة مستحيل. (وَكَذلِكَ) الجزاء. (نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ) بالكفر ،

٢٠٤

والمراد بالإجرام : كلّ إفساد ، كإفساد الفطرة بالكفر. (مِهادٌ) فراش. (غَواشٍ) أغطية من النّار ، جمع أغشية ، وتنوينه عوض من الياء المحذوفة.

المناسبة :

المقصود من هذه الآيات إتمام وعيد الكفار ؛ لأنه تعالى أخبر في الآية المتقدمة عن خلود المكذّبين بالقرآن في النّار ، المستكبرين عن الإيمان بالله والنّبي والمعاد ، ثم أخبر عن استحالة دخولهم الجنة ، وعدم قبول أعمالهم الصالحة.

التفسير والبيان :

إن الذين كذبوا بآياتنا الدّالة على وحدانيتنا وصدق نبيّنا وصحّة النّبوات وإثبات المعاد ، لا يصعد لهم عمل صالح ؛ لخبث أعمالهم ، وإنّما يتقبّل الله من المتّقين ، ويقبل العمل الصالح ، ويرفع إليه الكلم الطيّب : لقوله تعالى : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر : ٣٥ / ١٠] ، وقوله : (كَلَّا ، إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) [المطففين ٨٣ / ١٨] ، فلا تفتح لأعمالهم وأرواحهم أبواب السّماء ، وهذا فيه جمع بين القولين في تفسير هذه الآية.

ولا يدخلون الجنّة أبدا بحال ، فهم مطرودون من رحمة الله ، فدخولهم الجنة مستحيل ، لقوله : (حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) وهذا أسلوب شائع بين العرب للدّلالة على الاستحالة ، فهم يقولون : لا أفعل كذا حتى يشيب الغراب ، وحتى يبيضّ القار (الزّفت) وحتى يدخل الجمل في سمّ الخياط. وروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير أنّ المراد : حتى يدخل الجمّل أي الحبل الغليظ في خرق الإبرة ، قال ابن عباس رضي‌الله‌عنه : إن الله أحسن تشبيها من أن يشبه بالجمل ، يعني أن الحبل مناسب للخيط الذي يسلك في سمّ الإبرة ، والبعير لا يناسبه. قال الزّمخشري : إلا أن قراءة العامة (الْجَمَلُ) أوقع ، لأنّ سمّ الإبرة مثل في ضيق المسلك ، يقال : أضيق من خرت الإبرة ، والجمل مثل في عظم الجرم.

٢٠٥

(وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ) أي ومثل ذلك الجزاء الفظيع نجزي كلّ من أجرم في حقّ الله ، وفي حقّ نفسه ، وفي حقّ إخوانه المسلمين ، ليدلّ على أنّ الاجرام هو السّبب المؤدّي إلى العقاب ، وأن كلّ من أجرم عوقب. ثم كرر ذلك في آخر الآية التالية فقال : (وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) لأن كلّ مجرم ظالم لنفسه.

ولهؤلاء المجرمين من نار جهنّم فراش يفترشونه من تحتهم ، وأغطية من فوقهم ، والمراد أن النّار محيطة بهم ، مطبقة عليهم من كلّ جانب ، كما قال تعالى : (إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ) [الهمزة ١٠٤ / ٨] ، وقال : (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) [التوبة ٩ / ٤٩] ، وقال : (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ) [الزمر ٣٩ / ١٦].

(وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) ومثل هذا الجزاء نجزي الظالمين لأنفسهم ولغيرهم من الناس. وهذا دليل على أن المجرمين والظالمين هم الكافرون : لقوله تعالى : (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [البقرة ٢ / ٢٥٤] ، وبدليل أن الذين تقدّم ذكرهم هم المكذبون بآيات الله.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلّت الآيتان على ما يلي :

١ ـ أعمال الكافرين المكذبين بآيات الله ، المستكبرين عنها غير مقبولة ، فلا تفتح لأعمالهم ولا لأرواحهم أبواب السماء.

٢ ـ إنّ الجنّة في السّماء ؛ لأنّ المعنى : لا يؤذن لهم في الصّعود إلى السّماء ، ولا تطرق لهم ليدخلوا الجنّة.

٣ ـ يستحيل على الكفار دخول الجنة ، فلا يدخلونها البتة ، ويحرمون منها أبدا وفي كلّ الأحوال.

٢٠٦

٤ ـ عذاب النّار يحيط بالكافرين من كلّ جانب ، فلا يجدون فيها منفذا للخروج منها ، أو التّخفيف من العذاب ، فلهم منها غطاء ووطاء ، وفراش ولحاف.

٥ ـ المجرمون : هم الكافرون ؛ لأن الذين تقدّمت صفتهم هم المكذبون بآيات الله ، المستكبرون عنها. والظالمون أيضا : هم الكافرون ؛ لأنهم الذين أشركوا بالله واتّخذوا من دونه إلها.

جزاء المؤمنين المتقين

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٤٢) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣))

الإعراب :

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ... الَّذِينَ آمَنُوا) مبتدأ ، وخبره : (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ). و (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) اعتراض وقع بين المبتدأ وخبره. ويجوز أن يكون التقدير فيه : لا نكلف نفسا منهم ، فحذف «منهم» كقوله تعالى : (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ ، إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [الشورى ٤٢ / ٤٣] أي إن ذلك الصبر منه ، أي من الصابر. وقال الرازي : إنما حسن وقوع هذا الكلام المعترض بين المبتدأ والخبر ، لأنه من جنس الكلام ؛ لأنه لما ذكر عملهم الصالح ، ذكر أن ذلك العمل في وسعهم.

(تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ تَجْرِي) جملة فعلية حال من الضمير (صُدُورِهِمْ) في (صُدُورِهِمْ).

(لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ) : أن وصلتها : في موضع رفع بالابتداء ، والخبر محذوف ، أي : لولا

٢٠٧

هداية الله موجودة ، لهلكنا أو شقينا. ولا يجوز إظهار خبر المبتدأ بعد : (لَوْ لا) لطول الكلام بها ، كما لا يجوز إظهاره بعد القسم في قوله تعالى : (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) [الحجر ١٥ / ٧٢] أي لعمرك قسمي ، فلا يجوز إظهار الخبر لطول الكلام بجواب القسم.

(أَنْ تِلْكُمُ) أن مخففة من الثقيلة تقديره : ونودوا بأنه تلكم الجنة ، والضمير ضمير الشأن ، أو مفسرة ، أي معنى تفسير النداء ، والمعنى : ونودوا ، أي تلكم الجنة ، وهو الأجود عند الرازي.

المفردات اللغوية :

(وُسْعَها) طاقتها من العمل في الأحوال العادية ، لا في وقت الشدة والضيق. (وَنَزَعْنا) قلعنا. (غِلٍ) حقد أو حسد وعداوة كان بينهم في الدنيا. (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) تحت قصورهم. (وَقالُوا) عند الاستقرار في منازلهم. (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا) أي وفقنا لموجب هذا الفوز العظيم ، وهو الإيمان والعمل الصالح. (وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ) اللام لتوكيد النفي ، يعنون : وما كان يستقيم أن نكون مهتدين ، لو لا هداية الله وتوفيقه.

(لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ) فكان لنا لطفا وتنبيها على الاهتداء ، فاهتدينا ، يقولون ذلك سرورا واغتباطا بما نالوا ، وتلذذا بالتكلم به ، لا تقربا وتعبدا.

(أُورِثْتُمُوها) صارت إليكم كما يصير الميراث إلى أهله.

المناسبة :

جرت سنة القرآن الجمع بين الوعيد والوعد ، فبعد أن ذكر سبحانه وعيد الكافرين والعصاة ، أتبعه بوعد المؤمنين الطائعين.

التفسير والبيان :

لما ذكر الله تعالى حال الأشقياء وجزاءهم ، عطف عليه بيان حال السعداء وجزاءهم ، ليتميز المؤمن عن الكافر ، والمحق عن المبطل ، فقال : (وَالَّذِينَ آمَنُوا ..) أي والذين صدقوا بالله ورسله ، وعملوا الصالحات ، بامتثال الأوامر واجتناب النواهي ، هم أهل الجنة دون سواهم ، وهم المخلدون فيها أبدا.

وجاء قوله تعالى : (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) جملة اعتراضية ، للتنبيه

٢٠٨

على أن الجنة مع عظم محلها يوصل إليها بالعمل السهل من غير تحمل الصعب ، وأن العمل الصالح الموصل إلى الجنة سهل غير صعب ، فهو ليس شاقا ولا خارجا عن طاقة البشر ، بل يسهل على كل إنسان فعله ، متى توافر الإيمان ، وتأيد بهدي القرآن.

ومعنى الوسع : ما يقدر الإنسان عليه في حال السعة والسهولة ، لا في حال الضيق والشدة.

ومن نعم الله تعالى على أهل الجنة صفاء نفوسهم وسلامة صدورهم ، لا يكدرهم كدر ، ولا يؤلمهم ألم ، ولا يحزنهم فزع ، ولا يحدث بينهم شر ؛ لأن الله نزع ما في صدورهم من حسد وحقد وعداوة وغل ونحوها من أمراض النفوس في الدنيا.

جاء في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا خلص المؤمنون من النار ، حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار ، فاقتص لهم مظالم كانت بينهم في الدنيا ، حتى اذهبوا ونقوا ، أذن لهم في دخول الجنة ، فو الذي نفسي بيده ، إن أحدهم بمنزلة في الجنة أدل منه بمسكنة الذي كان في الدنيا».

وروى ابن أبي حاتم عن الحسن البصري قال : بلغني أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يحبس أهل الجنة بعد ما يجوزون الصراط ، حتى يؤخذ لبعض من بعض ظلاماتهم في الدنيا ، فيدخلون الجنة ، وليس في قلوب بعضهم على بعض غلّ».

وروى ابن جرير الطبري عن قتادة قال : قال علي رضي‌الله‌عنه : إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال الله تعالى فيهم : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً) [الحجر ١٥ / ٤٧].

٢٠٩

وروى عبد الرزاق عن الحسن قال : قال علي : فينا والله أهل بدر نزلت : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ).

وقال المؤمنون شاكرين نعمة الله وفضله : الحمد لله الذي هدانا في الدنيا للإيمان الصحيح والعمل الصالح ، الذي كان جزاؤه هذا النعيم ، وما كان من شأننا ومستوى تفكيرنا أن نهتدي إليه بأنفسنا ، لو لا هداية الله وتوفيقه إيانا لاتباع رسله.

وقالوا أيضا حين رأوا مطابقة كل شيء لما أخبر به الرسل : لقد جاءت رسل الله بالحق ، وهذا مصداق وعد الله على لسان رسله.

ونادتهم الملائكة : سلام عليكم طبتم ، فادخلوها خالدين ، هذه الجنة التي أورثكم الله إياها جزاء أعمالكم الصالحة.

أخرج سعيد بن منصور والبيهقي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وما منكم من أحد إلا وله منزلان : منزل في الجنة ، ومنزل في النار ، فإذا مات فدخل النار ، ورث أهل الجنة منزله ، فذلك قوله : (أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ).

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيتان على ما يأتي :

١ ـ الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون.

٢ ـ التكليف على قدر الطاقة والوسع ، سواء في التكاليف الشرعية من عبادات وفرائض ، أو في التكاليف المالية كنفقات الزوجات ونحوها.

٣ ـ من نعم الله عزوجل على أهل الجنة : نزع الغلّ الذي كان في الدنيا من صدورهم. والنزع : الاستخراج ، والغلّ : الحقد الكامن في الصدر.

٢١٠

٤ ـ استحقاق إرث الجنة من جهة العدل بالعمل الصالح ، ففي قوله تعالى : (أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) دليل على أن الإنسان يدخل الجنة بعمله. لكن دخولها يكون برحمة الله وفضله ، كما قال تعالى : (ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ) [النساء ٤ / ٧٠] وقال : (فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ) [النساء ٤ / ١٧٥].

وجاء في صحيح مسلم : «لن يدخل أحدا منكم عمله الجنة ، قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟ قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل».

يتبين من هذا أن إرث منازل الجنة بالعمل ، ودخولها بالرحمة والفضل الإلهي وهذا رأي القرطبي الذي قال : وبالجملة فالجنة ومنازلها لا تنال إلا برحمته ، فإذا دخلوها بأعمالهم ، فقد ورثوها برحمته ، ودخلوها برحمته ، إذا أعمالهم رحمة منه لهم وتفضل عليهم (١). وهذا قريب من رأي ابن كثير ، فإنه قال : بسبب أعمالكم نالتكم الرحمة فدخلتم الجنة ، وتبوأتم منازلكم بحسب أعمالكم (٢).

ويمكن التوفيق بنحو آخر أولى وهو أن عمل الإنسان مهما كثر لا يستحق به الجنة لذاته ، لو لا رحمة الله وفضله ، فإنه جعل الجزاء العظيم على العمل القليل ، فصار دخول الجنة برحمة الله وفضله.

والخلاصة : العمل الصالح في رأي أهل السنة لا بد منه لدخول الجنة في ميزان العدل وإيجاد تكافؤ الفرص بين جميع الناس ، لكن لا بد أن ينضم إليه رحمة الله وفضله ، فإنه جعل الجنة جزاء العمل فضلا منه ورحمة ، وكافأ على القليل بالكثير فضلا منه ورحمة ، لا أن ذلك مستحق عليه وواجب للعبادة وجوب الديون التي لا اختيار في أدائها ، كما فهم المعتزلة ؛ لأنه يستحيل عقلا إيجاب شيء على الله تعالى.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٧ / ٢٠٨ ـ ٢٠٩

(٢) تفسير ابن كثير : ٢ / ٢١٥

٢١١

محاورة بين أهل الجنة وبين أهل النار والأعراف

(وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (٤٤) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (٤٥) وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (٤٦) وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٧))

الإعراب :

(فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ أَنْ) بالتخفيف ، مخففة من الثقيلة ، وتقديره : أنّه لعنة الله ، فخفف وحذف اسمها وإحدى النونين وهي الأخيرة لأنها الطرف. ويجوز أن تكون (أَنْ) المخففة بمعنى «أي» مفسرة ، ولا موضع لها من الإعراب.

وتقرأ أنّ بالتشديد أيضا مع الفتح ، وتنصب اللعنة بها. ومن قرأ : إنّ بكسر الهمزة مع التشديد ، فإنه قدر القول كأنه قال : إن لعنة الله. و (بَيْنَهُمْ) منصوب على الظرف ، والعامل (مُؤَذِّنٌ) عند البصريين لأنه أقرب إليه من أذن ، وهو أذن عند الكوفيين ، لأنه الأول والعناية به أكثر.

(يَعْرِفُونَ كُلًّا) جملة فعلية في موضع رفع ؛ لأنها صفة لرجال.

(وَهُمْ يَطْمَعُونَ بِسِيماهُمْ) مبتدأ ، و (يَطْمَعُونَ) جملة فعلية في موضع خبر المبتدأ ، والمبتدأ وخبره في موضع نصب على الحال من الضمير المرفوع في (يَدْخُلُوها). ومعناه : أنهم يئسوا من الدخول ، فلم يكن لهم طمع فيه ، ولكنهم دخلوا وهم على يأس من ذلك.

المفردات اللغوية :

(وَنادى) للتقرير والتبكيت. (ما وَعَدَنا رَبُّنا) من الثواب ، والوعد يشمل الخير

٢١٢

والشر. (ما وَعَدَ رَبُّكُمْ) من العذاب وتسميته هنا وعدا تهكم أو من قبيل المشاكلة. (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ) نادى مناد ، والأذان : رفع الصوت بالإعلام بالشيء. (لَعْنَةُ اللهِ) اللعنة : الطرد من رحمة الله مع الإهانة والخزي. (وَيَبْغُونَها) يطلبون السبيل. (عِوَجاً) معوجا أو ذا عوج أي غير مستقيم ، والعوج : للمرئيات ، والعوج : لغير المرئي كالقول والرأي. (حِجابٌ) حاجز أو سور بين الجنة والنار. (وَعَلَى الْأَعْرافِ) جمع عرف وهو أعلى الشيء وكل مرتفع من الأرض وغيرها ، والمراد هنا : سور الجنة. (رِجالٌ) استوت حسناتهم وسيئاتهم. (بِسِيماهُمْ) بعلامتهم ، وهي بياض وجوه المؤمنين ، وسواد وجوه الكافرين ، لرؤيتهم لهم ، إذ موضعهم عال. (لَمْ يَدْخُلُوها) أي أن أصحاب الأعراف لم يدخلوها الجنة. (وَهُمْ يَطْمَعُونَ) في دخولها. (صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ) حوّلت أبصار أهل الأعراف. (تِلْقاءَ) جهة.

المناسبة :

لما بيّن الله تعالى وعيد الكفار وثواب أهل الطاعة والإيمان ، أتبعه بذكر المناظرات التي تدور بين الفريقين ، بعد استقرار كل فريق في موضعه من النار أو الجنة.

وهذه المناظرة تشعر بأن أهل الجنة يشرفون من علو على أهل النار ، وأن بعضهم يخاطب بعضا ليزداد أهل الجنة معرفة بمقدار النعمة ، ويزداد أهل النار حسرة على ما فرطوا في الدنيا.

ومع أن الجنة في أعلى السموات والنار في أسفل الأرضين ، فيمكن حصول هذا النداء مع هذا البعد الشديد ، لأن لعالم الآخرة أحوالا تختلف عن عالم الدنيا ، فيستطيع الإنسان أن يسمع ويرى من بعيد ، ولأن البعد والقرب ليس من موانع الإدراك ، كما قال الرازي.

التفسير والبيان :

يخبر الله تعالى بما يخاطب به أهل النار تقريعا وتوبيخا ، وأن هذا النداء : (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ) إنما يحصل بعد استقرار الفريقين في

٢١٣

الجنة والنار ، بدليل ما ذكر في الآية المتقدمة من قوله تعالى : (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها).

وقوله تعالى : (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ) يفيد العموم ، فهل النداء يقع من كل أهل الجنة لكل أهل النار ، أو من البعض للبعض؟ الجواب أن الجمع إذا قوبل بالجمع يوزع الفرد على الفرد ، وكل فريق من أهل الجنة ينادي من كان يعرفه من الكفار في الدنيا.

والمعنى : إن أصحاب الجنة بعد استقرارهم فيها ينادون أهل النار بعد استقرارهم فيها أيضا ، قائلين : قد وجدنا ما وعدنا ربنا على ألسنة الرسل من النعيم والتكريم حقا ، فهل وجدتم ما وعدكم ربكم من الخزي والنكال حقّا؟

والسؤال يتضمن تقرير أهل الجنة بصدق ما بلّغهم الرسل من وعد ربهم ، وتقريع وتوبيخ أهل النار على ما حدث منهم من جناية على أنفسهم بتكذيب الرسل. (قالُوا : نَعَمْ) قال سيبويه : «نعم : عدة أو تصديق» والمعنى أنهم أجابوا بالإيجاب ، فإنا وجدنا ما وعدنا به ربنا على الكفر ، وها نحن نتلظى في عذاب النار. وهذا يدل على أن الكفار يعترفون يوم القيامة ، بأن وعد الله ووعيده حق وصدق.

وهذا التقريع من الله يعقبه تقريع من الملائكة يقولون لهم : (هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ. أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ. اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا ، سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الطور ٥٢ / ١٤ ـ ١٦].

وقد قرّع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الدنيا قتلى القليب (البئر) من الكفار يوم بدر فنادى : «يا أبا جهل بن هشام ، ويا عتبة بن ربيعة ، ويا شيبة بن ربيعة ـ وسمى رؤوسهم ـ هل وجدتم ما وعد ربكم حقا ، فإني وجدت ما وعدني ربي حقا» وقال عمر : يا رسول الله ، تخاطب قوما قد جيفوا ، فقال : «والذي نفسي

٢١٤

بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ، ولكن لا يستطيعون أن يجيبوا».

وكانت نتيجة الحوار أو المناظرة أن أذن مؤذن ، أي أعلم معلم ونادى مناد : أن لعنة الله على الظالمين ، أي لعنة الله (الطرد من رحمته) مستقرة عليهم ؛ لأنهم ظلموا أنفسهم بعدم الإيمان. والمؤذن : إما مالك خازن النار ، وإما ملك غيره.

ثم وصف الظالمين بقوله : (الَّذِينَ يَصُدُّونَ ...) أي الذين يمنعون الناس عن اتباع سبيل الله وشرعه وما جاءت به الأنبياء ، ويطلبون أن تكون السبيل معوجة غير مستقيمة ، حتى لا يتبعها أحد.

(وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ) أي وهم بلقاء الله في الدار الآخرة كافرون ، أي جاحدون مكذبون بذلك ، لا يصدقونه ولا يؤمنون به ، فلهذا لا يبالون بما يأتون من منكر من القول والعمل ؛ لأنهم لا يخافون حسابا عليه ولا عقابا ، فهم شر الناس أقوالا وأعمالا.

وبين الفريقين : أهل الجنة وأهل النار حجاب أي حاجز مانع من وصول أهل النار ، وهو السور الذي قال الله تعالى فيه : (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ ، لَهُ بابٌ ، باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ ، وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) [الحديد ٥٧ / ١٣].

وأعالي السور هي الأعراف التي قال الله تعالى فيها : (وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ ..) أي على أعالي ذلك السور رجال يرون أهل الجنة وأهل النار ، ويعرفون كلا منهم بعلامتهم من بياض وجوه المؤمنين وسواد وجوه الكافرين ، كما وصفهم الله بها في قوله : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ، ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ ، وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ ، تَرْهَقُها قَتَرَةٌ ، أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) [عبس ٨٠ / ٣٨ ـ ٤٢].

وأهل الأعراف : هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم ، وهم موحدون قصرت

٢١٥

بهم سيئاتهم عن الجنة ، وتجاوزت بهم حسناتهم النار ، وقفوا هناك حتى يقضى الله فيهم. روى الحافظ أبو بكر بن مردويه عن جابر بن عبد الله قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمن استوت حسناته وسيئاته فقال : «أولئك أصحاب الأعراف ، لم يدخلوها وهم يطمعون».

وأخرج أبو الشيخ ابن حيان الأنصاري والبيهقي وغيرهما عن حذيفة قال : «هم قوم تجاوزت بهم حسناتهم النار ، وقعدت بهم سيئاتهم عن الجنة ، جعلوا هناك حتى يقضى بين الناس ، فبينما هم كذلك ، إذ طلع عليهم ربك فقال لهم : اذهبوا فادخلوا الجنة ، فإني قد غفرت لكم».

(وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ ...) أي ونادى أصحاب الأعراف أهل الجنة قائلين لهم : سلام عليكم ، وهو تحية خالصة بعد دخول الجنة ؛ لقوله تعالى : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً ، إِلَّا قِيلاً : سَلاماً سَلاماً) [الواقعة ٥٦ / ٢٥ ـ ٢٦].

نادوهم مسلّمين عليهم ، حال كونهم لم يدخلوا الجنة ، ولكنهم يطمعون في دخولها ، لما بدا لهم من يسر الحساب ، ولعلهم بسعة رحمة الله وفضله. تلا الحسن البصري هذه الآية: (لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ) فقال : والله ما جعل ذلك الطمع في قلوبهم إلا لكرامة يريدها بهم. والناس في ذلك الموقف يكونون بين الرجاء والخوف ، روى أبو نعيم عن عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه أنه قال : لو نادى مناد : يا أهل الموقف ، ادخلوا النار إلا رجلا واحدا ، لرجوت أن أكون ذلك الرجل ، ولو نادى : ادخلوا الجنة إلا رجلا واحدا ، لخشيت أن أكون ذلك الرجل.

وإذا حولت أبصار أهل الأعراف نحو أهل النار من غير قصد ، فرأوا وجوههم مسودة ، وأعينهم مزرقة ، قالوا متضرعين إلى الله تعالى : ربنا لا تجعلنا مع هؤلاء القوم الظالمين أنفسهم.

٢١٦

والآية تدل على أنهم ينظرون إلى أصحاب الجنة بالقصد والرغبة ، ويسلّمون عليهم ، ويكرهون رؤية أهل النار ، فإذا صرفت أي حولت أعينهم من غير قصد ولا رغبة إلى جهة أهل النار ، استغاثوا وتضرعوا ألا يكونوا معهم.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ تستهدف المناظرة أو الحوار أو المناداة بين أهل الجنة وأهل النار تقريع الكفار وتعييرهم ، ثم تحسم المناظرة بصوت مناد ينادي من الملائكة بأعلى صوته : (لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ).

٢ ـ الآية تدل على أن الكفار يعترفون يوم القيامة بأن وعد الله ووعيده حق وصدق ، ولا يمكن ذلك إذا كانوا عارفين يوم القيامة بذات الله وصفاته.

٣ ـ أوقع المؤذن لعنة الله على من كان متصفا بصفات أربع :

أ ـ هي كونهم ظالمين أي مشركين أو كفارا بدليل وقوع المناظرة بين أهل الجنة وبين الكفار.

ب ـ وكونهم يصدون عن سبيل الله ، أي يمنعون الناس من قبول الدين الحق ، إما بالزجر وإما بالحيل.

ج ـ كونهم يبغونها عوجا أي يلقون الشكوك والشبهات في دلائل الدين الحق.

د ـ وهم بالآخرة كافرون ، وهذا تصريح بأن تلك اللعنة ما وقعت إلا على الكافرين.

٤ ـ إن أصحاب الأعراف أي السور القائم بين الجنة والنار ، يترددون بين

٢١٧

حالين : ينادون أصحاب الجنة ويسلّمون عليهم ويتأملون دخول الجنة فضلا من الله ورحمة ، وهم لم يدخلوها بعد ، ولكنهم يعلمون أنهم يدخلون. ويرون أهل النار فجأة من غير قصد ولا رغبة ، فيسألون الله تذللا وتضرعا ألا يجعلهم معهم ، وقد علموا أنه لا يجعلهم معهم.

وأصحاب الأعراف : هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم ، في رأي جماعة من الصحابة والتابعين ، قال ابن عطية : وفي مسند خيثمة بن سليمان حديث عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «توضع الموازين يوم القيامة ، فتوزن الحسنات والسيئات ، فمن رجحت حسناته على سيئاته مثقال صؤابة (١) ، دخل الجنة ؛ ومن رجحت سيئاته على حسناته مثقال صؤابة دخل النار. قيل : يا رسول الله ، فمن استوت حسناته وسيئاته؟ قال : أولئك أصحاب الأعراف لم يدخلوها وهم يطمعون».

المناظرة بين أصحاب الأعراف وأصحاب النار

(وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (٤٨) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٤٩))

الإعراب :

(أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ) الهمزة في (أَهؤُلاءِ) : همزة الاستفهام ، و (هؤُلاءِ) : مبتدأ ، و (الَّذِينَ) : خبر مبتدأ محذوف تقديره : أهؤلاء هم الذين أقسمتم عليهم ،

__________________

(١) الصؤابة : بيض القملة.

٢١٨

فحذف عليهم. و (لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ) : جواب (أَقْسَمْتُمْ) ، والقسم وجوابه في صلة (الَّذِينَ).

(لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ ..) جملة النفي حال ، أي مقولا لهم ذلك.

المفردات اللغوية :

(رِجالاً) من أصحاب النار. (ما أَغْنى عَنْكُمْ) من النار. (جَمْعُكُمْ) المال أو كثرتكم واجتماعكم. (وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) أي واستكباركم عن الإيمان. (أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ ...) أي ويقول أصحاب الأعراف لأهل النار مشيرين لهم إلى ضعفاء المسلمين.

المناسبة :

لما بيّن الله تعالى أثر التفاتة أصحاب الأعراف على أصحاب النار بقوله : (وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ ...) أتبعه أيضا بأن أصحاب الأعراف ينادون رجالا من أهل النار. واستغنى عن ذكر أهل النار لأجل أن الكلام لا يليق إلا بهم ، وهو قولهم : (ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) وذلك لا يليق إلا بمن يبكت ويوبخ ، ولا يليق أيضا إلا بأكابرهم.

التفسير والبيان :

هذا نداء آخر من بعض أصحاب الأعراف لبعض المستكبرين الذين يعتمدون على قوتهم وغناهم ، ويحتقرون ضعفاء المؤمنين لفقرهم وضعفهم ، مضمونه الإخبار عن تقريع أهل الأعراف لرجال من صناديد المشركين وقادتهم ، يعرفونهم في النار بسيماهم وعلامتهم المميزة لهم.

ينادي بعض أهل الأعراف رجالا من المشركين يعرفونهم بعلاماتهم وهي سواد الوجوه وما عليها من الغبرة وزرقة العيون ، وتشوية الخلقة ، فيقولون لهم : ما أغنى عنكم جمع المال ، أو اجتماعكم وكثرتكم ، ولا استكباركم عن الإيمان برسالة محمد ، أي لم تنفعكم كثرتكم ، ولا جموعكم ولا تكبركم عن الإيمان من عذاب

٢١٩

الله ، بل صرتم إلى ما أنتم فيه من العذاب والنكال ، وكذلك لم ينفعكم تكبركم على الفقراء والمستضعفين المؤمنين.

وتبددت أفكاركم التي تزعم أن من أغناه الله في الدنيا ، وجعله قويا هو الذي له نعيم الآخرة ، كما قال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها : إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ ، وَقالُوا : نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً ، وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) [سبأ ٣٤ / ٣٤ ـ ٣٥].

ثم سألوهم سؤال توبيخ وتأنيب عن حال المستضعفين الذين كانوا يضطهدونهم في الدنيا بسبب إيمانهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كصهيب الرومي وخبيب بن عدي وبلال الحبشي وآل ياسر، وأشاروا إليهم :

أهؤلاء هم الذين حلفتم في الدنيا ألا ينالهم الله برحمة لفقرهم وضعفهم وقلة أتباعهم ، وهم يرتعون في نعيم الجنة ويتمتعون بخيراتها ، والكفار يتحرقون في سعير جهنم؟!

ثم قال الله تعالى أو قالت الملائكة لأصحاب الأعراف الموقوفين على السور : ادخلوا الجنة ، لا خوف عليكم في المستقبل ، ولا يطرأ عليكم حزن في حاضركم.

وفائدة المحاورة والقول : تبيان أن الجزاء على قدر العمل ، والترغيب في التسابق في أعمال الخير ، وأن المعول عليه ليس هو المال والغنى والقوة ، وإنما المنظور إليه هو العمل الصالح ، وأن الطائعين يتميزون بالنضرة ، وأن العصاة يعرفون بالغبرة والزّرقة وتشوه الخلقة.

فقه الحياة أو الأحكام :

إن معايير التفاضل وموازين التقدم والتفوق في الآخرة تختلف عما هي عليه في الدنيا ، فليس المال والقوة والتجمع أساس العزة والسعادة والنجاة في الآخرة ،

٢٢٠