التفسير المنير - ج ٨

الدكتور وهبة الزحيلي

أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى ، وَهُمْ يَلْعَبُونَ) [الأعراف ٧ / ٩٧ ـ ٩٨] وقال : (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ ، أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ. أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ ، فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ. أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ ، فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) [النحل ١٦ / ٤٥ ـ ٤٧].

فما كان قولهم عند مجيء العذاب ، إلا أن اعترفوا بذنوبهم ، وأنهم حقيقون بهذا ، أي لم يصدقوا بشيء عند الإهلاك إلا بالإقرار بأنهم كانوا ظالمين.

قال ابن جرير : في هذه الآية الدلالة الواضحة على صحة ما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قوله : «ما هلك قوم حتى يعذروا من أنفسهم».

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآية إلى الآتي :

١ ـ إن عصيان أوامر الرسل وتكذيبهم موجب للخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة. وعذاب الدنيا يأتي في وقت الغفلة واللهو ، إما ليلا أو حين القيلولة نهارا.

٢ ـ كل مذنب حين توقيع العقاب الدنيوي عليه يعترف بجرمه ، ويندم على ما فرط منه.

٣ ـ المقصود بالآية الإنذار والتخويف والعبرة بما حل بالأمم السابقة ، فيحملهم الخوف على إصلاح أمورهم ، والإقلاع عن معاصيهم : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد ١٣ / ١١].

٤ ـ الجزاء أو العقاب الإلهي في الدنيا حق وعدل ومطابق للواقع ، ولا يجيء العذاب إلا بعد العصيان وإعذار الناس من أنفسهم.

١٤١

عاقبة الكفر في الآخرة والحساب الدقيق على الأعمال

(فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (٧) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (٩))

الإعراب :

اللام في (فَلَنَسْئَلَنَ) و (فَلَنَقُصَّنَ) لام القسم ، المراد بها التوكيد.

(وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُ) : (الْوَزْنُ) مبتدأ ، و (يَوْمَئِذٍ) خبره.

والحق : مرفوع من ثلاثة أوجه : إما لأنه صفة للوزن ، أو لأنه بدل من الضمير المرفوع في الظرف الذي هو خبر للمبتدأ ، أو لأنه خبر عن المبتدأ ، و (يَوْمَئِذٍ) : ظرف ملغى منصوب بالوزن.

البلاغة :

(ثَقُلَتْ) و (خَفَّتْ) بينهما طباق.

المفردات اللغوية :

(فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ) أي الأمم عن إجابتهم الرسل ، وعملهم فيما بلغهم (وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) عن الإبلاغ. (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ) لنخبرنهم عن علم بما فعلوه (وَما كُنَّا غائِبِينَ) عن إبلاغ الرسل ، والأمم الخالية فيما عملوا.

(وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ) للأعمال يوم القيامة (الْحَقُ) العدل ، صفة الوزن (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) بالحسنات (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفائزون. (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) بالسيئات (فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) بتصييرها إلى النار (يَظْلِمُونَ) يجحدون آيات الله.

المناسبة :

بعد أن أنذر الله تعالى المخالفين رسلهم بعذاب الاستئصال في الدنيا ، أتبعه

١٤٢

بالتهديد بعذاب آخر يوم القيامة ، وأبان أنه يسأل جميع الناس عن أعمالهم ، سواء أهل العقاب وأهل الثواب. ولما بيّن في الآية الأولى أن من جملة أحوال القيامة : السؤال والحساب ، بيّن أن من جملة أحوال القيامة أيضا وزن الأعمال.

التفسير والبيان :

يسأل الله تعالى الأمم يوم القيامة عما أجابوا رسله فيما أرسلهم به ، ويسأل الرسل أيضا عن إبلاغ الرسالات.

فيسأل الله كل فرد من أفراد الأمم في الآخرة عن رسوله إليه وعن تبليغه لآياته ، ويسأل الرسل عن تبليغهم وعن مدى إجابة أقوامهم لهم ، وعما صدر منهم من إيمان أو كفر ، فهي مسئولية تضامنية عامة كما قال تعالى : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ ، فَيَقُولُ : ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) [القصص ٢٨ / ٦٥] وقال : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ : ما ذا أُجِبْتُمْ؟ قالُوا : لا عِلْمَ لَنا ، إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) [المائدة ٥ / ١٠٩] وقال : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي ، وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا؟) [الأنعام ٦ / ١٣٠] ويوضح هذه المسؤولية بين الراعي والرعية ما رواه أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ، فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته ، والرجل راع في مال سيده وهو مسئول عن رعيته ، والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته ، والمرأة راعية في بيت زوجها ، وهي مسئولة عن رعيتها ، والخادم راع في مال سيده وهو مسئول عن رعيته ، والرجل راع في مال أبيه وهو مسئول عن رعيته ، فكلكم راع ، وكلكم مسئول عن رعيته».

قال ابن عباس في تفسير هذه الآية : (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ ، وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) : نسأل الناس عما أجابوا المرسلين ، ونسأل المرسلين عما بلّغوا.

١٤٣

والمراد بالسؤال حينئذ تقريع الكفار وتوبيخهم ، فلما أقروا بأنهم كانوا ظالمين مقصرين ، سئلوا بعد ذلك عن سبب ذلك الظلم والتقصير.

والتوفيق أو الجمع بين قوله : (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) وبين قوله : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) [الرحمن ٥٥ / ٣٩] وقوله : (وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) [القصص ٢٨ / ٧٨] : هو أن ليوم القيامة مواقف وأحوالا متعددة ، فقد يكون السؤال والجواب في بعضها دون بعض ، وقد يكون السؤال لأجل الاسترشاد والاستفادة ، وقد يكون لأجل التوبيخ والإهانة.

وقال الرازي : إن القوم لا يسألون عن الأعمال ؛ لأن الكتب مشتملة عليها ، ولكنهم يسألون عن الدواعي التي دعتهم إلى الأعمال ، وعن الصوارف التي صرفتهم عنها (١) ، أي الموانع التي حالت بينهم وبين التزام الأحكام الشرعية.

فلنخبرن عن علم ومعرفة وإحاطة تامة الرسل وأقوامهم بكل ما حدث منهم ، فلا يغيب عنا شيء قليل أو كثير ، وإن كان مثقال ذرة من خردل في صخرة أو في السموات أو في الأرض. قال ابن عباس في آية : (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ) : يوضع الكتاب يوم القيامة ، فيتكلم بما كان يعملون.

(وَما كُنَّا غائِبِينَ) عنهم في وقت أو حال ، بل كنا معهم نسمع قولهم ، ونبصر فعلهم ، ونعلم ما يسرون وما يعلنون ، ونخبر العباد يوم القيامة بمنا قالوا وبما عملوا من قليل وكثير ، وجليل وحقير ؛ لأنه تعالى الشهيد على كل شيء لا يغيب عنه شيء ، ولا يغفل عن شيء ، بل هو العالم بخائنة الأعين وما تخفي الصدور ، كما قال : (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها ، وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٤ / ٢٣

١٤٤

الْأَرْضِ ، وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [الأنعام ٦ / ٥٩] فقوله : (وَما كُنَّا غائِبِينَ) يعني كنا شاهدين لأعمالهم.

وهذا دليل على أن السؤال ليس للاستعلام والاستفهام عن شيء مجهول عن الله تعالى ، بل للإخبار بما حدث منهم توبيخا وتقريعا على تقصيرهم وإهمالهم.

والمخبر به هو المحاسب عنه ، وهو الذي يعقبه الجزاء. ثم بيّن تعالى قانون الحساب والجزاء فقال : (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ ...).

أي وزن الأعمال للرسل وأقوامهم والتمييز بين راجحها وخفيفها يوم القيامة يكون على أساس من الحق والعدل التام ، فلا يظلم تعالى أحدا ، كقوله : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ ، فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ، وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها ، وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) [الأنبياء ٢١ / ٤٧] وقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ ، وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها ، وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) [النساء ٤ / ٤٠].

فمن ثقلت موازينه ، أي رجحت موازين أعماله بالإيمان والحسنات على السيئات ، فأولئك هم الفائزون بالجنة ، الناجون من العذاب. والموازين جمع ميزان أو موزون ، أي فمن رجحت أعماله الموزونة التي لها وزن وقدر وهي الحسنات أو ما توزن به حسناتهم.

ومن خفت موازين أعماله بسبب كفره وكثرة سيئاته ، فأولئك الذين خسروا أنفسهم ، إذ حرموها السعادة والفوز بالنعيم الأبدي ، وصيروها إلى عذاب النار.

والفريق الأول وهم المؤمنون على تفاوت درجاتهم في الأعمال هم المفلحون ، وإن عذاب بعضهم بقدر ذنوبه ، والفريق الثاني وهم الكافرون على تفاوت دركاتهم هم الخاسرون حقا.

١٤٥

وهذا المعنى مكرر في مواضع كثيرة في القرآن الكريم ، مثل قوله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ ، وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ ، فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ ، وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ : نارٌ حامِيَةٌ) [القارعة ١٠١ / ٦ ـ ١١].

والذي يوضع في الميزان يوم القيامة : هو الأعمال ، وهي وإن كانت أعراضا معنوية إلا أن الله تعالى يقلبها يوم القيامة أجساما ، كما يروى عن ابن عباس. جاء في حديث البراء في قصة سؤال القبر : فيأتي المؤمن شاب حسن اللون ، طيّب الريح ، فيقول : من أنت؟ فيقول : أنا عملك الصالح» وفي حديث آخر أخرجه ابن ماجه والنسائي وابن خزيمة عن ابن مسعود : يتمثل المال الذي لم تؤدّ زكاته لصاحبه بصورة ثعبان شجاع أقرع له زبيبتان ، ثم يأخذ بلهزمتيه ويقول :أنا مالك ، أنا كنزك ، ونصه : «ما من أحد لا يؤدي زكاة ماله إلا مثّل له يوم القيامة شجاعا أقرع حتى يطوّق به عنقه ، ثم قرأ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) [آل عمران ٣ / ١٨٠] الآية.

والدليل على أن الأعمال هي التي توزن : ما أخرجه أبو داود والترمذي عن جابر مرفوعا : «توضع الموازين يوم القيامة ، فتوزن الحسنات والسيئات ، فمن رجحت حسناته على سيئاته مثقال حبة ، دخل الجنة ، ومن رجحت سيئاته على حسناته مثقال حبة ، دخل النار ، قيل : ومن استوت حسناته وسيئاته؟ قال : أولئك أصحاب الأعراف».

ونقل القرطبي عن ابن عمر أن التي توزن : صحائف أعمال العباد. وعقب عليه بقوله : وهذا هو الصحيح ، وهو الذي ورد به الخبر وهو : «أن ميزان بعض بني آدم كاد يخف بالحسنات ، فيوضع فيه رقّ مكتوب فيه : لا إله إلا الله ، فيثقل» فدل على وزن ما كتب فيه الأعمال ، لا نفس الأعمال ، وأن الله سبحانه يخفّف الميزان إذا أراد ، ويثقله إذا أراد بما يوضع في كفّتيه من الصحف التي فيها الأعمال.

١٤٦

وهل هناك ميزان حقيقة؟ اختلف العلماء ، فقال مجاهد والضحاك والأعمش : الوزن والميزان بمعنى العدل والقضاء ، وذكر الوزن ضرب مثل ؛ كما تقول : هذا الكتاب في وزن هذا وفي وزانه ، أي يعادله ويساويه ، وإن لم يكن هناك وزن ، أي أن المراد ظهور العدل التام في تقدير الجزاء على الأعمال.

وقال الجمهور : هناك وزن حقيقي وميزان ، لإظهار علم الله تعالى بأعمال عباده وجزائهم عليها. قال الزجّاج : أجمع أهل السنة على الإيمان بالميزان ، وأن أعمال العباد توزن يوم القيامة ، وأن الميزان له لسان وكفّتان ، ويميل بالأعمال.

والأولى في الغيبيات أن نؤمن بها كما وردت في القرآن والسنة ، ونترك البحث عن صورتها وكيفيتها إلى الله عزوجل.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآية الأولى : (فَلَنَسْئَلَنَّ ...) على أن الكفار يحاسبون ، جاء في التنزيل : (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) [الغاشية ٨٨ / ٢٦] بل إن المسؤولية أو الحساب شيء عام لجميع العباد حتى الرسل : (وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) وسؤال الرسل سؤال استشهاد بهم وإفصاح ؛ أي عن جواب القوم لهم ، وهو معنى قوله : (لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ) [الأحزاب ٣٣ / ٨] وسؤال القوم سؤال تقرير وتوبيخ وإفضاح ، فهذه الآية تدل على أنه تعالى يحاسب كل عباده ؛ لأنهم لا يخرجون عن أن يكونوا رسلا أو مرسلا إليهم.

وأما قوله تعالى في سورة القصص : (وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) [٧٨] فهو إذا استقروا في العذاب. والآخرة مواطن : موطن يسألون فيه للحساب ، وموطن لا يسألون فيه.

وقوله تعالى : (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ) يدل على أنه تعالى عالم بالعلم ، وأن قول من يقول : إنه لا علم لله قول باطل.

١٤٧

وقوله تعالى : (وَما كُنَّا غائِبِينَ) يدل على وجود المراقبة والمشاهدة الإلهية لأعمال الخلائق.

والخلاصة : هذه الآية تثبت وجود السؤال والحساب لكل العباد يوم القيامة.

وأرشدت الآية الثانية إلى وزن أعمال العباد بالميزان ، وهو الحق لخبر جابر المتقدم ، وقيل : وزن صحائف أعمال العباد ، قال القرطبي : وهذا هو الصحيح. والمراد من الميزان في قول مجاهد والضحاك والأعمش : العدل والقضاء ، والمراد به في رأي الجمهور : الميزان الحقيقي لإظهار علم الله تعالى بأعمال عباده وعدله في حسابهم وجزائهم عليها ، فمن رجحت حسناته على سيئاته فهو من الناجين ، ومن رجحت سيئاته على حسناته ، فهو من الهالكين المعذبين. قال ابن عباس : توزن الحسنات والسيئات في ميزان له لسان وكفّتان ؛ فأما المؤمن فيؤتى بعمله في أحسن صورة ، فيوضع في كفة الميزان ، فتثقل حسناته على سيئاته ؛ فذلك قوله : (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ويؤتى بعمل الكافر في أقبح صورة ، فيوضع في كفّة الميزان ، فيخف وزنه حتى يقع في النار.

كثرة نعم الله على عباده

(وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (١٠))

الإعراب :

(مَعايِشَ) مفعول (جَعَلْنا) وهي جمع معيشة ، وأصلها معيشة على وزن مفعلة ، إلا أنه نقلت كسرة الياء إلى العين ، ولا يجوز همزها ؛ لأن الياء فيها أصلية ، وأصلها في الواحد أن تكون متحركة. فإن كانت زائدة أصلها في الواحد السكون ، نحو كتيبة على فعلية ، همزت في الجمع ، فيقال : كتائب ، ونحو مدائن وصحائف وبصائر. وقد قرأ عبد الرحمن بن هرمز الأعرج «معائش» بالهمز على تشبيه الأصلية بالزائدة ، وهي قراءة ضعيفة قياسا.

١٤٨

المفردات اللغوية :

(وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ) يا بني آدم ، أي جعلنا لكم فيها مكانا وقرارا ، أو ملكناكم فيها وأقدرناكم على التصرف فيها (مَعايِشَ) جمع معيشة ، وهي ما تكون به العيشة والحياة من المطاعم والمشارب وغيرها (قَلِيلاً ما ما) لتأكيد القلة (تَشْكُرُونَ) تلك النعم.

المناسبة :

بعد أن أمر الله تعالى الخلق بمتابعة الأنبياء عليهم‌السلام وبقبول دعوتهم ، ثم خوفهم بعذاب الدنيا : (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) وبعذاب الآخرة من وجهين : السؤال والحساب : (فَلَنَسْئَلَنَّ ..) ووزن الأعمال : (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُ) رغبهم في هذه الآية بقبول دعوة الأنبياء عليهم‌السلام عن طريق التذكير بكثرة نعم الله عليهم ، وكثرة النعم توجب الطاعة.

التفسير والبيان :

أقسم الله تعالى بقوله : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ) ليظهر امتنانه على عبيده بكثرة إنعامه عليهم ، بأن جعل الأرض لهم مكانا وقرارا ، وسلطهم أو أقدرهم على التصرف فيها ، وأباح لهم منافعها ، وسخر لهم السحاب والمطر لإخراج أرزاقهم منها ، وجعل فيها رواسي وأنهارا.

وجعل لهم فيها معايش من وجهين : إما بخلق الله تعالى ابتداء كخلق الثمار وغيرها ، أو بطريق العمل والاكتساب واتخاذ الأسباب والاتجار فيها ، وكلاهما في الحقيقة إنما حصل بفضل الله وإقداره وتمكينه ، فيكون الكل إنعاما من الله تعالى ، وكثرة النعم لا شك أنها توجب الطاعة والانقياد.

ولكن أكثرهم مع هذا قليل الشكر على ذلك : (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) أي أنتم قليلو الشكر على هذه النعم التي أنعمت بها عليكم ، كما قال : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها ، إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) [إبراهيم ١٤ / ٣٤] وقال :

١٤٩

(وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ ٣٤ / ١٣].

وشكر النعمة : يكون بمعرفة الله المنعم معرفة تامة ، وحمده والثناء عليه بما هو أهله ، وأداء حقوق النعم وصرفها فيما خلقت من أجله ، بأداء حقوق الله تعالى ، واستعمال أعضاء الإنسان في مناحي الخير ورضوان الله وصرفها عن وجوه الشر والمعاصي ، وبالشكر بهذا المعنى تدوم النعم ويسعد الإنسان.

فقه الحياة أو الأحكام :

التذكير بنعم الله تعالى موجب للطاعة والانقياد عند أهل الإيمان ، لذا قلّ الشاكرون ، وكثر الجاحدون.

ومن أجلّ النعم تمكين الإنسان من الاستقرار في الأرض والتصرف بما فيها من خيرات ، والانتفاع بمنافعها الكثيرة ، وقد أثبتت رحلات الطيران والفضاء ، وصعود الإنسان إلى القمر وبعض الكواكب الأخرى في العصر العلمي الحديث مدى تعلق الإنسان بالأرض وحبّه لها وحنينه إليها عند بعده عنها.

ومن هذه النعم : تهيئة أسباب المعيشة في الأرض ؛ وتوفير ما يعاش به من ألوان المطاعم والمشارب وغيرها ؛ كما قال تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) [البقرة ٢ / ٢٩].

وهذا يدل على أنه لم تخلق هذه النعم إلا لخير الإنسان ، والحفاظ على الحياة البشرية ، فردا أو جماعة ، فأحرى بنا أن تكون هذه الحياة الجسدية أو المادية سببا أو عونا على تزكية الحياة الروحية وتطهير النفس ، وإعدادها للحياة الأخروية الأبدية.

فما أسعد أهل الإيمان والطاعة بالتزام الأوامر الإلهية ، واجتناب المعاصي والموبقات ؛ لأنه بالإيمان تطمئن النفس ؛ وبالطاعة تحفظ الأعضاء والطاقة الجسدية ، والكرامة الإنسانية.

١٥٠

وما أشقى أهل الكفر والفسوق والعصيان ؛ لأن الكفر يلازمه القلق والحيرة والاضطراب ، ولأن الفسق والمعصية يدمران الإنسان ماديا ومعنويا ، فيصبح حائر النفس ، ذليلا مهينا على الناس.

تكريم البشرية بالسجود لآدم

وإغواء الشيطان وطرده من الجنة

(وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (١١) قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (١٢) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (١٣) قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (١٥) قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (١٧) قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (١٨))

الإعراب :

(ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ما) استفهامية مبتدأ ، (مَنَعَكَ) جملة فعلية خبر المبتدأ ، و (أَلَّا تَسْجُدَ) في موضع نصب بمنعك ، و (أَلَّا) صلة زائدة ، والتقدير : ما منعك أن تسجد ، كما في آية أخرى : (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) [ص ٣٨ / ٧٥] وتزاد كثيرا في كلام العرب. وفائدة زيادتها توكيد معنى الفعل الذي تدخل عليه وتحقيقه. (صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) منصوب بفعل (لَأَقْعُدَنَ) على تقدير حذف حرف الجر ، وتقديره : لأقعدن لهم على صراطك ، فحذف حرف الجر ، فاتصل الفعل به فنصبه.

(اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً) مذءوما : حال من الضمير المرفوع في (اخْرُجْ).

١٥١

البلاغة :

(خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) على حذف مضاف ، أي خلقنا أباكم وصورنا أباكم. (ما مَنَعَكَ) السؤال مع علمه تعالى بما منعه من السجود للتوبيخ ولإظهار معاندته وكفره وكبره وافتخاره بأصله وازدرائه بأصل آدم.

(لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) استعار الصراط لطريق الهداية الموصل إلى الجنة.

المفردات اللغوية :

(وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ) أوجدنا أباكم آدم بتقدير حكيم (ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) أي صورناه وأنتم ذرأت في ظهره (اسْجُدُوا لِآدَمَ) سجود تحية واحترام (إِلَّا إِبْلِيسَ) أبا الجن الذي كان بين الملائكة (أَلَّا تَسْجُدَ) لا زائدة لتأكيد السجود (إِذْ أَمَرْتُكَ) حين الأمر (فَاهْبِطْ مِنْها) أي من الجنة ، وقيل : من السموات ، والهبوط : الانحدار والسقوط من مكان إلى ما دونه ، أو من منزلة إلى ما دونها (أَنْ تَتَكَبَّرَ) أن تجعل نفسك أكبر مما هي عليه (مِنَ الصَّاغِرِينَ) الذليلين من الصغار : وهو الذل والهوان.

(أَنْظِرْنِي) أخرني وأمهلني (مِنَ الْمُنْظَرِينَ) المؤخرين ، وفي آية أخرى : (إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) أي يوم النفخة الأولى (فَبِما أَغْوَيْتَنِي) أي بإغوائك لي ، والإغواء : الإيقاع في الغواية : وهي ضد الرشاد ، والباء للقسم ، وجوابه : (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ) أي لبني آدم (صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) أي على الطريق الموصل إليك.

(ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) أي من كل جهة ، فأمنعهم من سلوكه ، قال ابن عباس : ولا يستطيع أن يأتي من فوقهم لئلا يحول بين العبد وبين رحمة الله تعالى. (مَذْؤُماً) معيبا أو ممقوتا ، من ذأم : عاب. (مَدْحُوراً) مبعدا مطرودا عن الرحمة (لَمَنْ تَبِعَكَ) من الناس ، واللام : للابتداء أو موطئة للقسم وهو (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) أي منك بذريتك ومن الناس ، وفيه تغليب الحاضر على الغائب. وفي الجملة معنى جزاء (لَمَنْ) الشرطية أي من تبعك أعذبه.

المناسبة :

رغّب الله تعالى في الآيات السابقة بقبول دعوة الأنبياء عليهم‌السلام ، بالتخويف أولا ، ثم بالترغيب ثانيا بالتنبيه على كثرة نعم الله تعالى على الخلق ،

١٥٢

ثم أتبعه ببيان أنه خلق أبانا آدم وكرّمه بأمر الملائكة بالسجود له ، والإنعام على الأب إنعام على الابن ، لكن قد يتعرض الناس لوسوسة الشيطان وإغوائه ، ولا يليق بهم مع هذه النعم العظيمة التمرد والجحود.

التفسير والبيان :

ذكر الله تعالى قصة آدم عليه‌السلام مع قصة إبليس في سبعة مواضع في القرآن : في البقرة ، والأعراف (هذه السورة) والحجر ، وبني إسرائيل (الإسراء) والكهف ، وسورة طه ، وسورة ص.

ومضمون القصة هنا : التنبيه على تكريم آدم ، وبيان عداوة إبليس لذريته ، وحسده لهم ليحذروه ولا يتبعوا طرائقه ، وليشكروا الله على نعمه العظيمة.

والمعنى : لقد خلقنا أيها الناس أباكم آدم من الماء والطين اللازب ، ثم صورناه بشرا سويا ، ونفخنا فيه من روحنا ، ثم أمرنا الملائكة بالسجود له سجود تحية.

وظاهر الآية يقتضي أن أمر الملائكة بالسجود لآدم وقع بعد خلق ذريته وتصويرهم ، وليس الأمر كذلك ، لذا تأول المفسرون الآية تأويلات أربعة ، اختار منها الرازي القول الأول وهو : خلقنا أباكم آدم وصورناه ، وبعد خلقه وتصويره أمرنا الملائكة بالسجود له ، ولم يتأخر هذا الأمر عن خلقنا وتصويرنا ، وذلك لأن آدم أصل البشر ، فالخطاب لنا من باب الكناية ، مثل قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) [البقرة ٢ / ٩٣] أي ميثاق أسلافكم من بني إسرائيل في زمان موسى عليه‌السلام ، وقال تعالى مخاطبا لليهود في زمان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) [البقرة ٢ / ٤٩] (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً) [البقرة ٢ / ٧٢] ، والمراد من جميع هذه الخطابات أسلافهم (١).

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٤ / ٣٠

١٥٣

فالمراد بذلك كله آدم عليه‌السلام ، وهو اختيار ابن جرير الطبري أيضا (١). قال ابن كثير : وإنما قيل ذلك بالجمع لأنه أبو البشر.

وروى الحاكم عن ابن عباس في قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) أنه قال: «خلقوا في أصلاب الرجال ، وصوروا في أرحام النساء» وقال أي الحاكم : صحيح على شرطهما ولم يخرجاه. فيكون معنى الآية : ولقد خلقناكم في ظهر آدم عليه‌السلام أمثال الذّر ، ثم صورناكم أي في الأرحام.

قال القرطبي : الصحيح من الأقوال ما يعضده التنزيل ، قال الله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) [المؤمنون ٢٣ / ١٢] يعني آدم. وقال : (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) [النساء ٤ / ١] ثم قال : (جَعَلْناهُ) أي جعلنا نسله وذريته (نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ) [المؤمنون ٢٣ / ١٣] فآدم خلق من طين ثم صوّر وأكرم بالسجود ، وذريته صوّروا في أرحام الأمهات بعد أن خلقوا فيها وفي أصلاب الآباء (٢). وهذا موافق لرأي الرازي والطبري ، ومبيّن تصوير بني آدم ، وهو جمع حسن بين الخلقين.

وأما السجود لآدم فمتفق عليه لقوله تعالى : (ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ : اسْجُدُوا لِآدَمَ) أي وبعد إتمام خلق آدم أمرنا الملائكة بالسجود له سجود تحية وتكريم له ولذريته لا سجود عبادة ؛ إذ لا معبود إلا الله وحده ، وذلك حتى يعرفوا نعم الله عليهم ، فيشكروها ، وليحذروا إبليس ووساوسه بعد ما فعله قديما.

فسجد الملائكة كلهم أجمعون ، إلا إبليس الذي كان من الجن لا من الملائكة أبى واستكبر ، ولم يكن مع الساجدين.

فسأله الله : ما منعك ألا تسجد؟ أي ما منعك وحال بينك وبين السجود؟

__________________

(١) تفسير الطبري : ٥ / ٩٤

(٢) تفسير القرطبي : ٧ / ١٦٩

١٥٤

ولا هنا زائدة للتأكيد بدليل اية أخرى : (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ) [ص ٣٨ / ٧٥].

فأجاب معتذرا متعللا : إني أنا خير منه ، خلقتني من النار ، وخلقته من الطين ، والنار بما فيها من خاصية الارتفاع والعلو والنور أشرف من الطين الذي يتسم بالركود والخمود والذبول ، والشريف لا يعظّم من دونه ، وإن خالف أمر ربه. هذا قياس إبليس ، وهو أول قياس ، لكنه باطل ، إذ لا يستدل على الخيرية بالطبيعة المادية ، وإنما تكون الخيرية بالمعاني والخصائص المفيدة فائدة أكثر ، وقد حبا الله آدم من العلوم والمعارف والتكريم ما لا يجهله إبليس نفسه.

وهذا كله مبني على أن الأمر بالسجود أمر تكليف ، وأنه قد وقع حوار أو سؤال وجواب بين الله وإبليس ، وما علينا إلا الإيمان بما دل عليه ظاهر الكتاب ، وندع أمر الغيب والحقيقة لله عزوجل.

وكان جزاء المخالفة وعصيان الأمر الإلهي أنه تعالى أمر إبليس بالهبوط من الجنة التي خلقه الله فيها ، وكانت على مرتفع من الأرض ؛ لأن الجنة مكان المخلصين المتواضعين ، لا مكان المتمردين المتجبرين ، لذا قال تعالى : (فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها) أي فما ينبغي لك أن تتكبر في هذه الجنة المعدة للكرامة والإسعاد ، لا للتكبر والشقاء والعصيان.

فاخرج من هذا المكان ، إنك من الذليلين الحقيرين ، معاملة له بنقيض مقصوده ، ومكافأة لمراده بضده.

فاستدرك اللعين وسأل الإمهال إلى يوم الدين ، قال : (أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أي أمهلني إلى يوم يبعث فيه آدم وذريته ، فأكون معهم حال الحياة للأخذ بالثأر من طريق الإغواء ، وأشهد انقراضهم وبعثهم.

فأجابه الله إلى مطلبه ، فقال له : (إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) المؤجلين إلى وقت النفخة الأولى حيث تصعق الخلائق ، وهي نفخة الفزع لقوله تعالى :

١٥٥

(وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ، فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) [النمل ٢٧ / ٨٧] وتسمى أيضا نفخة الصعق لقوله تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ، إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ، ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى ، فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) [الزّمر ٣٩ / ٦٨].

أي إن إبليس يموت عقب النفخة الأولى ، كما قال تعالى : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ ، وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) [الحاقة ٦٩ / ١٣ ـ ١٤].

ولما أنظر إبليس إلى يوم البعث واستوثق بذلك ، أخذ في المعاندة والتمرد ، فقال : (فَبِما أَغْوَيْتَنِي ..) أي كما أغويتني أو أضللتني. لأقعدن لعبادك الذين تخلقهم من ذرية آدم على طريق الحق وسبيل النجاة والسعادة ، ولأضلنهم عنها ، لئلا يعبدوك ولا يوحدوك ، بسبب إضلالك إياي ، وذلك بأن أزيّن لهم طرقا أخرى كلها ضلال وانحراف.

ثم لا أدع جهة من الجهات الأربع (اليمين والشمال والأمام والخلف) إلا أتيتهم منها ، مترصدا لهم كما يترصد قاطع الطريق للمارّة.

ولا تجد أكثرهم شاكرين لك نعمتك ، ولا مطيعين أوامرك ، وقول إبليس هذا إنما هو ظن منه وتوهم ، وقد وافق في هذا الواقع ، وأصاب ما هو حاصل ، كما قال تعالى : (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ ، فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ ، وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) [سبأ ٣٤ / ٢٠ ـ ٢١].

ثم أكد تعالى عليه اللعنة والطرد والإبعاد والنفي عن محل الملأ الأعلى بقوله : (اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً) أي اخرج من الجنة معيبا ممقوتا ، مبعدا مطرودا من رحمة الله.

١٥٦

وأقسم الله على أن من تبعك من بني آدم فيما تزينه له من الشرك والفسوق والمعصية ، لأملأن جهنم منك ومن أتباعك أجمعين. وذلك كما في آية أخرى (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) [ص ٣٨ / ٨٥] وآية : (قالَ : اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ ، فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً. وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ ، وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ ، وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ ، وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً. إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ ، وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً) [الإسراء ١٧ / ٦٣ ـ ٦٥].

واستثنى الله تعالى من إغوائه عباده المخلصين ، فقال تعالى : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ ، إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) [الحجر ١٥ / ٤٢] وقال أيضا : (قالَ : فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ، إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [ص ٣٨ / ٨٢ ـ ٨٣].

والمراد من كل هذا بيان طبيعة البشر وطبيعة الشيطان ، واختيارهما في أعمالهما.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ تكريم النوع الإنساني بسجود الملائكة لأصل الإنسان وهو آدم أبو البشر.

٢ ـ الخلق والتصوير لله وحده ، ولا يستطيع أحد من البشر فعل شيء منهما. والخلق لغة : التقدير ، وتقدير الله : عبارة عن علمه بالأشياء ومشيئته لتخصيص كل شيء بمقداره المعين. والتصوير : عبارة عن إثبات صور الأشياء في اللوح المحفوظ.

٣ ـ رفض إبليس أمر الله بالسجود لآدم ، تكبرا منه واستعلاء ؛ لأنه رأى أن النار المخلوق منها أشرف من الطين الذي خلق منه آدم ، لعلوها وصعودها

١٥٧

وخفتها ، ولأنها جوهر مضيء. قال ابن عباس والحسن البصري وابن سيرين : أول من قاس إبليس ، فأخطأ القياس ، فمن قاس الدين برأيه قرنه الله مع إبليس. وقال ابن سيرين : وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس أي المقاييس الفاسدة التي منها تفضيل النار على الطين ، وهو خطأ ، لما يأتي :

أما جوهر الطين ففيه الرزانة والسكون ، والوقار والأناة ، والحلم ، والحياء ، والصبر ، وهذا ما دعا آدم عليه‌السلام إلى التوبة والتواضع والتضرع.

والنار سبب للعذاب ، وهي عذاب الله لأعدائه ، وليس التراب سببا للعذاب. وذلك يدل على أن التراب أفضل من النار.

إن قياس إبليس هو القياس الفاسد المصادم للنص ، أما القياس الصحيح الموافق للنص فيجب العمل به شرعا ؛ لانسجامه مع النصوص. قال الطبري : الاجتهاد والاستنباط من كتاب الله ، وسنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإجماع الأمة ، هو الحق الواجب ، والفرض اللازم لأهل العلم. وبذلك جاءت الأخبار عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعن جماعة الصحابة والتابعين. وقال أبو تمام المالكي : أجمعت الأمة على القياس ؛ فمن ذلك أنهم أجمعوا على قياس الذهب والورق في الزكاة.

٤ ـ إن جزاء الرفض لأمر الله من إبليس استوجب طرده من الجنة ، ذليلا معيبا ممقوتا مطرودا مبعدا من رحمته ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه أبو نعيم عن أبي هريرة : «من تواضع لله رفعه الله» وقال أيضا فيما رواه الديلمي في الفردوس : «من تكبر وضعه الله» وقال بعضهم : لما أظهر الاستكبار ألبس الصغار.

٥ ـ سأل إبليس النظرة والإمهال إلى يوم البعث والحساب ، وطلب ألا يموت ؛ لأن يوم البعث لا موت بعده ، فأنظره الله إلى النفخة الأولى حيث يموت الخلق كلهم. وكان طلب الإنظار إلى النفخة الثانية ، حيث يقوم الناس لرب العالمين ؛ فأبى الله ذلك عليه. لكن إنظار الله تعالى إبليس إلى يوم القيامة

١٥٨

لا يقتضي إغراءه بالقبيح ؛ لأنه تعالى كان يعلم منه أنه يموت على أقبح أنواع الكفر والفسق ، سواء أعلمه بوقت موته أو لم يعلمه بذلك ، فلم يكن ذلك الاعلام موجبا إغراءه بالقبيح.

٦ ـ للشيطان دور في إغواء بعض الناس من طريق الوسوسة لهم ، والإغواء : إيقاع الغي في القلب ، والغي : هو الاعتقاد الباطل. ودل قوله تعالى : (فَبِما أَغْوَيْتَنِي) على أن الله تعالى أضلّ إبليس وخلق فيه الكفر ، لذا نسب الإغواء إلى الله تعالى ، وهو الحقيقة ومذهب أهل السنة ، فلا شيء في الوجود إلا وهو مخلوق له ، صادر عن إرادته تعالى.

٧ ـ المراد من قوله تعالى : (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) : أن الشيطان يواظب على الإفساد مواظبة لا يفتر عنها. وتدل هذه الآية على أن إبليس كان عالما بالدين الحق ، والمنهج الصحيح ؛ لأن صراطك الله المستقيم هو دينه الحق.

٨ ـ محاولات إغواء الشياطين لا تقتصر على وجه واحد ، وإنما تأتي من كل أوجه الحياة ، فينبغي الحذر من الشيطان ، لذا ورد في الحديث الاستعاذة من تسلط الشيطان على الإنسان من جهاته كلها ، كما روى الحافظ أبو بكر البزار في مسنده عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعو : «اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي ، اللهم استر عوراتي ، وآمن روعاتي ، واحفظني من بين يدي ومن خلفي ، وعن يميني وعن شمالي ، ومن فوقي ، وأعوذ بك اللهم أن أغتال من تحتي» أي من الخسف.

٩ ـ دلت آية : (اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ ..) على أن التابع والمتبوع تملأ جهنم منهما ، وهذا يشمل الكافر والفاسق ، مما يدل قطعا على دخول الفاسق النار ، والمذكور في الآية أنه تعالى يملأ جهنم ممن تبعه ، وليس في الآية أن كل من تبعه يدخل جهنم. وتدل الآية أيضا على أن جميع أصحاب البدع والضلالات يدخلون جهنم ؛ لأنهم كلهم تابعون لإبليس.

١٥٩

قصة آدم في الجنة وخروجه منها

(وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (١٩) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (٢٠) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (٢١) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٢) قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣) قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٢٤) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (٢٥))

الإعراب :

(ما نَهاكُما لَهُمَا) نافية (عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ الشَّجَرَةِ) صفة لهذه ، وهي اسم جنس ، وأسماء الإشارة توصف بالأجناس.

(إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ لَكُما) متعلق بمحذوف ، وتقديره : ناصح لكما لمن الناصحين. ولا يجوز أن يكون متعلقا بالناصحين ؛ لأن الألف واللام فيه بمنزلة الاسم الموصول ، واسم الفاعل صلة له ، والصلة لا تعمل في الموصول ، ولا فيما قبله. فإن جعلت الألف واللام للتعريف ، لا بمعنى الذين ، جاز أن يتعلق بالناصحين ، وهو قول أبي عثمان المازني. (وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَمْ) : تردّ الفعل المستقبل إلى معنى الماضي ، ودخلت إن الشرطية على (لَمْ) لتردّ الفعل إلى أصله وهو الاستقبال ؛ لأن (إِنْ) الشرطية ترد الماضي إلى معنى الاستقبال ، فلما صار لفظ الفعل المستقبل بعد (لَمْ) بمعنى الماضي ، ردّتها إلى الاستقبال ؛ لأنها ترد الماضي إلى الاستقبال.

١٦٠