التفسير المنير - ج ٨

الدكتور وهبة الزحيلي

فكلّ ذلك كالميتة والدّم رجس وقذر ، تعافه النفوس الطيبة والطباع السليمة ، وهو ضار بالبدن.

واستدلّ الشافعية بقوله تعالى : (فَإِنَّهُ رِجْسٌ) على نجاسة الخنزير ، بناء على عود الضمير إليه ؛ لأنه أقرب مذكور.

والفسق :

وهو ما أهل لغير الله أي ما ذبح لغير الله ولم يذكر عليه اسم الله ، أي ما يتقرب به إلى غير الله تعبّدا ، ويذكر اسمه عليه عند ذبحه ، وهو المذبوح على النّصب وعند الأوثان ، أو بعد المقاسمة عليه بالأزلام أي القمار.

ثم استثنى الله تعالى حال الضرورة ، فقال : (فَمَنِ اضْطُرَّ ..) أي فمن كان في حال ضرورة الجوع الملجئة بسبب فقدان الحلال ، مما دعاه إلى أكل شيء من هذه المحرّمات ، حال كونه غير قاصد له ، ولا متجاوز حدّ الضرورة ، فإن الله يغفر له ويرحمه حفاظا على حقّ الحياة ، فلا يؤاخذه بأكل ما يسدّ به الرّمق ، ويدفع عنه ضرر الهلاك.

والخلاصة : إنّ الغرض من هذه الآية الكريمة الرّد على المشركين الذين ابتدعوا تحريم المحرّمات على أنفسهم بآرائهم الفاسدة ، من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ونحو ذلك ، فأمر الله رسوله أن يخبرهم أنه لا يجد فيما أوحاه الله إليه أن ذلك محرّم ، وإنّما حرّم أربعة أشياء هي : الميتة ، والدّم المسفوح ، ولحم الخنزير ، وما أهلّ لغير الله به ، لما فيها من الضّرر المادي أو المعنوي الذي يمسّ العقيدة وعبادة الله ، ولأن لحومها خبيثة ، ومن مهام هذا النّبي إباحة الطّيبات وتحريم الخبائث : (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ ، وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) [الأعراف ٧ / ١٥٧].

لكن الحصر المستفاد من هذه الآية وأمثالها أمر نسبي لا مطلق ، وهذه الآية مخصوصة بالآيات والأخبار الدّالّة على تحريم ما حرّم من غير الأربعة ، مثل قوله

٨١

تعالى : (وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) فهو يقتضي تحريم كلّ الخبائث المستقذرة كالنّجاسات وهو أم الأرض ، ومثلما رواه البخاري ومسلم في صحيحهما عن جابر رضي‌الله‌عنه قال : «نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية» ، وما روياه عن أبي ثعلبة الخشني : «أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عن أكل كل ذي ناب من السّباع»، وفي رواية ابن عباس : «وأكل كل ذي مخلب من الطّير» ، وما روياه عن عائشة وحفصة وابن عمر من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خمس فواسق من الدّواب كلّهن فاسق ، يقتلن في الحلّ والحرام : الغراب ، والحدأة ، والعقرب ، والفأر ، والكلب العقور» ، ففي الأمر بقتلهنّ دلالة على تحريم أكلهنّ ، لأن القتل إنما يكون بغير ذبح شرعي ، فثبت أنها غير مأكولة ، ولأن ما يؤكل لا ينهى عن قتله.

وخصّص الشافعية الآية أيضا بما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «واستخبثته العرب ، فهو حرام» ، ومضمون رأيهم أن الحيوان الذي لم يرد فيه نص بخصوصه بالتّحليل أو التّحريم ، ولم يؤمر بقتله ، ولم ينه عن قتله ، فإن استطابته العرب ، فهو حلال ، وإن استخبثته العرب فهو حرام. ودليلهم قوله تعالى : (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ ، وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) [الأعراف ٧ / ١٥٧] ، وقوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ ، قُلْ : أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) [المائدة ٥ / ٤] ، قالوا : وليس المراد بالطّيب هنا : الحلال ؛ إذ لا معنى له ، لأن تقديره : أحلّ لكم الحلال ، وإنما المراد بالطّيّبات : ما يستطيبه العرب. والمراد بالخبائث : ما يستخبثونه ، ويراعى في ذلك عاداتهم العامة في الاستيطاب والاستخباث ، ولا ينظر إلى الأعراف الخاصة ؛ لأنه يؤدي إلى اختلاف الأحكام في الحلال والحرام.

واحتجّ كثير من السّلف بظاهر الآية ، فأباحوا ما عدا المذكور فيها ، فقد أخرج أبو داود عن ابن عمر رضي‌الله‌عنهما أنه سئل عن أكل القنفذ ، فقرأ الآية.

٨٢

وأخرج ابن أبي حاتم وغيره بسند صحيح عن عائشة أنها كانت إذا سئلت عن أكل كل ذي ناب من السّباع ومخلب من الطّير ، قالت : (قُلْ : لا أَجِدُ ...) إلخ.

وروي عن ابن عباس أنه قال : ليس من الدّواب شيء حرام إلا ما حرّم الله تعالى في كتابه : (قُلْ : لا أَجِدُ) الآية. واستدلّ بقوله سبحانه : (عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ) على أنه إنما حرّم من الميتة ما يأتي فيه الأكل منها ، فلم يتناول الجلد المدبوغ والشعر ونحوه ، وقد فهم النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من النّظم الكريم ذلك ، أخرج أحمد وغيره عن ابن عباس قال : ماتت شاة لسودة بنت زمعة ، وفي رواية : لميمونة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو أخذتم مسكها ـ جلدها ـ» ، فقالت : نأخذ مسك شاة قد ماتت ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنما قال الله تعالى : (قُلْ : لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً) وإنّكم لا تطعمونه ، إن تدبغوه تنتفعوا به».

ثم أخبر الله سبحانه عما حرّمه على بني إسرائيل خاصة ، عقوبة لهم ، على سبيل المقارنة بما شرعه القرآن للمسلمين ، فقال : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا ..) أي وحرّمنا على اليهود دون غيرهم كل ذي ظفر : وهو كلّ ما ليس منفرج الأصابع ، أو مشقوق الأصابع من البهائم والطير ، كالإبل والنّعام والإوزّ والبط ، كما قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وسعيد بن جبير.

وحرّمنا عليهم من البقر والغنم دون غيرهما شحومهما الزائدة التي تنتزع بسهولة ، لعدم اختلاطها بلحم ولا عظم ، وهي ما على الكرش والكلى فقط ، أما شحوم الظّهر والذّيل فحلال ؛ لقوله تعالى : (إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما) وإلا (الْحَوايا) : ما حملته الأنعام ، وإلا (مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ) ، فكل هذه الشحوم أحللناه لهم.

٨٣

ذلك التّحريم الذي حرّمناه عليهم بسبب بغيهم ، وعقوبة لهم ، لقتلهم الأنبياء بغير حقّ ، وصدّهم عن سبيل الله ، وأخذهم الرّبا ، واستحلالهم أموال النّاس بالباطل.

وفي ذكر هذا تكذيب لليهود في قولهم : إن الله لم يحرّم علينا شيئا ، وإنما حرمنا على أنفسنا ما حرّمه إسرائيل على نفسه.

ولما كان هذا إخبارا عمّا حكم الله به على اليهود في الماضي ، ولم يكن لأحد به علم ، وردّا على قولهم : لم يحرّم علينا شيء ، قال تعالى : (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) قال الطبّري : أي لصادقون في إخبارنا بهذه الأخبار من تحريمنا ذلك عليهم لا كما زعموا ، من أن إسرائيل هو الذي حرّمه على نفسه ، ومن أصدق من الله حديثا ، وقال ابن كثير : أي وإنا لعادلون فيما جازيناهم به.

فإن كذّبوك يا محمد بعد هذا أي اليهود ، كما قال مجاهد والسّدي ، أو مشركو مكة ، والصواب : فإن كذّبك يا محمد مخالفوك من المشركين واليهود وأشباههم في ادّعاء النّبوة والرّسالة ، وفي تبليغ الأحكام (فَقُلْ : رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ) وهذا ترغيب لهم في ابتغاء رحمة الله الواسعة واتّباع رسوله ، (وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) أي لا يردّ عذابه عن كلّ مجرم ، وهذا ترهيب لهم من مخالفتهم الرّسول خاتم النّبيين صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وكثيرا ما يقرن الله تعالى بين التّرغيب والتّرهيب في القرآن ، كما قال تعالى في آخر هذه السّورة (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ).

فقه الحياة أو الأحكام :

دلّت آية : (قُلْ : لا أَجِدُ ..) على تحريم أربعة أشياء ، هي : الميتة ، والدّم المسفوح ، ولحم الخنزير ، والمذبوح للأصنام تعبّدا ، وبما أن الآية مكية فمعناها وما يستفاد منها مقصور على هذه الأربعة ، أي (قُلْ) يا محمد ،

٨٤

(لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَ) إلا هذه الأشياء ، لا ما تحرّمونه بشهوتكم ، ولم يكن في الشريعة في ذلك الوقت محرّم غير هذه الأشياء ، كما قال القرطبي ، ثم نزلت سورة [المائدة] بالمدينة. وزيد في المحرّمات من أصناف الميتة المنخنقة والموقوذة والمتردّية والنّطيحة ونحوها ، كما زيد تحريم الخمر.

وحرّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة أكل كل ذي ناب من السّباع وكلّ ذي مخلب من الطّير.

وأكثر أهل العلم أن كل محرّم حرّمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو جاء في القرآن مضموما إلى هذه المحرّمات ، فهو زيادة حكم من الله عزوجل على لسان نبيّه عليه الصّلاة والسّلام. مثل زواج المرأة على عمّتها وعلى خالتها ، مع قوله تعالى : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) [النساء ٤ / ٢٤] ، وحكمه عليه الصّلاة والسّلام باليمين مع الشاهد مع قوله تعالى : (فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ) [البقرة ٢ / ٢٨٢]. وآية : (قُلْ : لا أَجِدُ ...) هي جواب لمن سأل عن شيء بعينه ، فوقع الجواب مخصوصا.

وقال مالك : لا حرام بيّن إلا ما ذكر في هذه الآية ، ولهذا قال بعض المالكية : إن لحوم السباع وسائر الحيوان ما سوى الإنسان والخنزير مباح.

ودلّت الآية أيضا على حكم استثنائي وهو حال الضرورة ، فعند الاضطرار يزول تحريم المحرمات ، لدفع خطر الهلاك ، وحفاظا على حقّ الحياة.

وأما آية : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا) فتدلّ على أنّ الله تعالى حرّم على اليهود عقوبة لهم أشياء أخرى سوى هذه الأربعة المذكورة في الآية السابقة ، وهي نوعان ، ولم يحرمهما على المسلمين.

النّوع الأوّل ـ كل ذي ظفر غير مشقوق الأصابع ، كالإبل والنّعام والإوزّ والبط.

٨٥

والنّوع الثاني ـ شحوم البقر والغنم : وهي الشحوم الرقيقة التي تكون على الكرش والكلى. واستثنى الله تعالى من الشحوم ثلاثة أنواع لم يحرمها عليهم وهي : ما علق بالظهر (ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما) ، و (الْحَوايا) : قال الواحدي : وهي المباعر والمصارين ، والمختلط بالعظم (مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ) : وهو شحم الألية في قول جميع المفسّرين. قال ابن جريج : حرّم عليهم كلّ شحم غير مختلط بعظم أو على عظم ، وأحلّ لهم شحم الجنب والألية ؛ لأنه على العصعص.

وقد احتجّ الشافعي بهذه الآية في أن من حلف ألّا يأكل الشحم ، حنث بأكل شحم الظّهور ؛ لاستثناء الله عزوجل ما على ظهورهما من جملة الشّحم.

والصحيح مذهب عامة العلماء : أن اليهود لو ذبحوا أنعامهم ، فأكلوا ما أحلّ الله لهم في التّوراة ، وتركوا ما حرّم عليهم ، لم يكن عليهم بأس ؛ فإنها محلّلة لنا ؛ لأن الله عزوجل رفعذلك التّحريم بالإسلام ، واعتقادهم فيه لا يؤثر ؛ لأنه اعتقاد فاسد ، ويؤيده أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أقرّ عبد الله بن مغفّل على الأكل من جراب شحم أصابه يوم خيبر.

وقيل في رواية عن مالك : هي محرّمة ؛ لأنهم يدينون بتحريمها ، ولا يقصدونها عند الذّكاة (الذّبح الشّرعي) فكانت محرّمة كالدّم. وهو مذهب كبراء أصحاب مالك.

نسبة المشركين الشرك والتحريم إلى الله تعالى

وإقامة الحجة عليهم

(سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ

٨٦

الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (١٤٨) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩) قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١٥٠))

الإعراب :

(هَلُمَ) اسم فعل أمر بمعنى هاتوا ، يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث عند الحجازيين ، وبنو تميم تؤنث وتجمع.

البلاغة :

(وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) وضع الظاهر موضع المضمر بأن يقال : ولا تتبع أهواءهم ، للدلالة على أن من كذب بآيات الله وعدل به غيره ، فهو متبع للهوى لا غير ؛ لأنه لو اتبع الدليل ، لم يكن إلا مصدّقا بالآيات ، موحدا لله تعالى.

المفردات اللغوية :

(ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ) أي أن إشراكنا وتحريمنا بمشيئة الله ، فهو راض به. (كَذلِكَ) كما كذب هؤلاء (كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) رسلهم. (بَأْسَنا) عذابنا. (هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ) بأن الله راض بذلك. (فَتُخْرِجُوهُ لَنا) أي لا علم عندكم. (إِنْ) ما. (تَتَّبِعُونَ) في ذلك. (تَخْرُصُونَ) تكذبون ، وأصل معنى الخرص: الحزر والتخمين. (الْحُجَّةُ) الدليل المبين الحق. (الْبالِغَةُ) التامة.

(هَلُمَ) أحضروا. (يَعْدِلُونَ) يتخذون له عدلا مساويا ، والمراد : يشركون.

المناسبة :

لما حكى الله تعالى عن أهل الجاهلية إقدامهم على الحكم في دين الله بغير حجة ولا دليل ، حكى عنهم عذرهم في كل ما يقدمون عليه من أنواع الكفر أو الشرك ،

٨٧

فيقولون : لو شاء الله منا ألا نكفر لمنعنا عن هذا الكفر ، وحيث لم يمنعنا عنه ، ثبت أنه مريد لذلك ، فإذا أراد الله ذلك منا ، امتنع منا تركه ، فكنا معذورين فيه.

وهذا حكاية عن لسان حالهم أو عما سيقولونه ؛ لأن الله محيط علمه بكل شيء سيقولونه ، فهو من إخباره بالمغيبات قبل وقوعها.

التفسير والبيان :

هذه شبهة تشبّث بها المشركون في شركهم وتحريم ما حرموا ، فإن الله مطلع على ما هم فيه من الشرك ، والتحريم لما حرموه ، فأخبر بما سوف يقولونه.

إنهم يقولون : إن شركهم ، وشرك آبائهم ، وتحريمهم ما أحل الله من الحرث والأنعام ، هو بمشيئة الله وإرادته ، ولو لا مشيئته لم يكن شيء من ذلك ، كمذهب الجبرية بعينه.

ونظير هذه الآية قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا : لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا ، وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ ، كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) [النحل ١٦ / ٣٥] وقوله عزوجل : (لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ، ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ ، إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) [الزخرف ٤٣ / ٢٠].

فردّ الله عليهم شبهتهم بقوله : (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ ...) أي مثل ذلك التكذيب الذي صدر من مشركي العرب وأهل مكة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما جاء به من إثبات الوحدانية والربوبية لله تعالى ، وقصر التشريع والتحليل والتحريم عليه ، وإبطال الشرك ، كذب الذين من قبلهم رسلهم تكذيبا غير مبني على أساس من العلم والعقل.

وذلك لأنهم كذبوا ما جاءت به الرسل ، ولم ينظروا فيها ، وإنما أعرضوا

٨٨

عنها ، ولأن قولهم لو كان صحيحا لما عاقبهم الله تعالى على كفرهم ؛ لأن الله عادل ، فلو كانت أعمالهم المكفّرة صادرة عنهم بإجبار أو إكراه وقهر ، لما استحقوا العقاب عليها ، ولما كرر تعالى قوله في القرآن مثلا : أخذناهم بذنوبهم ، وأهلكناهم بظلمهم وكفرهم.

وهو معنى قوله : (حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا) أي حتى أنزلنا عليهم العذاب بتكذيبهم ، مما يدل على أن كفرهم وتحليلهم وتحريمهم كان باختيارهم وإرادتهم ، وإن كان الله تعالى قادرا على تغيير موقفهم ، بأن يلهمهم الإيمان ، ويحول بينهم وبين الكفر ، وأن ذلك الموقف هو أيضا بإرادة الله ؛ لأنه لا يقع شيء في الكون بدون مشيئة الله وإرادته.

ثم أمر الله تعالى رسوله أن يطالبهم بالبرهان على ما زعموا فقال : (قُلْ : هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ ...) أي هل لديكم أمر معلوم وبرهان واضح يصح الاحتجاج به فيما قلتم ، فتخرجوه لنا أي تظهرونه وتبينونه لنا لنفهمه؟ وهذا الاستفهام تهكم وإظهار بأن مثل قولهم محال أن يكون له حجة ، وتوبيخ لهم على ما يزعمون.

وحقيقة حالهم هي ما قال تعالى : (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ...) أي لا حجة ولا برهان على ما تقولون ، وما تتبعون إلا الوهم والخيال والاعتقاد الفاسد ، وما أنتم إلا تكذبون على الله فيما ادعيتموه.

ثم أثبت الله تعالى لذاته الإتيان بالدليل الساطع المبين للدين الحق فقال : (قُلْ : فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ ..) أي قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين الجاهلين بعد إفلاسهم وعجزهم عن الإتيان بدليل مقنع : لله تعالى الحجة التامة الكاملة على ما أراد من إثبات الحقائق وإبطال الباطل ، وتقرير أصول الاعتقاد ، وتشريع الأحكام الصائبة ، وإلغاء ما تذهبون إليه بالآيات الكثيرة والمعجزات التي أيد بها الرسل.

٨٩

ولو شاء تعالى أن يهديكم وغيركم وجميع الناس بغير التعليم والإرشاد والنظر والاستدلال ، لفعل ، فجعلكم تؤمنون بالفطرة كالملائكة ، فلا يكون لكم دور في الاختيار ، والإرادة ، والتمييز بين الخير والشر ، والحق والباطل ، ويكون موقف مخالفيكم أيضا بمشيئة الله ، فلا يصح أن تعادوهم ، وعليكم أن توافقوهم ولا تخالفوهم ؛ لأن المشيئة تجمع بين ما أنتم عليه وبين ما هم عليه.

ونظير الآية قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) [الأنعام ٦ / ٣٥] وقوله عزوجل : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً ، أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [يونس ١٠ / ٩٩].

ثم أمر الله رسوله بمطالبة المشركين بأن يأتوا بشهود يشهدون على صحة ما يدعونه من تحريم الله هذه المحرمات ، فقال : (قُلْ : هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ ...) أي أحضروا شهداءكم الذين يشهدون لكم عن عيان أن الله حرم عليكم هذا الذي زعمتم تحريمه وكذبتم وافتريتم على الله فيه.

فإن شهدوا على سبيل الفرض ، فلا تصدقهم ، ولا تسلم لهم ، ولا تقبل لهم شهادة ؛ إذ لو سلم لهم ، فكأنه شهد معهم مثل شهادتهم ، وكان واحدا منهم ، لأنهم إنما يشهدون والحالة هذه كذبا وزورا ، فهم شهود زور كاذبون. ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآيات الله الدالة على وحدانيته وربوبيته ومنها حقه في التشريع والتحليل والتحريم ، ولا تتبع هؤلاء الجاهلين المتبعين لأهوائهم الذين لا يوقنون بمجيء الآخرة ، حتى يحملهم الإيمان على سماع الدليل إذا ذكر لهم ، وهم يشركون بربهم ، ويجعلون له عديلا يشاركه في جلب الخير ودفع الضر ، والحساب والجزاء.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يلي :

٩٠

١ ـ إن اعتذار الكافرين عن كفرهم بما يشبه قول الجبرية : لو شاء الله منا ألا نشرك لم نشرك اعتذار مرفوض لم يقبله الله تعالى ؛ لأنه سبحانه أعطاهم عقولا كاملة ، وأفهاما وافية ، وأقدرهم على الخير والشر ، وأزال الموانع بالكلية عنهم ، فإن شاؤوا عملوا الخيرات ، وإن شاؤوا عملوا المعاصي والمنكرات.

وقد أعانهم الله على حسن الاختيار بإنزاله الكتب ، وإرساله الرسل والأنبياء ، وإرشاده إلى التوحيد لله بالنظر في المخلوقات ، وتأييده الرسل بالمعجزات ، وتلك هي الحجة البالغة على أن الله واحد لا شريك له.

فأما علم الله تعالى وإرادته وكلامه فغيب لا يطلع عليه الإنسان إلا من ارتضى من رسول.

ويكفي في التكليف أن يكون العبد بحيث لو أراد أن يفعل ما أمر به لأمكنه ، ولا مانع يمنعه ، فهو مستطيع الإيمان ، قادر على نبذ الكفر.

ولو كان الإنسان مجبرا على الكفر والمعصية كالريشة في مهب الرياح كما يزعم الجبرية ، لما اقتضى العدل الإلهي تكليفه بشيء ، وإثابته وعقابه في الآخرة.

وقد تبين بهذا بطلان شبهات الكافرين ، ودحض حججهم أمام الحجج الإلهية القاطعة. فإن شهد بعضهم لبعض على صحة ما يقولون ، فلا تصدق شهادتهم إلا من كتاب إلهي أو على لسان نبي ، وليس معهم شيء من ذلك ، وما هم إلا شهود كاذبون مبطلون فيما يخبرون.

والمطلوب الإتيان بشهود الحق لا شهود الزور والباطل ، فإن قيل : كيف أمر الله نبيه باستحضار شهدائهم الذين يشهدون أن الله حرم ما زعموه محرما ، ثم أمره بأن لا يشهد معهم؟ أجيب : أمره باستحضارهم ، وهم شهداء بالباطل ، ليلزمهم الحجة ، ويظهر زيف شهادتهم ، فيحق الحق ، ويبطل الباطل.

٩١

المحرّمات العشر أو الوصايا العشر

(قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٥١) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١٥٢) وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٥٣))

الإعراب :

(أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً ما) اسم موصول بمعنى الذي ، مفعول (أَتْلُ) ، و (حَرَّمَ رَبُّكُمْ) : صلته ، والعائد محذوف ، وتقديره : حرّمه ربكم ، فحذف الهاء العائدة للتخفيف. ويكون (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) بدلا منصوبا من الهاء أو من (ما). و (أَلَّا) زائدة ، وتقديره : حرّم أن تشركوا. ويجوز أن تكون (أَلَّا تُشْرِكُوا) خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : هو ألا تشركوا. ويجوز أن تكون «أن» بمعنى أي ، و «لا» نهي ، وتقديره : أي لا تشركوا. ويجوز أن تكون (ما) استفهامية في موضع نصب بحرّم ، وتقديره : أي شيء حرم ربكم؟ ويجوز الوقوف على قوله : (رَبُّكُمْ). ثم تبتدئ وتقرأ : عليكم ألا تشركوا ، أي عليكم ترك الإشراك ، فيكون (أَلَّا تُشْرِكُوا) في موضع نصب على الإغراء بعليكم.

(وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً أَنَ) في موضع نصب على تقدير حذف حرف الجر ، وتقديره : ول. ن هذا صراطي. ويجوز قراءة أن مخفة من الثقلية. ويحوز قراءة إن بالكسر ، على الابتداء ، و (مُسْتَقِيماً) حال مؤكدة من (صِراطِي) ؛ لأن صراط الله لا يكون إلا مستقيما.

٩٢

البلاغة :

(وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ) فيه استعارة السبل للبدع والضلالات.

(لا نُكَلِّفُ نَفْساً) التنكير لإفادة العموم.

(وَبِعَهْدِ اللهِ) الإضافة للتشريف والتعظيم.

(ظَهَرَ) و (بَطَنَ) بينهما طباق.

المفردات اللغوية :

(تَعالَوْا) أقبلوا. (أَتْلُ) أقرأ وأقص. «أن» مفسرة. (إِمْلاقٍ) أي فقر. (الْفَواحِشَ) الكبائر ، أي ما عظم جرمه وذنبه كالزنى. (ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) أي علانيتها وسرها. (إِلَّا بِالْحَقِ) كالقود (القصاص) وحدّ الردة ، ورجم المحصن. (تَعْقِلُونَ) تتدبرون. (إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي ما فيه صلاحه. (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) بأن يحتلم أو يكبر ، و (أَشُدَّهُ) : كمال رجولته ومعرفته. (بِالْقِسْطِ) بالعدل وترك البخس. (إِلَّا وُسْعَها) طاقتها في ذلك ، فإن أخطأ في الكيل والوزن ، والله يعلم نيته ، فلا مؤاخذة عليه ، كما ورد في الحديث. (وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا) أي إذا قلتم في حكم أو غيره فاعدلوا في القول. (وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) ولو كان المقول له أو عليه ذا قرابة. (تَذَكَّرُونَ) تتعظون. (السُّبُلَ) الطرق المخالفة له. (فَتَفَرَّقَ) تميل. (عَنْ سَبِيلِهِ) دينه.

المناسبة :

بعد أنّ بيّن الله تعالى المحرّمات من المطعومات ، ردّا على المشركين الذين حرموا على أنفسهم ما لم يحرمه الله عليهم ، أردفه ببيان أصول المحرمات المعنوية (الأدبية) والمادية قولا وفعلا.

قال ابن مسعود : من أراد أن ينظر إلى وصية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم التي عليها خاتمة ، فليقرأ هؤلاء الآيات : (قُلْ : تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ) إلى قوله : (تَتَّقُونَ). وقال ابن عباس : في الأنعام آيات محكمات هن أم الكتاب ثم قرأ : (قُلْ : تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ...) الآيات. وروى الحاكم عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أيكم يبايعني على ثلاث؟» ثم تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (قُلْ : تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) حتى فرغ من

٩٣

الآيات ، ثم قال : «فمن وفى فأجره على الله ، ومن انتقص منهن شيئا فأدركه الله به في الدنيا ، كانت عقوبته ، ومن أخّر إلى الآخرة ، فأمره إلى الله إن شاء عذبه ، وإن شاء عفا عنه» ثم قال الحاكم : صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه.

التفسير والبيان :

قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين عبدوا غير الله ، وحرموا ما رزقهم الله ، وقتلوا أولادهم ، وحرموا وحللوا لأنفسهم بأهوائهم ووسوسة الشياطين لهم : هلموا وأقبلوا أقرأ وأقص عليكم وأخبركم بما حرم ربكم حقا وفعلا ، ووحيا وأمرا من عنده ، لا تخرصا وظنا ، فلله وحده حق التشريع والتحريم ، وأنا رسوله المبلغ عنه ما أنزل ، وهي الوصايا العشر : خمسة بصيغة النهي ، وخمسة بصيغة الأمر.

وخص التحريم بالذكر ، مع أن الوصايا أعم ؛ لأن بيان المحرمات يستلزم حلّ ما عداها. وقد بدأها بالشرك بالله ؛ لأنه أعظم المحرمات وأكبرها إثما.

وتلك الوصايا هي ما يأتي :

١ ـ نبذ الشرك بالله :

(أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) : في الكلام محذوف وتقديره : وأوصاكم (١) ألا تشركوا به شيئا من الأشياء ، وإن عظم خلقا كالشمس والقمر والكواكب ، أو قدرا ومكانة كالملائكة والنبيين والصالحين ، فكل ذلك مخلوق لله وعبيد له : (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) [مريم ١٩ / ٩٣].

فيجب عليكم أن تخصوه وحده بالعبادة والتعظيم ، وتتركوا ما شرعتم من العبادة بالأهواء.

__________________

(١) دلّ على هذا التقدير قوله تعالى في آخر الآية : (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

٩٤

٢ ـ الإحسان إلى الوالدين :

(وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) أي أحسنوا إلى الوالدين إحسانا كاملا صادرا من القلب.

وكثيرا ما يقرن الله تعالى بين حظر الشرك وطاعته وبرّ الوالدين ، لأن الله تعالى مصدر الخلق والرزق ، والأبوان واسطة ، يقومان بعبء التربية ودفع الأذى والضرر عن الولد ، قال تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ، وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) [الإسراء ١٧ / ٢٣] وقال عزوجل : (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ. وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ، فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) [لقمان ٣١ / ١٤ ـ ١٥] لذا كان عقوق الوالدين من الكبائر ، وبرّهما والإحسان إليهما من أفضل الأعمال ، روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي‌الله‌عنه قال : «سألت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أيّ العمل أفضل؟ قال : الصلاة لوقتها ، قلت : ثم أيّ؟ قال : برّ الوالدين ، قلت : ثم أي؟ قال : الجهاد في سبيل الله». وروى الحافظ ابن مردويه عن أبي الدرداء وعبادة بن الصامت ، كل منهما يقول : أوصاني خليلي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أطع والديك ، وإن أمراك أن تخرج لهما من الدنيا فافعل» (١).

والإحسان إلى الوالدين : معاملتهما معاملة كريمة نابعة من العطف والمحبة ، لا من الخوف والرهبة. وكما يفعل الولد مع والديه يفعل أولاده معه ولو بعد حين ، روى الطبراني في الأوسط عن ابن عمر عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «بروا آباءكم تبركم أبناؤكم ، وعفوا تعف نساؤكم».

٣ ـ تحريم وأد البنات :

(وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ) : لما أوصى تعالى ببرّ الوالدين والأجداد ،

__________________

(١) قال ابن كثير : ولكن في إسناديهما ضعف.

٩٥

عطف على ذلك الإحسان إلى الأبناء والأحفاد ، فذكر : ومما أوصاكم به ربكم ألا تقتلوا أولادكم خشية فقر يحل بكم ، فإن الله يرزقكم وإياهم ، أي يرزقهم تبعا لكم ، فلا تخافوا الفقر الحاضر ، ولا تخشوا الفقر المتوقع ، فإن الله تعالى تكفل برزق العباد ، ونظير الآية قوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ ، نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ، إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً) [الإسراء ١٧ / ٣١]. والفرق بين التعبيرين : أن تعبير سورة الأنعام يراد به : لا تقتلوهم من فقركم الحاصل ، فبدأ برزق الآباء ؛ لأنه الأهم بسبب وجود الفقر الحاصل ، وأما تعبير سورة الإسراء فيراد : لا تقتلوهم خوفا من الفقر في الآجل المستقبل ، فبدأ برزق الأولاد للاهتمام بهم ، أي لا تخافوا من فقركم بسبب رزقهم ، فهو على الله. وفي هذا إيماء إلى ضرورة الحفاظ على النوع الإنساني ، بتحريم إيذاء الأصول (الآباء) والفروع (الأنباء) ورعاية كل منهما ، ثم تحريم قتل النفس الإنسانية مطلقا المنصوص عليه في الوصية الخامسة.

٤ ـ تحريم اقتراف الفواحش :

(وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ) : أي إياكم من الاقتراب من الفواحش وهي كل ما عظم جرمه وإثمه وقبحه من الأقوال والأفعال ، كالزنى وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات ، سواء في الظاهر المعلن أو الباطن السري ، وكان العرب في الجاهلية لا يرون بأسا في الزنى سرا ، ويعدون الزنى علانية قبيحا ، فحرم الله النوعين ، وذلك مثل قوله تعالى : (قُلْ : إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ، ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ ، وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ، وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً ، وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) [الأعراف ٧ / ٣٣]. وورد في الصحيحين عن ابن مسعود رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا أحد أغير من الله ، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن» وقال سعد بن عبادة فيما رواه الشيخان: لو رأيت مع امرأتي رجلا لضربته بالسيف غير مصفح (١) ، فبلغ ذلك

__________________

(١) المصفح : الممال ، جاء في الحديث : «قلب المؤمن مصفح على الحق» أي ممال عليه.

٩٦

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «أتعجبون من غيرة سعد؟ فو الله لأنا أغير من سعد ، والله أغير مني ، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن».

وقيل : الظاهر : ما تعلق بأعمال الجوارح ، والباطن : ما تعلق بأعمال القلوب كالكبر والحسد. روى أبو الشيخ ابن حيان الأنصاري عن عكرمة : قال : ما ظهر منها : ظلم الناس ، وما بطن منها : الزنى والسرقة ، أي لأن الناس يأتونهما في الخفاء.

٥ ـ منع قتل النفس بغير الحق :

(وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ) خصص النهي عن القتل تأكيدا واهتماما به ، بالرغم من أنه داخل في النهي عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، أي حرم الله عليكم قتل النفس التي حرم الاعتداء عليها بالإسلام ، أو بالعهد بين المسلمين وغيرهم كأهل الكتاب المقيمين في دار الإسلام بعهد وأمان.

روى الشيخان عن عبد الله بن عمر رضي‌الله‌عنه عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمد رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم ، إلا بحق الإسلام ، وحسابهم على الله». وروى الترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قتل معاهدا له ذمة الله وذمة رسوله ، فقد أخفر بذمة الله ، فلا يرح رائحة الجنة ، وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفا». وروى البخاري عن عبد الله بن عمرو رضي‌الله‌عنهما عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرفوعا : «من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة ، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما».

وأما القتل بحق فله ثلاث حالات ورد بيانها في حديث الصحيحين عن ابن مسعودرضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يحلّ دم امرئ مسلم إلا

٩٧

بإحدى ثلاث : الثيب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة» وفي لفظ : «كفر بعد إيمان ، وزنى بعد إحصان ، وقتل نفس بغير حق».

وما ذلك التحريم للقتل إلا لأنه جريمة كبري في حق الإنسانية ، واعتداء على صنع الخالق ، الذي أوجد وأتقن كل شيء خلقه.

ذلكم المحرم مما ذكر وصاكم به لعلكم تعقلون عن الله أوامره ونواهيه ، أي ليعدكم لأن تعقلوا الخير والمصلحة في فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه. والوصية : أن يعهد إلى إنسان بعمل خير أو ترك شر.

وتذييل الآية بهذه الخاتمة يدلّ على أن ما هم عليه من الشرك وتحريم بعض الأنعام مما لا تعقل له فائدة.

٦ ـ المحافظة علي مال اليتيم :

(وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي لا تأخذوا شيئا من مال الأيتام الذين تتولون الإشراف عليهم ، إلا بما فيه مصلحة ونفع لهم ، في حفظ المال وتنميته ، وحمايته من المخاطر ، والإنفاق منه بحسب الحاجة ، وذلك كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً ، إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً ، وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) [النساء ٤ / ١٠].

والنهي عن القرب عن الشيء أبلغ من النهي عن الشيء نفسه : لأن الأول يتضمن النهي عن الأسباب والوسائل المؤدية إليه ، وعن الشبهات التي هي مظنّة التأويل ، كأن يأكل شيئا من ماله أثناء أداء عمل له فيه ربح. وقد نهى الله تعالى عن الأكل من مال اليتيم إلا لضرورة أو حاجة ، فقال : (وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا ، وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ ، وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) [النساء ٤ / ٦].

٩٨

وتسلّم الأموال إلى اليتامى حين بلوغهم سن الرشد ، لذا قال تعالى : (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) أي لا تقربوا مال اليتيم حتى يبلغ مبلغ الرجال في الحنكة والقوة واكتمال الملكات والمدارك العقلية ، وذلك كما قال الشعبي ومالك وجماعة من السلف : حتى يحتلم ، والاحتلام يكون عادة بين الخامسة عشرة والثامنة عشرة : (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) [النساء ٤ / ٦]. والمراد من الآية : حفظ مال اليتيم وعدم تبذيره أو إضاعته حتى البلوغ.

٧ و ٨ ـ إيفاء الكيل والميزان بالقسط :

(وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ) أي أتموا الكيل إذا كلتم للناس ، ولا تزيدوا فيه إذا اكتلتم لأنفسكم ، وأتموا الميزان إذا وزنتم لأنفسكم فيما تشترون أو لغيركم فيما تبيعون ، فلا يكون فيه زيادة ولا نقص ، وإنما تمام بالعدل ، من غير تطفيف ، كما قال تعالى : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ)(١)(الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ، وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) [المطففين ٨٣ / ١ ـ ٣] أي أن إيفاء الحق يكون في الحالتين : البيع والشراء. وقوله : (بِالْقِسْطِ) يوجب تحري العدل حال البيع والشراء بقدر المستطاع ، لذا قال :

(لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) أي لا يكلف الله نفسا إلا ما يسعها فعله ، بأن تأتيه بلا عسر ولا حرج أي بقدر الطاقة والجهد ، فإذا أخطأ الشخص بدون قصد فلا مؤاخذة ، روى ابن مردويه عن سعيد بن المسيب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الآية : (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ ، لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) : «من أوفى على يده في الكيل والميزان ، والله يعلم صحة نيته بالوفاء فيهما ، لم يؤاخذ ، وذلك تأويل : وسعها» وهو حديث مرسل غريب.

__________________

(١) التطفيف : البخس في الكيل والميزان ، إما بالازدياد إن اقتضى من الناس ، وإما بالنقصان إن قضاهم ، كما هو مفسر في تتمة الآية.

٩٩

وعاقبة تطفيف الكيل والميزان وخيمة جدا ومنذرة بعقاب أليم ، كما حكى الله تعالى عن قوم شعيب عليه‌السلام : (وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ ، وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ ، وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) الآيات [هود ١١ / ٨٥].

٩ ـ العدل في القول أو الحكم :

(وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) أي فاعدلوا في القول في الشهادة أو الحكم ، ولو كان المقول له أو عليه ذا قرابة منكم ؛ إذ بالعدل تصلح شؤون الأمم والأفراد ، وهو أساس الملك ، وركن العمران ، وقاعدة الحكم ، كما قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ ، شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ ، أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) [النساء ٤ / ١٣٥] وهذا عدل بالقول ، كالعدل المطلوب سابقا في الفعل كالكيل والوزن.

١٠ ـ الوفاء بالعهد :

(وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا) أي وأوفوا بعهد الله ، وذلك بإنجازه وتنفيذه ، وإطاعة الله فيما أمر ونهى ، والعمل بكتاب الله وسنة رسوله. وهو يشمل : ما عهده الله إلى الناس على ألسنة الرسل ، وما آتاهم الله من العقل والفطرة السليمة كما قال تعالى : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ ، إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) [يس ٣٦ / ٦٠] ، وما عاهده الناس عليه ، كما قال تعالى : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ) [النحل ١٦ / ٩١] ، وما تعاهد عليه الناس مع بعضهم بعضا ، كما قال تعالى في صفة المؤمنين : (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا) [البقرة ٢ / ١٧٧].

(ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي وصاكم الله بهذا رجاء أن تتعظوا وتنتهوا عما كنتم فيه قبل هذا ، وليذكر بعضكم بعضا في التعليم والتواصي الذي أمر الله به : (وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) [العصر ١٠٣ / ٣].

١٠٠