التفسير المنير - ج ٨

الدكتور وهبة الزحيلي

المناسبة :

هذه هي القصة الرابعة : قصة لوط مع قومه : أهل سدوم ، ذكرت بعد قصة نوح ، وهود ، وصالح عليهم‌السلام ، لبيان ما حلّ بهم من العذاب والنكال حينما أعرضوا عن نصح الأنبياء ، وعتوا عن أوامر الله.

أضواء من التاريخ :

لوط : هو لوط بن هاران ـ أخي إبراهيم بن تارح ، آمن بإبراهيم واهتدى بهديه ، كما قال تعالى : (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ ، وَقالَ : إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي) [العنكبوت ٢٩ / ٢٦] وتبع إبراهيم في رحلاته ، فكان معه فيما بين النهرين ، ثم بمصر ، ثم ببلاد الشام ، حيث سكن في سدوم في شرقي الأردن.

وذكرت قصة لوط في عدة سور باختلاف يسير ، وبعضها يكمل بعضا.

وكان أهل سدوم يعملون الخبائث دون حياء ولا عفة ، وأمام الناس ، ويقطعون الطريق على التجار ، ويأخذون بضائعهم ، كما قال تعالى على لسان لوط : (أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ ، وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ ، وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) [العنكبوت ٢٩ / ٢٩].

وقد وعظهم لوط عليه‌السلام ونصحهم ونهاهم وخوفهم بأس الله تعالى ، فلم يأبهوا له ولم يرتدعوا ، فلما ألح عليهم بالموعظة هددوه تارة بالرجم وتارة بالإخراج ، إلى أن جاء لوط الملائكة ، بعد أن مرّوا بإبراهيم وأخبروه أنهم ذاهبون للانتقام من قوم لوط ، وهم أهل سدوم وعامورة ، فخاف أن يمس لوط بأذى ، فأخبروه بأنه ناج هو ومن آمن معه ، وأخبروه بأن العذاب بالقوم أمر حتم : (يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا ، إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ ، وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) [هود ١١ / ٧٦].

٢٨١

جاء هؤلاء الملائكة إلى لوط بهيئة غلمان مرد حسان الوجوه ، فجاء جماعة من سدوم إلى لوط ، طالبين ضيوفه ، ليفعلوا فيهم الفاحشة ، فحاول لوط جاهدا في ردهم ، وبالغ في ذلك حتى طلب إليهم أن يأخذوا بناته بطريق العرض غير المؤكد وبالزواج المشروع ، اعتمادا على استحيائهم منه ، ليحمي ضيوفه. فلم يرضوا. ثم قال لوط للملائكة الذين لم يعلم أنهم ملائكة : (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) [هود ١١ / ٨٠] أي لجاهدتهم بكم وعاقبتهم بما يستحقون ، وحينئذ أعلموه بحقيقة أمرهم ، وأنهم جاؤوا للتنكيل بأولئك القوم.

ولما حاول أهل القرية أخذ هؤلاء المردان بالقوة ، وهجموا على بيت لوط ، طمس الله أعينهم ، فلم يبصروا ، ولم يهتدوا إلى مكان الاقتحام. ثم أخرج الملائكة لوطا وابنتيه وزوجه من القرية ، وأمروهم ألا يلتفت منهم أحد ، وأن يحضروا حيث يؤمرون ، فصدعوا بالأمر إلا امرأته فإنها التفتت إلى القرية لترى ما يحل بها ، وكانت متعلقة بهم ، وكانت كافرة ، فحل بها من العذاب ما حل بهم ، وأمطر الله عليهم حجارة من سجيل ، وقلبت ديار القوم ، وكانوا ألفا أو أكثر (١).

قال تعالى : (قالُوا : يا لُوطُ ، إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ ، لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ ، فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ ، وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ ، إِلَّا امْرَأَتَكَ ، إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ ، إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ ، أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ. فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها ، وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ ...) [هود ١١ / ٨١ ـ ٨٢].

التفسير والبيان :

واذكر لوطا حين قال لقومه موبخا لهم : أتفعلون الفعلة الفاحشة التي ما فعلها أحد قبلكم في أي زمان ، بل هي مبتدعة منكم ، وعليكم وزر كل من

__________________

(١) قصص الأنبياء للأستاد عبد الوهاب النجار : ١١٣ ، ط الرابعة.

٢٨٢

يفعلها. وهذا يدل على أنها أمر مناقض للفطرة. وقوله : (ما سَبَقَكُمْ بِها) الباء للتعدية. وقوله (مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) من الأولى زائدة لتوكيد النفي وإفادة معنى الاستغراق ، والثانية للتبعيض.

إنكم تأتون الرجال في أدبارهم وتدعون الزواج بالنساء في أقبالهن ، أي إنكم عدلتم عن النساء وما خلق لكم ربكم منهن ، إلى إتيان الرجال ، وهذا شذوذ وإسراف منكم وجهل ؛ لأنه وضع الشيء في غير محله ، ولهذا قال لهم في الآية الأخرى : (هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) [الحجر ١٥ / ٧١]. فأرشدهم إلى جنس النساء ، فاعتذروا إليه بأنهم لا يشتهونهن.

وقوله : (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ) بيان لقوله : (تَأْتُونَ الْفاحِشَةَ).

وفي هذا تقريع لهم وتوبيخ شديد ، وقوله : (مِنْ دُونِ النِّساءِ) إشارة إلى أنهم تجاوزوا النساء ، وهن محل قضاء الشهوة عند ذوي الفطر السليمة.

(بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) أي إنكم لا تأتون الفاحشة ثم تندمون على فعلها ، بل إنكم قوم عادتكم الإسراف وتجاوز الحدود في كل شيء ، فمن ثم أسرفوا في حال قضاء الشهوة ، حتى تجاوزوا المعتاد إلى غير المعتاد ، ونحوه قوله تعالى : (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ) [الشعراء ٢٦ / ١٦٦] أي في جمعكم إلى الشرك هذه الفاحشة.

ووصفهم بصفة أخرى في سورة النمل : (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) [٥٥]. وفي هذا دليل على إسرافهم في اللذات ، وتجاوزهم حدود العقل والفطرة ، وجهالتهم عواقب الأمور ؛ إذ أنهم لا يقدرون ضرر ذلك على الصحة ، وما يحدثه من مرض ثبت في العصر الحديث أنه مميت.

وما كان جوابهم عن هذا الإنكار والنصح شيئا مقنعا ، أو رجوعا عن الخطأ والضلال وإنكار الفاحشة وتعظيم أمرها ، وإنما هموا بإخراج لوط ونفيه ومن معه

٢٨٣

من المؤمنين من قريتهم تضجرا منهم وبما يسمعون من وعظهم ونصحهم وقولهم ، فهم لم يجيبوه بما يناسب كلامه ، ولكنهم جاؤوا بشيء آخر لا يتعلق بكلامه ونصيحته بالأمر بإخراجه. وقوله : (أَخْرِجُوهُمْ) أي لوطا وأتباعه.

وقالوا لبعضهم : إن هؤلاء أناس يتطهرون ويتنزهون عن مشاركتكم في فعلكم وعن الفواحش وعن أدبار الرجال والنساء. وهذا صادر منهم على سبيل السخرية بهم والتهكم ، والافتخار بما كانوا فيه من القذارة ، كما يقول الفسقة لبعض الصلحاء إذا وعظوهم : أبعدوا عنا هذا المتقشف ، وأريحونا من هذا المتزهد. فقوله : (يَتَطَهَّرُونَ) أي الإتيان في هذا المأتى.

وكانت نتيجة الأمر أن الله تعالى أنجى لوطا وأهل بيته الذين آمنوا معه ، إلا امرأته ، فإنها لم تؤمن ، فكانت من جماعة الهالكين الباقين مع قومها في العذاب ؛ لأنها كانت على دين قومها تمالئهم عليه ، وتعلمهم بمن يقدم عليه من ضيفانه بإشارات بينها وبينهم ، وهذا كقوله تعالى : (فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ، فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [الذاريات ٥١ / ٣٥ ـ ٣٦] أي لم يكن آمن به أحد من قومه سوى أهل بيته فقط.

وأمطر عليهم مطرا كثيرا عجيبا أمره وهو الحجارة التي رموا بها ، وقد فسرتها آية أخرى: (وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ. مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ ، وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) [هود ١١ / ٨٢ ـ ٨٣] وآية : (فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها ، وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) [الحجر ١٥ / ٧٤] ومعنى قوله : مسومة أي معلمة ببياض في حمرة ، والسّجيل : طين طبخ بالنار كالفخّار.

وربما تكون تلك الحجارة محمولة بإعصار من الريح العاتية ، أو من النيازك وهي الحجارة المنفصلة من بقايا كوكب محطم تجذبه الأرض إليها.

فانظر يا محمد وكل معتبر بهذا القصص للانزجار ، كيف كان عاقبة المجترئ

٢٨٤

على معاصي الله عزوجل ، ويكذب رسله ، لتعلم عقاب الأمة على ذنوبها في الدنيا قبل الآخرة.

فقه الحياة أو الأحكام :

إن تحريم اللواط لأسباب كثيرة :

١ ـ الضرر بالمفعول به ، فإنه يحدث مرضا ثبت أنه مميت وهو المسمى «الإيدز» أي فقد المناعة ؛ لأنه تعالى أودع في الرحم جاذبية شديدة لامتصاص المني ، وليس في عضو المفعول به قوة جاذبية للمني ، فيتسمم الدم ويحدث الضرر.

٢ ـ إفساد خلق اللائط وإسرافه في الشهوة ، إذ لا يقدر آنيا المخاطر.

٣ ـ إلحاق العار والعيب بكل من الفاعل والمفعول به ، واستحكام العداوة بينهما.

٤ ـ إفساد النساء بالإعراض عنهن إلى الرجال.

٥ ـ إقلال النسل ، لما في الفاحشة من رغبة عن الزواج ، والرغبة عن الزوجات في غير محل الإنجاب. أما الإتيان في محل الحرث فيحقق الإنجاب ، شاء الرجل أم أبى.

لهذا كان عذاب القوم هو الاستئصال في الدنيا ، ثم إن عذاب الآخرة أعظم وأدوم من ذلك.

أما مذاهب العلماء المسلمين في عقاب اللواط فهي ما يأتي :

١ ـ قال أبو حنيفة : يعزر اللوطي فقط ، سواء كان محصنا أو غيره ؛ إذ ليس في اللواط اختلاط أنساب ، ولا يترتب عليه غالبا حدوث منازعات تؤدي إلى قتل اللائط ، وليس هو زنى.

٢٨٥

٢ ـ وقال الجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة) : إن اللواط يوجب الحد ؛ لأن الله سبحانه غلّظ عقوبة فاعله في كتابه المجيد ، فيجب فيه حد الزنى ، لوجود معنى الزنى فيه.

وحد اللائط عند المالكية ، والحنابلة في أظهر الروايتين عن أحمد : هو الرجم بكل حال ، سواء أحصن (تزوج) أو لم يحصن ، أي سواء أكان ثيبا أم بكرا ؛ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما رواه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم ـ : «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط ، فاقتلوا الفاعل والمفعول به» وفي لفظ : «فارجموا الأعلى والأسفل».

وحد اللائط عند الشافعية هو حد الزنى ، فإن كان اللائط محصنا (متزوجا) وجب عليه الرجم ، وإن كان غير محصن ، وجب عليه الجلد والتغريب ، لما روى أبو موسى الأشعري رضي‌الله‌عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا جاء الرجل الرجل فهما زانيان ، وإذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان» ولأنه حد يجب بالوطء ، فاختلف فيه البكر (غير المتزوج) والثيّب (المتزوج) قياسا على حد الزنى ، بجامع أن كلا منهما إيلاج محرم في فرج محرم (١).

أما إتيان البهيمة : فاتفق أئمة المذاهب الأربعة على أن واطئ البهيمة يعزره الحاكم بما يردعه ؛ لأن الطبع السليم يأبى هذا الوطء ، فلم يحتج إلى زاجر بحد ، بل يعزر. وفي سنن النسائي وأبي داود عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : «ليس على الذي يأتي بهيمة حد» (٢).

وأما حديث أبي داود والدار قطني عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من وقع على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة معه» فلم يثبت ،

__________________

(١) كتابي موسوعة الفقه الإسلامي «الفقه الإسلامي وأدلته» : ٦ / ٦٦

(٢) المرجع والمكان السابق.

٢٨٦

بدليل قول ابن عباس : ما أراه قال ذلك ، إلا أنه كره أن يؤكل لحمها بعد ذلك العمل (١).

قصة شعيب عليه‌السلام

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨٥) وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (٨٦) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٧))

الإعراب :

(بَعْدَ إِصْلاحِها) على حذف مضاف أي بعد إصلاح أهلها.

(تُوعِدُونَ) محل الجملة وما عطف عليها النصب على الحال ، أي ولا تقعدوا موعدين وصادّين عن سبيل الله وباغيها عوجا. وضمير (مَنْ آمَنَ بِهِ) يرجع إلى كل صراط ، وتقديره : توعدون من آمن به وتصدون عنه ، فوضع الظاهر الذي هو (سَبِيلِ اللهِ) موضع الضمير : زيادة في تقبيح أمرهم ، ودلالة على عظم ما يصدون عنه.

__________________

(١) قال ابن العربي في أحكام القرآن : ٢ / ٧٧٧ : هذا الحديث متروك بالإجماع ، فلا يلتفت إليه.

٢٨٧

المفردات اللغوية :

(وَإِلى مَدْيَنَ) أي وأرسلنا إلى مدين ، ومدين قبيلة عربية كانت تسكن أرض معان في شرقي الأردن ، من طريق الحجاز ، وهم من سلالة مدين بن إبراهيم ، وكانوا يكفرون بالله ، وعبدوا الملائكة من دونه ، وكانوا يبخسون الناس في الكيل والوزن. وكما تطلق مدين على القبيلة ، تطلق ـ كما ذكر ابن كثير ـ على المدينة المعروفة قرب معان ، بدليل قوله تعالى : (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ ، وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ) [القصص ٢٨ / ٢٣] وهم أصحاب الأيكة ، كما ذكر ابن كثير.

(أَخاهُمْ شُعَيْباً) أي ليس أخا في الدين ، وإنما هو من قبيلتهم أو من جنسهم البشري ، لا من جنس الملائكة ، فهي أخوة في النسب لا في الدين ، وشعيب : هو ابن ميكيل بن يشجر ، واسمه بالسريانية «يثرون» بعثه الله إلى أهل مدين.

(بَيِّنَةٌ) حجة ظاهرة أو معجزة. (مِنْ رَبِّكُمْ) على صدقي. (فَأَوْفُوا الْكَيْلَ) أتموه. (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) لا تنقصوهم حقهم. (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) شامل لإفساد نظام المجتمع بالظلم وأكل أموال الناس بالباطل ، وإفساد الأخلاق ، بارتكاب الفواحش ، وإفساد العمران بالجهل وعدم النظام. (بَعْدَ إِصْلاحِها) إصلاح الأرض : هو إصلاح أهلها وما فيها بغرس العقيدة الصحيحة ، والأعمال الصالحة ، وإعمارها بما يرقي الحالة المعيشية.

(بِكُلِّ صِراطٍ) طريق. (تُوعِدُونَ) تخوفون الناس بأخذ ثيابهم وأموالهم أو أخذ المكس منهم. (وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) تصرفون عن دين الله من آمن به بتوعدكم إياه بالقتل. (وَتَبْغُونَها عِوَجاً) تطلبون الطريق معوجة. (فَكَثَّرَكُمْ) أي بارك في نسلكم. (عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) أي من كان قبلكم بتكذيب رسلهم ، كان آخر أمرهم الهلاك.

أضواء من التاريخ :

هذه هي القصة الخامسة من قصص الأنبياء بعد نوح وهود وثمود ولوط عليهم‌السلام ، وهي قصة شعيب عليه‌السلام مع قومه شعب مدين.

أما شعيب فهو ابن ميكيل بن يشجر ، وهو من أنبياء العرب ، وذكر في القرآن عشر مرات : في سورة الأعراف في الآيات ٨٥ ، ٨٨ ، ٩٠ ، ٩٢ وفي سورة هود في الآيات ٨٤ ، ٨٧ ، ٩٠ ، ٩٥ ، وفي سورة الشعراء في الآية ١٧٧ ، وفي سورة العنكبوت في الآية ٣٦. وكانت بعثته قبل زمن موسى عليه‌السلام ؛ لأن

٢٨٨

الله تعالى قال بعد ذكر قصص هؤلاء الأنبياء الخمسة : (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) [الأعراف ٧ / ١٠٣].

وأما مدين أو مديان ؛ فهم من سلالة مدين بن إبراهيم عليه‌السلام ، كانوا يسكنون مدينة مدين قرب معان جنوب شرقي الأردن على طريق الحجاز. وكانوا يعبدون غير الله تعالى ، ويبخسون المكيال والميزان ، فنهاهم شعيب عن كل ذلك ، وحذرهم بأس الله ، بما أوتي من قوة البيان والبراعة في إيراد الحجة عليهم ، حتى إنه يسمى «خطيب الأنبياء» وهم أصحاب الأيكة في رأي ابن كثير.

وكانوا يقعدون على الطرق يصدون الناس عن دين الله ، قال ابن عباس : كانوا يجلسون في الطريق ، فيقولون لمن أتى إليهم : إن شعيبا كذاب ، فلا يفتننّكم عن دينكم. ويقولون أيضا : (لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) [الأعراف ٧ / ٩٠].

وقد حاولوا إبطال دعوته ، وإلحاق الأذى به ، واحتقار شأنه ، وتهديده : (قالُوا : يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ ، وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً ، وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ ، وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ) [هود ١١ / ٩١]. بل عابوا عليه صلاته التي تأمره بنهيهم عن عبادة غير الله ، والعدل في الكيل والميزان : (قالُوا : يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا ، أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا ، إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) [هود ١١ / ٨٧].

ولما أفحمهم بدعائهم إلى الإيمان بالله وحسن المعاملة ، هدده الملأ (السادة) من قومه بإخراجه ومن معه من المؤمنين من القرية إذا لم يعتنقوا دين قومهم ، فعاتبهم بقوله : (أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ؟!) [الأعراف ٧ / ٨٨].

ولما أصروا على كفرهم ، واشتطوا في مجادلة شعيب وإيذائه بالقول والفعل ، أهلكهم الله بالرجفة وهي الزلزال مثل قبيلة ثمود ، فبادوا جميعا : (فَكَذَّبُوهُ

٢٨٩

فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ ، فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) [العنكبوت ٢٩ / ٣٧].

وبعد أن نجّى الله شعيبا والذين آمنوا معه ، أرسله إلى أصحاب الأيكة : وهي غيضة من الأشجار قرب مدين ، وكانوا على منهج أهل مدين ، فلما نهاهم عما هم عليه اتهموه بالكذب والسحر ، ولم يصدقوا بنبوته ؛ لأنه بشر مثلهم : (قالُوا : إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ. وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا ، وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ) [الشعراء ٢٦ / ١٨٥ ـ ١٨٦].

ثم طلبوا من شعيب أن يسقط عليهم كسفا من السماء ، أي قطعة منها ، إن كان من الصادقين ، وأمعنوا في الإعراض عن الحق ، فأخذهم عذاب يوم الظّلّة : بأن سلط الله عليهم الحر سبعة أيام حتى غلت مياههم ، ثم ساق إليهم غمامة ، فاجتمعوا للاستظلال بها من وهج الشمس ، فأمطرت عليهم نارا فاحترقوا : (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ ، إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [الشعراء ٢٦ / ١٨٩].

التفسير والبيان :

وأرسل الله إلى مدين أخاهم شعيبا ، وهي أخوة نسب لا أخوة دين ، وأمرهم بتكاليف خمسة ترجع إلى أصلين : تعظيم أمر الله ، ويدخل فيه الإقرار بالتوحيد والنبوة ، والشفقة على خلق الله ، ويدخل فيه ترك البخس ، وترك الإفساد ، ويجمعهما ترك الإيذاء.

وتلك التكاليف هي :

١ ـ الأمر بعبادة الله والنهي عن عبادة غير الله : (اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) ، وهذا أصل معتبر في شرائع جميع الأنبياء ، ودعوة الرسل كلهم.

٢ ـ ادعاؤه النبوة فقال : (قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) أي قد أقام الله

٢٩٠

الحجج والبينات على صدق ما جئتكم به ، والبينة تشمل المعجزة الكونية ، والبرهان العقلي ، وخوارق العادات. وهذا مثل قول صالح عليه‌السلام ، إلا أنه تعالى ذكر الآية له وهي الناقة ، ولم يذكر آية شعيب ، ولا بد من آية تصدقه ؛ روى الشيخان عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثلها آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله إليّ ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة».

قال الزمخشري : ومن معجزات شعيب : أنه دفع إلى موسى عصاه ، وتلك العصا حاربت التنّين (ضرب من الحيات) وأيضا قال لموسى : إن هذه الأغنام تلد أولادا فيها سواد وبياض ، وقد وهبتها منك ، فكان الأمر كما أخبر عنه. وهذه الأحوال كانت معجزات لشعيب عليه‌السلام ؛ لأن موسى في ذلك الوقت ما ادعى الرسالة (١).

وهذا على رأي المعتزلة : وهو عدم ظهور المعجزة قبل النبوة ، وأما على رأي أهل السنة ، فيجوز أن يظهر الله على يد من يصير نبيا ورسولا بعد ذلك أنواع المعجزات قبل إيصال الوحي ، ويسمى ذلك إرهاصا للنبوة ، فتكون هذه الأحوال التي ذكرها الزمخشري إرهاصات لموسى عليه‌السلام (٢).

٣ ـ إيفاء الكيل والميزان ، فقال : (فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ) وهذا مرتب على ما سبق : (قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) على تحريم الخيانة بالشيء القليل ، والمعنى : أتموا الكيل والميزان إذا بعتم. وهذا وعظ لإحسان معاملتهم الناس ، نابع من العدل الذي يجب أن تكون عليه المعاملة بين المبيع والثمن. وقد عني شعيب بعلاج هذه المفسدة أو الانحراف ، لشغف أهل مدين بنقص المكيال والميزان ،

__________________

(١) الكشاف : ١ / ٥٥٩

(٢) تفسير الرازي : ١٤ / ١٧٣

٢٩١

وأراد بالكيل هنا : آلة الكيل وهو المكيال ، كما قال في سورة هود : (أَوْفُوا الْمِكْيالَ).

٤ ـ منع الخيانة للناس في أموالهم وأخذها دون حق ، قال تعالى إخبارا عن شعيب الذي يقال له : «خطيب الأنبياء» لفصاحة عبارته وجزالة موعظته : (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) ، أي لا تنقصوهم شيئا في البيع خفية تدليسا ، كما قال تعالى في تهديده ووعيده : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) ـ إلى قوله ـ (لِرَبِّ الْعالَمِينَ) [المطففين ٨٣ / ١ ـ ٦] والبخس : النقص بالتعييب والتزهيد ، أو المخادعة عن القيمة ، أو الاحتيال في التزيد في الكيل أو النقص منه.

والمراد أنه لما منع قومه من بخس (أي نقص) في الكيل والوزن في البيع ، منعهم بعد ذلك من البخس والتنقيص بجميع الوجوه ، ويدخل فيه المنع من الغصب والسرقة ، وأخذ الرشوة ، وقطع الطريق ، وسلب الأموال بطرق الاحتيال ، ونحو ذلك من المساومات ، والغش ولو في غير البيع ، ويشمل أيضا هضم الحقوق المعنوية كالعلوم والفضائل ، فلا يجوز لإنسان نقص آخر حقه في علم أو خلق أو فضيلة أو أدب ، وادعاء التفوق عليه حسدا وبغيا وكراهية. روي عن قوم شعيب أنهم كانوا إذا دخل الغريب بلدهم ، أخذوا دراهمه الجياد ، وقالوا : هي زيوف ، فيقطعونها قطعا ، ثم يأخذونها منه بنقصان ظاهر ، أو أعطوه بدلها زيوفا.

٥ ـ منع الإفساد ، قال : (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها) أي لا تفسدوا في الأرض بعد ما أصلح فيها الصالحون من الأنبياء وأتباعهم العاملين بشرائهم ، وهو على حذف مضاف أي بعد إصلاح أهلها.

والإصلاح عام يشمل العقيدة والسلوك والأخلاق ونظام المجتمع والحضارة والعمران وسائر وجوه التقدم الزراعي والصناعي والتجاري.

٢٩٢

ويلاحظ أن قوله : (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) منع عن مفاسد الدنيا ، وقوله : (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) منع من مفاسد الدين ، حتى تكون الآية جامعة للنهي عن مفاسد الدنيا والدين.

(ذلِكُمْ) إشارة إلى هذه التكاليف الخمسة من عبادة الله ، والتصديق بنبوتي ، والوفاء بالكيل والميزان ، وترك البخس والإفساد في الأرض. والمعنى : كل ما ذكر خير لكم في الإنسانية وحسن السمعة وما تطلبونه من الربح المادي ، لأن الناس أرغب في معاملتكم إذا عرفوا منكم الأمانة والعدل. وخير لكم في الآخرة بالثواب والرضا الإلهي ، إن كنتم مؤمنين بوحدانية الله وبرسوله وبشرعه وهداه وبالآخرة ، فالإيمان يقتضي الامتثال والعمل بما جاء به الرسول من عند الله.

ويجوز أن يكون (ذلِكُمْ) إشارة إلى العمل بما أمرهم به ونهاهم عنه ، فإن الله لا يأمر إلا بالنافع ، ولا ينهى إلا عن الضارّ.

وفي هذا دلالة واضحة على أن العلم وحده لا يكفي للإصلاح ، وإنما لا بد في إصلاح الأمم والشعوب من تربية دينية ، تقنع الأجيال بمنافع الفضائل كالصدق والأمانة والعدل ، وبمضار الانحراف والرذائل ؛ لأن الوازع النفسي أقوى من أي ردع أو وازع خارجي.

ثم نهاهم شعيب عن قطع الطريق الحسي والمعنوي بقوله : (وَلا تَقْعُدُوا ...) أي ولا تقعدوا في مفارق الطرقات تتوعدون الناس بالقتل إن لم يعطوكم أموالهم ، أو تخوفون المؤمنين الآتين إلى شعيب ليتبعوه ، قال ابن كثير : والأول أظهر ، لأنه قال : (بِكُلِّ صِراطٍ) وهو الطريق. أما المعنى الثاني فهو مستفاد من قوله : (وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ). أي تصرفون من يريد الإيمان عن دين الله ، وتودون أن تكون سبيل الله عوجا مائلة ، ففي هذه الآية نهاهم

٢٩٣

عن ثلاثة أمور : قطع الطريق على المارّة لأخذ الأموال ، والصد عن دين الله ، وطلب جعل سبيل الله المستقيمة معوجّة مائلة بالأكاذيب والضلالات وتشوية الحقائق والشبهات والشكوك الملقاة منكم.

والمراد من الآية أن شعيبا منع القوم من أن يمنعوا الناس من قبول الدين الحق بأحد هذه الطرق الثلاث.

ويلاحظ أن شعيبا ركّز في دعوته أولا على الإصلاح الداخلي بإيفاء المكيال والميزان وعدم الإفساد في البلد ، ثم انتقل إلى الإصلاح الخارجي بإزالة الموانع والعقبات أمام نشر دعوته للذين يزورون أرضهم.

وبعد قمع الفساد وتطهير البلد من المنكرات انتقل إلى النواحي الإيجابية الملازمة لهم وهي تذكر النعم ، فقال : (وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ ..) أي وتذكروا كثرة إنعام الله عليكم ، ليحملهم على الطاعة ويبعدهم عن المعصية ، ومن تلك النعم أنكم كنتم مستضعفين قليلي العدد ، فصرتم أعزة كثيري العدد بما بارك الله في نسلكم ، واشكروا له نعمه بعبادته وحده.

روي أن مدين بن إبراهيم تزوج رئيا بنت لوط ، فولدت أولادا كثيرين ، حتى كثر عددهم ، لأن الله بارك في نسلها.

ويجوز أن يكون المعنى أنكم كنتم فقراء ضعفاء ، فجعلكم موسرين أقوياء.

وتأملوا واعتبروا بمصير السابقين من الأمم الخالية والقرون الماضية والشعوب المجاورة لكم كقوم نوح ، وعاد وثمود ، وقوم لوط ، كيف أهلكهم الله بفسادهم وبغيهم في الأرض ، واجترائهم على معاصي الله ، وتكذيب رسله ، فتذكروا عاقبة فسادهم وما لحقهم من الخزي والنكال.

والمقصود من تذكر نعم الله ، والتأمل في عقاب المفسدين ، حملهم على

٢٩٤

الطاعة وترك المعصية بطريق الترغيب أولا ، والترهيب ثانيا.

وإن كان طائفة (١) منكم آمنوا بما أرسلت به ، ولم تؤمن طائفة أخرى ، أي قد اختلفتم علي فاصبروا أي فتربصوا وانتظروا حكم الله الذي يفصل بين الفريقين ، بأن ينصر المحقين على المبطلين ويظهرهم عليهم. وهذا وعيد وتهديد للكافرين بانتقام الله منهم ، كقوله تعالى : (فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ) [التوبة ٩ / ٥٢] أو هو عظة للمؤمنين وتسلية لقلوبهم وحث على الصبر واحتمال ما يلحقهم من أذى المشركين إلى أن يحكم الله بينهم ، وينتقم لهم منهم. والظاهر أنه خطاب للفريقين يراد منه حمل المؤمنين على الصبر على أذى الكفار ، وزجر من لم يؤمن ، حتى يحكم الله ، فيميز الخبيث من الطيب.

(وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) فإنه سيجعل العاقبة للمتقين ، والدمار على الكافرين ؛ لأن حكمه حق وعدل ، لا يخاف فيه الحيف أو الظلم.

فقه الحياة أو الأحكام :

ما ذا يفعل الأنبياء؟ إنهم لا يملكون غير الدعوة إلى الله بالكلمة الحسنة ، والإقناع والإتيان بالبراهين الكونية والعقلية ، ثم النهي عن الفساد والإفساد ، ثم التذكير بنعم الله تعالى على البشر ، ثم حملهم على الطاعة والانقياد لأوامر الله بدعوتهم إلى الاعتبار والاتعاظ بتدمير الأمم والشعوب المفسدة ، وانتظار الحكم الفاصل النهائي لله رب العالمين ، وحكمه حق وعدل لا جور فيه.

هذا ما فعله شعيب عليه‌السلام وغيره من الأنبياء مع أقوامهم ، دعاهم إلى أصلين : تعظيم أمر الله ويشمل الإقرار بالتوحيد وتصديق النبوة ، والشفقة على خلق الله ويشمل ترك البخس وترك الإفساد وكل أنواع الإيذاء ، وتلك هي التكاليف الخمسة.

__________________

(١) ذكّر لفظ الفعل وهو «كان» مراعاة للمعنى ، ولو راعى اللفظ قال : «كانت».

٢٩٥

وكان يقال لشعيب خطيب الأنبياء ، لحسن مراجعة قومه. وكان قومه أهل كفر بالله وبخس للمكيال والميزان. والكفر جرم عظيم لا يتفق مع إنعام الله ، والبخس وهو النقص في آلة الكيل والوزن جرم اجتماعي ، يشمل تعييب السلعة ، والمخادعة في القيمة ، والاحتيال في زيادة الكيل والنقصان منه ، وكل ذلك من أكل المال بالباطل ، وهو منهي عنه في الأمم جميعها على لسان الرسل عليهم‌السلام.

والإفساد في الأرض بعد الإصلاح جرم اجتماعي آخر في حق الإنسانية ، لأن صلاح الأرض بالعقيدة والأخلاق فيه خير للجميع ، وإفساد الأرض عدوان على الناس. قال ابن عباس : كانت الأرض قبل أن يبعث الله شعيبا رسولا يعمل فيها بالمعاصي ، وتستحلّ فيها المحارم ، وتسفك فيها الدماء ، فذلك فسادها ، فلما بعث الله شعيبا ودعاهم إلى الله صلحت الأرض. وكل نبي بعث إلى قومه فهو صلاحهم.

وحرم شعيب عليهم القعود على الطرقات لأخذ أموال الناس بالباطل ، فقد كانوا عشّارين ، ومثلهم اليوم المكّاسون (موظفوا الجمرك) الذين يأخذون من الناس مالا يلزمهم شرعا من الرسوم الجمركية بالقهر والجبر ، وذلك غصب وظلم وعسف على الناس وعمل للمنكر. وهذا يشبه عمل قطاع الطرق والمحاربين.

ومنعهم شعيب من محاولة ثني الناس عن قبول دعوته بالتهديد والوعيد والإنذار بقتل من يؤمن به ، وبإلقاء الشكوك والشبهات في دعوته ، وافتراء الكذب عليه.

وذكّرهم بنعم الله عليهم إذ كانوا قلة فكثروا ، وفقراء فاغتنوا ، وضعفاء فتقووا. ولفت نظرهم إلى ضرورة الاتعاظ بأحوال من سبقهم أو جاورهم من

٢٩٦

الأمم والشعوب الخالية ، فإنهم حين كذبوا الرسل وكفروا بالله ، دمّرهم الله واستأصلهم وأبادهم.

ثم حسم شعيب عليه‌السلام الموقف بانتظار حكم الله والتهديد والوعيد بهذا الحكم ؛ لأن انقسام الناس بسبب دعوته إلى فريقين : فريق المؤمنين وفريق الكافرين ، يتطلب قضاء الله الفاصل النهائي بين الطرفين ، والله خير من يفصل ، وأعدل من يقضي.

وحكم الله بين عباده نوعان : حكم يوحي به إلى رسله ، كما في قوله تعالى في أول سورة المائدة : : (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) ، وحكم يفصل فيه بين الخلائق إما في الدنيا وإما في الآخرة ، كما في قوله تعالى في آخر سورة يونس : (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ ، وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ ، وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ)».

والمقصود من كل هذه الأوامر والنواهي بالترغيب أولا ، والترهيب ثانيا هو حمل القوم على الإيمان والطاعة والعمل الصالح. والناس جميعا الذين يسمعون هذه القصة مطالبون بما طولب به هؤلاء ، فإن العاقل يتعظ بالأمثال والنظائر والأشباه ، وهو مدرك تماما أن ما جرى على النظير يجري على نظيره ، فالمؤمن يخصه الله بالدرجات العالية ، والكافر الشقي بأنواع العقوبات : (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ) [ص ٣٨ / ٢٨].

٢٩٧

فهرس

الجزء الثامن

 الموضوع

 الصفحة

من مظاهر تعنّت المشركين والإياس من إيمانهم........................................ ٥

القرآن الكريم دليل صدق رسالة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم......................................... ١٢

ضلالات المشركين والمنع من أكل ذبائحهم......................................... ١٦

مثل المؤمن المهتدي والكافر الضال................................................ ٢٦

تعنت المشركين ومطالبتهم بالنبوة.................................................. ٣٢

سنّة الله في المستعدّين للإيمان وغير المستعدّين وجزاء الفريقين بعد بيان.................. ٣٦

الحق ومنهجه

تولية الظلمة على بعضهم وتقريع الكافرين على عدم إيمانهم.......................... ٤٤

التهديد بعذاب الاستئصال والإنذار بعذاب القيامة.................................. ٥٠

شريعة الجاهلية في الزروع والثمار والأنعام وقتل الأولاد................................ ٥٤

الأدلة الواضحة على قدرة الله تعالى............................................... ٦٥

المطعوم المحرّم على المسلمين والمحرّم على اليهود....................................... ٧٧

نسبة المشركين الشرك والتحريم إلى الله تعالى وإقامة الحجة عليهم....................... ٨٦

المحرّمات العشر أو الوصايا العشر................................................. ٩٢

السبب في إنزال التوراة والقرآن.................................................. ١٠٦

إنذار أخير للكفار بسوء العذاب................................................ ١١١

عاقبة الاختلاف في الدين...................................................... ١١٥

٢٩٨

جزاء الحسنة والسيئة........................................................... ١١٨

اتباع ملة إبراهيم في التوحيد والعبادة والتبعة الشخصية.............................. ١٢١

الاستخلاف في الأرض........................................................ ١٢٩

سورة الأعراف................................................................ ١٣٣

تسميتها وصفة نزولها وموضوعها................................................ ١٣٣

ما اشتملت عليه السورة........................................................ ١٣٤

اتباع القرآن الكريم............................................................ ١٣٦

عاقبة تكذيب الرسل في الدنيا.................................................. ١٣٩

عاقبة الكفر في الآخرة والحساب الدقيق على الأعمال.............................. ١٤٢

كثرة نعم الله على عباده....................................................... ١٤٨

تكريم البشرية بالسجود لآدم وإغواء الشيطان وطرده من الجنة....................... ١٥١

قصة آدم في الجنة وخروجه منها................................................. ١٦٠

توفير حوائج الدنيا لبني آدم وتحذيرهم من فتنة الشيطان............................ ١٦٧

تشريع المشركين تقليد الآباء وتشريع الله الوحي إلى رسوله........................... ١٧٣

إباحة الزينة والطيبات من المآكل والمشارب........................................ ١٨٠

أصول المحرّمات على النّاس..................................................... ١٩٠

أجل كلّ أمّة وفرد............................................................ ١٩٤

ما خوطبت به كلّ أمّة على لسان رسولها وإنذار المكذّبين بآيات الله................. ١٩٦

عاقبة الكذب ومشهد دخول الكفار إلى النّار..................................... ١٩٩

جزاء الكافرين................................................................ ٢٠٤

جزاء المؤمنين المتقين........................................................... ٢٠٧

محاورة بين أهل الجنة وبين أهل النار والأعراف.................................... ٢١٢

٢٩٩

المناظرة بين أصحاب الأعراف وأصحاب النار..................................... ٢١٨

ما يقوله أهل النار لأهل الجنة.................................................. ٢٢١

أو استغاثة أهل النار بأهل الجنة لإمدادهم بالطعام والشراب........................ ٢٢١

فضل القرآن على البشر وحال المكذبين يوم القيامة بإظهار الندم وطلب الشفاعة...... ٢٢٦

إثبات الربوبية والألوهية لله بالخلق والأمر......................................... ٢٣٠

مشروعية الدعاء وآدابه وتحريم الإفساد في الأرض.................................. ٢٣٧

إنزال المطر وإخراج النبات ودلالتهما على القدرة الإلهية وإثبات البعث................ ٢٤٣

قصة نوح عليه‌السلام............................................................... ٢٤٨

قصة هود عليه‌السلام............................................................... ٢٥٨

قصة صالح عليه‌السلام.............................................................. ٢٦٧

قصة لوط عليه‌السلام.............................................................. ٢٧٩

قصة شعيب عليه‌السلام............................................................ ٢٨٧

٣٠٠