التفسير المنير - ج ٨

الدكتور وهبة الزحيلي

البلاغة :

(وَيا آدَمُ) فيه إيجاز بالحذف ، أي وقلنا : يا آدم.

(وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) عبر عن الأكل بالقرب مبالغة في النهي عن الأكل منها.

(وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما) أكد الخبر بالقسم وبأنّ واللام لدفع شبهة الكذب.

(فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ) بينهما طباق.

المفردات اللغوية :

(اسْكُنْ أَنْتَ) تأكيد للضمير في (اسْكُنْ) ليعطف عليه (وَزَوْجُكَ) هي حواء (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) بالأكل منها ، وهي الحنطة. (فَوَسْوَسَ) الوسوسة : الصوت الخفي المكرر ، والمراد منها هنا : ما يجده البشر في أنفسهم من الخواطر التي تزين ما يضر (وُورِيَ) من المواراة أي ما غطّي وستر (مِنْ سَوْآتِهِما) السوءة : ما يسوء الإنسان ويؤلمه ، وسوأة الإنسان : عورته ؛ لأنه يسوؤه ظهورها ، قال العلماء : في الآية دليل على أن كشف العورة من عظائم الأمور. وأنه مستهجن طبعا وعرفا (أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) أي الذين لا يموتون أبدا ؛ لأن الخلود لازم عن الأكل منها ، كما في آية أخرى : (هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ ، وَمُلْكٍ لا يَبْلى) [طه ٢٠ / ١٢٠].

(وَقاسَمَهُما) أقسم لهما بالله بكل تأكيد على ذلك حتى خدعهما ، وقد يخدع المؤمن بالله.

قال الألوسي : وإنما عبّر بصيغة المفاعلة للمبالغة ؛ لأن من يباري أحدا في فعل يجدّ فيه. (فَدَلَّاهُما) حطهما عن منزلتهما في الجنة (بِغُرُورٍ) بخداع منه بالباطل (ذاقَا الشَّجَرَةَ) أي أكلا منها (بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما) أي ظهر لكل منهما قبله ودبره ، وسمي كل منهما سوأة ؛ لأن انكشافه يسوء صاحبه ، كما ذكر (وَطَفِقا) أخذا وشرعا (يَخْصِفانِ عَلَيْهِما) يلزقان ويرقعان من ورق الجنة ورقة فوق ورقة ليستترا به (عَدُوٌّ مُبِينٌ) بين العداوة. والاستفهام بقوله : (أَلَمْ أَنْهَكُما) للتقرير.

المناسبة :

الآيات استمرار في الكلام عن النشأة الأولى للبشر ودور شياطين الجن في إغواء الناس. والقصد من القصة إرشاد الناس إلى طرق الهداية ، وتحذيرهم من وساوس الشياطين ، فإن الشيطان بسبب حسده لآدم وحواء سعى في المكر

١٦١

والوسوسة والخديعة ، ليسلبهما ما هما فيه من النعمة واللباس الحسن. وقد ذكرت هذه القصة في القرآن في سبعة مواضع ، كما بينت في الآيات السابقة.

وكيف وسوس الشيطان لآدم ، الذي كان في الجنة ، وإبليس أخرج منها؟ قال الحسن البصري : كان يوسوس من الأرض إلى السماء وإلى الجنة بالقوة الفوقية التي جعلها الله تعالى فيه.

التفسير والبيان :

أباح الله تعالى لآدم عليه‌السلام وزوجه حواء المخلوقة منه سكنى الجنة ، وأن يأكلا من جميع ثمارها إلا شجرة واحدة ، فالأمر هنا أمر إباحة لا أمر تكليف.

وتلك الجنة في رأي الجمهور هي جنة الخلد ، وقيل : جنة من جنان السماء ، أو جنة من جنان الأرض.

وخاطب الله آدم أولا بطريق الوحي ، ثم خاطبه مع زوجته ، لتساويهما في الأكل من ثمار الجنة.

وما روي في الصحيحين عن أبي هريرة من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فإن المرأة خلقت من ضلع أعوج» من باب التمثيل المراد به المنع من تقويم المرأة بالشدة والغلظة في المعاملة.

وأباح الله بقوله : (فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما) لهما الأكل من مختلف ثمار الجنة ، ونهاهما عن الأكل من شجرة خاصة لم يعينها لنا في كتابه ، وقد علل النهي بأنهما إذا أكلا منها كانا من الظالمين لأنفسهما ، بفعلهما ما يعاقبان عليه. وهذا امتحان من الله في إباحة الكثير وتحريم القليل.

فحسدهما الشيطان ، وسعى في المكر والوسوسة والخديعة ، ليسلبهما ما هما فيه من النعمة واللباس الحسن ، فزيّن لهما ما يضرهما ويسوؤهما ، بأن تمثّل لهما

١٦٢

وكلّمهما ، لتنكشف عورتهما التي يؤثران سترها ، أي لتكون عاقبة ذلك ظهور العورة. قال الحسن البصري : كان يوسوس من الأرض إلى السماء وإلى الجنة بالقوة الفوقية التي جعلها الله تعالى له. وهذا هو الرد على أن إبليس أخرج من الجنة وكان آدم فيها.

وقال كذبا وافتراء : ما نهاكما ربكما عن الأكل من هذه الشجرة إلا لأحد أمرين : أن تكونا ملكين أو خالدين هاهنا لا تموتان وتبقيان في الجنة ساكنين ، أي لئلا تكونا ملكين (١) أو خالدين في الجنة ، ولو أنكما أكلتما منها لحصل لكما ذلك كقوله : (قالَ : يا آدَمُ ، هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى) [طه ٢٠ / ١٢٠]. وقال الزمخشري : إلا كراهة أن تكونا ملكين.

والسبب في اختيار هاتين الخاصتين : أن للملائكة مزايا وخصائص كالقوة والبطش ، وطول البقاء ، وعدم التأثر بأحوال الكون ، وأن الخلود في الجنة بدون موت البتة هو أمل الإنسان. أي أن إبليس أوهمهما أن الأكل من هذه الشجرة : إما ليتصف الآكل بصفات الملائكة ، أو لتحقيق الخلود في الحياة.

وفي هذه إشارة إلى تفضيل الملائكة على آدم.

ثم حلف لهما بالله وأقسم قسما مؤكدا : (إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) فإني من قبلكما هاهنا وأعلم بهذا المكان.

وقوله : (قاسَمَهُما) من باب المفاعلة المراد بها أحد الطرفين ، بقصد المبالغة وتغليظ القسم ، فإنه حلف لهما بالله على ذلك ، حتى خدعهما ، وقد يخدع المؤمن بالله.

__________________

(١) وهذا مثل قوله تعالى : يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النساء ٤ / ١٧٦] أي لئلا تضلوا ، وقوله : وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ [النحل ١٦ / ١٥ ولقمان ٣١ / ١٠] أي لئلا تميد بكم.

١٦٣

(فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ) أي ما زال يخدعهما ويغريهما بالترغيب في الأكل من الشجرة ، وبالوعد ، وبالقسم بالأيمان المغلّظة ، حتى نسيا أن الله أخبرهما أنه عدو لهما ، وتمكن من زحزحتهما وإسقاطهما من منزلتهما عند الله بسبب طاعتهما ، بما غرهما به من اليمين وزيّن لهما ، كما قال تعالى : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ ، فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) [طه ٢٠ / ١١٥]. ومعنى (فَدَلَّاهُما) فنزلهما إلى الأكل من الشجرة بما غرهما به من القسم بالله.

فلما ذاقا ثمرة الشجرة ، ظهرت عوراتهما ، وزال النور عنهما ، وشرعا يجعلان ورقة على ورقة من ورق أشجار الجنة العريض لستر العورة.

وناداهما ربهما معاتبا لهما وموبخا بقوله : (أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ) أي ألم أنهكما من الاقتراب من هذه الشجرة والأكل منها ، وأقل لكما : إن الشيطان ظاهر العداوة لكما ، فإن أطعتماه أخرجكما من دار النعيم وهي الجنة إلى دار الدنيا وهي دار الشقاء والتعب في الحياة ، فاحذروا الشيطان كما قال : (فَقُلْنا : يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ ، فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ ، فَتَشْقى) [طه ٢٠ / ١١٧].

(قالا : رَبَّنا ظَلَمْنا ..) أي قالا : ربنا إننا ظلمنا أنفسنا بمخالفة أمرك وطاعة الشيطان عدوك وعدونا ، وإن لم تستر ذنبنا وترض عنا وتقبل توبتنا ، لنكونن من الذين خسروا الدنيا والآخرة : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ ، فَتابَ عَلَيْهِ ، إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [البقرة ٢ / ٣٧].

ثم خاطب الله آدم وحواء وإبليس بقوله : (قالَ : اهْبِطُوا ..) أي أنزلوا من هذه الجنة ، بعضكم عدو لبعض ، يعني أن العداوة ثابتة بين الجن والإنس لا تزول البتة ، فإبليس يعاديهما أي آدم وحواء وهما يعاديانه. فعلى الإنسان أن يحذر من وساوس الشيطان ، كما قال تعالى : (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ ، فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ، إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) [فاطر ٣٥ / ٦].

١٦٤

والإخراج من الجنة كان هو العقاب على تلك المعصية ، أما العقاب الأخروي فقد عفا الله عنه بالتوبة التي أذهبت أثره وقبلها الله تعالى ، كما قال : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ، ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ ، فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) [طه ٢٠ / ١٢١ ـ ١٢٢].

ثم أبان تعالى أجل الإنسان في الدنيا فقال : (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ ..) أي لكم قرار وأعمار مضروبة إلى آجال معلومة ، قد جرى بها القلم ، وأحصاها القدر ، وسطرت في الكتاب الأول ، فيها تحيون مدة العمر المقدر لكل منكم ، وفيها تموتون حين انتهاء الأجل ، ومنها تخرجون إلى البعث والجزاء بعد الموت حينما يريد الله : (مِنْها خَلَقْناكُمْ ، وَفِيها نُعِيدُكُمْ ، وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) [طه ٢٠ / ٥٥].

فقه الحياة أو الأحكام :

بعد إخراج إبليس من موضعه في السماء ، قال الله لآدم : اسكن أنت وحواء الجنة ، وهو أمر تعبد ، أو أمر إباحة وإطلاق ، من حيث إنه لا مشقة فيه ، فليس هو أمرا تكليفيا ، ولا يتعلق به تكليف.

وهذا دليل على أن سكنى آدم في الجنة كانت في مبدأ حياتهما ، ثم أمرا بالنزول إلى الأرض ، بسبب كيد الشيطان وحسده ووسوسته ، وكان أخطر سلاح استخدمه هو تغريرهما بالحلف المؤكد بالله ، فانخدعا ، وقد يخدع المؤمن بالله.

وقد فهم من آية : (إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ) تفضيل الملائكة على البشر ، كما في آيات كثيرة منها : (وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) [الأنعام ٦ / ٥٠] ومنها : (وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) [النساء ٤ / ١٧٢] وقال الكلبي : فضلوا ـ أي المؤمنون ـ على الخلائق كلهم ، غير طائفة من الملائكة : جبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، وملك الموت ؛ لأنهم من جملة رسل الله.

١٦٥

واختار ابن عباس والزجاج وكثير من العلماء تفضيل المؤمنين على الملائكة. وأما هذه الآية أو الواقعة : (إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ) فكانت قبل النبوة.

ودلت آية : (لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما) على أن كشف العورة من المنكرات ، وأنه لم يزل مستهجنا في الطباع ، مستقبحا في العقول ، وأن الله أوجب ستر العورة ، ولذلك ابتدر آدم وحواء إلى سترها ، فمن دعا إلى كشف العورات سواء عند الرجال أو النساء فقد هتك ستر الحياء ، وأعاد الإنسان إلى البدائية الهمجية ، وجعل المرأة سلعة للمتعة والتسلية ولم يرع صون العرض الذي أمر به الدين واقتضته الفطرة السليمة ، وكان صنيعه مثل الشيطان : (يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما).

وكان ترغيب إبليس لآدم في مجموع الأمرين : الاتصاف بصفات الملائكة ، والخلود من غير موت البتة.

وكانت عقوبة آدم وحواء على المخالفة هي الهبوط إلى الأرض ، أما عقاب الآخرة فقد أسقطه الله تعالى بالعفو عنهما وبقبول توبتهما. وقد اختار الرازي أن هذا الذنب إنما صدر عن آدم قبل النبوة.

وأما آية : (اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ..) فدلت على أمرين :

١ ـ وجود العداوة الدائمة بين الإنسان والشيطان ، ولما كانت العمدة في العداوة آدم وإبليس ، قال تعالى في سورة طه : (اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً) [١٢٣].

٢ ـ توقيت بقاء الإنسان في الدنيا ، بحسب الأجل من الميلاد إلى الوفاة ، وفي الأرض يعيش الإنسان وذلك نعمة عظمي ، لأنها موضع قرار واستقرار ، واستمتاع بزخارف الحياة ، وتنعم بمختلف نعم الحياة ، ثم يأتي الموت ، ثم يأتي البعث والإخراج من القبور ، ثم يكون الحساب والجزاء في عالم الآخرة.

١٦٦

ومغزى هذه القصة كما أشرت في المناسبة : هو إرشادنا إلى ما فطرنا عليه ، وإلى ما يجب علينا من شكر الله وطاعته ، وتنفيذ أوامره ، واجتناب معاصيه ، والحذر من وساوس الشيطان.

فإذا عرفنا غرائزنا وميولنا ، وعرفنا خطر عدونا وهو الشيطان ، وربّينا أنفسنا على تذكر عهد الله وميثاقه بأن نعبده وحده دون سواه ، ونزكي النفس بالأخلاق والآداب الحسنة ونعمل على تهذيبها ، كنا سعداء الدنيا والآخرة ، وأدينا رسالتنا في هذه الحياة.

توفير حوائج الدنيا لبني آدم وتحذيرهم من فتنة الشيطان

(يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٢٦) يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (٢٧))

الإعراب :

(وَلِباسُ التَّقْوى) قرئ بالنصب عطفا على قوله : (وَرِيشاً) أي أنزلنا ريشا ولباس التقوى ، وقرئ بالرفع لخمسة أوجه : الرفع على أنه مبتدأ ثان ، و (خَيْرٌ) خبره ، والمبتدأ الثاني وخبره خبر عن المبتدأ الأول وهو (ذلِكَ). أو يكون (ذلِكَ) فصلا ، و (خَيْرٌ) خبر المبتدأ ، أو يكون (ذلِكَ) وصفا للباس التقوى ، أو يكون بدلا ، أو عطف بيان ، كأنه قال : ولباس التقوى المشار إليه خير. ورأى الزمخشري أنه مبتدأ ، وخبره إما جملة (ذلِكَ خَيْرٌ) وإما المفرد وهو (خَيْرٌ) ، و (ذلِكَ) صفة للمبتدأ ، كأنه قيل : ولباس التقوى المشار إليه خير.

(يَنْزِعُ عَنْهُما ..) جملة فعلية في موضع نصب حال من الضمير في (أَخْرَجَ).

١٦٧

(مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ حَيْثُ) مبنية على الضم ، لوجهين : إما لأنها مقطوعة عن الإضافة إلى المفرد ؛ لأنها لا تضاف إلا إلى الجمل ، فنزلت منزلة بعض الكلمة ، وبعض الكلمة مبني. وإما لأنها أشبهت الحرف ، والحرف مبني ، فكذلك ما أشبهه.

البلاغة :

(قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً) مجاز مرسل ، أي أنزلنا مطرا ينبت القطن والكتان ، ويقيم البهائم ذات الأصواف والأوبار والأشعار.

(وَلِباسُ التَّقْوى) تشبيه بليغ ، من إضافة المشبه به إلى المشبه ، كما أضيف إلى الجوع في قوله : (فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ).

(لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) فيه التفات عن الخطاب إلى الغيبة.

المفردات اللغوية :

(قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً) أي خلقناه لكم ، واللباس : كل ما يلبس في السلم والحرب (يُوارِي سَوْآتِكُمْ) يستر عوراتكم (وَرِيشاً) الريش هنا والرياش : ما يتجمل به من الثياب فهو لباس الحاجة والزينة ، وأكثر أهل اللغة : أن الريش : ما ستر من لباس أو معيشة. (وَلِباسُ التَّقْوى) أي لباس الورع والخشية من الله تعالى ، بالعمل الصالح والسمت الحسن. (ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ) دلائل قدرته (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) أي يتذكرون فيؤمنوا.

(لا يَفْتِنَنَّكُمُ) لا يضلنكم ، وأصل الفتنة : الابتلاء والاختبار ، والمعنى : لا تتبعوا الشيطان فتفتنوا (وَقَبِيلُهُ) جنوده وجماعته ، والقبيل كالقبيلة. (مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) للطافة أجسادهم أو عدم ألوانهم (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ) أعوانا وقرناء.

المناسبة :

بعد أن أمر الله تعالى آدم وحواء بالهبوط إلى الأرض ، وجعل الأرض مستقرا لهما ، أبان أنه تعالى أنزل كل ما يحتاجون إليه في شؤون الدين والدنيا ، ومن جملتها اللباس الذي يحتاج إليه في الدين والدنيا. وذلك يقتضي شكر الله على نعمه العظيمة وعبادته بحق.

١٦٨

التفسير والبيان :

يمتن الله تعالى على عباده بما جعل لهم من اللباس والريش ، فاللباس ستر العورات ، والريش : ما يتجمل به ، والأول من الضرورات ، والثاني من التكملات والتحسينات.

يا بني آدم ، اذكروا نعمة الله عليكم وعلى أبيكم آدم من قبل ، بما وفرته لكم من حوائج الدين والدنيا كاللباس والرياش ، لستر العورات ، والاستمتاع بالزينة والجمال ، واتقاء الحر والبر. ومعنى إنزاله من السماء : خلقه وإنتاج مادته من القطن والصوف والوبر والحرير وريش الطير وغيرها مما اقتضته الحاجة ، ثم تعلم صنعته وخياطته بإلهام من الله. وهذا الامتنان بنعمة اللباس والزينة دليل على الإباحة ، وهو مطابق لفطرة الإنسان بحب الزينة والتظاهر أمام الناس.

ويسن الحمد والشكر عند ارتداء الثوب الجديد ، لما رواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من استجد ثوبا ، فلبسه ، فقال حين يبلغ ترقوته : الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي ، وأتجمل به في حياتي ، ثم عمد إلى الثوب الخلق فتصدق به ، كان في ذمة الله ، وفي جوار الله ، وفي كنف الله ، حيا وميتا». وروى الإمام أحمد أيضا عن علي قال : معت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول عند الكسوة : «الحمد لله الذي رزقني من الرياش ما أتجمل به في الناس ، وأواري به عورتي».

ثم فضل الله تعالى على اللباس المادي أو الحسي لباس التقوى المعنوي فقال : (وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ) وهو كما قال ابن عباس : الإيمان والعمل الصالح ، وقيل : هو السمت الحسن ، فهذا لا شك خير لصاحبه إذا أخذ به ، وأقرب له إلى الله تعالى ، مما خلق من اللباس والرياش الذي يتجمل به.

(ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ) معناه : ذلك المذكور وهو إنزال اللباس عليهم من

١٦٩

آيات الله الدالة على قدرته وفضله ورحمته على عباده. (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) أي أن هذه النعم تؤهلهم لتذكر فضل الله عليهم وشكره ، ومعرفة عظيم النعمة فيه ، والبعد عن فتنة الشيطان ، وإبداء العورات.

ثم حذر الله تعالى بني آدم من إبليس وجنوده ، مبينا لهم عداوته القديمة لأبي البشر آدم عليه‌السلام ، في سعيه في إخراجه من الجنة التي هي دار النعيم إلى دار التعب والعناء ، والتسبب في هتك عورته ، بعد ما كانت مستورة عنه ، وما هذا إلا عن عداوة أكيدة ، وهذا كقوله تعالى : (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي ، وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ، بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) [الكهف ١٨ / ٥٠].

كرر الله النداء لبني آدم على وفق الأسلوب العربي في مقام التذكير والوعظ ، فقال : (لا يَفْتِنَنَّكُمُ) أي لا تغفلوا عن أنفسكم ، ولا يصرفنكم الشيطان عن الدّين ، كما فتن أبويكم بالإخراج من الجنة ، فلا تصغوا لوسوسة الشيطان ، ولا تهملوا تحصين أنفسكم بالتقوى ، وصلوها دائما بذكر الله ، فيترتب على فتنة الشيطان ألا تدخلوا الجنة كما فتن أبويكم ووسوس لهما ، وزين لهما معصية ربهما ، فأكلا من الشجرة التي نهاهما عنها ، فأخرجهما من الجنة دار النعيم ، وتسبب في هبوطهما إلى الأرض.

أخرجهما من الجنة ، وتسبب أيضا في نزع ما اتخذاه لباسا لهما من ورق الجنة ، لأجل أن يريهما سوءاتهما ، واللام في (لِيُرِيَهُما) هي لام العاقبة أو الصيرورة ، مثل اللام في (لِيُبْدِيَ لَهُما).

احذروا إبليس فإنه هو وجنوده من الجن يرونكم وأنتم لا ترونهم ، والضرر الناجم من العدو الذي لا يرى أخطر من العدو الظاهر المرئي.

والوقاية منه تكون بالاستعاذة بالله منه ، وبتقوية الروح بالإيمان بالله والصلة به ، وبمجاهدة النفس وعدم إصغائها للوساوس ، ثم محاولة طردها من

١٧٠

النفس وتصفية آثارها منها ، من طريق التزام قواعد الشرع وآدابه وأخلاقه.

ثم أكد التحذير من الشيطان ، فأبان أنه تعالى جعل الشياطين أنصارا وأعوانا للكفار الذين لا يؤمنون بالله تعالى إيمانا حقا تزكوا به نفوسهم وتصلح أعمالهم ، وذلك بسبب استعدادهم لقبول وسوسة الشيطان ، كاستعداد ضعفاء الأجسام لتقبل الأمراض بسرعة.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت آية : (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ) على وجوب ستر العورة ؛ لأنه قال : (يُوارِي سَوْآتِكُمْ) أي أنه تعالى جعل لذرية آدم لباسا يسترون به عوراتهم ، وفيه دلالة على الأمر بالتستر. ولا خلاف بين العلماء في وجوب ستر العورة عن أعين الناس.

واختلفوا في العورة ما هي؟ فقال الظاهرية والطبري : هي من الرجل الفرج نفسه : القبل والدّبر ، دون غيرهما ؛ لقوله تعالى : (لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ) ، (بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما). (لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما) وفي البخاري عن أنس : «فأجرى ـ ركض ـ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في زقاق خيبر ـ وفيه ـ ثم حسر الإزار عن فخذه ، حتى إني أنظر إلى بياض فخذ نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم».

وقال مالك : السرة ليست بعورة ، وأكره للرجل أن يكشف فخذه بحضرة زوجته. وحجة مالك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لجرهد : «غطّ فخذك ، فإن الفخذ عورة» خرّجه البخاري تعليقا ، وقال : حديث أنس أسند ، وحديث جرهد (١) أحوط ، حتى يخرج من اختلافهم ، يعني أن الفخذ على الصحيح عند المالكية ليس بعورة ، لأنها ظهرت من النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم خيبر ، ولكن يكره كشفها ، لحديث جرهد.

__________________

(١) هو جرهد بن خويلد ، وهو صحابي.

١٧١

وقال أبو حنيفة : الركبة عورة.

وقال الشافعي : ليست السرة ولا الركبتان من العورة على الصحيح ، لكن يجب سترهما عند الشافعية من قبيل : ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

وأما المرأة الحرة : فعورة كلها إلا الوجه والكفين ، عند أكثر أهل العلم ، بدليل قول جمهور الفقهاء : من أراد أن يتزوّج امرأة فلينظر إلى وجهها وكفّيها ولأن ذلك واجب كشفه في الإحرام.

ودلت آية (أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً) .. (وَرِيشاً) على مزيد نعمة الله تعالى بتوفير ما يحتاجه الإنسان في الدنيا ، وليعينه على أمر الدين والآخرة.

لكن لباس التقوى : وهو الإيمان والعمل الصالح والسّمت الحسن في الوجه هو خير وأبقى ، وأخلد وأنقى ، وبه النجاة عند الله ، وهو طريق القربى إلى الله عزوجل ، لأن المعنى : ولباس التقوى المشار إليه ، الذي علمتموه ، خير لكم من لبس الثياب التي تواري سوءاتكم ، ومن الرياش التي أنزلنا إليكم ؛ فالبسوه.

وقوله تعالى : (يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ) يدل على تحذير الناس من قبول وسوسة الشيطان ؛ لأن المقصود من ذكر قصص الأنبياء عليهم‌السلام حصول العبرة لمن يسمعها ، فكأنه تعالى لما ذكر قصة آدم ، وبيّن فيها شدة عداوة الشيطان لآدم وأولاده ، أتبعها بأن حذر أولاد آدم من قبول وسوسة الشيطان ؛ بدليل تأثيره على آدم وحواء وإيقاعهما في الزلة الموجبة لإخراجهما من الجنة ، فإذا أثر على آدم فكيف يكون حال آحاد الناس؟

واللباس الذي نزعه الشيطان عن آدم وحواء : هو ثياب الجنة.

وقوله تعالى : (مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) يدل على أن الإنس لا يرون الجن ، ويؤكده الخبر الذي أخرجه أحمد : «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى

١٧٢

الدم» وقوله تعالى : (الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ) [الناس ١١٤ / ٥] وقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه الترمذي والنسائي وابن حبان عن ابن مسعود : «إن للملك لمّة وللشيطان لمّة ـ أي بالقلب ـ فأما لمّة الملك : فإيعاد بالخير ، وتصديق بالحق ، وأما لمّة الشيطان : فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق».

وفيما عدا هذا جاء في رؤية الجن أخبار صحيحة في البخاري ومسلم.

وعقيدتنا أنه لا قدرة للشيطان على البشر بوجه من الوجوه ، بدليل قوله تعالى : (ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ ، إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) [إبراهيم ١٤ / ٢٢].

واحتج أهل السنة بقوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) على أن الله هو الذي سلّط الشيطان الرجيم على الكافرين حتى أضلهم وأغواهم ، زيادة في عقوبتهم ، وتسوية بينهم في الذهاب عن الحق ، فأصبح الشيطان وليا لمن لا يؤمن.

تشريع المشركين تقليد الآباء وتشريع الله الوحي إلى رسوله

(وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٢٨) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (٢٩) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٠))

١٧٣

الإعراب :

(كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) : الكاف في (كَما) في موضع نصب ؛ لأنها صفة مصدر محذوف ، تقديره : تعودون عودا مثل ما بدأكم.

(فَرِيقاً هَدى ، وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) : (فَرِيقاً) الأول منصوب بهدى. و (فَرِيقاً) الثاني منصوب بتقدير فعل دلّ عليه ما بعده ، وتقديره : وأضل فريقا حق عليهم الضلالة. ويجوز أن يكون منصوبا على الحال من ضمير (تَعُودُونَ) وتقديره : كما بدأكم تعودون في هذه الحالة.

المفردات اللغوية :

(فاحِشَةً) الفاحشة : هي الفعلة المتناهية في القبح ، وهي كل معصية كبيرة ، كالشرك وطوافهم بالبيت عراة ، قائلين : لا نطوف في ثياب عصينا الله فيها ، فنهوا عنها (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) أنه قاله ، وهو استفهام إنكاري.

(بِالْقِسْطِ) العدل والاعتدال والتوسط في جميع الأمور. (وَأَقِيمُوا) معطوف على معنى : بالقسط ، أي قال : أقسطوا وأقيموا. وإقامة الشيء : إعطاؤه حقه وتوفيته شروطه ، كإقامة الصلاة ، وإقامة الوزن بالقسط. (وُجُوهَكُمْ) الوجه معروف وهو أشرف أعضاء الإنسان ، والمراد هنا : إما العضو المعروف من الإنسان مثل قوله تعالى : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) [البقرة ٢ / ١٤٤] وإما كناية عن توجه القلب وصحة القصد ، مثل قوله تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) [الروم ٣٠ / ٣٠].

(عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) أي أخلصوا له سجودكم. (وَادْعُوهُ) اعبدوه. (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) من الشرك. (كَما بَدَأَكُمْ) خلقكم ولم تكونوا شيئا. (تَعُودُونَ) أي يعيدكم أحياء يوم القيامة.

المناسبة :

لما ذكر الله تعالى أنه جعل الشياطين قرناء للكافرين مسلطين عليهم ، ذكر هنا أثرا من آثار تسلط الشياطين على الذين لا يؤمنون ، وهو طاعتهم لهم.

التفسير والبيان :

وإذا فعل المشركون فعلة فاحشة قبيحة ينكرها الشرع والعقل والطبع السليم

١٧٤

كالشرك والطواف بالبيت عراة رجالا ونساء ، والأولى الحكم بتعميم معنى الفاحشة : وهي كل معصية كبيرة ، فيدخل فيه جميع الكبائر ، قالوا : نحن في هذا مقلدون للآباء ، متبعون للأسلاف ، ويعتقدون أنها طاعات ، وأن الله أمرهم بها ، وهي في أنفسها فواحش ، فكانوا يحتجون على إقدامهم على تلك الفواحش وهم لا يدركون فحشها بأمرين : أحدهما : أنا (وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا) والثاني : أن (اللهُ أَمَرَنا بِها).

أما الحجة الأولى ـ فلم يجب الله عنها ؛ لأنها إشارة إلى محض التقليد ، وهو عقلا طريقة فاسدة ، وفسادها ظاهر جلي لكل أحد ، فلم يحتج إلى الجواب عنه.

وأما الحجة الثانية وهي قولهم : (وَاللهُ أَمَرَنا بِها) فقد أجاب عنه تعالى بقوله : (قُلْ : إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) أي إن هذه الأفعال منكرة قبيحة على لسان الأنبياء

والمرسلين ، والله بكماله منزه عن أن يأمر بها ، فكيف يمكن القول بأن الله تعالى أمر بها؟! والواقع إنما يأمر بها الشيطان ، كما قال تعالى : (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ) [البقرة ٢ / ٢٦٨].

ثم أنكر الله تعالى عليهم قولهم باستفهام إنكاري فقال : (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ...) أي أتسندون إلى الله من الأقوال ما لا تعلمون صحته؟! فتشريع الله لا يثبت إلا بوحي منه إلى رسوله ، وأنتم تعملون بوحي الشيطان ، وتفترون على الله الكذب ، فهذا إنكار لإضافتهم القبيح إلى الله ، وشهادة على أن مبني قولهم الجهل المفرط.

وبعد أن أنكر تعالى صدور الأمر عنه بالفحشاء ، أعلن أنه إنما يأمر بالقسط والعدل: (قُلْ : أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) أي قل يا محمد لهم : إنما يأمر ربي بالعدل والاستقامة والتوسط في الأمور دون إفراط ولا تفريط.

١٧٥

وأمر ربي بإيفاء عبادته حقها ، وأن تقصدوا عبادته مستقيمين إليها غير عادلين إلى غيرها ، في كل وقت سجود ، أو في كل مكان سجود ، وهو الصلاة ، واعبدوه (ادعوه) مخلصين له الدين ، أي الطاعة ، مبتغين بها وجه الله خالصا.

أي إن هذه الآية تأمر بشيئين : ١ ـ الاستقامة في العبادة في أوقاتها ومحالّها ، كما جاء بها الأنبياء والمرسلون المؤيدون بالمعجزات فيما أخبروا به عن الله ، وما جاؤوا به من الشرائع. ٢ ـ الإخلاص لله في عبادته ، فإنه تعالى لا يتقبل العمل حتى يجمع هذين الركنين: أن يكون صوابا موافقا للشريعة ، وأن يكون خالصا من الشرك (١).

ثم احتج تعالى عليهم في إنكارهم الإعادة والبعث : بابتداء الخلق ، فقال : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) أي كما أنشأكم ابتداء يعيدكم ، فيجازيكم على أعمالكم ، فأخلصوا له العبادة.

وأنتم حال البعث والحساب بين فريقين : فريق هداه الله ووفقه للعبادة والإيمان والإخلاص ، وهم الذين أسلموا ، وفريق حقت عليه كلمة العذاب والصرف عن طريق الثواب ، وحق عليه الضلالة لاتباعه إغواء الشيطان وإعراضه. عن طاعة الله ، وعلم الله أن أفراد هذا الفريق يضلون ولا يهتدون. فسبب ثبوت الضلالة على هذا الفريق : هو أنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ، فقبلوا ما دعوهم إليه ، ولم يتأملوا في التمييز بين الحق والباطل.

إن الفريق الذين حق عليهم الضلالة اتخذوا الشياطين أولياء أي تولوهم بالطاعة فيما أمروهم به. وهذا دليل على أن علم الله بضلالهم لا أثر له في ضلالهم ، وأنهم ـ كما قال الزمخشري المعتزلي ـ هم الضالون باختيارهم وتوليهم الشياطين ، دون الله سبحانه.

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٢ / ٢٠٨

١٧٦

وأما على رأي أهل السنة القائلين بأن الهدى والضلال من الله تعالى ، فالمعنى أن الهدى والضلال إنما يحصل بخلق الله تعالى ابتداء ، ولكن الداعية التي دعتهم إلى ذلك الفعل هي أنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله.

والفريق الثاني يتصف بصفة أخرى هي أنهم يظنون أنهم مهتدون أي على بصيرة وهداية ، وهم في الحقيقة ضالون مخطئون : (قُلْ : هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً. الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) [الكهف ١٨ / ١٠٣ ـ ١٠٤].

ويؤكد معنى الآية في الفريق الثاني ما رواه مسلم عن عياض بن حمار قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يقول الله تعالى : «إني خلقت عبادي حنفاء ، فجاءتهم الشياطين ، فاجتالتهم ، عن دينهم».

وفسّر بعضهم : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) بأنه كما خلقناكم ؛ فريق مهتدون وفريق ضلال ، كذلك تعودون وتخرجون من بطون أمهاتكم. قال ابن عباس : إن الله تعالى بدأ خلق ابن آدم مؤمنا وكافرا ، كما قال : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ ، فَمِنْكُمْ كافِرٌ ، وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) [التغابن ٦٤ / ٢] ثم يعيدهم كما بدأ خلقهم مؤمنا وكافرا. وهذا موافق لحديث ابن مسعود في صحيح البخاري : «فو الذي لا إله غيره ، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها. وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار ، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها».

وبناء على هذا التأويل يكون هناك تعارض بينه وبين قوله تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً ، فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) [الروم ٣٠ / ٣٠] ومثله ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كل

١٧٧

مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه» وما جاء في صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار المتقدم.

والتوفيق بين آية : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ ...) وآية : (فِطْرَتَ اللهِ ...) وما يؤيد كليهما من الأحاديث : هو أن الله تعالى فطر الخلق كلهم على معرفته وتوحيده والعلم بأنه لا إله غيره ، كما أخذ عليهم الميثاق بذلك ، وجعله في غرائزهم وفطرهم.

وبعد هذا الخلق على هذا النحو الفطري السليم ، قدّر تعالى ، وعلم في علمه الأزلي القديم السابق أنه سيكون من الخلق المؤمن والكافر ، والشقي والسعيد ، وسيطرأ تغير على الحالة الأصلية التي فطروا عليهم ، وهو معنى قوله : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ ، فَمِنْكُمْ كافِرٌ ، وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) أي سيؤول أمره في ثاني الحال إلى الكفر بعد الإيمان ، وقدر الله نافذ في بريته ، فإنه هو (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) [الأعلى ٨٧ / ٣] و (الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ، ثُمَّ هَدى) [طه ٢٠ / ٥٠] (١).

فقه الحياة أو الأحكام :

دلّت الآيات على ما يأتي :

١ ـ تقليد الآباء والأسلاف مرفوض عقلا وطبعا ؛ لأن الله ميّز الإنسان بالعقل الذي يستطيع به التمييز بين الحق والباطل ، فإن كان الآباء على حق وخير ، جاز اتباعهم وتقليدهم ، وإن كانوا على ضلالة وشر ، وجب البعد عن منهجهم وطريقهم ، وإلا كانوا على جهل وخطأ.

٢ ـ لا يأمر الله إلا بالعدل والاستقامة ، وهو منزّه عن الأمر بالفحشاء والمنكر والمعاصي.

__________________

(١) انظر تفسير ابن كثير : ٢ / ٢٠٩

١٧٨

٣ ـ الواجب على المؤمن في عبادة ربه أمران : أن يكون فعله موافقا للصواب الذي قررته الشريعة ، وأن يكون خاليا من الشرك ، أي بأن يخلص العبادة لله والطاعة ، وينأى عن وجوه الخطأ والانحراف.

٤ ـ إعادة الخلق بالبعث مثل ابتداء الخلق الأول ، بل هو أهون : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم ٣٠ / ٢٧].

٥ ـ قال الرازي : إنه تعالى أمر في هذه الآية : (قُلْ : أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ ...) بثلاثة أشياء :

أولها : أنه أمر بالقسط : وهو قول : لا إله إلا الله ، وهو يشتمل على معرفة الله تعالى بذاته وأفعاله وأحكامه ، ثم على معرفة أنه واحد لا شريك له.

وثانيها : أنه أمر بالصلاة ، وهو قوله : (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ).

وثالثها : أنه أمر بعبادته مخلصين له الدين (١).

٦ ـ الناس جميعا عند خلقهم مخلوقون مفطورون على فطرة التوحيد ومعرفة الله تعالى ، ثم يتغير حال بعضهم بمؤثرات البيئة والتعليم والتوجيه في البيت والمدرسة والمجتمع.

٧ ـ يزيد الله تعالى المؤمنين هداية وتوفيقا إلى الخير ، بعد هداية أصل التوحيد ومعرفة الله ، وثبوت الضلالة على الكافر بسبب إصغائه لوساوس الشيطان : (إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ) قال ابن جرير الطبري : وهذا من أبين الدلالة على خطأ من زعم أن الله لا يعذب أحدا على معصية ركبها ، أو ضلالة اعتقدها ، إلا أن يأتيها بعد علم منه بصواب وجهها ،

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٤ / ٥٧

١٧٩

فيركبها عنادا منه لربه فيها ؛ لأنه لو كان كذلك ، لم يكن بين فريق الضلالة الذي ضلّ ، وهو يحسب أنه مهتد ، وفريق الهدى فرق ، وقد فرق الله تعالى بين أسمائهما وأحكامهما في هذه الآية (١) ، أي أن العذاب لا يكون فقط على حالة العناد والعلم بالصواب ، بل قد يكون على حالة الجهل والانحراف والخطأ في تبين الصواب.

إباحة الزينة والطيبات من المآكل والمشارب

(يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (٣١) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣٢))

الإعراب :

(فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) : يجوز أن يكون ظرفا للخبر الذي هو (لِلَّذِينَ آمَنُوا) ويجوز أن يكون خبرا.

(خالِصَةً) حال من الضمير الذي في (لِلَّذِينَ) الذي هو الخبر ، وهو العامل في الحال ، والعامل في الحال على الحقيقة هو الفعل المحذوف ، والتقدير : قل هي استقرت للذين آمنوا في حال خلوصها يوم القيامة.

ومن قرأ بالرفع (خالِصَةً) فهي خبر ثاني للمبتدأ وهو (هِيَ) والخبر الأول : لِلَّذِينَ آمَنُوا).

البلاغة :

(عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) المراد بالمسجد هنا الطواف والصلاة ، فهو مجاز مرسل علاقته المحلية ؛ لأنه لما كان المسجد مكان الصلاة أطلق الطواف والصلاة عليه ، من قبيل إطلاق المحل وإرادة الحال.

__________________

(١) تفسير الطبري ٨ / ١٥٩ ، ط البابي الحلبي.

١٨٠