التفسير المنير - ج ٨

الدكتور وهبة الزحيلي

المفردات اللغوية :

(خُذُوا زِينَتَكُمْ) ما يزينكم ويستر عورتكم ، والمراد هنا الثياب الحسنة. (عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) عند الصلاة والطواف ، أطلق مكان السجود وأريد به الصلاة والطواف.

(قُلْ) إنكارا عليهم. (زِينَةَ اللهِ) اللباس. (الطَّيِّباتِ) المستلذات. (هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي مستحقة لهم ، وإن شاركهم فيها غيرهم. (خالِصَةً) خاصة. (نُفَصِّلُ الْآياتِ) نبينها مثل ذلك التفصيل. (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) يتدبرون ، فإنهم المنتفعون بها.

سبب النزول :

روى مسلم عن ابن عباس قال : كانت المرأة تطوف بالبيت في الجاهلية ، وهي عريانة ، وعلى فرجها خرقة ، وهي تقول :

اليوم يبدو بعضه أو كله

وما بدا منه فلا أحلّه

فنزلت : (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) ونزلت : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ) الآيتين.

وفي صحيح مسلم عن عروة قال : كانت العرب تطوف بالبيت عراة إلا الحمس (١) ، ـ والحمس : قريش وما ولدت ـ كانوا يطوفون بالبيت عراة إلا أن تعطيهم الحمس ثيابا ، فيعطي الرجال الرجال ، والنساء النساء ، وكانت الحمس لا يخرجون من المزدلفة ، وكان الناس كلهم يقفون بعرفات.

وفي غير مسلم : ويقولون نحن أهل الحرم ، فلا ينبغي لأحد من العرب أن يطوف إلا في ثيابنا ، ولا يأكل إذا دخل أرضنا إلا من طعامنا. فمن لم يكن له من العرب صديق بمكة يعيره ثوبا ، ولا يسار يستأجره به ، كان بين أحد أمرين : إما أن يطوف بالبيت عريانا ، وإما أن يطوف في ثيابه ؛ فإذا فرغ من طوافه ألقى ثوبه عنه ، فلم يمسّه أحد. وكان ذلك الثوب يسمى اللّقى.

__________________

(١) الحمس : سموا بهذا الاسم ؛ لأنهم تحمسوا في دينهم ، أي تشددوا ، والحماسة : الشجاعة.

١٨١

فكانوا على تلك الجهالة والبدعة والضلالة حتى بعث الله نبيه محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فأنزل الله تعالى : (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ) الآية. وأذّن مؤذّن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألا لا يطوف بالبيت عريان.

قال الكلبي : كان أهل الجاهلية لا يأكلون من الطعام إلا قوتا ، ولا يأكلون دسما في أيام حجهم ، يعظمون بذلك حجهم ، فقال المسلمون : يا رسول الله ، نحن أحق بذلك ، فأنزل الله تعالى : (وَكُلُوا) أي اللحم والدسم (وَاشْرَبُوا).

المناسبة :

بعد أمر الله تعالى عباده بالقسط : العدل والاستقامة في كل الأمور ، طلب إلينا أخذ الزينة في كل مجتمع للعبادة ، صلاة أو طوافا ، وأباح لنا الأكل والشرب من غير إسراف.

قال ابن عباس : إن أهل الجاهلية من قبائل العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة ، الرجال بالنهار ، والنساء بالليل ، وكانوا إذا وصلوا إلى مسجد منى ، طرحوا ثيابهم وأتوا المسجد عراة. وقالوا : لا نطوف في ثياب أصبنا فيها الذنوب.

التفسير والبيان :

يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل عبادة من صلاة أو طواف ، والبسوا ثيابكم حينئذ ، والمراد بالزينة : الثياب الحسنة ، وأقلها ما به تستر العورة. فستر العورة واجب في الصلاة والطواف ، وما بعد العورة يسن ستره ولا يجب. وعورة الرجل كما عرفنا في الآيات السابقة : ما بين السرة والركبة ، وعورة المرأة جميع بدنها ما عدا الوجه والكفين.

١٨٢

واللباس مظهر حضاري رفيع ، والأمر بارتداء الثياب وستر العورة من محاسن الإسلام ، والإسلام هو الذي نقل القبائل العربية وغيرها من الأفارقة من البدائية والتخلف والتوحش إلى المدينة والحضارة.

ويؤيد مدلول الآية في إيجاب الستر ما أخرجه الطبراني والبيهقي عن ابن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا صلى أحدكم فليلبس ثوبيه ، فإن الله عزوجل أحق من تزيّن له ، فإن لم يكن له ثوبان ، فليتّزر إذا صلى ، ولا يشتمل أحدكم في صلاته اشتمال اليهود».

وأخرج الشافعي وأحمد والبخاري عن أبي هريرة أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يصلين أحدكم في الثوب الواحد ، ليس على عاتقه منه شيء».

ثم أباح الله الأكل والشرب من غير إسراف فقال : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا ..) أي كلوا واشربوا من الطيبات المستلذات ، ولا تسرفوا فيها ، بل عليكم بالاعتدال من غير تقتير ولا إسراف ، ولا بخل ولا زيادة إنفاق ، ولا تجاوز الحلال إلى الحرام في المأكل والمشرب ، إن الله لا يحب المسرفين ، في الطعام والشراب ، أي يعاقبهم على الإسراف الذي يؤدي إلى الضرر.

روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كلوا ، واشربوا ، والبسوا ، وتصدقوا من غير مخيلة ولا سرف ، فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده».

وروى النسائي وابن ماجه عن عبد الله بن عمرو أيضا بلفظ : «كلوا وتصدقوا والبسوا في غير إسراف ولا مخيلة».

وروى الإمام أحمد والنسائي والترمذي عن المقدام بن معديكرب قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه ، حسب

١٨٣

ابن آدم أكلات يقمن صلبه ، فإن كان فاعلا لا محالة ، فثلث لطعامه ، وثلث لشرابه ، وثلث لنفسه».

قال بعض السلف : جمع الله الطبّ كله في نصف آية : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا ، وَلا تُسْرِفُوا). يذكر أن الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق فقال لعلي بن الحسين : ليس في كتابكم من علم الطب شيء ، والعلم علمان : علم الأديان وعلم الأبدان ، فقال له علي : قد جمع الله الطب كله في نصف آية من كتابنا. فقال له : ما هي؟ قال : قوله عزوجل : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا) فقال النصراني : ولا يؤثر عن رسولكم شيء من الطب. فقال علي : جمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الطب في ألفاظ يسيرة. قال : ما هي؟ قال : «ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه ، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه» الحديث ، فقال النصراني : ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طبا (١).

وقال البخاري : قال ابن عباس : «كل ما شئت ، والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان : سرف ومخيلة» أي كبر وإعجاب بالنفس.

والإسراف : تجاوز الحد في كل شيء. والله تعالى يحب إحلال ما أحل ، وتحريم ما حرم ، وذلك العدل الذي أمر به ، فلا يصح تجاوز الحد الطبيعي كالجوع والعطش والشّبع والرّي ، ولا المادي بأن تكون النفقة بنسبة معينة من الدّخل لا تستأصله كله ، ولا الشرعي فلا يجوز تناول ما حرم الله من الميتة والدم ولحم الخنزير وما ذبح لغير الله ، والخمر ، إلا للضرورة ، ولا يحل الأكل والشرب في أواني الذهب والفضة ، ولا لبس الحرير الطبيعي أو تشبه الرجال بالنساء أو بالعكس.

وبناء عليه يكون فعل كل من البخلاء والمترفين المسرفين حراما لا يسوغ

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٧ / ١٩٢ ، محاسن التأويل للقاسمي : ٧ / ٢٦٦٤

١٨٤

شرعا ، أخرج ابن ماجه في سننه عن أنس بن مالك عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من السرف أن تأكل كل ما اشتهيت».

وأكد تعالى سنته وشريعته القائمة على الاعتدال ، فرد على من حرم شيئا من المآكل أو المشارب أو الملابس من تلقاء نفسه من غير شرع من الله ، فقال : (قُلْ : مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ ...)؟

أنكر الله تعالى على أولئك الذين حرموا المباحات ، وأمر نبيه أن يقول مستفهما استفهام إنكار من هؤلاء المشركين الذين يحرمون ما يحرمون بآرائهم الفاسدة وابتداعهم : من حرم الزينة والطيبات من الرزق التي خلق الله موادها لعباده ، وعلّمهم بما ألهمهم وأودع في فطرهم كيفية صنعها والانتفاع بها ، فهي مستحقّة مخلوقة لمن آمن بالله وعبده في الحياة الدنيا ، وغيرهم تبع لهم ، فإن أشركهم فيها الكفار فعلا في الدنيا ، فهي للمؤمنين خاصة يوم القيامة ، لا يشركهم فيها أحد من الكفار ؛ فإن الجنة محرمة على الكافرين.

ومثل هذا التفصيل التام لحكم الزينة والطيبات ، نفصل الآيات الدالة على كمال الشرع والدين وصدق النبي وإتمام الشريعة لقوم يعلمون علوم الاجتماع والنفس والطب ومصالح البشر ، فيتدبرون ويتعظون ، لا لقوم يجهلون هذه العلوم والمعارف اللازمة لتقدم الإنسان والحضارة والمدينة والعمران ، فمعنى قوله : (كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ) أي كالذي فصلت لكم الحلال والحرام أفصّل لكم ما تحتاجون إليه.

وكل هذا دليل على أن الإسلام دين الكمال الروحي والعقيدة السليمة ، والسمو الخلقي ، وقوة الجسد والنفس للتغلب على مصاعب الحياة ، وتأدية رسالة الإنسان الذي جعله الله خليفة عنه في الأرض ، وسخر له كل ما في السموات والأرض فقال : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) [البقرة ٢ / ٢٩] وقال : (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) [لقمان ٣١ / ٢٠].

١٨٥

فقه الحياة أو الأحكام :

لم يترك الإسلام أو القرآن شيئا من شؤون الحياة المادية والمعنوية إلا أبانها وأوضح أحكامها ومقاصدها ، فلم يقتصر على وضع أنظمة التشريع للعلاقات الاجتماعية فحسب ، وإنما وضع أنظمة الحياة كلها ، مما يدل على أن القرآن شريعة الحياة.

ومن هذه الأنظمة وجوب ارتداء الملابس والثياب الحسنة وستر العورة ؛ لأنه مظهر حضاري رفيع ، ومنها إباحة المآكل والمشارب وطيبات الرزق من غير تقتير ولا إسراف ، ولا بخل ولا ترف. وهذا دليل على منهج الإسلام في التوسط بالأمور ؛ لأنه دين الوسطية.

ومن ألزم حالات الستر : أثناء الصلاة وعند تجمع الناس للطواف بالبيت الحرام وغيره.

وقد دلت آية (خُذُوا زِينَتَكُمْ) على وجوب ستر العورة. وذهب جمهور العلماء إلى أنه فرض من فروض الصلاة. بل هو ـ كما قال الأبهري ـ فرض في الجملة ، وعلى الإنسان ستر عورته عن أعين الناس في الصلاة وغيرها ، وهو الرأي الصحيح : لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما أخرجه مسلم ـ للمسور بن مخرمة : «ارجع إلى ثوبك ، فخذه ، ولا تمشوا عراة».

ودلّ قوله تعالى : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا) على إباحة الأكل والشرب ، ما لم يكن سرفا أو مخيلة ، أي كبر. قال الجصاص : ظاهر الآية يوجب الأكل والشرب من غير إسراف ، وقد أريد به الإباحة في بعض الأحوال ، والإيجاب في بعضها ، أما الإباحة ففي الحال التي لا يخاف الضرر بتركهما ، وأما الإيجاب ففي الحال التي يخاف لحوق الضرر بترك الأكل والشرب أو الضعف عن أداء الواجبات. وظاهر الآية يقتضي جواز أكل سائر المأكولات وشرب سائر

١٨٦

الأشربة مما لا يحظره دليل ، بعد أن لا يكون مسرفا فيما يأتيه من ذلك ، لأنه أطلق الأكل والشرب على شريطة ألا يكون مسرفا فيهما (١).

فأما ما تدعو الحاجة إليه : وهو ما سد الجوعة ، وسكّن الظمأ ، فمندوب إليه عقلا وشرعا ؛ لما فيه من حفظ النفس والجسد ؛ ولذلك ورد الشرع بالنهي عن الوصال ؛ لأنه يضعف الجسد ، ويميت النفس ، ويضعف عن العبادة ، وهو أمر يمنع منه الشرع ، ويدفعه العقل.

وأما تناول الزائد عن الحاجة فقيل : حرام ، وقيل : مكروه. قال ابن العربي : وهو الأصح ؛ فإنّ قدر الشبع يختلف باختلاف البلدان والأزمان والأسنان والطّعمان (٢).

وقد رغب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تقليل الطعام ، فقال فيما رواه الترمذي عن المقدام بن معديكرب : «ما ملأ آدمي ووعاء شرا من بطن ، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه ، فإن كان لا محالة ، فثلث لطعامه ، وثلث لشرابه ، وثلث لنفسه».

وروى مسلم عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «الكافر يأكل في سبعة أمعاء ، والمؤمن يأكل في معى واحد» المعى : المعدة. والمعنى أن يأكل أكل من له سبعة أمعاء ، والمؤمن بخفة أكله يأكل أكل من ليس له إلا معى واحد ، فيشارك الكافر بجزء من أجزاء أكله ، ويزيد الكافر عليه بسبعة أمثاله ؛ لأن فقد الإيمان يجعله مقبلا على انتهاب اللذات والمتع المادية.

والإسراف بكثرة الأكل والشرب ممنوع شرعا ؛ لأن التخمة بالأكل تربك أعضاء الهضم ، وتذهب الفطنة ، وكثرة الشرب تثقل المعدة ، وتثبط الإنسان عن

__________________

(١) أحكام القرآن : ٣ / ٣٣

(٢) أحكام القرآن : ٢ / ٧٧١

١٨٧

القيام بواجبه الديني والدنيوي ، فإن أدى الإسراف إلى المنع من القيام بالواجب حرم ، وكان في عداد المسرفين الذين يعاقبهم الله تعالى.

ومن الإسراف : تحريم ما لم يحرمه الله على الناس. وقد أنكر الله على من حرّم من تلقاء نفسه من الزينة وهي الملبس الحسن ، ما لم يحرّمه الله على أحد. ودلت آية : (قُلْ : مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ) على مشروعية لباس الرفيع من الثياب ، والتجمّل بها في الجمع والأعياد ، وعند لقاء الناس ومزاورة الإخوان. قال أبو العالية : كان المسلمون إذا تزاوروا تجمّلوا. وفي صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب أنه رأى حلّة سيراء (١) تباع عند باب المسجد ، فقال : يا رسول الله ، لو اشتريتها ليوم الجمعة وللوفود إذا قدموا عليك؟ فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنما يلبس هذا من لا خلاق له في الآخرة» فما أنكر عليه ذكر التجمّل ، وإنما أنكر عليه كونها سيراء.

وروى الترمذي عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده».

وليس لبس الخشن من الثياب سببا في زيادة التقوى ، بالتذرع بقوله تعالى : (وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ) فإن كبار الصالحين كانوا يتجملون بالثياب الجياد للجمعة والعيد ولقاء الإخوان ، ولم يكن تخير الأجود قبيحا عندهم ، وقد اشترى تميم الداري حلّة بألف درهم ، كان يصلي فيها ، وكان مالك بن دينار يلبس الثياب العدنية الجياد. وروى مسلم عن ابن مسعود في النظافة وتحسين الهيئة : «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرّة من كبر ، فقال رجل : إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة ، قال : إن الله جميل يحب الجمال ، الكبر : بطر الحق ، وغمط الناس».

__________________

(١) سيراء : نوع من البرود فيه خطوط صفر ، أو يخالطه حرير.

١٨٨

وطيبات الرزق حلال ، وهي اسم عام لكل ما طاب كسبا وطعما. وهي مستحقة في الأصل للمؤمنين المصدقين بوجود الله ، الموحّدين له ، وغيرهم تبع لهم يستمعون بها في الدنيا مع المؤمنين. أما في الآخرة فهي خاصة بالذين آمنوا ، وليس للمشركين فيها شيء ، كما كان لهم في الدنيا من الاشتراك فيها.

والخلاصة : الإسلام دين الواقع والحياة ، فهو يجمع بين المادة والروح ، ويستهدف الكمال المعنوي بالإيمان والأخلاق ، والكمال المادي بقوة الأجساد التي تكون عونا على أداء العبادات والجهاد في سبيل الله ، فالاستغناء عن الطعام والشراب فيه إضعاف البدن ، ويؤدي إلى التقصير في الواجبات.

وليست المظاهر من لبس الثياب الجميلة مخلّة بالتقوى والتدين ، كما أن التقشف والزهد المبالغ فيه لحرمان النفس من متع الحياة المباحة ليس مرغوبا فيه شرعا.

وإنما المهم إصلاح النفس بالأخلاق ، وعمارة القلب بالإيمان ، وتزكية النفس بالعمل الصالح والجهاد.

ولا يعقل أن يكون دين الله سببا لإضعاف أحد ، أو لتأخر الأمة ، وإنما الضعف أو التخلف ناجم من كسل الناس وتراخيهم وجهلهم ، وتفكك جماعتهم ، وتنافرهم وتباغضهم.

فالإنسان مستخلف عن الله في الأرض ، وهو أمين على ما فيها من خيرات وكنوز ومنافع ، ومسئول عن القيام بواجبه في تقدم الحياة وإصلاح العمران ، والسبق في الحياة بمختلف أنماطها الزراعية والصناعية والاقتصادية والعلمية والثقافية والاجتماعية.

١٨٩

أصول المحرّمات على النّاس

(قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٣))

الإعراب :

(ما ظَهَرَ مِنْها) : (إِنَّما) : في موضع نصب على البدل من (الْفَواحِشَ). (وَأَنْ تُشْرِكُوا) في موضع نصب بالعطف على (الْفَواحِشَ) ، وكذلك قوله : (وَأَنْ تَقُولُوا).

البلاغة :

(ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) يوجد طباق بين (ظَهَرَ) و (بَطَنَ).

(ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) فيه تهكم ؛ لأنه لا يجوز أن ينزل برهانا بأن يشرك به غيره.

المفردات اللغوية :

(الْفَواحِشَ) الأفعال الزائدة في القبح ، التي تنفر منها الفطر السليمة والعقول الراجحة ، وهي الكبائر مثل الزنى والقذف والسّب القبيح والبخل ونحوها. (ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) أي الجهرية والسرية. (وَالْإِثْمَ) المعصية مطلقا ، وهي تشمل الكبائر كما ذكر والصغائر مثل النظر بشهوة لغير الزوجة. (وَالْبَغْيَ) الظلم وتجاوز الحدود في الفساد والحقوق. (سُلْطاناً) حجّة. (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) من تحريم ما لم يحرم وغيره.

المناسبة :

وجه الرّبط بين هذه الآية وما قبلها واضح ، فلما أنكر تعالى على المشركين وغيرهم تحريم ما ليس بحرام كالزينة وطيبات الرّزق ، ذكر هنا أنواع المحرّمات وأصولها وهي خمسة ، جميعها مما يكسبه الإنسان لا من الخلقة والموهبة الفطرية.

١٩٠

قال الكلبي : لما لبس المسلمون الثياب وطافوا بالبيت عيّرهم المشركون ، فنزلت هذه الآية.

التفسير والبيان :

قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين حرّموا ما أحلّ الله من الطّيبات ، واللّباس : إنما حرّم الله خمسة أشياء هي أصول المحرّمات ، وهي ما يأتي :

١ ـ الفواحش الظاهرة والباطنة ـ الجهرية والسرية : وهي الأعمال المفرطة في القبح ، ما ظهر منها وما بطن ، أو هي عبارة عن الكبائر ، لأنه قد تفاحش قبحها ، أي تزايد ، مثل الزنى والسرقة والخروج على الجماعة.

٢ ـ والإثم أي ما يوجب الإثم والذّنب : وهو المعاصي الصغائر ، فكان معنى الآية : أنه حرّم الكبائر والصغائر ، مثل النظر بشهوة لغير الزوجة. وقيل : الإثم : المعصية أو الذّنب مطلقا ، وهو عطف عام على خاص.

٣ ـ والبغي : أي الظّلم وتجاوز الحدّ في الفساد والحقوق ، بالاعتداء على حقوق الناس الآخرين أفرادا وجماعات. وقيد البغي بكونه بغير الحق ، لأن التّجاوز إذا كان لمصلحة عامة أو مع التراضي ، فلا شيء فيه.

٤ ـ والشّرك بالله : وهو أقبح الفواحش ، وهو أن يجعل مع الله إله آخر من صنم أو وثن أو شخص ، لم تقم عليه حجّة من عقل ولا برهان من وحي ، وسميت الحجّة سلطانا ، لأنها ترجح قول الخصم على غيره ، ويكون لها تأثير على عقل السامع وفكره ، وهي مثل قوله تعالى : (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ ، فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ ، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) [المؤمنون ٢٣ / ١١٧].

وفي هذا دلالة على أن البرهان أساس الاستدلال على صحة العقيدة ، وأن الإيمان لا يقبل بغير وحي من الله ، يدعمه الدّليل والبرهان.

١٩١

٥ ـ التّقول على الله بغير علم ولا حجّة : كالافتراء والكذب على الله ، بادّعاء أنّ له ولدا ، أو شريكا من الأوثان : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) [الحج ٢٢ / ٣٠] ، وتحليل الحرام وتحريم الحلال بلا سند ولا حجّة ، وهو القول بالرّأي المحض دون دليل من الشرع ، وهو سبب تحريف الأديان ، والابتداع في الدين الحق ، واتباع الهوى والشيطان ، كما فعل أهل الكتاب : (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ : هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ) [النحل ١٦ / ١١٦] ، وهو منهج أدعياء التجديد ، وتخطي الشريعة باسم الاجتهاد ، كما روى الشيخان : «لتتبعنّ سنن من قبلكم ، شبرا بشبر ، وذراعا بذراع ، حتى لو دخلوا جحر ضبّ لتبعتموهم ، قلنا : يا رسول الله ، اليهود والنصارى؟ قال : فمن؟».

وطريق الاجتهاد معروف في الشريعة : وهو النظر في القرآن والسّنة والإجماع نظرا صحيحا على أصول شرعية ، ثم القياس عليها ، أو الأخذ بالرأي الشامل للاستحسان والاستصلاح ونحوهما ، وهو الرأي المتفق مع روح الشريعة وأصولها ومبادئها العامة.

وقد أثير تساؤل حول هذه الآية ، مضمونه أن كلمة (إِنَّما) تفيد الحصر ، فقوله : (إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ) كذا وكذا يفيد الحصر ، والمحرّمات غير محصورة في هذه الأشياء.

وأجيب : بأن الجنايات محصورة في خمسة أنواع : أحدها ـ الجنايات على الأنساب ، وهي إنما تحصل بالزنى ، وهي المراد بقوله : (إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ). وثانيها ـ الجنايات على العقول ، وهي شرب الخمر ، وإليها الإشارة بقوله : (الْإِثْمَ). وثالثها ـ الجنايات على الأعراض. ورابعها ـ الجنايات على النفوس وعلى الأموال ، وإليهما الإشارة بقوله : (وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِ). وخامسها ـ الجنايات على الأديان ، وهي من وجهين : أحدها ـ الطّعن

١٩٢

في توحيد الله تعالى ، وإليه الإشارة بقوله : (وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ). وثانيها ـ القول في دين الله من غير معرفة ، وإليه الإشارة بقوله : (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) فلما كانت أصول الجنايات هي هذه الأشياء ، وكانت البواقي كالفروع والتوابع ، جعل ذكر هذه المحرمات جاريا مجرى ذكر الكلّ ، فأدخل فيها كلمة : (إِنَّما) المفيدة للحصر (١).

فقه الحياة أو الأحكام :

دلّت هذه الآية كما اتّضح من تفسيرها على تحريم أصول الأعمال المحرّمة ، وهي تشمل الانحراف عن العقيدة (الشرك بالله) ومصادمة الشريعة : (القول في دين الله بغير علم ولا معرفة ، والجنايات على العقول (تحريم الإثم وهو يقع على جميع المعاصي وعلى الخمر أيضا لغة) بدليل قول الشاعر :

شربت الإثم حتى ضلّ عقلي

كذاك الإثم يذهب بالعقول

والإثم كما قال الحسن البصري : الخمر ، وقال الجوهري في الصحاح : وقد يسمى الخمر إثما. والجنايات على الأنساب (الزنى) والجنايات على النفوس والأموال (القتل والسرقة) والأعراض (القذف) وهو الظلم الاجتماعي والفردي المشار إليه بقوله تعالى : (وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِ).

ويظهر من ذلك أن أصول المحرّمات تتناول العقيدة والشريعة والأخلاق أو السلوك والآداب ، سواء ما تعلّق بالخطايا المقتصرة على النفس ، وهو الإثم ، والمتعدية ضررها إلى الناس وهو البغي.

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٤ / ٦٧

١٩٣

أجل كلّ أمّة وفرد

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٣٤))

المفردات اللغوية :

(أَجَلٌ) وقت محدد ، أو مدّة معلومة في علم الله. (ساعَةً) أقل وقت يقضى فيه عمل ما.

المناسبة :

بعد أن بيّن الله تعالى الحلال والحرام وأحوال التّكليف ، فأوضح مباحات الزّينة وطيّبات الرّزق من غير إسراف ، وأعقبه بذكر أصول المحرّمات لما فيها من الضّرر والفساد ، ذكر هنا أنّ لكل فرد أو جماعة أجلا معيّنا لا يتقدّم ولا يتأخّر ، فإذا جاء الأجل مات كل واحد حتما ، وفي أثناء الحياة يعرف مدى اتّباع منهج الله في الحلال والحرام ، والغرض منه التّخويف ، ليتشدد المرء في القيام بالتّكاليف كما يلزم.

التفسير والبيان :

لكلّ أمّة ، أي قرن وجيل ، ولكلّ فرد وشيء في الوجود أيضا أجل معلوم وهو الوقت المحدد لانقضاء المهلة ، وهو يشمل الوقت المحدد للحياة الدّنيا ، ومدّة العزّة والسّعادة ، أو الذّل والشقاوة بين الأمم.

(فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ) أي ميقاتهم المقدّر لهم (لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً) أي أقلّ مدة من الزمن (وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) عنها ، أي لا يتأخّرون عن ذلك الأجل المعيّن ولا يتقدّمون ، لا بساعة ولا بما هو أقل من ساعة ، إلا أنه تعالى ذكر الساعة ، لأن هذا اللفظ أقل أسماء الأوقات.

١٩٤

وفي تعيين المراد بالأجل قولان :

الأول ـ لابن عباس والحسن البصري ومقاتل : وهو أن الله تعالى أمهل كل أمة كذبت رسولها إلى وقت معين ، فإذا جاء وقت عذاب الاستئصال ، نزل ذلك العذاب لا محالة.

والثاني ـ أن المراد بهذا الأجل : العمر ، فإذا انقطع ذلك الأجل وكمل امتنع وقوع التقديم والتأخير فيه.

قال الرازي : والقول الأول أولى ، لأنه تعالى قال : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ) ولم يقل ولكلّ أحد أجل. وعلى القول الثاني : إنما قال : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ) ولم يقل : لكلّ أحد ، لأن الأمّة هي الجماعة في كلّ زمان ، وهي مكوّنة من الأفراد ، وهي متقاربة في الأجل ، لأن ذكر الأمّة فيما يجري مجرى الوعيد أفحم وأبلغ.

وعلى القول الثاني : يلزم أن يكون لكل أحد أجل ، لا يقع فيه التّقديم والتّأخير ، فيكون المقتول ميتا بأجله.

فقه الحياة أو الأحكام :

إن آجال الأمم والجماعات والأفراد مؤقتة محددة بوقت معين ، فإذا جاء أجل الموت ، لم يتأخّر ولم يتقدّم لحظة. وأجل الموت : هو وقت الموت ، وأجل الإنسان : هو الوقت الذي يعلم الله أنه يموت الحي فيه لا محالة ، وهو وقت لا يجوز تأخير موته عنه ، لا من حيث إنه ليس مقدورا تأخيره ، فليس المراد منه أنه تعالى لا يقدر على تبقيته أزيد من ذلك ولا أنقص ، ولا يقدر على أن يميته في ذلك الوقت ، لأن هذا يقتضي خروجه تعالى عن كونه قادرا مختارا.

وفي هذا دليل على أن المقتول إنما يقتل بأجله.

١٩٥

أما الأجل المعنوي فللأمم دورات في التاريخ ، فقد تكون عزيزة سعيدة ، وقد تصبح ذليلة شقية.

وفي المقياس الشرعي : عزّة الأمّة وسعادتها بامتثال الشّرع ، والالتزام بالدّين ، والتّمسك بالأخلاق والفضائل ، وذلك لأجل معين.

وشقاء الأمة بإعراضها عن الدّين ، وابتعادها عن الفضائل والأخلاق ، وانتشار الرّذائل والمنكرات والمفاسد والمظالم في أوساطها ، وذلك يعجل دمارها ، ولها فيه أجل معيّن.

وقد تفضّل الله على الأمم بعد بعثة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرفع عنها عذاب الاستئصال والإبادة الجماعية ، لقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء ٢١ / ١٠٧].

وهذا ينطبق على الأمة الإسلامية وغيرها ، والآية تهديد ووعيد بالعذاب النازل في أجل معلوم عند الله ، لكلّ من يخالف أمر الله ، ويسير في الضلالة على غير هدى ، كأهل مكة ونحوهم من الأمم الباغية.

ما خوطبت به كلّ أمّة على لسان رسولها وإنذار المكذّبين بآيات الله

(يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٥) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٦))

١٩٦

المفردات اللغوية :

(إِمَّا) أدغمت نون : إن الشرطية في ما الزائدة ، أي إن يأتكم. وضمّت «ما» إلى «إن» الشرطية تأكيدا لمعنى الشرط ، ولذلك لزمت فعلها النون الثقيلة. (يَقُصُّونَ) القصص : اتّباع الحديث بعضه بعضا. (آياتِي) أي فرائضي وأحكامي. (فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ) شرط وما بعده جوابه ، وهو جواب الشرط الأول : (إِمَّا). وقوله : (وَأَصْلَحَ) أي وأصلح منكم ما بيني وبينه. وقيل : جواب : (إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ) : ما دلّ عليه الكلام ، أي فأطيعوهم ، فمن اتّقى وأصلح.

المناسبة :

بعد أن بيّن الله تعالى أن لكلّ أحد أجلا معيّنا لا يتقدّم ولا يتأخّر ، بيّن أحوال بني آدم بعد الموت ، إن كانوا مطيعين فلا خوف عليهم ولا حزن ، وإن كانوا متمردين وقعوا في أشدّ العذاب.

التفسير والبيان :

أنذر الله تعالى بني آدم أنه سيبعث إليهم رسلا يقصون عليهم آياته ويخبرونهم بأحكامه وفرائضه ، فقال : يا بني آدم إن أتاكم رسول منكم ومن جنسكم يخبركم بما أوجبته عليكم ، وما وضعته لكم من أنظمة في العبادات والمعاملات والأخلاق ، وما أمرتكم به من صالح الأعمال ، وما نهيتكم عنه من الشّرك وقبائح الأفعال ، فأنتم في أحد حالين ، أحدهما يبشّر والآخر يحذّر :

فمن اتّقى الله وأصلح ما بيني وبينه ، فترك المحرّمات وفعل الطّاعات ، فلا خوف عليه من عذاب الآخرة ، ولا يطرأ عليه حزن حين الجزاء على ما فاته ، أو فلا خوف عليه من أحوال المستقبل ، ولا حزن عليه من أحوال الماضي.

وإنما قال : (مِنْكُمْ) لأن كون الرّسول من جنس المرسل إليهم أقطع لعذرهم ، وأبين للحجّة عليهم ، إذ معرفتهم بأحواله ترشدهم إلى أن المعجزات التي يؤيده الله بها بقدرة الله لا بقدرته ، وأن الجنس يألف جنسه.

١٩٧

والمقصود بقوله (بِآياتِنا) أي القرآن ، ودلائل التوحيد والألوهية ، والأحكام والشرائع ، فهي لفظ عام يدخل فيه كل ما ذكر ، لأن جميع هذه الأشياء آيات الله تعالى ، والرّسل إذا جاؤوا فلا بدّ وأن يذكروا جميع هذه الأقسام.

ومن كذّبت قلوبهم بآيات الله واستكبروا عن قبولها والعمل بها ، ورفضوها كبرا وعنادا للرّسل ، كما حدث من زعماء قريش حين تكبّروا على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأولئك أصحاب النّار ، ماكثون فيها مكثا دائما مخلّدا.

فقه الحياة أو الأحكام :

ينقسم الناس بعد دعوة الرّسل فريقين : فريق المؤمنين الطائعين المصدّقين دعوة الرّسل ، وفريق الجاحدين المتمّردين المكذّبين الدّعوة.

أمّا الفريق الأوّل فيهنأ ويسعد بما يلقى من الجزاء الحسن يوم القيامة. ودلّ قوله تعالى: (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) على أنّ المؤمنين يوم القيامة لا يخافون ولا يحزنون ، ولا يلحقهم رعب ولا فزع من أهوال يوم القيامة ، ولكنهم آمنون مطمئنون.

وأما الفريق الثاني فيجازى جزاء السّوء بالخلود في نار جهنّم. وقد استدلّ أهل السّنة بقوله تعالى : (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) على أن الفاسق من المسلمين أهل الصلاة لا يبقى في النار مخلّدا ، لأنه تعالى بيّن أنّ المكذّبين بآيات الله ، والمستكبرين عن قبولها ، هم الذين يبقون مخلّدين في النّار. وكلمة (هُمْ) تفيد الحصر ، فاقتضى ذلك أن من لا يكون موصوفا بذلك التّكذيب والاستكبار لا يبقى مخلّدا في النّار.

١٩٨

عاقبة الكذب ومشهد دخول الكفار إلى النّار

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (٣٧) قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (٣٨) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٣٩))

الإعراب :

(حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا) : (حَتَّى) ابتدائية يبتدأ بعدها الكلام ، وهو هاهنا الجملة الشرطية. (يَتَوَفَّوْنَهُمْ) حال من الرّسل ، (ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ) في موضع الحال ، أي كائنين في جملة أمم.

(حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً) : (ادَّارَكُوا) : أصله تداركوا على وزن تفاعلوا ، ثم أبدلت التاء دالا ، وأدغمت الدّال في الدّال ، فسكّنت الدّال الأولى ، والابتداء بالسّاكن محال ، فأدخلت ألف الوصل ، لئلا يبتدأ بالساكن.

(جَمِيعاً) : منصوب على الحال من الضمير في (ادَّارَكُوا).

المفردات اللغوية :

(فَمَنْ أَظْلَمُ ...) فمن أشنع ظلما ممن تقوّل على الله ما لم يقله أو كذّب ما قاله ، أي لا أحد

١٩٩

أظلم ممن افترى على الله الكذب ، بنسبة الشريك والولد إليه. (أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) القرآن. (يَنالُهُمْ) يصيبهم. (نَصِيبُهُمْ) حظّهم. (مِنَ الْكِتابِ) مما كتب لهم في اللوح المحفوظ من الرّزق والأجل وغير ذلك. (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا) أي ملائكة الموت ، و (حَتَّى) ليست غاية ، بل هي ابتداء خبر عنهم ، ابتدئ بها الكلام. (قالُوا) لهم تبكيتا. (تَدْعُونَ) تعبدون. (ضَلُّوا عَنَّا) غابوا عنّا ، فلم نرهم. (وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) عند الموت.

(ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ) في جملة أمم سابقة. (فِي النَّارِ) متعلّق بادخلوا. (كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ) النّار. (لَعَنَتْ أُخْتَها) التي قبلها لضلالها بها. (ادَّارَكُوا) تلاحقوا واجتمعوا في النّار. (أُخْراهُمْ) منزلة وهم الأتباع. (لِأُولاهُمْ) منزلة أي لزعمائهم وقادتهم وهم المتبوعون ، ومعنى (لِأُولاهُمْ) : لأجل أولاهم ، لأن خطابهم مع الله ، لا معهم. (عَذاباً ضِعْفاً) مضاعفا على مثله مرّة أو مرّات. (لِكُلٍّ ضِعْفٌ) لكلّ منكم ومنهم عذاب مضاعف ، لأن كلّا من القادة والأتباع كانوا ضالّين مضلّين. (وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) ما لكلّ فريق.

(فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) عطفوا هذا الكلام على قول الله تعالى للسّفلة : (لِكُلٍّ ضِعْفٌ) أي فقد ثبت أن لا فضل لكم علينا ، لأنكم تكفرون بسببنا ، فنحن وأنتم متساوون في استحقاق الضّعف.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى عاقبة المكذّبين بآيات الله ، المستكبرين عن قبولها ، ذكر هنا أن من أشنعهم ظلما وأعظمهم بغيا من يتقوّل على الله ما لم يقله ، أو يكذّب ما قاله ، والأوّل : مثل من يثبت الشّريك لله من أصنام أو كواكب أو بنات وبنين ، أو ينسب الأحكام الباطلة إلى الله تعالى ، والثاني كمن ينكر أن القرآن نزل من عند الله تعالى على رسوله ، أو أنكر نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

التفسير والبيان :

لا أحد أظلم ممن افترى على الله الكذب ، بأن أوجب ما لم يوجبه ، أو حرّم ما لم يحرّمه ، أو نسب إلى دينه حكما لم ينزله ، أو نسب إلى الله ولدا أو شريكا.

أو كذّب بآيات الله المنزلة بأن أنكر القرآن مثل كفار العرب ، أو لم يؤمن بالنّبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو استهزأ بالآيات أو تركها مفضلا عليها غيرها.

٢٠٠