التفسير المنير - ج ٨

الدكتور وهبة الزحيلي

(وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ..) أي ليس هناك ما يمنعكم ، أو أي شيء يمنعكم أن تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه ، والحال أنه قد بين لكم المحرم عليكم في قوله : (قُلْ : لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً ، أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ ، أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) [الأنعام ٦ / ١٤٥] ومعنى الأخير : ما ذكر عليه اسم غير الله كالأصنام والأنبياء والصالحين ، فبقي ما عدا ذلك على الحل.

ثم استثنى الله تعالى حال الضرورة فقال : (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) أي لكن الذي اضطررتم إلى أكله مما هو محرم عليكم ، فإنه يباح لكم ما وجدتم حال الضرورة. ومن هذه الآية وأمثالها أخذت القاعدة الشرعية : «الضرورات تبيح المحظورات» وقاعدة : «الضرورة تقدر بقدرها».

ثم بيّن الله تعالى جهالة المشركين في آرائهم الفاسدة من استحلاهم الميتات وما ذكر عليه غير اسم الله تعالى ، فقال : (وَإِنَّ كَثِيراً ...) أي إن كثيرا من الكفار ليضلون الناس بتحريم الحلال ، وتحليل الحرام ، بأهوائهم وشهواتهم الباطلة ، وبغير علم أصلا ، إنما هو محض الهوى ، والله أعلم باعتدائهم وكذبهم وافترائهم ، وسيجازيهم على هذا الاعتداء والتجاوز ، ولا محالة ، مثل عمرو بن لحيّ وقومه الذين اتخذوا البحائر والسوائب ، وأحلوا أكل الميتة ، وما أهل به لغير الله بذكر اسم نبي أو وثن أو صنم.

ثم أمر تعالى بترك جميع الآثام والمعاصي ، فقال : (وَذَرُوا ظاهِرَ ...) أي اتركوا جميع المعاصي والمحرمات ما أعلنتم وما أسررتم ، قليله وكثيره ، سواء ما تعلق بأفعال الجوارح والأعضاء كالزنى مع البغايا وأفعال القلوب كالحقد والحسد والكبر والمكيدة ، والزنى مع الخليلة والصديقة والأخدان ، ومن المعاصي تجاوز المضطر حدّ الضرورة المبين في قوله تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ ، فَإِنَّ رَبَّكَ

٢١

غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الأنعام ٦ / ١٤٥] وقوله : (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ ، فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [المائدة ٥ / ٣].

والإثم لغة : ما قبح ، وشرعا : ما حرمه الله ، ولم يحرم الله شيئا إلا لضرره. والصحيح ـ كما قال ابن كثير ـ أن الآية عامة في ذلك كله ، وهو ما ذكر ، وهي كقوله تعالى : (قُلْ : إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) [الأعراف ٧ / ٣٣] ولهذا قال : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ) أي سواء كان ظاهرا أو خفيا ، فإن الله سيجزيهم عليه ، أي أنه لا بد من أنه سيجازي مرتكب المعاصي على عصيانهم إذا ماتوا ولم يتوبوا. وجاء تعريف الإثم في حديث النواس بمن سمعان فيما أخرجه أحمد والدارمي بإسناد حسن : «الإثم : ما حاك في النفس وتردد في الصدر» وفي رواية مسلم : «الإثم : ما حاك في نفسك ، وكرهت أن يطلع عليه الناس».

أما من تاب توبة صحيحة صادقة ، وندم على ما فرط ، فإن الله يغفر له ما بدر منه من الذنوب ؛ لقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء ٤ / ١١٦] وكذلك فعل الحسنة عقب السيئة يمحوها ، لقوله تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) [هود ١١ / ١١٤]. وورد في حديث أبي ذر جندب بن جنادة ومعاذ بن جبل فيما أخرجه الترمذي : «واتبع السيئة الحسنة تمحها».

ثم صرح الله تعالى بالنهي عن ضد ما فهم من الأمر السابق ، وهو قوله : (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) فقال : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ ..) أي ولا تأكلوا أيها المؤمنون مما مات ولم يذبح ولم يذكر اسم الله عليه ، ولا ما ذبح لغير الله وهو ما كان يذبحه المشركون لأوثانهم ، والذبح لغير الله والأكل من المذبوح فسق ومعصية ، قال عطاء في قوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ

٢٢

اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) : ينهى عن ذبائح كانت تذبحها قريش للأوثان ، وينهى عن ذبائح المجوس.

والمتبادر من المقام تخصيص ما لم يذكر اسم الله عليه بالحيوان ، فيكون ذلك نهيا عن الأكل من الحيوان الذي لم يذكر اسم الله عليه ، فتحرم الميتة وما ذكر عليه اسم غير الله.

ثم ردّ الله تعالى على مجادلات المشركين في إباحة الميتات فقال : (وَإِنَّ الشَّياطِينَ ...) أي إن شياطين الإنس والجن ليوسوسون إلى أوليائهم وأعوانهم من المشركين ليجادلوا محمدا وصحبه في أكل الميتة ، كما تقدم ، وإن أطعتموهم فيما يزعمون من استحلال الميتة ، إنكم لمشركون مثلهم ؛ لأنكم عدلتم عن أمر الله لكم وشرعه إلى قول غيره ، فقدمتم عليه غيره ، وهذا هو الشرك ؛ كقوله تعالى : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) [التوبة ٩ / ٣١] وقد روى الترمذي في تفسيرها عن عدي بن حاتم أنه قال : يا رسول الله ، ما عبدوهم؟ فقال : «بلى ، إنهم أحلوا لهم الحرام ، وحرموا عليهم الحلال ، فاتبعوهم ، فذلك عبادتهم إياهم».

قال الزجاج : وفيه دليل على أن كل من أحلّ شيئا مما حرم الله تعالى ، أو حرم شيئا مما أحل الله تعالى ، فهو مشرك ؛ لأنه أثبت مشرّعا سوى الله ، وهذا هو الشرك بعينه.

وقوله : (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ ...) على تقدير القسم ، وحذف اللام الموطئة للقسم ، أي ولئن أطعتموهم إنكم لمشركون ، فيكون جواب القسم أغنى عن جواب الشرط.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلّت الآيات على ما يلي :

٢٣

١ ـ إباحة ما ذبحه المسلم وذكر اسم الله عليه.

٢ ـ الأمر بذكر اسم الله على الشراب والذبح وكل مطعوم.

٣ ـ إن الإيمان بأحكام الله والأخذ بها يتضمن ويقتضي الأخذ بها والانقياد لها.

٤ ـ عدم إباحة ما لم يذكر اسم الله عليه كالميتات وما ذبح على النصب (الحجارة حول الكعبة) وغيرها.

٥ ـ إباحة المحرّمات حال الضرورة الشرعية بقدر ما تقتضيه الضرورة.

٦ ـ عدم الالتفات لآراء المشركين الزائفة من استحلالهم الميتات وما ذكر عليه غير اسم الله تعالى.

٧ ـ تحريم ارتكاب جميع المعاصي ، سواء في السرّ أو في العلن ، وسواء أفعال الجوارح كاليد والرجل ، وأفعال القلوب كالحسد والحقد.

٨ ـ الجزاء أمر محتم واقع يوم القيامة على كل معصية ، والعصاة معذبون يجازيهم الله تعالى لا محالة.

٩ ـ كل من استحل حراما أو حرم حلالا ، واتبع غير أحكام الله في شرعه ودينه ، فهو كافر ومشرك ؛ لأنه أشرك بالله غيره ، وأثبت مشرّعا سوى الله ، بل آثر حكمه على حكم الله.

أما ما يذبح عند استقبال الحاكم أو الحاج فهو في رأي الحنفية حرام أكله ، لأنه مما أهلّ به لغير الله. ورأى بعض الشافعية أن المقصود من الذبح الاستبشار بقدومه ، فهو كذبح العقيقة لولادة المولود ، وهذا لا يوجب التحريم ، وهذا هو المعقول.

٢٤

لكن لو كان الذبح بين رجلي القادم أو مرّ عليه من فوقه ، فلا يؤكل ؛ لأنه ذبح أهل لغير الله به ، أي ذكر اسم غير الله عليه.

١٠ ـ استدل بعض العلماء بقوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) على أن الذبيحة لا تحل إذا لم يذكر اسم الله عليها ، وإن كان الذابح مسلما. وهذه مسألة متروك التسمية عمدا أو سهوا ، وقد اختلف فيها العلماء :

أ ـ فقال داود الظاهري : لا تؤكل ذبيحة المسلم إن تعمد ترك التسمية أو نسي التسمية ، لظاهر هذه الآية الكريمة.

ب ـ وقال الشافعية : متروك التسمية حلال مطلقا ؛ لقوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ) إلى قوله : (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) [المائدة ٥ / ٣] فأباح المذكى ولم يذكر التسمية ، وليست التسمية جزءا من مفهوم الذكاة ، فإن الذكاة لغة : الشق والفتح ، وقد وجدا ، واستدلوا أيضا بحديث البخاري وأبي داود والنسائي وابن ماجه عن عائشة رضي‌الله‌عنها قالت : إنهم قالوا : يا رسول الله ، إن قومنا حديثو عهد بالجاهلية ، يأتون بلحمان ، لا ندري اذكروا اسم الله عليها أم لم يذكروا ، فنأكل منها؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سموا وكلوا» : وروى أبو داود حديثا مرسلا عن الصلت السدوسي : «ذبيحة المسلم حلال ، ذكر اسم الله ، أو لم يذكر».

وروى الدارقطني عن البراء بن عازب : «اسم الله على قلب كل مؤمن ، سمّى أو لم يسمّ».

لكن التسمية سنة مستحبة عند أكل كل طعام وشراب.

والمراد من الآية : ما ذبح للأصنام ؛ لأن من أكل متروك التسمية ليس بفاسق ، وقد قال الله : (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) ولأن الله تعالى وصف من أكل ذبيحة الأصنام ورضي بها بالشرك ، ولأن قوله : (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) مخصوص بما أهل به لغير الله ، بدليل آية أخرى : (أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) [الأنعام ٦ / ١٤٥].

٢٥

ج ـ وذهب الجمهور (أبو حنيفة ومالك وأحمد) إلى أن متروك التسمية عمدا حرام لا يؤكل وهو ميتة ، ويحل أكل متروك التسمية سهوا ، أو كان الذابح المسلم أخرس أو مستكرها.

وأضاف الحنابلة : من ترك التسمية على الصيد ولو سهوا ، لم يؤكل ، أي أن التسمية على الذبيحة تسقط بالسهو ، وعلى الصيد لا تسقط.

ودليل الجمهور : قوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ ، وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث الصحيح : «ما أنهر الدم ، وذكر اسم الله عليه فكل» وروي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «تسمية الله في قلب كل مسلم» والناسي ليس بتارك للتسمية ، بل هي في قلبه ، فيكون متروك التسمية عمدا حراما ، ومتروك التسمية سهوا ليس مما لم يذكر اسم الله عليه ، ولم يلحق العامد بالناسي لأنه بترك التسمية عمدا كأنه نفى ما في قلبه.

مثل المؤمن المهتدي والكافر الضال

(أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٢) وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (١٢٣))

الإعراب :

(أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً) فيه مضاف محذوف تقديره : أو مثل من كان ميتا ، بدليل : (كَمَنْ

٢٦

مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ). و (مَنْ) اسم موصول مبتدأ ، والكاف في (كَمَنْ) خبره ، واسم كان ضمير يعود إلى (مَنْ) و (مَيْتاً) خبرها ، والجملة من الفعل واسمه وخبره صلة (مَنْ).

(لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) في موضع نصب على الحال من الضمير المرفوع في قوله : (فِي الظُّلُماتِ).

(مُجْرِمِيها) مفعول أول لجعلنا ، و (أَكابِرَ) مفعول ثان مقدم. (لِيَمْكُرُوا) اللام : لام كي.

البلاغة :

(أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ نُوراً ... فِي الظُّلُماتِ) الموت والحياة ، والنور والظلمات: استعارة ، فقد استعار الموت للكفر ، والحياة للإيمان ، والنور للهدى ، والظلمات للضلال.

المفردات اللغوية :

(أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً) بالكفر. (فَأَحْيَيْناهُ) بالهدى. (وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) يتبصر به الحق من غيره وهو الإيمان. (كَمَنْ مَثَلُهُ) مثل : زائدة أي كمن هو ، والمثل : الصفة والنعت. (فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) وهو الكافر. (كَذلِكَ) زين للمؤمنين الإيمان كما (زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) من الكفر والمعاصي.

(وَكَذلِكَ) كما جعلنا فساق مكة أكابرها. (جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها) الأكابر : الرؤساء ، جمع كبير أو أكبر ، والمجرمون : مرتكبو الاجرام ، والاجرام : هو الإفساد والإضرار من الأفعال والأقوال ، والقرية : البلد الذي يجمع فيه الناس ، وقد تطلق على الشعب أو الأمة. (لِيَمْكُرُوا فِيها) بالصدّ عن الإيمان. (وَما يَمْكُرُونَ) المكر : التدبير الخفي لصرف الغير عما يريده بحيلة أو خديعة أو تدليس قولي. (إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ) لأن وباله عليهم.

سبب النزول :

نزول الآية (١٢٢):

(أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً) : أخرج أبو الشيخ ابن حيان الأنصاري عن ابن عباس في قوله: (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) قال : نزلت في عمر وأبي جهل. وأخرج ابن جرير الطبري عن الضحاك مثله ، وذكر أبو بكر

٢٧

لحارثي عن زيد بن أسلم مثله : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً) قال : عمر بن الخطاب (كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ) قال : أبو جهل بن هشام.

وذكر الواحدي النيسابوري عن ابن عباس قال : قوله تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً) يريد حمزة بن عبد المطلب وأبا جهل ، وذلك أن أبا جهل رمى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بفرث ، وحمزة لم يؤمن بعد ، فأخبر حمزة بما فعل أبو جهل وهو راجع من قنصه وبيده قوس ، فأقبل غضبان حتى علا أبا جهل بالقوس وهو يتضرع إليه ويقول : يا أبا يعلى ، أما ترى ما جاء به ، سفّه عقولنا ، وسبّ آلهتنا ، وخالف آباءنا؟ قال حمزة : ومن أسفه منكم؟ تعبدون الحجارة من دون الله ، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، فأنزل الله تعالى هذه الآية (١).

اتفقت الروايات على أن الكافر الضال هو أبو جهل ، وأما المؤمن المهتدي فقيل : حمزة ، وقيل : عمر رضي‌الله‌عنهما ، والصحيح كما قال ابن كثير والقرطبي : أن الآية عامة يدخل فيها كل مؤمن وكافر (٢).

المناسبة :

ذكر الله تعالى في الآية السابقة أن أكثر أهل الأرض ضالون متبعون للظنون الزائفة والتخمينات ، وأن المشركين يجادلون المؤمنين في دين الله ، ثم ذكر هنا مثلا يوضح حال المؤمن المهتدي وحال الكافر الضال ، فأبان أن المؤمن المهتدي بمنزلة من كان ميتا ، فجعل حيا بعد ذلك ، وأعطي نورا يهتدي به في مصالحه ، وأن الكافر بمنزلة من هو في ظلمات منغمس فيها ، لا خلاص له منها ، فيكون متحيرا على الدوام.

__________________

(١) أسباب النزول : ١٢٨

(٢) تفسير ابن كثير : ٢ / ١٧٢ ، تفسير القرطبي : ٧ / ٧٨

٢٨

التفسير والبيان :

هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن الذي كان ميتا ، أي في الضلالة ، هالكا حائرا ، فأحياه الله ، أي أحيا قلبه بالإيمان وهداه له ، ومثل ضربه الله للكافر المنغمس في الظلمات أي الجهالات والأهواء والضلالات.

هذه مقارنة أو موازنة بين أهل الإيمان وأهل الكفر ، أفمن كان ميتا بالكفر والجهل ، فأحييناه بالإيمان ، وجعلنا له نورا يضيء له طريقه بين الناس ، وهو نور القرآن المؤيد بالحجة والبرهان؟ وهو أيضا نور الهدى والإيمان؟

كمن مثله مثل السائر في الظلمات : ظلمة الليل ، وظلمة السحاب ، وظلمة المطر ، وهو ليس بخارج منها ، أي لا يهتدي إلى منفذ ولا مخلص مما هو فيه.

وفي المقارنة بين المؤمن والكافر وردت آيات كثيرة ، منها : (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى ، أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الملك ٦٧ / ٢٢]. ومنها : (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ ، وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ ، هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً ، أَفَلا تَذَكَّرُونَ) [هود ١١ / ٢٤] ومنها : (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ ، وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ ، وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ ، وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ ، إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ ، وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ، إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ) [فاطر ٣٥ / ١٩ ـ ٢٣].

وإذا كان الاهتداء إلى الإيمان والانغماس في ظلمات الكفر والضلال بسبب من الإنسان واختيار منه ، فإن الله تعالى يزيد المؤمنين توفيقا إلى الخير ، ويترك الكافرين سائرين في متاهات الكفر ، لذا ختم الله الآية بقوله : (كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي كما زين الإيمان للمؤمنين ، زين للكافرين الكفر والمعاصي ، أي حسّن لكل فريق عمله ، فحسّن الإيمان في أنظار المؤمنين ، وحسّن الكفر والجهالة والضلالة في أعين الكافرين ، كعداوة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذبح القرابين

٢٩

لغير الله ، وتحريم ما لم يحرمه الله ، وتحليل ما حرمه.

وقال ابن كثير : حسّن لهم ما كانوا فيه من الجهالة والضلالة ، قدرا من الله وحكمة بالغة ، لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأورد حديثا في المقارنة المتقدمة بين المؤمن والكافر ، رواه الإمام أحمد في مسنده عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن الله خلق خلقه في ظلمة ، ثم رشّ عليهم من نوره ، فمن أصابه ذلك النور ، اهتدى ، ومن أخطأه ضلّ» (١).

ثم أورد الله تعالى ما يدلّ على سنته الثابتة في البشر ، فقال : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ ..) أي وكما أن أعمال أهل مكة مزينة لهم ، وجعلهم الله أكابرها مع أنهم فسّاقها ، كذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها رؤساءها ودعاتها إلى الكفر والصدّ عن سبيل الله ، ليمكروا فيها بالصدّ عن سبيل الله ؛ لأنهم أقدر على المكر والخداع وترويج الباطل بين الناس بحكم نفوذهم وسيادتهم وسيطرتهم.

وهكذا سنة الله في المجتمعات البشرية ، يثور النزاع بين الحق والباطل ، ويشتد الصراع بين الإيمان والكفر ، ولكل اتجاه أعوانه وأنصاره ، وسادته وكبراؤه ، والأنبياء وأتباعهم من المصلحين يوجدون في هذا الوسط المتصارع ، فيتبعهم الضعفاء ، ويكفر بهم الأشراف ، وينصرهم الأوساط ، ويقاوم دعوتهم الأكابر المجرمون الذي يعادون حركة الإصلاح والتقدم ، والبناء والتحضر ، في كل بيئة ومجتمع.

ولكن العاقبة والنصر للمتقين المصلحين ، والهزيمة أو الانقراض والخذلان للكافرين المفسدين ، وما يمكر هؤلاء الأكابر المجرمون المعادون للرسل إلا بأنفسهم ؛ لأن وبال مكرهم عليهم ، وعاقبة إفسادهم تلحق بهم ، لكنهم عديمو النظر للمستقبل والواقع ، والاعتبار بالماضي ، وعديمو الشعور والإحساس ،

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٢ / ١٧٢

٣٠

وما يشعرون شعورا صادقا صحيحا بمدى أعمالهم.

وهذا مؤيد للقاعدة الاجتماعية الشهيرة وهي تنازع البقاء ، وبقاء الأصلح ، كما قال تعالى : (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً ، وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) [الرعد ١٣ / ١٧].

وقد ساد هذا وصار سنة متبعة أيضا في الماضين الأولين ، فقال تعالى : (وَمَكَرُوا مَكْراً ، وَمَكَرْنا مَكْراً ، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ) [النمل ٢٧ / ٥٠ ـ ٥١] أي أن الذين مكروا حفاظا على نفوذهم ومراكزهم ، لم يشعروا بأن عاقبة مكرهم تحقيق بهم ، لجهلهم بسنن الله في خلقه : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) [فاطر ٣٥ / ٤٣].

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيتان على ما يأتي :

١ ـ المؤمن المهتدي كمن كان ميتا فأحياه الله ، فهو الذي ينعم بحق بالحياة الصحيحة السوية المتكاملة المطمئنة ؛ لأنه على بصيرة تامة بواقعة وعمله وسيرته ، وعلى معرفة دقيقة بدينه وما ينتظره من مستقبل حافل بالآمال العذبة ، والخيرات المغدقة ، والنعيم الخالد.

والكافر الضال يعيش في الواقع في ظلمات بعضها فوق بعض ، ظلمة الكفر ، وظلمة المنهج والطريق ، وظلمة المستقبل الغامض ، المحفّل بشتى ألوان العذاب والضيق والحيرة والقلق والاضطراب.

٢ ـ سنة الله في الاجتماع البشري أن يكون النفوذ والسيطرة لأكابر المجرمين ، وقادة الفسق والعصيان ، وأهل الانحراف الذين يعادون الرسل ، ويقاومون حركة الإصلاح في كل زمان.

٣١

ولكن العاقبة والفوز والفلاح في النهاية لأهل الحق والإيمان والاستقامة ، والخسارة والدمار ووبال المكر لأهل الكفر والضلال. وهذا من الله عزوجل وهو الجزاء على مكر الماكرين بالعذاب الأليم ، والحال أنهم لا يشعرون الآن ، لفرط جهلهم أن وبال مكرهم عائد إليهم.

وقد أثار المفسرون بمناسبة قوله تعالى : (كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) مسألة الجبر والقدر ، فقال أهل السنة : ذلك المزين هو الله تعالى ؛ لأن كل فعل يتوقف على باعث له كائن بخلق الله تعالى ، والباعث أو الداعي له : عبارة عن علم أو اعتقاد أو ظن بأن الفعل مشتمل على نفع وصلاح ، وهذا الباعث هو التزيين ، فإذا كان موجد هذا الباعث أو الداعي هو الله تعالى ، كان المزين لا محالة هو الله تعالى كما قال : (زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ) [النمل ٢٧ / ٤].

وقالت المعتزلة : ذلك المزين هو الشيطان ، الذي أقسم : لأغوينهم أجمعين. وهذا الرأي غريب وضعيف ؛ لأن الله تعالى صرح بأنه هو المزين ، ولا مزين آخر سواه (١).

تعنت المشركين ومطالبتهم بالنبوة

(وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (١٢٤))

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٣ / ١٧١

٣٢

الإعراب :

(اللهُ أَعْلَمُ) جملة من مبتدأ وخبر ، وهو كلام مستأنف للإنكار عليهم ، والإخبار بألا يصطفي للنبوة إلا من علم أنه يصلح لها ، وهو أعلم بالمكان الذي يضعها فيه منهم.

(صَغارٌ) فاعل مرفوع لفعل : يصيب.

المفردات اللغوية :

(وَإِذا جاءَتْهُمْ) أي أهل مكة. (آيَةٌ) أمارة وحجة ودليل قاطع على صدق النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ) من الرسالة والوحي إلينا ، لأننا أكثر مالا وأكبر سنا. (حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) مفعول به لفعل دلّ عليه أعلم ، أي يعلم الموضع الصالح لوضعها فيه ، فيضعها ، وهؤلاء ليسوا أهلا لها. (أَجْرَمُوا) ارتكبوا جرما بقولهم ذلك. (صَغارٌ) ذل وهوان ، بسبب الكفر والطغيان. (وَعَذابٌ شَدِيدٌ) في الدارين من الأسر والقتل ، وعذاب النار.

سبب النزول :

نزلت هذه الآية في الوليد بن المغيرة قال : لو كانت النبوة حقا ، لكنت أولى بها من محمد ؛ لأني أكبر منه سنا ، وأكثر منه مالا وولدا (١).

المناسبة :

بعد أن أبان الله تعالى سنته في البشر بأن يكون في كل بلد أو جماعة زعماء مجرمون يقاومون دعوة الرسل والإصلاح ، أوضح أن هذه السنة موجودة في زعماء مكة الذين دفعهم المكر والحسد إلى أنه متى ظهرت لهم معجزة قاهرة تدل على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا : لن نؤمن حتى يحصل لنا مثل هذا المنصب من عند الله.

التفسير والبيان :

إذا جاءتهم ، أي المشركين ، آية وبرهان وحجة قاطعة من القرآن تتضمن

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٧ / ٨٠

٣٣

صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تبليغه وحي ربه ، قالوا حسدا منهم وتعنتا وغرورا وظنا منهم أن النبوة منصب دنيوي : لن نؤمن حتى يكون لنا مثل محمد منصب عند الله ، وتظهر على أيدينا آية كونية أو معجزة مثلما أوتي رسل الله كفلق البحر لموسى ، وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى لعيسى ؛ لأنهم أكثر مالا وأولادا وأعز جانبا ورفعة بين الناس.

وقال ابن كثير : حتى تأتينا الملائكة من الله بالرسالة ، كما تأتي إلى الرسل ، كقوله جلّ وعلا : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا : لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا) [الفرقان ٢٥ / ٢١].

وهكذا يظهر أن مشركي مكة أكابر قريش طمحوا أن تكون النبوة في بعضهم ، كما حكى تعالى عنهم : (وَقالُوا : لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) [الزخرف ٤٣ / ٣٢] والقريتان : مكة والطائف. وفي آية أخرى : (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً) [المدثر ٧٤ / ٥٢].

فردّ الله عليهم بقوله : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) أي هو أعلم حيث يضع رسالته ومن يصلح لها من خلقه. فالرسالة منصب ديني له مقومات خاصة ، وفضل من الله يمنحه من يشاء من عباده ، لا ينالها أحد بكسب أو جهد ، أو بسبب أو نسب ، أو بخصائص دنيوية عادية كالمال والولد والزعامة والنفوذ ، وإنما تؤتى من هو أهل لها لسلامة فطرته ، وطهارة قلبه وقوة روحه ، وحسن سيرته ، وحبه الخير والحق.

ثم أوعد الله المتخلفين عن الإيمان بدعوة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ ...) أي سيلحق المجرمين يوم القيامة ذل وهوان دائمان ، ويدركهم العذاب المؤلم الشديد ، جزاء بما كانوا يمكرون ، وعقوبة لتكبرهم عن

٣٤

اتباع الرسل ، والانقياد لهم فيما جاؤوا به ، كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي ، سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) [غافر ٤٠ / ٦٠] أي صاغرين ذليلين حقيرين.

ولما كان المكر غالبا إنما يكون خفيا وهو التلطف في التحيل والخديعة ، قوبلوا بالعذاب الشديد من الله يوم القيامة جزاء وفاقا : (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) [الكهف ١٨ / ٤٩].

ومعنى كون العذاب من عند الله : أنه مما اقتضاه حكمه وعدله وسبق به تقديره ، كما قال تعالى : (كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ، فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ. فَأَذاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) [الزمر ٣٩ / ٢٥ ـ ٢٦].

فقه الحياة أو الأحكام :

النبوة أو الرسالة تمنح لمن هو مأمون عليها وموضع لها ، وأقدر على تحمل أعبائها ، وليست هي مثل مناصب الدنيا التي تعتمد على النفوذ والسلطة أو المال والجاه ، أو النسب ، أو كثرة الأعوان والأولاد.

وما على الناس إلا الإيمان بما جاء به الأنبياء ؛ لأن نبوتهم تثبت بدليل قاطع ، وبمعجزة خارقة للعادة.

فإن لم يؤمنوا أصابهم أمران : صغار وذل وهوان ، وعذاب الله الشديد في الآخرة ، بسبب إجرامهم ومكرهم ، وحسدهم وحقدهم ، وهذا حق وعدل ، تمييزا بين الطائعين وبين العصاة ، وإنما قدم الصغار على ذكر الضرر ، لأن القوم إنما تمردوا على طاعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم طلبا للعز والكرامة ، فقابلهم الله بضد مطلوبهم.

والمشهور في تفسير الآية أن زعماء مكة أرادوا أن تحصل لهم النبوة والرسالة ،

٣٥

كما حصلت لمحمد عليه الصلاة والسلام ، وأن يكونوا متبوعين لا تابعين.

ولكن الله تعالى أبان لهم أنهم غير أهل للنبوة ، وأنهم أيضا سيتعرضون للهوان والذل ، والإلقاء في جهنم ، وهذا عقاب المعرضين عن اتباع الأنبياء ، استكبارا وعتوا وعلوا في الأرض.

سنّة الله في المستعدّين للإيمان وغير المستعدّين

وجزاء الفريقين بعد بيان الحق ومنهجه

(فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (١٢٥) وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٧) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٢٨))

الإعراب :

(ضَيِّقاً) مفعول ثان ل (يَجْعَلْ). (حَرَجاً) من قرأ بفتح الرّاء جعله مصدرا ، ومن قرأ بكسرها جعله اسم فاعل ، وهو صفة منصوب لقوله (ضَيِّقاً). (كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) في موضع الحال من الضمير في حرج وضيق.

٣٦

(مُسْتَقِيماً) منصوب على الحال المؤكّدة من : (صِراطُ) ، وإنّما كانت مؤكّدة ؛ لأن صراط الله تعالى لا يكون مستقيما.

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَوْمَ) : منصوب بفعل مقدر ، تقديره : واذكر يوم نحشرهم.

و (جَمِيعاً) : منصوب على الحال من الهاء والميم في نحشرهم.

(النَّارُ مَثْواكُمْ) يجوز أن يكون المثوى مصدرا بمعنى الثواء وهو الإقامة ، ويجوز أن يكون مكانا أي مكانا للإقامة ، فإذا كان مصدرا كان هو العامل في الحال : (خالِدِينَ فِيها) ، وإذا كان مكانا كان العامل في الحال معنى الإضافة ؛ لأن معناه المضامّة والمماسّة ، مثل قوله تعالى : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً) [الحجر ١٥ / ٤٧] ، وقوله تعالى : (أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ) [الحجر ١٥ / ٦٦] وليس في التّنزيل حال عمل فيها الإضافة إلا هذه المواضع الثلاثة. (إِلَّا ما شاءَ اللهُ ما) : في موضع النصب على الاستثناء المنقطع ، فإن جعلت (ما) لمن يعقل لم يكن منقطعا.

البلاغة :

(قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ) فيه إيجاز بالحذف أي أفرطتم في إضلال وإغواء الإنس. ومثله (اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ) أي استمتع بعض الإنس ببعض الجنّ ، وبعض الجنّ ببعض الإنس.

(النَّارُ مَثْواكُمْ) تعريف الكلمتين لإفادة الحصر.

المفردات اللغوية :

(يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) يوسّعه لقبول الإيمان والخير ، أو يقذف في قلبه نورا ، فينفسخ له ويقبله ، كما ورد في حديث ، والمراد جعل النفس مهيأة لقبول الحقّ فيها. (ضَيِّقاً) ضدّ الواسع. (حَرَجاً) بفتح الرّاء وكسرها : شديد الضيق ، من الحرجة : وهي الشّجر الكثير الملتف بحيث يصعب الدّخول فيه. (يَصَّعَّدُ) أو يصّاعد أي يتصاعد في السماء ، ويسبح في الفضاء ، وكأنّما يزاول أمرا غير ممكن إذا كلف الإيمان ، لشدّته عليه. (كَذلِكَ) الجعل. (يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ) أي يسلط الله العذاب أو الشيطان ، وأصل الرّجس : كل ما يستقذر حسّا أو شرعا أو عقلا. (وَهذا) منهج محمد ودينه. (صِراطُ رَبِّكَ) أي طريقه الذي ارتضاه لخلقه. (مُسْتَقِيماً) لا اعوجاج فيه ولا زيغ. (قَدْ فَصَّلْنَا) بيّنا. (لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) أي يتّعظون ، وخصّوا بالذّكر ؛ لأنهم المنتفعون.

(لَهُمْ دارُ السَّلامِ) أي دار السّلامة ، وهي الجنّة. (وَلِيُّهُمْ) متولّي أمورهم وكافيهم ما يهمّهم. (يا مَعْشَرَ) المعشر : القوم والرّهط وهو الجمع من الرجال فحسب. (قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ

٣٧

الْإِنْسِ اسْتَكْثَرْتُمْ) أخذتم الكثير بإغوائكم. (وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ) الذين أطاعوهم في وسوستهم. (اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ) أي انتفع الإنس بتزيين الجنّ لهم الشّهوات ، والجنّ بطاعة الإنس لهم. (وَبَلَغْنا أَجَلَنَا) وصلنا يوم البعث والجزاء أو الموت. (خالِدِينَ فِيها) الخلود : المكث الطويل غير المحدد بوقت.

(النَّارُ مَثْواكُمْ) مأواكم. (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) من الأوقات التي يخرجون فيها لشرب الحميم ، فإنه خارجها ، كما قال تعالى : (ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ) [الصافات ٣٧ / ٦٨] أو ينقلون من عذاب النار إلى عذاب الزّمهرير. (حَكِيمٌ) في صنعه. (عَلِيمٌ) بخلقه.

المناسبة :

هذه الآيات استمرار في مناقشة مواقف تعنّت المشركين والرّدّ عليهم وتفنيد حججهم وشبهاتهم ، وهي الآن تحسم الأمر ، فتوضح أنهم ليسوا أهلا للإيمان ، وغير مستعدّين لقبوله ، كما أوضح في الآية السابقة أنهم غير أهل للنّبوة. وعلى كلّ حال : طريق الحقّ قد بان لكلّ ذي بصيرة ، ومنهج الاستقامة الذي يرضي الله قد تجلّى لكلّ البشريّة ، فمن قبله فله دار السّلامة ، ومن أعرض عنه فله عذاب النار. وقبل هذا الجزاء يوجد الحشر والحساب ، وإقامة الحجّة على الكفار.

التفسير والبيان :

عرف من الآية السابقة أن المشركين سيلقون جزاء عنادهم وغرورهم ، وهنا كلمة الفصل : وهي أن الأمر كله لله ، فلا يهتمن أحد ، ولا يحزن على إعراض المشركين عن دعوة الإسلام ، فمن يرد الله أن يوفقه للحقّ والخير والإسلام ، ومن كان أهلا بإرادة الله وتقديره لقبول دعوة القرآن ، فإنه يشرح صدره له ، وييسره وينشطه ويسهله لذلك ، كقوله تعالى : (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ ، فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) [الزّمر ٣٩ / ٢٢] ، وقوله : (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) [الحجرات ٤٩ / ٧].

قال ابن عباس في آية (يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) : يقول تعالى : يوسّع

٣٨

قلبه للتوحيد والإيمان به. وهو تفسير ظاهر مقبول.

وجاء في حديث رواه عبد الرزاق عن أبي جعفر : وسئل النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن هذه الآية : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) قالوا : كيف يشرح صدره يا رسول الله؟ قال : «نور يقذف فيه ، فينشرح له وينفسح» قالوا : فهل لذلك من أمارة يعرف بها؟ قال : «الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل لقاء الموت».

وروى ابن أبي حاتم وابن جرير الطبري عن أبي جعفر أيضا قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن هذه الآية : «إذا دخل الإيمان القلب انفسح له القلب وانشرح» قالوا : يا رسول الله ، هل لذلك من أمارة؟ قال : «نعم ، الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل الموت» (١).

وإلقاء هذا النور يكون في موضعه : في النفس التي حسنت فطرتها ، وطهرت ، وكان فيها استعداد للخير ، وميل إلى اتباع الحق.

ومن فسدت فطرته بالشرك ، وتدنست بالآثام يجد في صدره ضيقا شديدا عازلا له عن الإيمان ، كاتما له عن نفاذ الخير إليه ، مثله كمثل من يصعد إلى السماء في طبقات الجو العليا حيث يشعر بضيق شديد في التنفس ، وكأنما يزاول أمرا غير ممكن ، لأن صعود السماء مثل فيما يمتنع ويبعد من الاستطاعة ، وتضيق عنه المقدرة.

وكما يجعل الله صدر من أراد إضلاله لفقد استعداده للإيمان ضيقا حرجا ، كذلك يسلط الله الشيطان عليه وعلى أمثاله ممن أبى الإيمان بالله ورسوله ، فيغويه ويصده عن سبيل الله سبيل الحقّ (٢). والرجس : كما قال مجاهد : كل

__________________

(١) تفسير الطبري : ٨ / ٢٠

(٢) المرجع السابق : ٨ / ٢٤

٣٩

مالا خير فيه ، أو كما قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : العذاب باعتبار أنه الفعل المؤدي إلى الرجس ، من الارتجاس وهو الاضطراب. وقال الزمخشري : الرجس يعني الخذلان ومنع التوفيق.

(وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً) أي وهذا الإسلام الذي يشرح له صدر من يريد هدايته ، هو طريق ربك الذي ارتضاه للناس واقتضته الحكمة ، وأكد ذلك بقوله : (مُسْتَقِيماً) أي طريقا سويا لا اعوجاج فيه ؛ لأن صراط الله تعالى لا يكون إلا مستقيما ، وغيره من السبل معوج منحرف ، كما قال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث أحمد والترمذي عن علي في وصف القرآن : «هو صراط الله المستقيم ، وحبل الله المتين ، وهو الذكر الحكيم ، والنور المبين».

(قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) أي قد وضحناها وبيناها وفسرناها لقوم لهم فهم ووعي يعقلون عن الله ورسوله.

ولهؤلاء القوم الملتزمين طريق الاستقامة دار السلامة والطمأنينة وهي الجنة ؛ لأنهم التزموا منهج الأنبياء (عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي يوم القيامة. والله وليهم أي متولي أمورهم وكافيهم ، جزاء على صالح أعمالهم.

واذكر يا محمد فيما نقصه عليك وتنذرهم به يوم نحشر الإنس والجن جميعا ، ونقول : يا جماعة الجن قد استكثرتم من إغواء الإنس وإضلالهم ، كما قال تعالى : (وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً ، أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ) [يس ٣٦ / ٦٢]. ويقول الذين أطاعوا الجن واستمعوا إلى وسوستهم وتولوهم ، من الإنس ، في جواب الله تعالى : انتفع كل منا بالآخر ، انتفع الإنس بالشياطين حيث دلوهم على الشهوات وعلى أسباب التوصل إليها ، وانتفع الجن بالإنس حيث أطاعوهم وساعدوهم على مرادهم.

وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا أي الموت ، أو أنهم يعنون يوم البعث. وهذا

٤٠