التفسير المنير - ج ٨

الدكتور وهبة الزحيلي

وإنما الأساس هو الإيمان والعمل الصالح ، ففريق الزعماء المشركين الأشداء المتكبرين والأغنياء هم في النار ، وفريق المؤمنين الأتقياء الضعاف المتواضعين لله هم في أعالي الجنان.

وفضل الله ورحمته يشملان المقصرين أهل الأعراف الذين استوت حسناتهم وسيئاتهم ، وهو رد على أهل النار الذين يحلفون أن أصحاب الأعراف يدخلون معهم النار ، فتقول الملائكة لأهل الأعراف : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ).

ما يقوله أهل النار لأهل الجنة

أو استغاثة أهل النار بأهل الجنة لإمدادهم بالطعام والشراب

(وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٥١))

الإعراب :

(حَرَّمَهُما) فعل ماض ، لم يقل : حرّمه ، وإن كان التقدير : أفيضوا علينا أحد هذين ، لأن أو هاهنا للإباحة ، وهي لتجويز الجمع كقولهم : جالس الحسن أو ابن سيرين. فيجوز أن يجمع بينهما ، فأشبهت الواو التي للجمع ، فحملت عليها. أي أنه ثنّى الفعل لأنه أقام (أَوْ) مقام الواو ، وإن كانت (أَوْ) لتجويز الجمع ، والواو لإيجاب الجمع.

(كَما نَسُوا) .. (وَما كانُوا كَما) في الحالين في تأويل المصدر ، والأولى هي في موضع جر بالكاف ، وتقديره : فاليوم ننساهم كنسيانهم لقاء يومهم هذا. والثانية في موضع جر بالعطف على (كَما) الأولى.

٢٢١

المفردات اللغوية :

(أَفِيضُوا عَلَيْنا) أفاض الماء : صبه ، ثم استعمله في الشيء الكثير. (أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) من الطعام. (حَرَّمَهُما) منعهما. (نَنْساهُمْ) نتركهم في النار. (كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا) بتركهم العمل له. (وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) أي وكما جحدوا أي أنكروا.

المناسبة :

الآيتان استمرار في محاورة الناس يوم القيامة ، فبعد أن بيّن الله تعالى الحوار بين أهل الجنة وأهل النار ، والحوار بين أصحاب الأعراف وأصحاب النار ، وما قاله الفريق الأول للثاني ، أتبعه بذكر ما يقوله أهل النار لأهل الجنة.

التفسير والبيان :

هذا مشهد من مشاهد سوء أهل النار يوم القيامة ، فالله يخبر عن ذلة أهل النار وسؤالهم الطعام والشراب من أهل الجنة ، وأنهم لا يجابون إلى ذلك.

ومعنى الآية : إن أهل النار يطلبون من أهل الجنة أن يفيضوا عليهم من النعم الكثيرة التي يتمتعون بها من شراب وطعام. وقوله : (أَفِيضُوا) معناه صبوا علينا من الماء أو النعم الشيء الكثير ، ومعنى قوله : (أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) أي من غيره ، فيشمل الطعام والأشربة غير الماء. وقد استغاثوا بهم مع علمهم بأنهم لا يجابون أبدا ، بسبب الحيرة في أمرهم ، ولشدة حاجتهم إلى الماء ، كما يفعل كل مضطر ، كالغريق وغيره. وقوله : (أَفِيضُوا) فيه دليل على أن الجنة فوق النار.

قال ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : لما صار أصحاب الأعراف إلى الجنة ، طمع أهل النار بفرج بعد اليأس ، فقالوا : يا ربنا ، إن لنا قرابات من أهل الجنة ، فأذن لنا حتى نراهم ونكلمهم ، فأمر الله الجنة فتزحزحت ، ثم نظر أهل جهنم إلى قراباتهم في الجنة وما هم فيه من النعيم فعرفوهم ، ونظر أهل الجنة إلى قراباتهم من أهل جهنم فلم يعرفوهم ، وقد اسودّت وجوههم وصاروا خلقا آخر ، فنادى

٢٢٢

أصحاب النار أصحاب الجنة بأسمائهم وقالوا : (أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ). وإنما طلبوا الماء خاصة لشدة ما في بواطنهم من الاحتراق واللهيب ، بسبب شدة حر جهنم.

وهذا القول يدل على أنهم طلبوا الماء مع جواز الحصول. وقال آخرون : بل مع اليأس ؛ لأنهم قد عرفوا دوام عقابهم.

وقال سعيد بن جبير في هذه الآية : ينادي الرجل أباه أو أخاه ، فيقول له : قد احترقت ، فأفض علي من الماء ، فيقال لهم : أجيبوهم ، فيقولون : (إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ).

ومعنى قوله تعالى : (قالُوا : إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ) : قال أهل الجنة : إن الله منع الكفار شراب الجنة وطعامها.

ثم وصف الله تعالى الكافرين بما كانوا يعتمدونه في الدنيا ، باتخاذهم الدين لعبا ولهوا ، واغترارهم بالدنيا وزينتها وزخرفتها ، عما أمروا به من العمل للآخرة ، فقال : (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ ...).

أي إن هؤلاء الكفار تلاعبوا بدينهم وما كانوا به مجدين ، أو اتخذوا اللهو واللعب دينا لأنفسهم ، وجعلوا ديدنهم أعمالا لا تزكي الأنفس ولا تفيد ، بل هي لهو يشغل الإنسان عن الجد ، أو لعب لا يقصد منه فائدة صحيحة ، فهي كأعمال الأطفال.

واغتروا في الحياة الدنيا بشهواتها وزخارفها وزينتها ولذاتها من الحرام والحلال. قال الرازي : (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) مجاز ؛ لأن الحياة الدنيا لا تغر في الحقيقة ، بل المراد أنه حصل الغرور عند هذه الحياة الدنيا ؛ لأن الإنسان يطمع في طول العمر ، وحسن العيش ، وكثرة المال ، وقوة الجاه ، فلشدة رغبته

٢٢٣

في هذه الأشياء يصير محجوبا عن طلب الدين ، غرقا في طلب الدنيا (١).

وكان جزاء التلاعب واللهو والغرور ما قاله تعالى : (فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ ...) أي يعاملهم معاملة من نسيهم من الخير ؛ لأنه تعالى لا يشذ عن علمه شيء ولا ينساه ، كما قال تعالى : (فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى) [طه ٢٠ / ٥٢] وإنما قال تعالى هذا من باب المقابلة كقوله : (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) [التوبة ٩ / ٦٧] وقوله : (كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها ، وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) [طه ٢٠ / ١٢٦].

فمعنى قوله (فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ) : نعاملهم معاملة الشيء المنسي ، فلا يذكرون بخير ، وإنما يتركون في النار. ومعنى (كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا) : كما فعلوا بلقائه فعل الناسين ، فلم يخطر لهم ببال ولم يهتموا به ، وكما أنكروا آيات الله ، ورفضوا ما جاءت به الرسل.

والحاصل : أن الله تعالى يتركهم في عذاب النار ، كما تركوا العمل في الدنيا للقاء الله يوم القيامة ، وكما جحدوا بآيات الله.

وقد سمى الله جزاء نسيانهم بالنسيان من قبيل المشاكلة ، كما في قوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى ٤٢ / ٤٠] والمراد من هذا النسيان : أنه لا يجيب دعاءهم ولا يرحمهم.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآية الأولى على أن شراب أهل الجنة وطعامهم ممنوع حرام على الكافرين. وهو تحريم قهر وعقاب.

ودلت الآية الثانية على إهمال الكافرين في عذاب جهنم ومعاملتهم معاملة المنسيين ، لنسيانهم واجباتهم نحو ربهم في الحياة الدنيا ، وعلل تعالى ذلك

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٤ / ٩٣

٢٢٤

بتعليلات مجملها أنهم كانوا كافرين ، وتفصيلها ووصف أحوالهم : أنهم اتخذوا دينهم لهوا أولا ، ثم لعبا ثانيا ، ثم غرتهم الحياة الدنيا ثالثا ، ثم صار عاقبة هذه الأحوال أنهم جحدوا بآيات الله ، وذلك يدل على أن حب الدنيا مبدأ كل آفة ، كما قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه البيهقي عن الحسن مرسلا ، وهو ضعيف : «حب الدنيا رأس كل خطيئة».

وأما من الناحية الفقهية بالمعنى الخاص فقد دلت الآية الأولى على أن سقي الماء من أفضل الأعمال. وقد سئل ابن عباس : أي الصدقة أفضل؟ فقال : الماء ، ألم تروا إلى أهل النار حين استغاثوا بأهل الجنة : (أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ ، أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ). وروى أبو داود أن سعدا أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «أي الصدقة أعجب إليك؟ قال : الماء» فدل على أن سقي الماء من أعظم القربات عند الله تعالى. وقد قال بعض التابعين : من كثرت ذنوبه فعليه بسقي الماء. وقد غفر الله ذنوب الذي سقى الكلب فيما رواه البخاري عن أبي هريرة ، فكيف بمن سقى رجلا مؤمنا موحدا وأحياه؟!

وفي حديث عائشة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما رواه ابن ماجه في السنن ـ عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم: «من سقى مسلما شربة من ماء حيث يوجد الماء ، فكأنما أعتق رقبة ، ومن سقى مسلما شربة من ماء حيث لا يوجد الماء فكأنما أحياها».

واستدل بهذه الآية من قال : إن صاحب الحوض والقربة أحق بمائه ، وأن له منعه ممن أراده ؛ لأن معنى قول أهل الجنة : (إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ) لا حق لكم فيها. وروى البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «والذي نفسي بيده لأذودنّ رجالا عن حوضي كما تذاد الغريبة من الإبل عن الحوض» قال المهلّب : لا خلاف أن صاحب الحوض أحق بمائه ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام : «لأذودنّ رجالا عن حوضي».

٢٢٥

فضل القرآن على البشر وحال المكذبين يوم القيامة بإظهار

الندم وطلب الشفاعة

(وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٥٣))

الإعراب :

(هُدىً وَرَحْمَةً) منصوبان على الحال من هاء (فَصَّلْناهُ) وتقديره : فصلناه هاديا ذا رحمة.

(يَوْمَ يَأْتِي يَوْمَ) : منصوب على الظرف ، والعامل فيه (يَقُولُ).

(فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَيَشْفَعُوا) : منصوب بتقدير أن بعد فاء الجواب ؛ لأنه جواب الاستفهام. (أَوْ نُرَدُّ) : مرفوع معطوف على الاستفهام قبله ، على تقدير : أو هل نردّ ؛ لأن معنى : هل لنا من شفعاء : هل يشفع لنا أحد أو هل نردّ؟ فعطفه على المعنى.

(فَنَعْمَلَ) منصوب على جواب التمني بالفاء ، بتقدير (أن) حملا على مصدر ما قبله ، فالفاء في المعنى تعطف مصدرا على مصدر.

المفردات اللغوية :

(وَلَقَدْ جِئْناهُمْ) أي أهل مكة ، وغيرهم مثلهم. (بِكِتابٍ) هو القرآن الكريم. (فَصَّلْناهُ) بيّناه أتم بيان بالأخبار والوعد والوعيد. (عَلى عِلْمٍ) أي عالمين بما فصل فيه.

(هَلْ يَنْظُرُونَ) ما ينتظرون. (إِلَّا تَأْوِيلَهُ) ما يؤول إليه أمره ، أي عاقبة ما فيه وما يؤول إليه من تبين صدقه وظهور صحة ما نطق به من الوعد والوعيد. (يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ) هو يوم القيامة. (يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ) تركوا الإيمان به. (بِالْحَقِ) أي بالأمر

٢٢٦

الثابت. (أَوْ نُرَدُّ) أو هل نرد إلى الدنيا. (فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) نوحد الله ونترك الشرك ، فيقال لهم : لا.

(قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) غبنوها ؛ إذ صاروا إلى الهلاك. (وَضَلَّ عَنْهُمْ) أي غاب عنهم وذهب. (ما كانُوا يَفْتَرُونَ) من ادعاء الشرك.

المناسبة :

بعد أن أوضح الله تعالى أحوال أهل الجنة ، وأهل النار ، وأهل الأعراف ، وما يدور بين هذه الفرق الثلاث من حوار يحمل المكلف على الحذر والاحتراس والتأمل في العواقب ، أردف ذلك ببيان شرف هذا الكتاب الكريم وعظيم فضله ونفعه وحجيته على البشر كلهم ، وأنه أبطل معاذيرهم ، ثم ذكر حال المكذبين وما يحدث منهم يوم القيامة من ندم وحسرة ، وتمني العودة إلى الدنيا لإصلاح أعمالهم ، أو إنقاذهم بشفاعة الشفعاء.

التفسير والبيان :

يخبر الله تعالى بهذه الآية عن إبطال معاذير المشركين بإرسال الرسل إليهم بالكتاب الذي هو مفصّل مبيّن ، كقوله تعالى : (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ، ثُمَّ فُصِّلَتْ) [هود ١١ / ١].

لقد جئنا هؤلاء المشركين من أهل مكة وأمثالهم بكتاب كامل البيان وهو القرآن ، فصلنا آياته بالحكم والمواعظ والقصص والأحكام والوعد والوعيد ، على علم تام منا بما فصلناه به ، كقوله : (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) [النساء ٤ / ١٦٦] تصحيحا لعقيدتهم ، وتزكية لنفوسهم ، وسببا لسعادتهم ، وهدى ورحمة لمن يؤمن به ، ويعمل بأحكامه.

أوضح أصول الدين ، وندد بالشرك والوثنية ، ووضع الأنظمة الصالحة للبشر ، وحض على البناء والتقدم والحضارة من طريق تمجيد النظر والتأمل

٢٢٧

والتفكير ، والحث عليها ، وذم التقليد دون بحث ولا تمحيص في آيات كثيرة ، منها ما يحث على النظر والتأمل مثل : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [الرعد ١٣ / ٤] ومثل : (قُلْ : هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [البقرة ٢ / ١١١] ومنها ما يذم التقليد مثل : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ ، وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) [الزخرف ٤٣ / ٢٣].

هل ينتظر أي ما ينتظر هؤلاء الكفار إلا تأويله ، أي ما وعدوا به من العذاب والنكال والجنة والنار ، قال الربيع : لا يزال يجيء من تأويله أمر ، حتى يتم يوم الحساب ، حين يدخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار ، فيتم تأويله يومئذ.

ويوم يأتي تأويله يوم القيامة ، كما قال ابن عباس ، وتظهر حقائق ما أخبر به وصدق ما جاء به ، فيقول الذين تركوا العمل به وتناسوه في الدار الدنيا ، أي جعلوه كالشيء المنسي وأعرضوا عنه : قد جاءت رسل ربنا بالحق ، أي صدقوا في كل ما قالوا ، وصح أنهم جاؤوا بالحق ، وظهر أنه متحقق ثابت ، ولكنا نحن الذين أعرضنا عنه ، فجوزينا هذا الجزاء.

وأصبحوا يتمنون الخلاص بكل ما يمكن من أحد أمرين : إما شفاعة الشافعين ، وإما الرجوع إلى الدنيا لإصلاح العمل وتجديد السلوك والمنهج الذي يرضي الله تعالى.

والسبب في تمني الشفعاء : تذكرهم أساس الشرك وهو أن النجاة عند الله إنما تكون بوساطة الشفعاء ؛ فعند ما أفلسوا وعرفوا أن النجاة بالإيمان والعمل الصالح ، تمنوا الرجوع إلى الدنيا ، ليعملوا بما أمر به الرسل غير علمهم السابق ، كقوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا : يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا ، وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ ، وَلَوْ

٢٢٨

رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ ، وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) [الأنعام ٦ / ٢٧ ـ ٢٨].

وهذا كقوله هاهنا : (قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ، وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي غبنوا أنفسهم بدخولهم النار وخلودهم فيها ، وذهب عنهم ما كانوا يفترون من خبر الشفعاء التي كانوا يعبدونهم من دون الله ، قائلين : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس ١٠ / ١٨] فلا يشفعون فيهم ، ولا ينصرونهم ، ولا ينقذونهم مما هم فيه.

فقه الحياة أو الأحكام :

القرآن الكريم أعظم نعمة على الإنسان ؛ لأنه بيان للإيمان الصحيح والحق الثابت ، والعبادة المرضية لله تعالى ، ولأنه هدى ورحمة للمؤمنين ، كقوله تعالى : (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ) [الأنعام ٦ / ١٥٥].

وتظهر في كل حين في الدنيا عاقبة ما أنذر به وحذّر ، وما أعلم به وأخبر ؛ لقوله تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) [فصلت ٤١ / ٥٣] وكذا في الآخرة ؛ لقوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ) أي عاقبة ما فيه. وعاقبة القرآن : ما وعد الله فيه من البعث والحساب وجزاء التكذيب به.

وتبدو عواقبه يوم القيامة ، فيعترف منكروه بأنه الحق الثابت والصدق الأبلج ، ويتمنون الخلاص بأي وسيلة ممكنة : إما بشفاعة الشفعاء ، أو الرد إلى الدنيا لتصحيح الأعمال بما يتفق مع مرضاة الله ، ولكن لا يجابون إلى مطلبهم ، فيندمون ولات حين مندم.

ولكن هؤلاء الكفار المنكرين قد خسروا أنفسهم بتعريضها للعقاب والعذاب في النار ، وبطل ما كانوا يقولون من أن مع الله إلها آخر ، ولم ينتفعوا بالأصنام التي عبدوها في الدنيا ، ولم ينتفعوا أيضا بنصرة الأديان الباطلة التي بالغوا في نصرتها.

٢٢٩

إثبات الربوبية والألوهية لله بالخلق والأمر

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٥٤))

الإعراب :

(حَثِيثاً) منصوب إما لأنه حال أي حاثا ، وإما لأنه صفة لمصدر محذوف ، تقديره : يطلبه طلبا حثيثا.

(وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) يقرأ بالنصب والرفع ، فالنصب بالعطف على (السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي وخلق الشمس والقمر .. والرفع على الابتداء ، وخبره : (مُسَخَّراتٍ).

البلاغة :

(أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) فيه ما يسمى «إيجاز قصر» وهو جمع المعاني الكثيرة بالألفاظ القليلة.

المفردات اللغوية :

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ) الرب : هو السيد المالك المدبر والمربي ، و (اللهُ) : اسم الذات الأقدس خالق الخلق أجمعين ، والإله : هو المعبود المرتجى لجلب النفع وكشف الضر ، ويتقرب إليه بما يرضيه من العبادة والدعاء. وليس للمؤمنين الموحدين سوى إله واحد ورب واحد هو الله عزوجل. وأكثر المشركين يقولون : إنه أعظم الآلهة ، وكان مشركو العرب لا يعترفون برب سواه ، وإنما يعبدون آلهة تقربهم إليه (السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) المراد بهما العالم العلوي والعالم السفلي ، ولم يرد خبر ببيان حقيقتهما. (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) جمع يوم ، وهو الوقت المحدود بطلوع الشمس إلى غروبها ، والمراد بالأيام الستة : أنها من أيام الدنيا ، أي في قدرها ، لأنه لم يكن ثمّ شمس ، ولو شاء لخلقهن في لمحة ، والعدول عنه لتعليم خلقه التثبت.

٢٣٠

(اسْتَوى) في اللغة : استقر ، أو قصد أو استولى وملك ، والمراد أنه يتصرف فيه بما يريد وقد استوى استواء يليق به (الْعَرْشِ) لغة : سرير الملك ، أو كل شيء له سقف ، أو هودج المرأة ، أو الملك والسلطان ، يقال : ثلّ عرشه ، أي ذهب ملكه وزوال أو هلك. (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) أي يغطي كلا منهما بالآخر ، ويجعل الليل كالغشاء ، أي يذهب نور النهار (يَطْلُبُهُ) يطلب كل منهما الآخر (حَثِيثاً) أي طلبا سريعا من غير فتور (مُسَخَّراتٍ) مذلّلات خاضعات لتصرفه (بِأَمْرِهِ) بقدرته وتدبيره وتصرفه (الْخَلْقُ) إيجاد الأشياء من العدم بقدر ، فله الخلق جميعا (وَالْأَمْرُ) كله ، أي التدبير والتصرف كما يشاء (تَبارَكَ اللهُ) تعاظم وتنزّه ، أو كثر خيره وإحسانه (رَبُّ الْعالَمِينَ) مالك العوالم من الجن والإنس.

المناسبة :

إن مدار القرآن على إثبات أسس أربعة : وهي التوحيد ، والنبوة ، والمعاد ، والقضاء والقدر. وإثبات المعاد متوقف على إثبات التوحيد والقدرة والعلم.

فلما قرر الله تعالى أمر المعاد ، وذكر ما يدور من حوار بين أصحاب النار وأصحاب الجنة وأصحاب الأعراف ، عاد إلى ذكر أدلة التوحيد ، وكمال القدرة ، والعلم ، لتكون دليلا على الربوبية والألوهية وإثبات المعاد.

التفسير والبيان :

يخبر الله تعالى أنه خالق الكون أو العالم كله سماواته وأراضيه السبع ، وما بين ذلك في ستة أيام ، وهي ما عدا السبت ، وقد اجتمع الخلق كله في الجمعة ، الذي فيه خلق آدم عليه‌السلام. وأما يوم السبت فلم يقع فيه خلق ؛ لأنه اليوم السابع ، ومنه سمي السبت وهو القطع ، وهذا من الأخبار الإسرائيلية.

والمتبادر إلى الأذهان أن هذه الأيام مقدرة بأيام الدنيا ؛ لأنه لم يكن ثمّ شمس ، ووجدت هذه الأشياء المخلوقة بعد خلق هذه الأرض. ورأى مجاهد وأحمد بن حنبل : أن كل يوم كألف سنة ، كما قال تعالى : (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ

٢٣١

كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) [الحج ٢٢ / ٤٧] وأما يوم القيامة فقال الله في وصفه : (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) [المعارج ٦٩ / ٤].

ومعنى الآية : إن ربكم ومالك أمركم أيها الناس هو الله وحده لا شريك له ، وهو الذي أوجد السموات والأرض ، وقدرهما ، ودبر أمورهما وأحكم نظامهما في ستة أيام ، إما مقدرة بأيام الدنيا ، وإما أن الله أعلم بمقدارها وحدودها ، ولو شاء خلّقها في لحظة لخلقها ، وإنما أراد تعليم خلقه التثبت في الأمور : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ : كُنْ فَيَكُونُ) [يس ٣٦ / ٨٢] وذلك الخلق والتكوين ليس بالهين وهو دليل على القدرة التامة : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) [غافر ٤٠ / ٥٧].

وكان خلق الأرض في يومين ، وخلق الجبال الرواسي وأنواع النبات والحيوان في يومين آخرين ، كما قال تعالى : (قُلْ : أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ، وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ، ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ. وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها ، وَبارَكَ فِيها ، وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ ، سَواءً لِلسَّائِلِينَ) [فصلت ٤١ / ٩ ـ ١٠].

وخلق السموات وما فيها من أجرام وكواكب في يومين ، كما قال تعالى : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ ، وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها ، وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ، ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [فصلت ٤١ / ١٢].

ثم إنه تعالى بعد هذا الخلق استوى على عرشه ، يدبر أمره ، ويصرف نظامه ، على نحو يليق به ، غير مشابه لشيء من المخلوقات والحوادث. فاستواؤه على العرش : هو انفراده بتدبير السموات والأرض ، واستيلاؤه على زمام الأمور والسلطة فيهما. ونحن نؤمن كإيمان الصحابة باستواء الله على العرش بكيفية تليق به ، من غير تشبيه ولا تكيف ، أي من غير تحديد بجهة ، ولا تقدير بكيف أو

٢٣٢

وصف ، وتترك معرفة الحقيقة إلى الله ، وهذا ما قرره الإمام مالك ومن قبله شيخة ربيعة ، فقال : الاستواء معلوم (أي في اللغة) والكيف (أي كيفية الاستواء) مجهول ، والسؤال عن هذا بدعة. وهذا القدر كاف في الموضوع.

وقال الحافظ ابن كثير : مذهب السلف الصالح : مالك والأوزاعي والثوري والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه وغيرهم من أئمة المسلمين قديما وحديثا ، هو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل. والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبّهين منفي عن الله ، فإن الله لا يشبهه شيء من خلقه ، و (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى ٤٢ / ١١].

بل الأمر كما قال الأئمة ، منهم نعيم بن حمّاد شيخ البخاري قال : من شبّه الله بخلقه كفر ، ومن جحد ما وصف الله به نفسه ، فقد كفر ، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه ، فمن أثبت لله تعالى ما وردت به الآيات الصريحة والأخبار الصحيحة ، على الوجه الذي يليق بجلال الله ، ونفى عن الله تعالى النقائص ، فقد سلك سبيل الهدى(١).

وأما الخلف فيتأولون ويقولون : استوى على عرشه بعد تكوين خلقه ، بمعنى أنه يدبر أمره ، ويصرّف نظامه ، على حسب تقديره وحكمته ، كما قال : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ، ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ، يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) [يونس ١٠ / ٣].

ثم بيّن الله تعالى بعض مظاهر تدبيره الكون فقال : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ ...) أي أنه تعالى يلحق الليل بالنهار ، أو النهار بالليل ، يحتملهما جميعا على التعاقب ، ويذهب ظلام الليل بضياء النهار ، وضياء النهار بظلام الليل ، وكل منهما يطلب الآخر طلبا حثيثا ، أي سريعا لا يتأخر عنه ، بل إذا ذهب هذا

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٢ / ٢٢٠

٢٣٣

جاء هذا وعكسه. والمراد أنه يعقبه سريعا دون وجود فاصل أو تأخر ، مثل قوله تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ ، فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ. وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ، ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ، لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ ، وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ ، وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [يس ٣٦ / ٣٧ ـ ٤٠].

وفي تعاقب الليل والنهار منافع كثيرة ، إذ بتعاقبهما يتم أمر الحياة ، وتتحقق مصالح الناس.

وقد تأيد هذا الطلب السريع بما أثبته العلم الحديث من كروية الأرض ودورانها على محورها حول الشمس ، فيكون نصف كرتها مضيئا بالشمس ، والنصف الآخر مظلما ، فإذا كان الوقت نهارا في الشرق الأوسط مثلا ، كان الوقت ليلا في أمريكا الجنوبية وطوكيو ـ اليابان. وقد سبق إلى ما قرره العلماء المعاصرون كثير من علماء الإسلام كالغزالي والرازي وابن تيمية وابن قيّم الجوزية.

ومن مظاهر التدبير الإلهي للكون : خلقه الشمس والقمر وسائر النجوم والكواكب ، وكونها جميعا تحت قهره وتسخيره ومشيئته ، أي أنها خاضعة لأمره وتصرفه. لذا قال : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) أي أنه هو الخالق المبدع المالك ، المتصرف المدبر ، فمعنى (لَهُ الْخَلْقُ) أي له ملك المخلوقات كلها كبيرها وصغيرها ، ومعنى له (الْأَمْرُ) أي التصرف والتدبير ، ليس لأحد شيء.

(تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) أي تعاظم وتنزّه ، وانفرد بالربوبية ، وكل ما في العالم من الخيرات الكثيرة منه ، فعلى عباده شكره عليها ، وعبادته دون غيره. كقوله : (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الملك ٦٧ / ١] وقوله : (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً ، وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً) [الفرقان ٢٥ / ٦١].

٢٣٤

روى ابن جرير الطبري عن عبد العزيز الشامي عن أبيه ، وكانت له صحبة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من لم يحمد الله على ما عمل من عمل صالح ، وحمد نفسه ، فقد كفر وحبط عمله. ومن زعم أن الله جعل للعباد من الأمر شيئا فقد كفر بما أنزل الله على أنبيائه ، لقوله : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ، تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ)».

وفي الدعاء المأثور عن أبي الدرداء ، وروي مرفوعا : «اللهم لك الملك كله ، ولك الحمد كله ، وإليك يرجع الأمر كله ، أسألك من الخير كله ، وأعوذ بك من الشر كله».

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآية إلى ما يلي :

١ ـ الله عزوجل هو المنفرد بقدرة الإيجاد ، وخالق السموات والأرض ، فهو الذي يجب أن يعبد.

٢ ـ استوى الله تعالى على العرش ، وخص العرش بذلك ؛ لأنه أعظم مخلوقاته ، ورأي السلف الصالح : أنه استوى على عرشه حقيقة ، لكن كيفية الاستواء مجهولة ، فإنه لا تعلم حقيقته. قال مالك رحمه‌الله : الاستواء معلوم (يعني في اللغة) والكيف مجهول ، والسؤال عن هذا بدعة. وكذا قالت أم سلمة رضي‌الله‌عنها.

وأكثر المتقدمين والمتأخرين من علماء المتكلمين على تنزيه الله تعالى عن الجهة والتحيّز في مكان ، لأنه يلزم من ذلك أنه متى اختص بجهة أن يكون في مكان أو حيّز ، ويلزم على المكان والحيّز : الحركة والسكون للمتحيّز ، والتغيّر والحدوث.

وقد يؤوّل العرش في الآية بمعنى الملك والسلطان ، أي ما استوى الملك

٢٣٥

المطلق إلا له جل وعز. قال القرطبي : وهو قول حسن ، وفيه نظر (١).

٣ ـ الليل والنهار متعاقبان ، وتعاقبهما دليل على كروية الأرض وحركتها ودورانها. ولم يذكر في هذه الآية دخول النهار على الليل ، واكتفى بأحدهما عن الآخر ، مثل : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل ١٦ / ٨١] أي والبرد. ومثل : (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) [آل عمران ٣ / ٢٦] أي والشر.

٤ ـ الشمس والقمر والنجوم وسائر الكواكب مخلوقة لله ، بدليل أنها معطوفة على السموات ، أي وخلق السموات ، وهي مذللات خاضعات لتصرف الله.

٥ ـ لله الخلق والأمر ، وقد دلت الآية على صدق الله في خبره ، فله الخلق وله الأمر ، خلقهم وأمرهم بما أحب ، وهذا الأمر يقتضي النهي. قال سفيان بن عيينة : فرق بين الخلق والأمر ؛ فمن جمع بينهما فقد كفر. فالخلق : المخلوق ، والأمر : كلامه الذي هو غير مخلوق ، وهو قوله : (كُنْ) : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ : كُنْ فَيَكُونُ) [يس ٣٦ / ٨٢].

وفي تفرقته بين الخلق والأمر دليل بيّن على فساد قول من قال بخلق القرآن ؛ إذ لو كان كلامه الذي هو أمر مخلوقا ، لكان قد قال : ألا له الخلق والخلق. وذلك عيّ من الكلام ومستهجن ، والله يتعالى عن التكلم بما لا فائدة فيه. ولو كان الأمر مخلوقا لافتقر إلى أمر آخر يقوم به ، وذلك الأمر إلى أمر آخر إلى ما لا نهاية له ، وذلك محال ، فثبت أن أمره الذي هو كلامه قديم أزلي غير مخلوق ؛ ليصح قيام المخلوقات بأمره ، بدليل قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) [الروم ٣٠ / ٢٥] وقوله هنا : (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ) فأخبر سبحانه أن المخلوقات قائمة بأمره.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٧ / ٢٢١

٢٣٦

والأمر ليس من الإرادة في شيء. والمعتزلة تقول : الأمر نفس الإرادة. قال القرطبي : وليس بصحيح ، بل يأمر بما لا يريد ، وينهى عما يريد. ألا ترى أنه أمر إبراهيم بذبح ولده ، ولم يرده منه ، وأمر نبيه أن يصلّي مع أمّته خمسين صلاة ، ولم يرد منه إلا خمس صلوات. وقد أراد شهادة حمزة حيث يقول : (وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ) [آل عمران ٣ / ١٤٠] ونهى الكفار عن قتله ، ولم يأمرهم به (١).

٦ ـ الله تعالى متعاظم منزه عن الدنايا ، باق دائم ثابت ، كثير الخيرات والآثار الفاضلة والنتائج الشريفة ، واسع الفضل والإحسان (تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ).

مشروعية الدعاء وآدابه وتحريم الإفساد في الأرض

(ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦))

الإعراب :

(تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) إما منصوبان على المصدر ، أو على الحال على معنى : ذوي تضرع وخفية.

(إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ) إنما قال : قريب بالتذكير لثلاثة أوجه : أنه ذكره حملا على المعنى ، لأن الرحمة بمعنى الرّحم أو الترحم ، وهو مذكر ، أو لأن المراد بالرحمة : المطر ، وهو مذكر ، أو ذكّره على النّسب ، أي : ذات قرب ، كقولهم : امرأة طالق وطامث وحائض ، أي ذات طلاق وطمث وحيض (ابن الأنباري : ١ / ٣٦٥). وأضاف الزمخشري : أو لأنه صفة موصوف محذوف ، أي شيء قريب ، أو على تشبيهه بفعيل الذي هو بمعنى مفعول ، أو لأن تأنيث الرحمة غير حقيقي (الكشاف : ١ / ٥٥١) وذكر الرازي في تفسيره (١٤ / ١٣٦ ـ ١٣٧) أربعة وجوه من هذه.

وذكر القرطبي في تفسيره : ٧ / ٢٢٧ سبعة أوجه لقوله : (قَرِيبٌ) ولم يقل : قريبة ، هي

__________________

(١) المرجع السابق : ٧ / ٢٢٣

٢٣٧

أن الرّحمة والرّحم واحد ، وهي بمعنى العفو والمغفرة ، وقيل : أراد بالرحمة الإحسان ، وقيل : مالا يكون تأنيثه حقيقيا جاز تذكيره ، وقيل : أراد بالرحمة هنا المطر ، وقيل : على تذكير المكان أي مكانا قريبا ، وقيل : ذكّر على النسب ، كأنه قال : إن رحمة الله ذات قرب. وقيل : في غير النسب يجوز التذكير والتأنيث ، يقال : دارك منا قريب ، وفلانة منا قريب.

المفردات اللغوية :

(تَضَرُّعاً) تذللا ، وهو إظهار ذل النفس وخضوعها (خُفْيَةً) سرا ، وهو ضد العلانية (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) في الدعاء بالتشدق ورفع الصوت ، والمراد : عدم الثواب وعدم الرضا عن الداعي.

(وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) بالشرك والمعاصي (بَعْدَ إِصْلاحِها) ببعث الرسل (خَوْفاً) من عقابه ، والخوف : توقع الشر والمكروه (وَطَمَعاً) في رحمته ، وهو توقع الخير.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى الأدلة على توحيد الربوبية من كمال القدرة والتدبير ، والحكمة والتصرف ، أتبعه بالأمر بتوحيد الألوهية بإفراده تعالى بالعبادة والاشتغال بالدعاء والتضرع ، فإن الدعاء مخ العبادة.

التفسير والبيان :

أرشد الله تعالى عباده إلى دعائه الذي هو صلاحهم في دنياهم وأخراهم ، فقال : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) أي ادعوا ربكم ومتولي أموركم والمنعم عليكم ، متضرعين متذللين مستكينين ، مع إسرار الدعاء وإخفائه ، فالدعاء مخ العبادة. وفيه إيماء إلى ندب الدعاء خفية ؛ لأنه أبعد عن الرياء ، ولقوله تعالى : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً) [الأعراف ٧ / ٢٠٥] وقوله بالثناء على زكريا : (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا) [مريم ١٩ / ٣].

وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي‌الله‌عنه قال : رفع الناس

٢٣٨

أصواتهم بالدعاء ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أيها الناس ، اربعوا (١) على أنفسكم ، فإنكم لا تدعون وأصمّ ولا غائبا ، إنكم تدعون سميعا قريبا ، وهو معكم».

وروى أبو الشيخ ابن حيان الأنصاري في الثواب عن أنس رضي‌الله‌عنه : «دعوة في السرّ تعدل سبعين دعوة في العلانية».

وروى أبو الشيخ ابن حبان في الثواب عن أنس رضي‌الله‌عنه : «دعوة في السرّ تعدل سبعين دعوة في العلانية».

وقال الحسن البصري رحمه‌الله : «ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء ، وما يسمع لهم صوت ، إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم ، وذلك أن الله تعالى يقول : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً).

وذكر بعض العلماء : أن الأولى الإسرار بالدعاء في حال اجتماع الناس في المساجد والمشاعر وغيرها إلا ما ورد فيه رفع الصوت من الجميع كالتلبية في الحج وتكبير العيدين.

(إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) في الدعاء ولا في غيره ، بتجاوز الحدود المأمور بها ، والتجاوز هنا في ترك هذين الأمرين المذكورين : وهما التضرع والإخفاء. وعدم المحبة : أي أن الله لا يثيبه البتة ، ولا يحسن إليه ، فظهر أن قوله تعالى : (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) كالتهديد الشديد على ترك التضرع والإخفاء في الدعاء.

روى أحمد وأبو داود عن سعد بن أبي وقاص رضي‌الله‌عنه قال : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إنه سيكون قوم يعتدون في الدعاء ، وقرأ هذه الآية : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) الآية ، وإن بحسبك أن تقول : اللهم إني أسألك

__________________

(١) أي ارفقوا بأنفسكم.

٢٣٩

الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل ، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل».

وكما أمر الله بدعائه والتضرع إليه ، نهى عن الإفساد في الأرض ، فقال : (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ ...) أي لا تفسدوا شيئا في الأرض بعد الإصلاح بما بناه المرسلون وأتباعهم المصلحون ، وشيّده العقلاء المخلصون ، من النواحي المادية والمعنوية ، كتقوية وسائل الحياة من زراعة وصناعة وتجارة ، وتهذيب الأخلاق ، والحث على العدل والشورى والتعاون والتراحم.

والإفساد شامل إفساد الأديان بالكفر والبدعة ، وإفساد النفوس بالقتل وبقطع الأعضاء ، وإفساد الأموال بالغصب والسرقة والاحتيال ، وإفساد العقول بشرب المسكرات ونحوها ، وإفساد الأنساب بالإقدام على الزنى واللواطة والقذف.

وبعد أن أبان الله تعالى شرط الدعاء وهو التضرع والخفية ، نبّه إلى بواعث الدعاء وموجباته ، وأشعر أن من لا يدعو ربه على هذا النحو يكون أقرب إلى الإفساد ، فقال : (وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً).

أي ادعوا الله خوفا من عقابه ، وطمعا في جزيل ثوابه ، فإن الدعاء مخ العبادة ولبّها ، لذا صرح بفائدة الدعاء ، وأنه مرجو الإجابة متى استكمل شرائطه وآدابه ، فقال : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ ..) أي إن رحمة الله تعالى قريبة من المحسنين أعمالهم ، وهي مرصدة للمحسنين الذين يتبعون أوامره ويتركون زواجره ، كما قال تعالى : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ ، وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ) [الأعراف ٧ / ١٥٦].

فمن أحسن الدعاء أعطي خيرا مما طلبه ، أو مثله ، أو دفع عنه من الشر مثله.

٢٤٠