التفسير المنير - ج ٨

الدكتور وهبة الزحيلي

ثم ختم الله تعالى هذه الوصايا ببيان أن هذا هو منهج الحق وطريق الاستقامة ، فقال: (وَأَنَّ هذا صِراطِي ...) أي ولأن هذا هو الطريق المستقيم ، فاتبعوه ولا تتبعوا الطرق المختلفة ذات المذاهب والأهواء والبدع والضلالات ، فيؤدي بكم إلى التفرق والاختلاف ، والانحراف عن دين الله الحق ، ومنهجه الأمثل. قال ابن عباس في قوله : (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ) : أمر الله المؤمنين بالجماعة ، ونهاهم عن الاختلاف والتفرقة ، وأخبرهم أنه إنما هلك من كان قبلكم بالمراء والخصومات في دين الله.

وأوضح النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصراط المستقيم ، روى الإمام أحمد ، والنسائي وأبو الشيخ ابن حيان والحاكم عن عبد الله بن مسعود قال : خط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطأ بيده ، ثم قال : «هذا سبيل الله مستقيما» وخط عن يمينه وشماله ، ثم قال : «هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه» ثم قرأ : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ ، وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ ، فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ).

وروى أحمد والترمذي والنسائي عن النّواس بن سمعان عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ضرب الله مثلا : صراطا مستقيما ، وعن جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتّحة ، وعلى الأبواب ستور مرخاة ، وعلى باب الصراط داع يقول : يا أيها الناس ، هلّم ادخلوا الصراط المستقيم جميعا ولا تفرقوا ، وداع يدعو من فوق الصراط ، فإذا أراد إنسان أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال : ويحك ، لا تفتحه ، فإنك إن فتحته تلجه. فالصراط : الإسلام ، والسوران : حدود الله ، والأبواب المفتحة محارم الله ، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله ، والداعي من فوق الصراط : واعظ الله في قلب كل مسلم».

١٠١

فقه الحياة أو الأحكام :

هذه الآيات أمر من الله تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يدعو جميع الخلق إلى سماع تلاوة ما حرم الله ، ويجب على من بعده من العلماء أن يبلّغوا الناس ويبينوا لهم ما حرّم الله عليهم مما أحلّ ، قال الله تعالى : (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) [آل عمران ٣ / ١٨٧].

وقد تضمنت الوصايا العشر : خمسة منها بصيغة النهي ، وخمسة بصيغة الأمر ، ولما وردت الأوامر مع النواهي ، وتقدّمهن جميعا فعل التحريم ، واشتركن في الدخول تحت حكمه ، علم أن التحريم راجع إلى أضدادها : وهي الإقرار بوجود الله وتوحيده ، والإساءة إلى الوالدين ، وبخس الكيل والميزان ، وترك العدل في القول ، ونكث عهد الله ... إلخ.

قال كعب الأحبار : هذه الآية مفتتح التوراة : بسم الله الرحمن الرحيم. (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ...) الآية.

وقال ابن عباس : هذه الآيات المحكمات التي ذكرها الله في سورة (الأنعام) أجمعت عليها شرائع الخلق ، ولم تنسخ قط في ملّة. وقد قيل : إنها العشر كلمات المنزلة على موسى.

أما الشرك بالله : فهو وكر الخرافات والأباطيل ، ومبعث الأهواء والشهوات ، وهو مصادم لمقتضيات العقل السليم والفكر الصحيح.

وأما الإحسان إلى الوالدين : فواجب تقتضيه الفطرة ؛ لأنهما كانا سبب وجود الإنسان ، وقد ربياه وأحسنا إليه صغيرا وكبيرا ، ومحبتهما جزاء ومكافأة لهما ، وعقوقهما مفسد تكوين الأولاد ، ومساعد على الغلظة والشذوذ في كل مسالك الحياة.

١٠٢

وقد جاء الأمر بالإحسان إلى الوالدين عقب الأمر بتوحيد الله ؛ لأن أعظم أنواع النعم على الإنسان نعمة الله تعالى ، ويتلوها نعمة الوالدين ؛ لأن المؤثر الحقيقي في وجود الإنسان هو الله سبحانه ، وفي الظاهر هو الأبوان ، ونعم الوالدين على الإنسان عظيمة وهي نعمة التربية والشفقة والحفظ عن الضياع والهلاك في وقت الصغر.

وقتل الأولاد : مسبّة وعار ، وقسوة وغلظة ، وانحدار في مستوى الإنسانية ، ولون من ألوان الهمجية ، ومصادمة لإرادة الله تعالى.

وقد استدل الظاهرية بآية : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ) على منع العزل ؛ لأن وأد الأولاد يرفع الموجود والنّسل ؛ والعزل بإلقاء الماء خارج المحل منع أصل النسل ، فتشابها ، إلا أن قتل النفس أعظم وزرا وأقبح فعلا.

لكن جمهور العلماء أباحوه ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا عليكم ألا تفعلوا فإنما هو القدر» (١) أي ليس عليكم جناح في ألا تفعلوا.

واشترط مالك والشافعي كون العزل عن الحرة بإذنها ، فلا يجوز بغير إذنها ، لأن الإنزال من تمام لذتها ، ومن حقها في الولد.

وتحريم الفواحش ذاتها وتحريم وسائلها وأسبابها : ضرورة صحية وإنسانية واجتماعية ، فما من فاحشة أو حرام أو منكر إلا وهو ضار ضررا محضا بصحة الإنسان ، ومهدد لوجوده ، ومفسد للمجتمع في جميع أحواله ونظامه وتطلعاته. والنهي عن اقتراف الفواحش في الآية نهي عام عن جميع أنواع الفواحش وهي المعاصي.

وقتل النفس مؤمنة كانت أو معاهدة بغير مسوغ شرعي أو إلا بالحق الذي يوجب قتلها : جريمة كبري ، واعتداء شنيع على صنع الخالق. والعاصم من القتل : الإسلام ، والسلام أو الأمان ، والعهد. والمسوغ الشرعي أو القتل بالحق

__________________

(١) الحديث صحيح (راجع سبل السلام ٣ / ١٠٣٦) ط دار الجيل ـ بيروت.

١٠٣

مثل منع الزكاة وترك الصلاة ، والدفاع عن النفس ، والمحاربة (قطع الطريق) ، والقصاص ، والردة ، وزنى المحصن. وأجاز بعضهم القتل بسبب اللواط عملا بما روى أبو داود عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به».

وأكل مال اليتامى : ظلم واعتداء على حقوق الضعفاء ، واستغلال لحاجتهم وصغرهم. لكن يجوز الأخذ من مال اليتيم بالتي هي أحسن ، أي بما فيه صلاحه وتنميته ، وذلك بحفظ أصوله وتثمير فروعه ، بالاتجار فيه ونحوه من وسائل التنمية.

ويدفع المال إلى اليتيم ببلوغ سن الرشد وهو توافر الخبرة المالية ، وذهب أبو حنيفة إلى أن أقصى مدة لمنع المال عن اليتيم هي خمس وعشرون سنة. وقد فسّر بلوغ الأشد أي القوة وهي قوة البدن والمعرفة باية أخرى في سورة النساء وهي : (وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ ، فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً ، فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) [٦] فجمع بين قوة البدن وهو بلوغ النكاح ، وبين قوة المعرفة وهو إيناس الرشد.

وإيفاء الكيل والميزان بالقسط أي بالاعتدال في الأخذ والعطاء عند البيع والشراء : فيه حفاظ على الحقوق المالية.

والقول بالعدل في الأحكام والشهادات ولو على النفس والأقارب : فيه إنصاف للحق ، وإظهار له ، ومن المعلوم أن الإسلام هو دين الحق والعدل.

والوفاء بعهد الله ، أي بجميع ما عهده الله إلى عباده ، ويشمل جميع ما انعقد بين إنسانين : أمر يوجبه شكر المنعم الخالق ، وتقتضيه المدنية ، وتقره الأعراف السليمة ؛ لأنه فيما يمس الوعود والعقود بين الناس يوفر الخير والعطاء للجماعة

١٠٤

كلها ، ويحقق معنى النظام واحترام الوقت. وأضيف العهد إلى الله من حيث أمر بحفظه والوفاء به.

والسبب في جعل خاتمة الآية الأولى بقوله : (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) وخاتمة الآية الثانية بقوله : (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) : هو كما أوضح الرازي أن المحرّمات الخمسة المذكورة في الآية الأولى (وهي الشرك ، وعقوق الوالدين ، وقتل الأولاد ، وقربان الزنى ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق) أمور ظاهرة جلية القبح ، فنهاهم الله عنها ، لعلهم يعقلون قبحها ، فيتركوها. وأما التكاليف الخمسة المذكورة في الآية الثانية (وهي حفظ مال اليتيم ، وإيفاء الكيل والميزان ، والعدل في القول في الأحكام والشهادات ، والوفاء بالعهد) فهي أمور خفية غامضة ، وكانوا يفعلونها ويفتخرون بالاتصاف بها ، فأمر الله تعالى بها لعلهم يذكرون إن نسوها ، وليجتهدوا ويفكروا فيها ليقفوا على موضع الاعتدال.

وقال أبو حيان : كرر الوصية على سبيل التوكيد ، ولما كان الصراط المستقيم هو الجامع للتكاليف ، وقد أمر الله سبحانه باتباعه ، ونهى عن اتباع غيره من الطرق ، ختم الآية الثالثة بالتقوى التي هي اتقاء النار ؛ إذ من اتبع صراطه نجا النجاة الأبدية ، وحصل على السعادة السرمدية (١).

قال ابن عطية : ومن حيث كانت المحرّمات الأول لا يقع فيها عاقل قد نظر بعقله ، جاءت العبارة : (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) والمحرّمات الأخر شهوات ، وقد يقع فيها من العقلاء من لم يتذكر ، فجاءت العبارة : (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ). وركوب الجادة تتضمن فعل الفضائل ، وتلك درجة التقوى ، فجاءت العبارة : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

وأما آية (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً) فأرشدت إلى أن كل ما بيّنه

__________________

(١) البحر المحيط : ٤ / ٢٥٤

١٠٥

الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من دين الإسلام هو المنهج القويم ، والصراط المستقيم. وأرشدت أيضا إلى وجوب الاتحاد بين المؤمنين والتلاقي بينهم على ما أمر الله به ، والتحذير من الاختلاف والفرقة ، واتباع غير سبيل الله ، وأن الله أهلك الأمم السابقة بالمراء والخصومات ، ودلت الآية أيضا على أن كل ما كان حقا فهو واحد.

السبب في إنزال التوراة والقرآن

(ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (١٥٤) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (١٥٦) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (١٥٧))

الإعراب :

(تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ تَماماً) منصوب على المصدر أو على أنه مفعول لأجله. و (أَحْسَنَ) فعل ماض صلة (الَّذِي) ، وفيه ضمير مقدر يعود على (الَّذِي) وتقديره : تماما على المحسن هو. ومن قرأ أحسن بالرفع كان خبر مبتدأ محذوف وتقديره : على الذي هو أحسن. والجملة من المبتدأ والخبر صلة (الَّذِي).

(وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ) جملة فعلية في موضع رفع صفة (كِتابٌ) ، و (مُبارَكٌ) وصف ثان.

(أَنْ تَقُولُوا) متعلق بأنزلناه ، وتقديره : كراهة أن تقولوا ، أو لئلا تقولوا. (وَإِنْ

١٠٦

كُنَّا) : إن مخففة من الثقيلة عند البصريين واسمها محذوف ، وتقديره : وإنا كنا ، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية. وذهب الكوفيون إلى أنها بمعنى «ما» واللام بمعنى : إلا ، وتقديره: وما كنا عن دراستهم إلا غافلين.

البلاغة :

(يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا) وضع الظاهر موضع الضمير : عنها لتبيان قباحة طغيانهم.

المفردات اللغوية :

(ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) التوراة ، و (ثُمَ) لترتيب الأخبار. (تَماماً) للنعمة. (عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) بالقيام به. (وَتَفْصِيلاً) بيانا. (لِكُلِّ شَيْءٍ) يحتاج إليه في الدين. (لَعَلَّهُمْ) أي بني إسرائيل. (بِلِقاءِ رَبِّهِمْ) بالبعث. (وَهذا) القرآن. (فَاتَّبِعُوهُ) يا أهل مكة بالعمل بما فيه. (وَاتَّقُوا) الكفر. (أَنْ تَقُولُوا) لئلا تقولوا. (طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا) هم اليهود والنصارى. (وَإِنْ كُنَّا) إن : مخففة من الثقيلة واسمها محذوف أي إنا كنا ، والأصل : وإنه كنا عن دراستهم غافلين ، على أن الهاء ضمير الشأن. (عَنْ دِراسَتِهِمْ) قراءتهم وعلمهم أي لم نعرف مثل دراستهم. (لَغافِلِينَ) لعدم معرفتنا لها ؛ إذ ليست بلغتنا.

(لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ) لحدة أذهاننا ، وثقابة أفهامنا ، وغزارة حفظنا لأيام العرب ، ووقائعها. وخطبها ، وأشعارها ، وأسجاعها ، على أنا أميون. (بَيِّنَةٌ) البيان والبيّنة : ما به يظهر الحق. (وَهُدىً وَرَحْمَةٌ) لمن اتبعه. (فَمَنْ) أي لا أحد. (وَصَدَفَ عَنْها) أعرض ومنع الناس عنها. (سُوءَ الْعَذابِ) أي أشده.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله الوصايا العشر ، أخبر عن الغاية من إنزال التوراة على موسى عليه‌السلام ؛ لاشتهارها عند مشركي العرب وسماعهم أخبارها ، ثم ذكر مكانة القرآن وكونه كتاب هداية ، وأعمل بوجوب اتباعه ، ورد على عذر المشركين بعدم الانقياد له ، مما لا يصلح عذرا بعد جعل القرآن مباركا كثير الخير والفضل.

التفسير والبيان :

في الكلام شيء محذوف تقديره : لفظ «قل» أي قل يا محمد الرسول لهؤلاء

١٠٧

الناس : إنا آتينا موسى الكتاب ، وهو معطوف على بداية الكلام عن الوصايا العشر ، بكلمة (ثُمَ) أي ثم قل : إن آتينا موسى الكتاب ، ويصبح مجموع الكلام المقول للمشركين : تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ووصاكم به وهو كذا وكذا ، ثم قل لهم وأعلمهم : أننا آتينا موسى الكتاب .. إلخ أي أخبرهم بما أوحي إليك ، وبما آتينا موسى.

وقد تكرر ذكر التوراة في القرآن ؛ لأنها أشبه بالقرآن من الإنجيل والزبور ، لاشتمالها على جميع الأحكام التشريعية ، فكل منهما شريعة كاملة ، بعكس الإنجيل والزبور ، فإن الإنجيل كتاب عظات وأمثال وتاريخ ، والزبور كتاب ثناء ومناجاة وتراتيل. وكان كثير من عقلاء العرب يتمنى أن يكون لهم كتاب كالتوراة ، وأنه لو جاءهم لكانوا أهدى من اليهود وأعظم انتفاعا به ، لامتيازهم بحدة الذكاء وحصافة العقل والفهم.

ولما أخبر الله عن القرآن بقوله : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ) عطف عليه الكلام بمدح التوراة ورسولها ، فقال : (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ). وكثيرا ما يقرن سبحانه بين ذكر التوراة والقرآن كما بينت ، كقوله تعالى : (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً ، وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا) [الأحقاف ٤٦ / ١٢] وقوله أول هذه السورة : (قُلْ: مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً).

والوصايا العشر التي ذكرت في الآيات الثلاث ، والتي لها نظير في سورة الإسراء ، كانت أول ما نزل بمكة قبل تشريع أحكام العبادات والمعاملات ، وكانت أول ما نزل على موسى من أصول دينه ، وهي أيضا أصول الأديان على ألسنة الرسل ؛ لقوله تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ، وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ)

١٠٨

[الشورى ٤٢ / ١٣] والقدر المشترك من الدين الذي أوصى به جميع الرسل : هو التوحيد ، ومكارم الأخلاق ، والبعد عن الفواحش والمنكرات.

(تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) أي آتينا موسى الكتاب تماما للكرامة والنعمة على الذي أحسن في اتباعه والاهتداء به ، كما قال تعالى : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) [الأنبياء ٢١ / ٧٣].

ويجوز أن يكون المعنى : وآتينا موسى الكتاب تماما أي تاما كاملا جامعا لكل ما يحتاجه الناس من التشريع ، وعلى أحسن ما تكون عليه الكتب ، أي على الوجه والطريق الذي هو أحسن. لكن يضعف هذا المعنى ما يأتى بعده وهو : (وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) أي وآتيناه الكتاب الذي أنزلناه إليه تماما كاملا جامعا لما يحتاج إليه في شريعته ، كقوله تعالى عن موسى : (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) [الأعراف ٧ / ١٤٥].

(وَهُدىً وَرَحْمَةً) أي وهو كتاب هداية إلى الحق ، وسبب رحمة لمن اهتدى به واتبعه ، وقال الرازي : معنى (رَحْمَةً) : أنه نعمة في الدين.

(لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) أي آتيناه الكتاب بمشتملاته المذكورة ، لكي يؤمن قومه بلقاء ربهم ، أي لقاء ما وعدهم الله به من ثواب وعقاب ، وإذا آمنوا بذلك آمنوا بالله وحده لا شريك له.

ثم انتقل إلى وصف القرآن الكريم فقال : (وَهذا كِتابٌ ...) أي وهذا القرآن كتاب عظيم الشأن ، كثير الخير والنفع في الدين والدنيا ، ثابت لا ينسخ ، جامع لأسباب الهداية الدائمة والنجاة والفلاح ، فاتبعوا ما هداكم إليه ، واتقوا النار والكفر بما نهاكم عنه ومنعكموه ، لتظفروا برحمة الله الواسعة في الدنيا والآخرة.

وفي هذا دعوة صريحة إلى اتباع القرآن ، من طريق التدبر بآياته. والعمل به.

١٠٩

هذا كتاب أنزلناه لئلا تقولوا وهو خطاب لأهل مكة : إنما اقتصر إنزال الكتاب على من قبلنا من اليهود والنصارى ، أي لينقطع عذركم ، ولئلا تقولوا : إنا كنا عن معرفة الكتب السابقة غافلين ، لا ندري ما هي ؛ لأنها ليست بلغتنا ، ولأننا قوم أميون لا نعرف ما يعرفه ويدرسه غيرنا.

ولئلا تقولوا أيضا لو أنزل علينا ما أنزل عليهم ، لكنا أهدى منهم فيما أوتوه ؛ لأننا أكثر ذكاء وفهما ، وأعمق بصيرة ، وأمضى عزيمة ، كقوله تعالى : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ ، لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ ، لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) [فاطر ٣٥ / ٤٢] أي أهدى من إحدى الأمم المجاورة من أهل الكتاب.

فرد الله عليهم بما يقطع كل تعلل واعتذار بقوله : (فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ ..) أي فقد جاءكم على لسان رسولنا النبي العربي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرآن عظيم ، فيه بيان للحلال والحرام ، وهدى لما في القلوب ، ورحمة من الله لعباده الذين يتبعونه ، ويقتفون ما فيه ، وهو يشتمل على الحق المؤيد بالحجج والبراهين في العقيدة والآداب والأحكام.

ثم أبان الله سوء عاقبة من كذب بالقرآن ، فقال : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ ..) أي لا أحد أظلم ممن كذب بآيات الله ، بعد ما عرف صحتها وصدقها ، أو تمكن من معرفة ذلك ، وأعرض عنها ، ومنع الناس عن التفكير فيها ، كما كان يفعل زعماء مكة ، كقوله تعالى : (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) [الأنعام ٦ / ٢٦].

ثم أتبع الله ذلك بالتهديد والوعيد والعقاب لكل معرض عن القرآن ، كما هو الشأن الغالب بعد بيان أسباب الهداية ، فقال : (سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ ..) أي سنجازي المعرضين عن آياتنا أشد العذاب بسبب حجب عقولهم ونفوسهم وغيرهم عن هداية الله ، والإعراض عنها ؛ لأنهم يتحملون وزرهم ووزر من

١١٠

منعوهم عن الحق ، وحالوا بينهم وبين هداية الله ، كقوله تعالى : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ) [النحل ١٦ / ٨٨] أي زدناهم عذابا غير عذابهم بسبب إفسادهم وصدهم عن سبيل الحق.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على أن القرآن مثل التوراة في أصولها الصحيحة الأولى التي فقدت وضاعت ، ثم كتب عنها بديل محرّف مشوّه ، مما لم يبق منهجا للبشرية وكتابا للإنسانية غير القرآن الكريم ، ففيه الهداية الكاملة ، والبيان الواضح المؤيد بالبراهين والأدلة العقلية ، والنقلية (السمعية) ، ولم يبق لأحد عذر بعد مجيء محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتأييده بالمعجزة الخالدة الباقية من غير تبديل ولا تحريف ، فإن كذب به أحد ، فلا أظلم منه ، وسيلقى جزاء إعراضه وتكذيبه. ودل قوله تعالى : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها) على تعظيم كفر من كذب بآيات الله ، ومنع عنها نفسه وغيره من الإيمان بها ؛ لأن الأول ضلال ، والثاني منع عن الحق وإضلال.

إنذار أخير للكفار بسوء العذاب

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٥٨))

الإعراب :

(لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها ، لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ) جملة : (لَمْ تَكُنْ) صفة النفس.

١١١

البلاغة :

(هَلْ يَنْظُرُونَ) معنى الاستفهام : النفي.

(قُلِ : انْتَظِرُوا) أمر تهديد ووعيد.

(لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها ..) قال أحمد الإسكندري في حاشية الكشاف : ١ / ٥٣٧ : اشتمل هذا الكلام على النوع المعروف من علم البيان والبلاغة باللف ، وأصل الكلام : يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا لم تكن مؤمنة قبل : إيمانها بعد ، ولا نفسا لم تكسب في إيمانها خيرا قبل : ما تكسبه من الخير بعد ، إلا أنه لفّ الكلامين ، فجعلهما كلاما واحدا بلاغة واختصارا وإعجازا. ومبدأ أهل السنة : لا ينفع بعد ظهور الآيات اكتساب الخير ، وإن نفع الإيمان المتقدم في السلامة من الخلود في النار.

المفردات اللغوية :

(هَلْ يَنْظُرُونَ) ينتظرون أي ما ينتظر المكذبون. (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) لقبض أرواحهم. (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) أي أمره ، بمعنى عذابه. (أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) أي علاماته الدالة على الساعة. (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) وهي طلوع الشمس من مغربها ، كما في حديث الصحيحين. (أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها) أي : أو نفسا لم تكن كسبت في إيمانها طاعة ، أي لا تنفعها توبتها ، كما في الحديث.

المناسبة :

هذه الآية إنذار للكفار بعد إنذار بسوء العذاب ، فلما بيّن الله تعالى أنه إنما أنزل الكتاب إزالة للعذر ، وإزاحة للعلة ، بيّن أنهم لا يؤمنون البتة ، أي لا أمل في إيمانهم.

التفسير والبيان :

يتوعد الله تعالى الكافرين والمخالفين لرسله والمكذبين بآياته والصادين عن سبيله ، فهم ما ينتظرون ولا يؤمنون إلا إذا جاءهم أحد أمور ثلاثة : وهي مجيء الملائكة ، أو مجيء الرب ، أو مجيء الآيات القاهرة من الله تعالى.

١١٢

ومعنى مجيء الملائكة هو مجيئهم لقبض أرواحهم. ومعنى إتيان الله : إتيان ما وعد به من نصر أنصاره وأوعد به من تعذيب أعدائه في الدنيا ، والمراد من مجيء بعض آيات الله : حدوث بعض الحوادث القاهرة الموجبة للإيمان الاضطراري.

وكان مشركو مكة قد طلبوا نزول الملائكة وإتيان الله أو رؤيته ، كما حكى القرآن : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا : لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ ، أَوْ نَرى رَبَّنا) [الفرقان ٢٥ / ٢١]. (أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً) [الإسراء ١٧ / ٩٢] وطلبوا أيضا إنزال بعض آيات الله مثل (أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً) [الإسراء ١٧ / ٩٢].

وقوله (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) هل يدل على جواز المجيء والغيبة على الله؟ أجيب بأن هذا حكاية عن الكفار ، واعتقاد الكافر ليس بحجة ، أو أن هذا مجاز ، مثل قوله تعالى. (فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ) [النحل ١٦ / ٢٦] وذلك لقيام الدلائل القاطعة على أن المجيء والغيبة على الله تعالى محال.

وفي هذه الآية إيماء إلى تماديهم في تكذيب آيات الله ، وعدم الاعتداد بها.

ثم وجّه الحق تعالى إنذارا أخيرا لهم بقوله : (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ ...) أي يوم تأتي الآيات الملجئة للإيمان الاضطراري لا ينفع حينئذ الإيمان مثل إيمان فرعون حينما أحدق به الغرق ، كما لا ينفعها توبة لم تكن حدثت في وقت السعة قبل الغرغرة.

وبعض هذه الآيات قد يحدث قبل خروج الروح ، أو قبيل يوم القيامة حين ظهور أمارات الساعة وأشراطها ، كما قال البخاري في تفسير هذه الآية ، فيما أخرجه هو والجماعة إلا الترمذي عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : قال

١١٣

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها ، فإذا رآها الناس آمن من عليها ، فذلك حين (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ)». وفي لفظ : «فإذا طلعت ورآها الناس ، آمنوا أجمعون ، وذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل» ثم قرأ هذه الآية.

وأخرج أحمد والترمذي عن أبي هريرة مرفوعا : «ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل : طلوع الشمس من مغربها ، والدجال ، ودابة الأرض».

(قُلِ : انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) أي قل لهم يا محمد : انتظروا ما تتوقعون حدوثه من دحر الإسلام ، وقتل النبي ، وزوال الدين ، إنا منتظرون وعد ربنا الصادق لنا بالنصر ووعيده المتحقق لأعدائنا ، مثل قوله تعالى : (فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ ، قُلْ : فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) [يونس ١٠ / ١٠٢].

وهذا تهديد شديد للكافرين ووعيد اكيد لمن أرجأ إيمانه وتوبته إلى وقت لا ينفعه ذلك ، كما قال تعالى : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا : آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ ، وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ ، فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) [غافر ٤٠ / ٨٤ ـ ٨٥].

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآية على أمور ثلاثة :

الأول ـ إنه لا أمل في إيمان الكفار المعاندين ، لتماديهم في تكذيب آيات الله.

الثاني ـ لا ينفع الإيمان الاضطراري عند رؤية العذاب في الدنيا ، أو عند مجيء بعض علامات القيامة.

١١٤

الثالث ـ وعيد الكفار وتهديدهم وإنذارهم بإنزال العذاب عليهم إذا لم يؤمنوا.

عاقبة الاختلاف في الدين

(إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (١٥٩))

المفردات اللغوية :

(إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ) باختلافهم فيه ، فأخذوا بعضه وتركوا بعضه. وفي قراءة : فارقوا : أي تركوا دينهم الذي أمروا به ، وهم اليهود والنصارى. (وَكانُوا شِيَعاً) فرقا في ذلك. (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) أي فلا تتعرض لهم. (إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ) يتولاه. (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) يخبرهم في الآخرة عن أفعالهم ، فيجازيهم عليها.

المناسبة :

بعد أن أوعد الله الكفار وأنذرهم بسوء العذاب ، وبما ينتظر من الحوادث الرهيبة في آخر الزمان ، حذّر الله المؤمنين من التفرق في الدين ، كما يفعل أهل البدع والشبهات ، وحث على توحيد كلمة المسلمين.

التفسير والبيان :

روى أبو هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذه الآية : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ) : هم أهل البدع والشبهات ، وأهل الضلالة من هذه الأمة. وهذا ما قاله مجاهد. وقال أبو أمامة في قوله : (وَكانُوا شِيَعاً) هم الخوارج.

وقيل عن جماعة (قتادة والضحاك والسدي) : نزلت هذه الآية في اليهود والنصارى ؛ إذ فرقوا دين إبراهيم وموسى وعيسى ، فجعلوه أديانا مختلفة ومذاهب شتى.

١١٥

وقيل : الآية عامّة في جميع الكفار ، قال ابن كثير : والظاهر أن الآية عامة في كل من فارق دين الله ، وكان مخالفا له (١). وهذا ما صوبه بعض المحدثين ، مثل صاحب تفسير المنار (٢) ، فقال : والصواب هو الجمع بين الرأيين ، فإن الله تعالى ، بعد أن أقام حجج الإسلام في هذه السورة ، وأبطل شبهات الشرك ، ذكر أهل الكتاب وشرعهم ؛ وأمر المستجيبين لدعوة الإسلام بالوحدة وعدم التفرق ، كما تفرق من قبلهم ، كما جاء في سورة آل عمران : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا ، وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ ، وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) [١٠٥].

والمعنى : إن الذين فرقوا دينهم ، فآمنوا ببعض وأخذوا به ، وتركوا بعضه الآخر ، وتأولوا نصوصه على وفق أهوائهم ، وصاروا فرقا ، كل فرقة تأخذ برأي وتتعصب لمذهب ، لا تتعرض لهم يا محمد ودعهم وشأنهم ولا تقاتلهم ، وإنما عليك تبليغ الرسالة ، ومناصرة شعائر الدين الحق ، أنت بريء منهم ومن أفعالهم ، وبعيد من أقوالهم ومذاهبهم ، والله يتولى أمرهم وحسابهم ، ثم ينبئهم في الآخرة ويجازيهم على تجزئة الدين. قال الرازي : المراد من الآية الحث على أن تكون كلمة المسلمين واحدة ، وألا يتفرقوا في الدين ، ولا يبتدعوا البدع (٣).

وقد استنكر الله تعالى في موضع آخر هذه التجزئة ، فقال عن أهل الكتاب : (أََتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ ، وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) [البقرة ٢ / ٨٥].

وحذر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تفرق المسلمين ، روى أبو داود عن معاوية بن أبي سفيان رضي‌الله‌عنه قال : قام فينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملّة (أي فرقة) وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ، ثنتان وسبعون في النار ، وواحدة في الجنة ، وهي

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٢ / ١٩٦

(٢) راجع ٨ / ٢١٤

(٣) تفسير الرازي : ١٤ / ٨

١١٦

الجماعة» (١) وروى أبو داود ، والترمذي ـ واللفظ له ـ عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ، أو اثنتين وسبعين ، والنصارى مثل ذلك. وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة» (٢) فيكون المراد من قوله : (فَرَّقُوا دِينَهُمْ) اختلفوا فيه كما اختلفت اليهود والنصارى. وقيل : فرقوا دينهم ، فآمنوا ببعض ، وكفروا ببعض.

وأسباب الاختلاف والتفرق كثيرة ، من أهمها : حب السيطرة والسلطة ، والتعصب للجنس والقوم ، أو للرأي والهوى ، والإصغاء لدسائس أعداء الدين ومكائدهم ، والجهل والتخلف ، واتباع الآخرين في العادات والتقاليد ، وتخلي بعض الدول أو أكثرها عن الدين في الفكر والاعتقاد ، والسياسة والمنهج ، والنظام والقانون.

فقه الحياة أو الأحكام :

إن شرع الله واحد وكل لا يتجزأ ، فلا يصح أخذ بعضه ، وترك بعضه ، وتعطيل حكم أو ادعاء عدم صلاحيته للعصر ، فمن اعتقد ذلك فهو كافر.

والتفرق في الدين ، والابتداع واتباع الشبهات والشهوات خطر عظيم وجرم كبير وضلال مبين.

وما على الأمة إلا جمع كلمتها ، وتوحيد رأيها ، والحذر من الانزلاق في مهاوي الابتداع مما لم يأذن به الله ورسوله في العبادة والأخلاق والتشريع.

وإن هجر تشريع الله بدأ بالتخلي عن بعض أحكامه تدريجيا ، حتى أصبح منعزلا عن الحياة.

__________________

(١) جامع الأصول لابن الأثير : ١٠ / ٤٠٧

(٢) المرجع السابق : ١٠ / ٤٠٨

١١٧

بل إنه مع الأسف امتد التجزؤ والتجميد إلى بعض نصوص القرآن ، فلا يقرأ بعضها في الإذاعات.

والآية عامة في كل من فارق الدين وكان مخالفا له ، سواء أكان من أهل الكتاب (اليهود والنصارى) أم من المسلمين (أهل البدع والشبهات). روى بقيّة بن الوليد بسنده عن عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعائشة : «إن الذين فرقوا دينهم ، وكانوا شيعا : إنما هم أصحاب البدع ، وأصحاب الأهواء ، وأصحاب الضلالة من هذه الأمة ، يا عائشة ، إن لكل صاحب ذنب توبة غير أصحاب البدع وأصحاب الأهواء ، ليس لهم توبة ، وأنا بريء منهم ، وهم منا برآء».

جزاء الحسنة والسيئة

(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦٠))

الإعراب :

(فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) : من قرأ بالتنوين (عَشْرُ) كان (عَشْرُ) مبتدأ ، و (أَمْثالِها) صفة له ، و (فَلَهُ) خبر مبتدأ مقدم عليه. ومن قرأ بالإضافة كان في حذف الهاء من (عَشْرُ) وهو مذكر ثلاثة أوجه ذكرها ابن الأنباري ١ / ٣٥٠ :

الأول ـ أن يكون التقدير فيه : عشر حسنات أمثالها ، فحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه. وهذا مذهب سيبويه. وهذا أوجه الوجوه.

والثاني ـ أنه حمل (أَمْثالِها) على المعنى ؛ لأن الأمثال في معنى حسنات ، فكأنه قال : عشر حسنات.

والثالث ـ أن يكون اكتسى المضاف التأنيث من المضاف إليه ، كقوله تعالى : (يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ) [يوسف ١٢ / ١٠] في قراءة التاء ، وكقولهم : ذهبت بعض أصابعه.

١١٨

البلاغة :

(بِالْحَسَنَةِ) و (بِالسَّيِّئَةِ) بينهما طباق.

المفردات اللغوية :

(فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) أي جزاء عشر حسنات. (إِلَّا مِثْلَها) أي جزاء واحد مماثلا لها (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) لا ينقصون من جزائهم شيئا.

قال بعضهم : الحسنة : قول : لا إله إلا الله ، والسيئة : هي الشرك. قال الرازي : وهذا بعيد ، بل يجب أن يكون محمولا على العموم (١).

المناسبة :

بعد أن بين الله تعالى في السورة أصول الإيمان ، وألزم باتباع الوصايا العشر في الفضائل والآداب. وندد بالكفار وأهل البدع ، أوضح هنا الجزاء على العمل ، سواء أكان من الحسنات : وهي الإيمان والأعمال الصالحة ، أم من السيئات : وهي الكفر والمعاصي أو الفواحش.

التفسير والبيان :

من جاء يوم القيامة بالخصلة الحسنة والفعلة الطيبة من الطاعات ، فله جزاؤها عشر حسنات أمثالها ، وهذا من قبيل العدل والفضل المحدود ، ولكن قد تضاعف الحسنة بعد ذلك إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ، قال تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ ، فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ ، وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ ، وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة ٢ / ٢٦١]. وقال عزوجل : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً ، فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) [البقرة ٢ / ٢٤٥] (إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ) [التغابن ٦٤ / ١٧].

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٤ / ٨

١١٩

وهذا التفاوت مرده إلى الله تعالى ، وإلى اقتران العمل بما يرفعه عند الله ، كالإخلاص في النية ، واحتساب الأجر عند الله ، وإخفاء الفعل الطيب ، وإبداؤه أحيانا للاقتداء به ، وتحري منفعة الأمة. ومن ارتكب سيئة أو اقترف ذنبا ، فله عقوبة سيئة مماثلة لها.

(وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي كل من المحسن والمسيء لا ينقص من عمله شيء ، فلا ينقص من ثواب المحسنين ، ولا يزاد على عقاب المسيئين.

وجاء الحديث النبوي موضحا معيار التفاضل في الحسنات ، وطريق الجزاء على السيئات ، روى أحمد والبخاري ومسلم والنسائي عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى : «إن ربكم عزوجل رحيم ، من همّ بحسنة فلم يعملها ، كتبت له حسنة ، فإن عملها كتبت له عشرا إلى سبعمائة إلى أضعاف كثيرة. ومن همّ بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة ، فإن عملها ، كتبت له واحدة ، أو يمحوها الله عزوجل ، ولا يهلك على الله إلا هالك» والكتابة تكون بواسطة الملائكة ، بأمر الله لهم.

فقه الحياة أو الأحكام :

هذا التفاوت بين جزاء الحسنة وجزاء السيئة بفضل من الله ورحمة منه ؛ لأن الثواب ـ في رأي أهل السنة ـ تفضل من الله تعالى في الحقيقة ، فمن فعل حسنة طيبة ، كان له من الجزاء عشرة أضعاف مما يجب له. وتجوز المضاعفة إلى سبعمائة ضعف وإلى أضعاف كثيرة ، حسبما تقتضي الإرادة والمشيئة والحكمة الإلهية ، وبقدر ما يقترن به العمل الصالح من قصد حسن وإخلاص لله تعالى.

ومن اقترف فعلة سيئة ، لم يكن له من الجزاء إلا ما يساويها ويوازيها. روى أبو ذر أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله تعالى قال : الحسنة عشر أو أزيد ، والسيئة واحدة أو عفو ، فالويل لمن غلب آحاده أعشاره» وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث المتقدم : «يقول الله :

١٢٠