التفسير المنير - ج ٨

الدكتور وهبة الزحيلي

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيتان على ما يأتي من الأحكام :

١ ـ الأمر بالدعاء والتعبد به ، وهو نوع من أنواع العبادة ، ويفيد معرفة ذل العبودية ، ومعرفة عزة الربوبية ، ويكون سببا لجلب الخير ودفع الضر ؛ لأن هناك أمورا معلقة بالأسباب ، والدعاء سبب.

٢ ـ للدعاء آداب وصفات تحسن معه : وهي الخشوع والاستكانة والتضرع ، وكونه سرا في النفس ليبعد عن الرياء ، وأن يكون الإنسان في حالة بين الرجاء والخوف ، فيدعو خوفا من عقاب الله ، وطمعا في ثوابه ، قال الله تعالى : (وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً) [الأنبياء ٢١ / ٩٠].

قال بعض أهل العلم : ينبغي أن يغلب الخوف الرجاء طوال الحياة ، فإذا جاء الموت غلب الرجاء. أخرج مسلم عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله».

وينبغي عدم الاعتداء في الدعاء : بالجهر الكثير والصياح ، أو يدعو الإنسان أن تكون له منزلة نبي ، أو يدعو في محال ونحو هذا من الشطط ، أو يدعو طالبا معصية وغير ذلك ، أو يدعو بما ليس في الكتاب والسنة ، فيتخير ألفاظا مفقّرة ، وكلمات مسجّعة ، وكل هذا يمنع من استجابة الدعاء ، والأولى ترك كل ذلك.

ومجمل آداب الدعاء : أن يكون على طهارة ، وأن يستقبل القبلة ، وتخلية القلب من الشواغل ، وافتتاحه واختتامه بالصلاة على النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ورفع اليدين نحو السماء ، وإشراك المؤمنين فيه ، وتحري ساعات الإجابة كثلث الليل الأخير ، ووقت إفطار الصائم ، ويوم الجمعة ، وحال السفر والظلم وغير ذلك (١).

__________________

(١) روح المعاني للالوسي : ٨ / ١٤٠

٢٤١

٣ ـ ودل قوله تعالى : (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) على أن كل من خالف أمر الله ونهيه ، فإنه يكون معاقبا إذا ارتكب محرما ، فإن لم يكن من المحرمات فالأولى تركه.

٤ ـ استدل الحنفية بقوله تعالى : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) على أن إخفاء التأمين «آمين» أولى من الجهر بها ؛ لأنه دعاء. وقال الشافعي رحمه‌الله : إعلانه أفضل.

وأما رفع اليدين في الدعاء ، فكرهه طائفة من العلماء مثل عطاء وطاوس ومجاهد وجبير بن مطعم وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير عملا بحديث أنس أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان لا يرفع يديه في شيء من الدعاء إلا عند الاستسقاء ، فإنه كان يرفعهما حتى يرى بياض إبطيه.

وأجاز جماعة آخرون من الصحابة والتابعين رفع الأيدي ، ذكر البخاري عن أبي موسى الأشعري : دعا النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم رفع يديه ، ورأيت بياض إبطيه. ومثله عن أنس. وقال ابن عمر : رفع النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يديه وقال : «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد». وفي صحيح مسلم عن عمر قال : لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المشركين ، وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وسبعة عشر رجلا ، فاستقبل نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم القبلة مادّا يديه ، فجعل يهتف بربه. وروى الترمذي عن عمر قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا رفع يديه ، لم يحطهما حتى يمسح بهما وجهه ، وقال : هذا حديث صحيح غريب. وهذه الأحاديث ـ كما ذكر القرطبي ـ أصح طرقا ، وأثبت من حديث أنس المتقدم. ثم قال : والدعاء حسن كيفما تيسر ، فإن شاء استقبل القبلة ورفع يديه فحسن ، وإن شاء فلا ، فقد فعل ذلك النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم حسبما ورد في الأحاديث.

٥ ـ نهى سبحانه عن كل فساد قل أو أكثر بعد صلاح قل أو كثر. ودل قوله

٢٤٢

تعالى : (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها) على أن الأصل في المضار الحرمة والمنع على الإطلاق. وبان في الآية المتقدمة : (قُلْ : مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ) أن الأصل في المنافع واللذات الطيبة الإباحة والحل.

٦ ـ دل قوله : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ ..) على أن كل ما كان رحمة فهي قريبة من المحسنين ، ويفهم منه : ليس لله في حق الكافر رحمة ولا نعمة ؛ لأنه يلزم من الآية أن كل ما لا يكون قريبا من المحسنين ألا يكون رحمة.

إنزال المطر وإخراج النبات

ودلالتهما على القدرة الإلهية وإثبات البعث

(وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٥٧) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (٥٨))

الإعراب :

(بُشْراً) منصوب على الحال.

(إِلَّا نَكِداً) حال من الضمير في (يَخْرُجُ).

البلاغة :

(سُقْناهُ) فيه التفات عن الغيبة.

(لِبَلَدٍ مَيِّتٍ) استعارة ، إذ شبه جدب البلد وعدم نباته بالجسد الذي لا روح فيه ، من حيث عدم الانتفاع به.

٢٤٣

(كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى) تشبيه مرسل مجمل ، ذكر فيه الأداة ولم يذكر وجه الشبه ، شبّه إخراج الموتى من قبورهم بإخراج النبات من الأرض.

المفردات اللغوية :

(الرِّياحَ) جمع ريح ، وهو الهواء العاصف الشديد الحركة ، وإذا جمعت كانت في معنى الخير ، كما هنا ، وإذا أفردت كانت في معنى الشر ، كما في قوله تعالى : (أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ) [القمر ٥٤ / ١٩] وكان عليه الصلاة والسلام يقول : «اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا».

(بُشْراً) مبشرات متفرقة قبل نزول المطر (بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) قبل نزول المطر (أَقَلَّتْ) حملت ورفعت أي الرياح (سَحاباً) جمع سحابة وهي الغيوم (ثِقالاً) مشبعة ببخار الماء (سُقْناهُ) سيرناه أي السحاب (لِبَلَدٍ مَيِّتٍ) أرض لا نبات فيها ولا مرعى ، أي لإحيائها (فَأَخْرَجْنا بِهِ) أي بالماء (الثَّمَراتِ) جمع ثمرة ، وهي ما تحمله الشجرة ، سواء أكان مأكولا أم لا (كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى) أي كذلك الإخراج للنبات بالمطر نخرج الموتى من قبورهم بالإحياء. (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) فتؤمنوا.

(وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ) العذب التراب (يَخْرُجُ نَباتُهُ) حسنا (بِإِذْنِ رَبِّهِ) هذا مثل للمؤمن ، يسمع الموعظة ، فينتفع بها (وَالَّذِي خَبُثَ) ترابه (لا يَخْرُجُ) نباته (إِلَّا نَكِداً) عسرا بمشقة ، لا خير فيه ، وهذا مثل للكافر (كَذلِكَ نُصَرِّفُ) كما بينا ما ذكر نبيّن الآيات (لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) الله فيؤمنوا.

المناسبة :

لما ذكر الله تعالى أنه خالق السموات والأرض ، وأنه المتصرف الحاكم المدبر للعالم العلوي والسفلي ، والمسخّر للإنسان ما في الكون ، وأرشد إلى دعائه ؛ لأنه على ما يشاء قادر ، ونهى عن الإفساد في الأرض ، وأبان أن رحمته قريبة من المحسنين ، نبّه تعالى إلى أنه الرزاق ، وأن أهم مصادر الرزق هو المطر الذي يترجم إلى خيرات كثيرة ويكون سببا للنبات الحسن ، وأنه يعيد الموتى أحياء يوم القيامة كإحياء الأرض بعد موتها.

٢٤٤

التفسير والبيان :

الله الذي يرسل الرياح قبل نزول المطر ، مبشرات بها ، فقوله : (بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) أي مقدم إنزال المطر ، كما قال : (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا ، وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ ، وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) [الشورى ٤٢ / ٢٨] وقال : (فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ ، كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها ، إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الروم ٣٠ / ٥٠].

فإذا حملت الرياح سحابا ثقالا ، أي من كثرة ما فيها من الماء ، تكون ثقيلة قريبة من الأرض ، سقناه لإحياء أرض مجدبة لا نبات فيها ، كقوله تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها ..) [يس ٣٦ / ٣٣].

فأنزلنا بالسحاب الماء ، إذ من المعروف علميا أن الهواء القريب من سطح البحر يسخن بتأثير الحرارة ، فيصعد في الجو ويبرد بتأثير منطقة باردة ، أو بالهواء البارد ، فإذا برد تكاثف منه بخار الماء ، وتكوّن السحاب ، ثم يتحرك السحاب بقوة الريح ، ثم ينزل مطرا بمشيئة الله وإرادته.

وهذا المعنى كثير متردد في الآيات مثل قوله تعالى : (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ ، فَتُثِيرُ سَحاباً ، فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ ، فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها ، كَذلِكَ النُّشُورُ) [فاطر ٣٥ / ٩] ومثل الآية ٤٣ من سورة النور ، والآية ٤٨ من سورة الروم.

فأخرجنا بالمطر أنواع النبات والثمار من الأرض ، على اختلاف ألوانها وأشكالها وطعومها وروائحها ، مما يدل على قدرة الله وتمام رحمته ، كما قال تعالى : (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ ، وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ ، وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ ، يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ ، وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [الرعد ١٣ / ٤].

٢٤٥

وإذا كان الشيء بالشيء يذكر ، والأمثال تقرن ببعضها لمعرفة تماثلها في الحكم ، فإنه تعالى أشار إلى إنكار البعث ، فقال : (كَذلِكَ نُخْرِجُ ..) أي مثل هذا الإخراج لأنواع النبات من الأرض الميتة الجدبة بالماء ، نخرج الموتى ونبعثهم ، فالله على كلّ شيء قدير ، يخرج الحي من الميت ، ويخرج الميت من الحي ، وقد بينا هذا الشبه لتتذكروا وتتعظوا ، فتؤمنوا بالبعث أو اليوم الآخر. كما قال تعالى : (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ ، قالَ : مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ : يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ ، وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) [يس ٣٦ / ٧٨ ـ ٧٩] وقال : (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) [الأنبياء ٢١ / ١٠٤] وقال : (ما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) [الأعراف ٧ / ٢٩].

ولكن استعداد الناس للإيمان بالبعث مختلف باختلاف الطبائع والنفوس ، فمنها الطيب الذي يتجاوب لنداء الإيمان ، ومنها الخبيث الذي يعرض عن الإيمان ، لذا قال تعالى : (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ ...) أي إن الأرض الطيبة التربة يخرج نباتها سريعا حسنا ، والأرض الخبيثة التربة كالسّبخة ونحوها ، لا يخرج نباتها القليل إلا بعسر وصعوبة.

قال ابن عباس : هذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر. أي إنه تعالى شبه المؤمن بالأرض الخيّرة ، والكافر بالأرض السبخة ، ومثله الحديث الذي رواه أحمد والبخاري ومسلم والنسائي عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير ، أصاب أرضا ، فكانت منها نقيّة قبلت الماء ، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكان منها أجادب أمسكت الماء ، فنفع الله بها الناس ، فشربوا وسقوا وزرعوا ، وأصاب منها طائفة أخرى ، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبث كلأ ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به ، فعلم وعلّم ، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به».

٢٤٦

هذه الأمثال والمقارنات وعقد أوجه الشبه بين الأشياء لإقناع الناس وحملهم على الإيمان والتفكير بالحقائق ، لذا قال تعالى : (كَذلِكَ نُصَرِّفُ ...) أي مثل ذلك البيان والتصريف نردد الآيات الدالة على القدرة الباهرة ونكررها ونبينها لقوم يشكرون نعمة الله ، وهم المؤمنون ليكفروا فيها ويعتبروا بها.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ الله تعالى مصدر الرزق ، فهو الذي ينزل المطر ، فينبت الزرع والعشب والشجر والنبات والثمار ، فيستفيد منها الإنسان والحيوان ثم يعود نفع الحيوان في النهاية إلى الإنسان. والإنزال والإنبات دليل على وجود الله وعلمه وقدرته وحكمته.

٢ ـ إخراج الموتى أحياء من القبور مثل إخراج النبات الحي من الأرض الجدبة الميتة التي لا حراك فيها ، وفي ذلك ذكرى ، تذكر الناس فيؤمنوا بالبعث والنشور يوم القيامة.

٣ ـ ضرب الله تعالى للمؤمن والكافر مثلا ، فإنه شبّه المؤمن بالأرض الخيّرة التي نزل عليها المطر ، فيحصل منها أنواع الأزهار والثمار ، والكافر بالأرض السّبخة التي لا تنبت إلا النزر القليل ، وإن نزل عليها المطر ، وشبّه نزول القرآن بنزول المطر ، فالروح الطاهرة النقية عن شوائب الجهل والأخلاق الذميمة إذا اتصل بها نور القرآن ، ظهرت فيها أنواع الطاعات والمعارف والأخلاق الحميدة ، والروح الخبيثة وإن اتصل بها نور القرآن ، لم يظهر فيها من المعارف والأخلاق الحميدة إلا القليل.

٤ ـ يضرب الله الأمثال للناس ليتذكروا ويتعظوا فيؤمنوا ، ويصرّف الآيات ويرددها ، ويأتي بالحجج والدلالات لإبطال الشرك ، كما يصرف الآيات

٢٤٧

في كل ما يحتاج إليه الناس ، لعل الشاكرين يتذكرون فيشكروا الله على ما أنعم عليهم. وخص الشاكرين ؛ لأنهم المنتفعون بذلك ، مثل قوله : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة ٢ / ٢].

قصة نوح عليه‌السلام

(لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٥٩) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٦٠) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦١) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٢) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٦٣) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (٦٤))

الإعراب :

(ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ غَيْرُهُ) : وصف لإله على الموضع ؛ لأن موضعه رفع. وقرئ بالجر صفة لإله على اللفظ.

(يا قَوْمِ) نداء مضاف ، ويجوز : يا قومي على الأصل (أُبَلِّغُكُمْ) إما كلام مستأنف بيان لكونه : (رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) ، أو يكون صفة لرسول. (وَأَنْصَحُ لَكُمْ) زيادة اللام مبالغة ودلالة على إمحاض النصيحة.

(أَوَعَجِبْتُمْ) فتحت الواو ؛ لأنها واو عطف ، دخلت عليها ألف الاستفهام للتقرير. والهمزة للإنكار ، والواو للعطف ، والمعطوف عليه محذوف ، كأنه قيل : أكذبتم وعجبتم.

٢٤٨

المفردات اللغوية :

(لَقَدْ) جواب قسم محذوف (عَذابَ يَوْمٍ) المراد هنا يوم القيامة (الْمَلَأُ) أشراف القوم ورؤساؤهم (رِسالاتِ رَبِّي) ما أوحي إليّ من الأوامر والنواهي والمواعظ والزواجر والبشائر والنذائر (ضَلالٍ) عدول عن طريق الحق (مُبِينٍ) بيّن (وَأَنْصَحُ لَكُمْ) أريد الخير ، وأرشد إلى المصلحة مع إخلاص النية (ذِكْرٌ) موعظة (عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ) ، أي على لسان رجل من جنسكم (لِيُنْذِرَكُمْ) العذاب إن لم تؤمنوا (الْفُلْكِ) السفينة (عَمِينَ) جمع عم ، أي ذو عمى عن الحق ، والأعمى : أعمى البصر.

المناسبة :

لما ذكر الله تعالى قصة آدم في أول السورة وما يتصل به ، شرع في ذكر قصص الأنبياء عليهم‌السلام الأول فالأول ، مبتدئا بنوح عليه‌السلام الذي هو أبو البشر الثاني ، وأول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض بعد آدم عليه‌السلام.

والهدف من إيراد قصص الأنبياء : التنبيه على أن إعراض الناس عن قبول دعوة الأنبياء ليس مقتصرا على قريش قوم محمد عليه الصلاة والسلام ، بل هذا موقف متبع في جميع الأمم السابقة ، والمصيبة إذا عمت خفت ، وفي ذلك تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتخفيف على قلبه : (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ ..) [هود ١١ / ١٢٠]. وفي القصص بيان العاقبة : عاقبة المنكرين وهي اللعن في الدنيا والخسارة في الآخرة ، وعاقبة المؤمنين وهي العزة في الدنيا والسعادة في الآخرة.

وفي إيراد القصص أيضا التنبيه إلى أن الله وإن كان يمهل هؤلاء المبطلين ، فلا يهملهم ، بل ينتقم منهم. وفي هذا من العظة والعبرة للأجيال ما يكفي : (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ) [يوسف ١٢ / ١١١].

وسرد القصة من غير تحريف ولا خطأ دليل على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي كان

٢٤٩

أميا لا يقرأ ولا يكتب ، إذ يدل ذلك على أنه إنما عرف القصة بالوحي من الله ، مما يدل على صحة نبوته.

أضواء على قصة نوح من التاريخ :

نوح عليه‌السلام : هو نوح بن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ : وهو إدريس (١) بن يارد بن مهلائيل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم أبي البشر.

وهو أول الرسل إلى المشركين ، كما في حديث الشفاعة في صحيح مسلم عن أبي هريرة : «يا نوح أنت أول الرسل إلى الأرض» وهو أول الرسل بتحريم البنات والأخوات والعمات والخالات. قال محمد بن إسحاق : ولم يلق نبي من قومه من الأذى مثل نوح إلا نبي قتل. وقد أرسله الله إلى قومه وهو ابن خمسين سنة ، وكان نجارا.

وقال ابن عباس : وكان ابن أربعين سنة. ثم عاش بعد الطوفان ستين سنة حتى كثر الناس وفشوا.

وقال يزيد الرقاشي : إنما سمي نوح لكثرة ما ناح على نفسه. وقد كان بين آدم إلى زمن نوح عليهما‌السلام عشرة قرون ، كلهم على الإسلام.

وذكر الترمذي وغيره أن جميع الخلق الآن من ذرية نوح عليه‌السلام. ذكر الزهري أن العرب وفارس والروم وأهل الشام وأهل اليمن من ولد سام بن نوح. والسند والهند والزنج والحبشة والزط والنوبة وكل السود من ولد حام بن نوح. والترك والبربر ووراء الصين ويأجوج ومأجوج والصقالبة كلهم من ولد يافث بن نوح.

__________________

(١) من قال من المؤرخين : إن إدريس النبي عليه‌السلام كان قبل نوح عليه‌السلام ، فقد وهم ، كما ذكر القرطبي بدليل الحديث الصحيح في الإسراء حين لقي النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إدريس قال له : «مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح» ولم يقل له : «بالابن الصالح» كآدم ونوح وإبراهيم.

٢٥٠

وكان أول ما عبدت الأصنام : أن قوما صالحين ماتوا ، فبنى قومهم عليهم مساجد ، وصوروا صورهم ، ليتذكروا حالهم وعبادتهم ، فيتشبهوا بهم ، فلما طال الزمان جعلوا أجسادا على تلك الصور ، فلما تمادى الزمان عبدوا تلك الأصنام ، وسموها بأسماء أولئك الصالحين : ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا.

فلما تفاقم الأمر بعث الله تعالى رسوله نوحا ، فأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له ، فقال : (يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ...).

وذكر نوح في (٤٣) ثلاثة وأربعين موضعا من القرآن الكريم ، وذكرت قصته مفصلة في سورة الأعراف وهود والمؤمنون والشعراء والقمر ونوح. ومضمون قصته : أنه دعا قومه إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، وأن يتركوا عبادة الأصنام ، ولكنهم عاندوه وعارضوه وآذوه ، واتبعوا بعض زعمائهم ، ومكروا مكرا عظيما ، وصمموا ألا يذروا عبادة : ود ، وسواع ، ويغوث ، ويعوق ، ونسر. وقالوا في حماقة وكبرياء : إنك جادلتنا فأكثرت جدالنا ، وإنا لن نترك ما نحن عليه ، فأتنا بالعذاب الذي تهددنا به ، فرد عليهم بأن تعذيبهم بيد الله تعالى.

ولما يئس نوح من إيمان قومه بعد دعوتهم إليه ألف سنة إلا خمسين ، أمره الله تعالى بصناعة سفينة أداة النجاة ، وكانوا كلما مروا عليه سخروا منه ومن عمله. فلما أتمها ، وأمره الله تعالى أن يأخذ معه أهله إلا زوجته ، وأن يأخذ من آمن معه من قومه ، وكانوا ستة فقط ، وقيل : أربعين رجلا وامرأة ، وأن يصحب معه من أجناس الحيوان والطير والوحش زوجين اثنين.

ثم فار تنور أهله بالماء ، وبدأ تفجر الماء الكثير من كل مكان حتى عمّ الطوفان قومه وكل ما على الأرض من إنسان وحيوان ، فهلكوا حتى ابنه الذي أبى الركوب في السفينة قائلا : (سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ)

٢٥١

[هود ١١ / ٤٣]. واستوت السفينة على جبل الجودي في نواحي ديار بكر من جبال أرمينية جنوب تركيا : (وَقِيلَ : يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ ، وَيا سَماءُ أَقْلِعِي ، وَغِيضَ الْماءُ ، وَقُضِيَ الْأَمْرُ ، وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ، وَقِيلَ : بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [هود ١١ / ٤٤].

وللعلماء رأيان في عموم طوفان الأرض ، فقال جماعة : لقد عمّ جميع أنحاء الأرض ، بدليل وجود بقايا حيوانية مائية في أعالي الجبال. وقال آخرون : لم يكن الطوفان عاما ، وإنما كان على الجهة التي كان يسكنها نوح وقومه ، وهي بلاد الشرق الأوسط وما جاورها.

ومن المعلوم أن البلاء يعم والرحمة تخص ، والنقمة لا تقتصر على الظالمين ، فتشمل الأطفال الأبرياء والوحوش والطيور : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) [الأنفال ٨ / ٢٥].

وكان نوح قد دعا بدعوتين : الأولى للمؤمنين والثانية على الكافرين ، أما الأولى فقال: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ..) [نوح ٧١ / ٢٨].

والثانية هي : (وَقالَ نُوحٌ : رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً ، إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ ، وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) [نوح ٧١ / ٢٦ ـ ٢٧]. وكان ابن نوح في عداد الهالكين ؛ لأنه كان ظالما كافرا ، بدليل تمام الآية الأولى : (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً) والظلم هو الكفر. وهذا ابن نوح حقيقة في رأي جماعة ، وقال آخرون : إنه كان ابن امرأته من غيره ، ولم يكن ابنا حقيقيا له.

وكانت امرأة نوح تقول : زوجي مجنون ، كما كانت امرأة لوط تدل الناس على ضيفه إذا نزلوا به : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ ،

٢٥٢

كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ ، فَخانَتاهُما ، فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً ، وَقِيلَ : ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) [التحريم ٦٦ / ١٠].

ولم ينص القرآن الكريم على حجم السفينة ، وإنما أشير إليها بأنها (الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) [يس ٣٦ / ٤١] وبأنها (ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ) [القمر ٥٤ / ١٣] أي مسامير ، وبأن صناعتها بوحي من الله وإلهام : (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا) [هود ١١ / ٣٧].

التفسير والبيان :

أقسم الله تعالى لأهل مكة وغيرهم بأنه أرسل نوحا إلى قومه لإنذارهم ، ودعوتهم إلى توحيد الله ، وعبادته دون سواه ، فقال لهم : (يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) أي توجهوا بعبادتكم إلى الله وحده لا شريك له ، إذ ليس لكم إله غير الله ، تتوجهون إليه بالعبادة والدعاء وطلب الخير ، فالله هو خالق كل شيء ، وبيده ملكوت السموات والأرض ، وهو الإله الحق القائم على هذا الكون ، وهو المستحق للعبادة والتقديس والتعظيم.

(إِنِّي أَخافُ ...) إني أخاف عليكم بسبب الشرك عذاب يوم عظيم من عذاب يوم القيامة إذا لقيتم الله ، وأنتم تشركون به. فاليوم العظيم : هو يوم القيامة ، أو يوم نزول العذاب عليهم ، وهو الطوفان.

وموقع الجملتين بعد قوله : (اعْبُدُوا اللهَ) : أن الأولى : بيان لوجه اختصاصه بالعبادة ، والثانية : بيان للداعي إلى عبادته.

قال الملأ من قومه أي أشراف القوم والسادة والقادة : إنا لنراك في دعوتك إيانا إلى ترك عبادة الأصنام لفي غمرة من الضلال أحاطت بك ، وهكذا حال الفجار يرون الأبرار في ضلالة ، وهم أعداء دائما للهداة ، كقوله تعالى : (وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا : إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ) [المطففين ٨٣ / ٣٢] وقوله : (وَقالَ الَّذِينَ

٢٥٣

كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا : لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ ، وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ ، فَسَيَقُولُونَ : هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ) [الأحقاف ٤٦ / ١١].

قال نوح مجيبا لهم : يا قوم ، ما أنا فيما أمرتكم به من توحيد الله وعبادته دون الأنداد بضال عن جادة الحق ، ولكن أنا رسول من رب العالمين إليكم ، ربّ كل شيء ومليكه ، أهديكم إلى سبيل الرشاد ، وأدعوكم إلى ما فيه سعادتكم في الدنيا والآخرة. والضلالة كما ذكر الزمخشري أخص من الضلال ، فكانت أبلغ في نفي الضلال عن نفسه ، كأنه قال : ليس بي شيء من الضلال.

أبلغكم ما أرسلني به ربي من الدعوة إلى التوحيد الخالص ، والإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وما اشتمل عليه من جنة ونار ، وثواب وعقاب ، وأبيّن لكم أصول العبادات والمعاملات وأحكامها العامة وفضائل الأخلاق والآداب ، وفي الجملة : كل الأوامر والنواهي والمواعظ والزواجر والبشائر والنذائر.

وأنصح لكم نصحا خالصا من شوائب المصلحة والمكر ، بتحذيركم من عقاب الله على كفركم وتكذيبكم لي. روي مسلم وأبو داود والنسائي عن تميم الداري أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الدين النصيحة ، قلنا : لمن يا رسول الله؟ قال : لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم».

وأنا في هذا التبليغ والنصح أعلم من الله وشؤونه مالا تعلمون من مصير هذا العالم ، وإن إنذاري عاقبة الشرك بعذاب الدنيا ، ونصحي لكم ناشئ عن علم يقيني لا تعلمونه. وهذا شأن الرسول : أن يكون مبلّغا فصيحا ناصحا عالما بالله. ويكون المقصود من قوله : (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) حمل القوم على أن يرجعوا إليه في طلب العلوم المتعلقة بتوحيد الله وصفات جلاله ، وعقابه الشديد في الدنيا والآخرة على عصيان أوامره.

٢٥٤

جاء في صحيح مسلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قال لأصحابه يوم عرفة ، وهم أوفر ما كانوا وأكثر جمعا : «أيها الناس ، إنكم مسئولون عني ، فما أنتم قائلون؟ قالوا : نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت ، فجعل يرفع أصبعه إلى السماء ، وينكسها عليهم ويقول : اللهم اشهد ، اللهم اشهد».

ثم أخبر الله تعالى عن نوح أنه قال لقومه : أكذبتم وعجبتم أن جاءكم ذكر يذكّركم ، ووعظ من ربكن ، على لسان رجل منكم ، ليحذّرنكم عاقبة كفركم ، وينذركم عاقبة الشرك في العبادة ، وليعدّكم بالتقوى (أي التزام الأوامر واجتناب النواهي) لرحمته تعالى التي ينزلها على المؤمنين ، أو ليوجد فيكم التقوى وهي الخشية بسبب الإنذار ، ولترحموا بالتقوى إن وجدت منكم.

ليس هذا بعجب أن يوحي الله إلى رجل من جنسكم ، رحمة بكم ، ولطفا وإحسانا إليكم ، لينذركم ، ولتتقوا نقمه ولا تشركوا به ، وليرحمكم ربكم بطاعته والإيمان برسله.

لكنهم لم يصغوا لنداء الحق والإخلاص هذا ، وتمادوا في تكذيبه ومخالفته من قبل الأكثرية ، وما آمن معه منهم إلا قليل ، كما قال تعالى في موضع آخر : (وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) [هود ١١ / ٤٠] قيل : كانت عدتهم ثلاثة عشر : نوح وبنوه : سام وحام ويافث وزوجاتهم ، وستة آخرون آمنوا به. وقيل : كانوا أربعين أو ثمانين : أربعين رجلا وأربعين امرأة.

فكان العقاب إغراقهم بالطوفان : (وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا ...) أي وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا أو جحدوا بها بالطوفان ، بسبب كفرهم وتماديهم في ضلالهم وشركهم ، إنهم كانوا قوما عميا عن الحق ، لا يبصرونه ولا يهتدون له. فقوله : (عَمِينَ) يراد به عمى القلوب غير مستبصرين ، والفرق بين العمى والأعمى أن الأول بسبب عمى البصيرة ، والثاني بسبب عمى البصر.

٢٥٥

ونجّى الله رسوله نوحا والمؤمنين القائل معه.

وهكذا بيّن الله تعالى في هذه القصة أنه انتقم لأوليائه من أعدائه ، وأنجى رسوله والمؤمنين ، وأهلك أعداءهم من الكافرين ، كقوله تعالى : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) [غافر ٤٠ / ٥١].

فاحذروا أيها المخاطبون بدعوة الإسلام أن تكونوا مثلهم ، أو تسيروا على منوالهم. وسيأتي في سورة هود تفصيل أشمل لهذه القصة.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت قصة نوح عليه‌السلام على أنه اهتم في دعوة قومه بثلاثة عناصر :

أحدها : أنه أمرهم بعبادة الله تعالى.

والثاني : أنه حكم أن لا إله غير الله. والمقصود من الكلام الأول : إثبات التكليف ، والمقصود من الكلام الثاني الإقرار بالتوحيد ، والثاني كالعلة للأول.

والثالث : (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) : وهو إما عذاب يوم القيامة ، أو عذاب يوم الطوفان. والمراد من الخوف : اليقين ؛ لأنه كان جازما بنزول العذاب بهم إما في الدنيا وإما في الآخرة إن لم يقبلوا ذلك الدين. وقال آخرون : بل المراد منه الظن والشك.

وظاهر هذه الآية يدل على أن الإله هو الذي يستحق العبادة ؛ لأن قوله : (اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) إثبات ونفي ، يجب أن يتواردا على مفهوم واحد حتى يستقيم الكلام ، فكان المعنى : اعبدوا الله ما لكم من معبود غيره ، حتى يتطابق النفي والإثبات.

ودلت الآية أيضا على أن الفجار والكفار يرون الأبرار والمؤمنين عادة في

٢٥٦

ضلال ، ويكونون دائما أعداء للهداة ، فقد نسبوا نوحا عليه‌السلام في ادعاء النبوة إلى الضلال ، وكذبوه وتمردوا على دعوته ، وأمعنوا في إيذائه ، وأصروا على عبادة الأصنام.

ومهمة الأنبياء عادة هي تبليغ الرسالة. وهناك فرق بين تبليغ الرسالة وبين النصيحة وهو أن التبليغ معناه : التعريف بأنواع تكاليف الله وأقسام أوامره ونواهيه. وأما النصيحة : فهو الترغيب في الطاعة ، والتحذير من المعصية ، بالاعتماد على وسائل الترغيب والترهيب.

وذكرت الآيات الغاية التي من أجلها يبعث الله الرسول ، فقال تعالى : (لِيُنْذِرَكُمْ) وما لأجله ينذر ، وقال : (وَلِتَتَّقُوا) وما لأجله يتقون ، وقال (وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) إذ طاعة الرسول سبيل لاستدرار الرحمة الإلهية. فالمقصود من البعثة : الإنذار ، والمقصود من الإنذار : التقوى عن كل ما لا ينبغي ، والمقصود من التقوى : الفوز بالرحمة في دار الآخرة. قال الجبائي والكعبي والقاضي عبد الجبار المعتزلي : هذه الآية دالة على أنه تعالى أراد من الذين بعث الرسل إليهم : التقوى ، والفوز بالرحمة.

والنبي أو الرسول يكون عادة من جنس المرسل إليهم ، فهو بشر من جنس البشر الذين يدعوهم إلى الله. ولو كان ملكا فربما كان في اختلاف الجنس تنافر الطباع. لذا تكرر في قصة كل نبي : (رَجُلٍ مِنْكُمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) إلخ.

وكانت عاقبة قوم نوح المكذبين الجاحدين المشركين إغراقهم بالطوفان العظيم.

٢٥٧

قصة هود عليه‌السلام

(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٦٥) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٦٦) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٧) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (٦٨) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٦٩) قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧٠) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٧١) فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (٧٢))

الإعراب :

(أَخاهُمْ) عطف على : (نُوحاً) ، و (هُوداً) عطف بيان له.

(آلاءَ اللهِ) نعماؤه ، واحدها : إليّ ، وألىّ ، وإليّ. وهي بمنزلة آناء الليل وهي ساعاته. و (آلاءَ) : مفعول به منصوب.

٢٥٨

(وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ) عطف على : (كَذَّبُوا). و (عادٍ) : من لم يصرفه جعله اسما للقبيلة ، ومن صرفه جعله اسما للحي.

البلاغة :

(قَطَعْنا دابِرَ) كناية عن استئصالهم وإهلاكهم جميعا.

المفردات اللغوية :

(وَإِلى عادٍ) وأرسلنا إلى عاد الأولى (أَخاهُمْ) أي واحدا من جنسهم أو منهم ، كقولك : يا أخا العرب للواحد من إخوة الجنس ، وإنما جعل واحدا منهم ؛ لأنهم أفهم عن رجل منهم ، وأعرف بحاله في صدقه وأمانته ، وهو هود بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح ، فهي أخوة في النسب لا في الدين.

(قالَ) لم يقل : فقال كما في قصة نوح ؛ لأنه على تقدير سؤال سائل ، قال : فما قال لهم هود؟ فقيل : قال : يا قوم اعبدوا الله. وكذلك : (قالَ الْمَلَأُ) أي أشراف القوم. ووصف الملأ بالذين كفروا دون الملأ من قوم نوح ؛ لأنه كان في أشراف قوم هود من آمن به سرا مثل مرثد بن سعد الذي أسلم وكان يكتم إسلامه ، ولم يكن في أشراف قوم نوح مؤمن ، فأريدت التفرقة بالوصف.

(سَفاهَةٍ) خفة حلم وسخافة عقل (ناصِحٌ أَمِينٌ) أي عرفت فيما بينكم بالنصح والأمانة ، فما حقي أن أتهم ، وأنا لكم ناصح فيما أدعوكم إليه ، أمين على ما أقول لكم ، لا أكذب فيه.

(خُلَفاءَ) أي خلفتموهم في الأرض ، أو جعلكم ملوكا في الأرض ، قد استخلفكم فيها بعدهم (فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً) أي زاد أجسامكم في الطول والقوة والبدانة قيل : كان طويلهم مائة ذراع وقصيرهم ستين. (آلاءَ اللهِ) نعمه في استخلافكم وبسطة أجسادكم ، وما سواهما من عطاياه ، وواحد الآلاء : أليّ (تُفْلِحُونَ) تفوزون. (وَنَذَرَ) نترك (بِما تَعِدُنا) به من العذاب (قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ) حق عليكم ووجب أو قد نزل عليكم. (رِجْسٌ) عذاب (وَغَضَبٌ) سخط وانتقام (أَتُجادِلُونَنِي) المجادلة : المماراة والمخاصمة (فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها) أي سميتم بها أصناما تعبدونها. أي في أشياء ما هي إلا أسماء ليس تحتها مسميات ، لأنكم تسمونها آلهة ، ومعنى الألوهية فيها معدوم محال وجوده.

(سُلْطانٍ) حجة وبرهان (فَانْتَظِرُوا) العذاب (إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) ذلكم بتكذيبكم لي ، فأرسلت عليهم الريح العقيم.

(فَأَنْجَيْناهُ) أي هودا (وَالَّذِينَ مَعَهُ) من المؤمنين (وَقَطَعْنا دابِرَ) الدابر : الآخر ، أي

٢٥٩

أهلكناهم جميعا بعذاب الاستئصال ، أو استأصلناهم. فمعنى قطع دابر القوم : استئصالهم وتدميرهم عن آخرهم.

المناسبة وتاريخ القصة :

قبيلة عاد قوم هود من أقدم الأمم وجودا وآثارا في الأرض ، وهم على ما يظهر أقدم من إبراهيم ، لذا ناسب ذكرها بعد قصة نوح مع قومه ، بدليل قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ) فأصبح الناس على علم بواقعة قوم نوح العظيمة وهي الطوفان العظيم ، لذا كان قول هود لقومه عاد : (أَفَلا تَتَّقُونَ) إشارة إلى التخويف بتلك الواقعة المتقدمة المشهورة في الدنيا.

أخرج ابن إسحاق عن الكلبي قال : إن عادا كانوا أصحاب أوثان يعبدونها ، اتخذوها على مثال ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر ، فاتخذوا صنما يقال له «صمود» وآخر يقال له : «الهتار» ، فبعث الله إليهم هودا وكان من قبيلة يقال لها «الخلود» ، وكان من أوسطهم نسبا وأصبحهم وجها ، فدعاهم إلى عبادة الله وأمرهم أن يوحّدوه ، وأن يكفوا عن ظلم الناس ، فأبوا ذلك وكذبوه وقالوا : (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) [فصلت ٤١ / ١٥]؟ كما جاء في تفسير المنار.

وكانت منازلهم أي مساكنهم باليمن بالأحقاف : وهي جبال الرمل ، فيما بين عمان إلى حضرموت باليمن ، وكانوا مع ذلك قد أفسدوا في الأرض كلها ، وقهروا أهلها ، بفضل قوتهم التي آتاهم الله تعالى.

فعاد : قبيلة عربية ، كانت باليمين بالأحقاف شمال حضرموت ، وكانوا قد تبسطوا في الدنيا ما بين عمان إلى حضرموت ، وكانت لهم أصنام يعبدونها : صداء وصمود والهتار. وهم عاد الأولى ، وأما عاد الثانية فهم سكان اليمن من قحطان وسبأ. ولم تذكر عاد فيما سوى القرآن الكريم من الكتب المقدسة.

فبعث الله إليهم هودا نبيا ، وهو هود بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن

٢٦٠