التفسير المنير - ج ٨

الدكتور وهبة الزحيلي

إذا همّ عبدي بحسنة فاكتبوها له حسنة ، وإن لم يعملها ، فإن عملها فعشر أمثالها ، وإن همّ بسيئة فلا تكتبوها ، وإن عملها فسيئة واحدة».

وفصل العلماء في شأن تارك السيئة فقالوا :

تارك السيئة الذي لا يعملها على ثلاثة أقسام :

١ ـ تارة يتركها لله : فهذا تكتب له حسنة ، لكفّه عنها لله تعالى ، وهذا عمل ونية ، ولهذا جاء : أنه يكتب له حسنة ، كما جاء في بعض ألفاظ الصحيح : «فإنما تركها من جرائي» أي من أجلي.

٢ ـ وتارة يتركها نسيانا وذهولا عنها : فهذا لا له ولا عليه ؛ لأنه لم ينو خيرا ولا فعل شرا.

٣ ـ وتارة يتركها عجزا وكسلا عنها بعد السعي في أسبابها والتلبس بما يقرب منها ، فهذا بمنزلة فاعلها ، كما جاء في الحديث الصحيح عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إذا التقى المسلمان بسيفيهما ، فالقاتل والمقتول في النار ، قالوا : يا رسول الله ، هذا القاتل ، فما بال المقتول؟ قال : إنه كان حريصا على قتل صاحبه» (١).

اتباع ملة إبراهيم

في التوحيد والعبادة والتبعة الشخصية

(قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٦١) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٢) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣)

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٢ / ١٩٦ وما بعدها.

١٢١

قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (١٦٤))

الإعراب :

(دِيناً) منصوب بفعل مقدر دل عليه : (هَدانِي) ، وتقديره : هداني دينا. وقال الزمخشري : نصب على البدل من محل (إِلى صِراطٍ) لأن معناه : هداني صراطا ، بدليل قوله : (وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) [الفتح ٤٨ / ٢٠] ، و (قِيَماً) صفة (دِيناً) أي دينا ذا استقامة ، وقرئ : قيما بالتشديد من قام كسيّد من ساد ، وهو أبلغ من القائم.

(مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) عطف بيان و (حَنِيفاً) حال من إبراهيم.

(مَحْيايَ) بفتح الياء ، عملا بالأصل وهو أن من حق الياء أن تكون متحركة مفتوحة ، أو حركت لاجتماع ساكنين. ومن قرأ بسكون الياء فلأن حرف العلة يستثقل عليه حركات البناء.

(أَغَيْرَ اللهِ) غير : منصوب لأنه مفعول (أَبْغِي) و (رَبًّا) تمييز منصوب ، والتقدير : أأبغي غير الله من ربّ ، فحذف من ، فانتصب على التمييز.

البلاغة :

(وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) : استعار أثقال الحمل على الظهور لأثقال الذنوب والآثام.

المفردات اللغوية :

(دِيناً قِيَماً) مصدر بمعنى القيام ، أي ذا استقامة ، أي أنه قائم مستقيم لا عوج فيه ، وقرئ (قِيَماً) بالتشديد ، أي مستقيما ، ودين القيّمة بالتأنيث : أي دين الملة الحنيفية ، وكل ذلك يعني انه دين يقوم به أمر الناس ونظامهم في الدنيا والآخرة ، وهو منهاج مستقيم.

(حَنِيفاً) مائلا عن الأديان الباطلة إلى الدين الحق وهو دين الإسلام.

(وَنُسُكِي) عبادتي من حج وغيره (مَحْيايَ وَمَماتِي) أي ما آتيه في حياتي ، وما أموت عليه من الإيمان والعمل الصالح ، كله لله رب العالمين.

(أَبْغِي رَبًّا) لا أطلب غيره (وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) مالكه (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ) ذنبا

١٢٢

(وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي لا تتحمل نفس بريئة حمل نفس مذنبة آثمة أخرى ، فقوله: (تَزِرُ) تحمل ، والوزر : الحمل الثقيل.

المناسبة :

لما بيّن الله تعالى في هذه السورة دلائل التوحيد ، والرد على المشركين ونفاة القضاء والقدر ، ختم الكلام بأن الدين القيّم والصراط المستقيم هو ملة إبراهيم القائمة على التوحيد وعبادة الله ، ومسئولية كل شخص عن نفسه لا عن غيره ، وأن الهداية لا تحصل إلا بالله ، وأن الجزاء عند الله على الأعمال التي يقوم بها الإنسان ، فهي دليل سعادته أو شقاوته.

التفسير والبيان :

يأمر الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سيد المرسلين أن يخبر بما أنعم الله عليه من الهداية إلى صراطه المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف ، وهو ملّة أبيه إبراهيم الخليل عليه‌السلام.

قل أيها الرسول للناس قاطبة ومنهم قومك : إن ربي أرشدني ووفقني إلى طريق مستقيم لا عوج فيه ، وهو الدين القيّم المؤدي إلى سعادة الدنيا والآخرة ، القائم بالحق ، الثابت الأصول ، وهو المراد في مناجاة الله تعالى : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ).

وهو ملة إبراهيم الخليل ، فالتزموه ، لكونه كان مائلا عن جميع أنواع الشرك والضلالة إلى الدين الحق : دين التوحيد. كما قال تعالى : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) [البقرة ٢ / ١٣٠] وقال : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً ، قانِتاً لِلَّهِ ، حَنِيفاً ، وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. شاكِراً لِأَنْعُمِهِ ، اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً ، وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ، ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً ، وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [النحل ١٦ / ١٢٠ ـ ١٢٣].

١٢٣

(وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي وما كان إبراهيم من المشركين أبدا ، وإنما كان مؤمنا بالله ، موحدا إياه ، مخلصا له عبادته.

فأما من يعتقد أن الملائكة بنات الله ، أو عزيز ابن الله ، أو عيسى المسيح ابن الله ، فهؤلاء هم المشركون البعيدون عن ملة إبراهيم ، كما قال تعالى : (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ ، وَهُوَ مُحْسِنٌ ، وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً ، وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) [النساء ٤ / ١٢٥].

هذا هو الدين الحق دين الإخلاص والعبادة لله وحده ، وهو الذي بعث به جميع الأنبياء والرسل ، وهذا مخالف لما كان عليه مشركو العرب وزعماء قريش الذين يلقبون أنفسهم «الحنفاء» مدّعين أنهم على ملة إبراهيم ، وهو أيضا مخالف لما عليه أهل الكتاب (اليهود والنصارى) الذين يدعون أنهم أتباع ملة إبراهيم وأتباع موسى وعيسى ، وذلك بدليل رد الله تعالى عليهم بقوله : (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا ، وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً ، وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [آل عمران ٣ / ٦٧].

لذا فإن دعوة الإسلام هي ملتقى جميع الأنبياء ، وهو الدين المقبول عند الله كما قال : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) [آل عمران ٣ / ١٩] وقال : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً ، فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ، وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) [آل عمران ٣ / ٨٥].

ثم يأمر الله نبيه أن يخبر المشركين الذين يعبدون غير الله ، ويذبحون لغير اسمه : بأنه مخالف لهم في ذلك ، فإن صلاته لله ، ونسكه على اسم الله وحده لا شريك له ، مثل قوله تعالى : (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) [الكوثر ١٠٨ / ٢] أي أخلص له صلاتك وذبحك ، فإن المشركين كانوا يعبدون الأصنام ويذبحون لها ، فأمره الله بمخالفتهم ، وإخلاص القصد والنية والعزم والعمل لله تعالى.

١٢٤

(قُلْ : إِنَّ صَلاتِي ...) أي إن كل أنواع صلاتي وعبادتي ودعائي ونسكي أي عبادتي ـ وقد كثر استعمال النسك في الذبح وأداء شعائر الحج والعمرة وغيرهما ـ وكل ما آتيه في حياتي ، وما أموت عليه من الإيمان والعمل الصالح هو لله عزوجل ، أي أن كل أعمالي ومقاصدي محصورة في طاعة الله ورضوانه ، فهي آية جامعة لكل الأعمال الصالحة ، وعلى المسلم أن يكون قصده وعمله وكل ما يقدمه من عمل هو وجه الله تعالى ، سواء في أثناء حياته ، أو ما يعقبه من عمل صالح بعد مماته ، هو لله ، وإلى الله ، وفي سبيل الله ، ولطاعة الله تعالى.

وخصص الصلاة بالذكر ، مع كونها داخلة في النسك ، لكونها روح العبادة التي قد تتلوث بمفاسد الشرك.

والله واحد لا شريك له في ذاته ولا في صفاته ، ولا في ربوبيته ، فله العبادة وحده ، والتشريع منه وحده ، بذلك أمرني ربي ، وأنا أول المسلمين المنقادين إلى امتثال أوامره واجتناب نواهيه.

وهذا إثبات لتوحيد الألوهية ، أعقبه بتوحيد الربوبية ، فقال : (قُلْ : أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا ...) أي أغير الله أطلب ربا سواه ، مع أنه هو مالك كل شيء ، خلقه ودبره ، وهو مصدر النفع ومنع الضر ، فكيف أجعل مخلوقا آخر ربّا لي؟!

وما من عمل يكسبه الإنسان إلا عليه جزاؤه دون غيره ، ولا تتحمل نفس بريئة أبدا ذنب نفس أخرى ، فكل إنسان مجزي بعمله : (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) [الطور ٥٢ / ٢١] (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) [البقرة ٢ / ٢٨٦].

وبما أن كل إنسان مسئول عن عمله ، صالحا كان أو سيئا ، فإنه سيجزي عنه ، إن خيرا فخيرا ، وإن شرا فشرا. والرجوع في نهاية المصير من الذين يلقبون أنفسهم «الحنفاء» لله وحده دون غيره ، فهو الذي يخبركم باختلافكم في

١٢٥

الأديان ، ويجازيكم عليه بحسب علمه وإرادته ، كما قال : (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ ، فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) [آل عمران ٣ / ٥٥].

فقه الحياة أو الأحكام :

تتقابل في أغلب نواحي الحياة واجهتان متعاكستان : التفرق والاتحاد ، ولم يسلم دين الله من تأثره بهاتين الواجهتين ، فلمّا بيّن تعالى أن الكفار تفرقوا ، بين أن الله هدى الأنبياء وخاتمهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الدين المستقيم ، وهو دين إبراهيم عليهم‌السلام.

والدين الحق القيم يتطلب تسخير كل الطاقات الدينية الإنسانية لله عزوجل ، فله وحده يتوجه العبد بصلاته وعبادته ومناسكه وذبائحه وجميع قرباته وأعماله في حياته وما أوصى به بعد وفاته ، لأنه سبحانه خالق الكون ومدبره ورب جميع العوالم والكائنات. وكل إنسان عاقل يفرده تعالى بالتقرب بأعماله وطاعاته إليه ، دون غيره ؛ لأنه إله يستحق العبادة لذاته ، وهو مصدر خير الإنسان ونفعه ومنع الضرر عنه.

وقوله تعالى : (قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) إلى قوله : (قُلْ : إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) استدل به الشافعي على افتتاح الصلاة بهذا الذكر ، فإن الله أمر به نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنزله في كتابه. وفي حديث علي رضي‌الله‌عنه : أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كان إذا افتتح الصلاة قال : (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً ، وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ). (إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ـ إلى قوله: (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ).

وروى مسلم أيضا هذا الحديث عن علي. وجاء فيه بعد قوله : وأنا من المسلمين : اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت ، أنت ربي وأنا عبدك ، ظلمت نفسي واعترفت بذنبي ، فاغفر لي ذنوبي جميعا ، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ، واهدني

١٢٦

لأحسن الأخلاق ، لا يهدي لأحسنها إلا أنت ، واصرف عني سيئها ، لا يصرف عني سيئها إلا أنت ، لبّيك وسعديك ، والخير كله في يديك ، والشر ليس إليك ، تباركت وتعاليت ، أستغفرك وأتوب إليك».

وأخرجه الدار قطني أيضا وقال في آخره : بلغنا عن النّضر بن شميل ، وكان من العلماء باللغة وغيرها قال : معنى قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والشر ليس إليك» : الشر ليس مما يتقرب به إليك.

ولم ير الإمام مالك إيجاب التوجه في الصلاة على الناس ، ولا قول : «سبحانك اللهم وبحمدك» والواجب عليهم التكبير ثم القراءة ، بدليل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للأعرابي الذي علّمه الصلاة : «إذا قمت إلى الصلاة فكبّر ثم اقرأ» ولم يقل له : سبّح ، كما يقول أبو حنيفة ، ولا قل : وجهت وجهي ، كما يقول الشافعي. وقال لأبيّ : «كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة؟» قال : قلت : الله أكبر ، الحمد لله رب العالمين. فلم يذكر توجها ولا تسبيحا.

ويلاحظ أنه ليس أحد بأول المسلمين إلا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فإن قيل : أوليس إبراهيم والنبيون قبله؟ أجاب القرطبي بثلاثة أجوبة :

الأول ـ أنه أول الخلق أجمع معنى ، كمافي حديث أبي هريرة من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نحن الآخرون الأولون يوم القيامة ، ونحن أول من يدخل الجنة»وفي حديث حذيفة : «نحن الآخرون من أهل الدنيا ، الأوّلون يوم القيامة ، المقضي لهم قبل الخلائق».

الثاني ـ أنه أولهم لكونه مقدما في الخلق عليهم ، قال الله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ) قال قتادة : إن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال فيما رواه ابن سعد : «كنت أول الناس في الخلق ، وآخرهم في البعث» فلذلك وقع ذكره هنا مقدّما قبل نوح وغيره.

١٢٧

الثالث ـ أول المسلمين من أهل ملّته ، كما قال قتادة وابن العربي وغيرهما (١).

وأما قوله تعالى : (قُلْ : أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) فسبب نزوله أن الكفار قالوا للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ارجع يا محمد إلى ديننا ، واعبد آلهتنا ، واترك ما أنت عليه ، ونحن نتكفّل لك بكل تباعة تتوقعها في دنياك وآخرتك ، فنزلت الآية. وهي استفهام يقتضي التقرير والتوبيخ.

ودل قوله تعالى : (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها) على أنه لا يؤاخذ بما أتت من المعصية ، وركبت من الخطيئة سواها.

واستدل الشافعي بهذه الآية على أن بيع الفضولي لا يصح.

ورد المالكية على ذلك فقالوا : المراد من الآية تحمل الثواب والعقاب دون أحكام الدنيا ، بدليل قوله تعالى : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى).

وبيع الفضولي موقوف عند المالكية والحنفية على إجازة المالك ، فإن أجازه جاز ، بدليل أن عروة البارقي قد باع للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واشترى وتصرف بغير أمره ، فأجازه النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وفي هذا الحديث دلالة على جواز الوكالة المتفق عليها بين العلماء ، وعلى أن الوكيل لو اشترى بالثمن المدفوع له كدينار أو درهم أكثر من المقدار المسمى ، كرطل لحم ، فاشترى به أربعة أرطال من تلك الصفة ، فإن الجميع يلزم الموكل إذا وافق الصفة ومن جنسها ؛ لأنه محسن ، وهو قول المالكية والصاحبين من الحنفية. وقال أبو حنيفة : الزيادة للمشتري. وحديث عروة حجة عليه.

ودل قوله تعالى : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) على تقرير مبدأ المسؤولية الشخصية ، وهي مفخرة من مفاخر الإسلام الكبرى ، وللآية نظائر

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٧ / ١٥٥

١٢٨

كثيرة مثل : (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) [الطور ٥٢ / ٢١] (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) [المدثر ٧٤ / ٣٨] (قُلْ : لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [سبأ ٣٤ / ٢٥]. وهذا المبدأ المقرر في هذه الآيات رد على ما كان عليه العرب في الجاهلية من مؤاخذة الرجل بجريرة أبيه وابنه وحليفه.

ويؤيد ذلك ما رواه أبو داود عن أبي رمثة قال : انطلقت مع أبي نحو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال له : «ابنك هذا؟» قال : إي وربّ الكعبة ، قال : «حقا» قال : أشهد به ، قال : فتبسّم النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضاحكا من ثبت (استقرار) شبهي في أبي ، ومن حلف أبي علي ، ثم قال : «أما إنه لا يجني عليك ، ولا تجني عليه» وقرأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى).

أما قوله تعالى : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) [العنكبوت ٢٩ / ١٣] فهو مبيّن في الآية الأخرى في قوله تعالى : (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ ، وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) [النحل ١٦ / ٢٥] أي أن المضل يتحمّل أيضا إثم أتباعه في الضلالة ، فمن كان إماما في الضلالة ودعا إليها وتبعه الناس عليها ، فإنه يحمل وزر من أضله من غير أن ينقص من وزر المضلّ شيء.

الاستخلاف في الأرض

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٥))

١٢٩

الإعراب :

(وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ دَرَجاتٍ) مفعول (رَفَعَ) ، بتقدير حذف حرف الجر ، وتقديره : ورفع بعضكم فوق بعض إلى درجات ، فلما حذف حرف الجر اتصل الفعل به ، فنصبه.

المفردات اللغوية :

(خَلائِفَ الْأَرْضِ) أي يخلف بعضكم بعضا فيها (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) بالمال والجاه وغير ذلك. (لِيَبْلُوَكُمْ) ليختبركم (فِي ما آتاكُمْ) أعطاكم ، ليظهر المطيع منكم والعاصي. (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ) لمن عصاه (وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ) للمؤمنين (رَحِيمٌ) بهم.

المناسبة :

بعد أن أخبر الله تعالى أن مصير جميع الناس إلى الله للحساب والجزاء ، ختم السورة بخاتمة رائعة هي أنهم يخلف بعضهم بعضا ، لتستمر الحياة ، ويتنافس الناس في الأعمال النافعة.

التفسير والبيان :

جعل الله الناس خلائف في الأرض ، يخلف بعضهم بعضا فيها ، بأن أهلك من قبلهم من القرون والأمم الخالية ، واستخلفهم لعمارة الأرض بعدهم ، وجعلهم أيضا خلفاء أرضه يملكونها ويتصرفون فيها : (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) [الحديد ٥٧ / ٧].

ورفع بعضكم فوق بعض درجات في الغنى والفقر ، والشرف والجاه ، والعلم والجهل ، والخلق والشكل ، والعقل والرزق. وهذا التفاوت ليس ما عجزا وجهلا وإنما لأجل الابتلاء والاختبار فيما أعطاكم ، بأن يعاملكم معاملة المختبر لكم في ذلك ، فيختبر الغني مثلا في غناه ويسأله عن شكره ، والفقير في فقره ، ويسأله عن صبره.

١٣٠

ثم يكون الجزاء على العمل ، فقد يكون الإنسان مقصرا فيما كلف به ، أو قائما به ، فيأتي الجزاء تابعا للأعمال. ونظير الآية كثير في القرآن مثل : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ ، وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) [محمد ٤٧ / ٣١].

وجاء في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الدنيا حلوة خضرة ، وإن الله مستخلفكم فيها ، فينظر كيف تعملون ، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء ، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء».

وأمام الناس بعد هذا الابتلاء إما العقاب وإما الثواب : (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ ، وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) وفيه ترهيب وترغيب ، فإن حساب الله وعقابه سريع فيمن عصاه وخالف رسله ، وهو أيضا شديد العذاب ، لا يهمل وإن أمهل. ووصف العقاب بالسرعة ؛ لأن كل ما هو آت قريب ، والعقاب إما في الدنيا بإلحاق الضرر في النفس أو العقل أو العرض أو المال ، وإما في الآخرة بعذاب جهنم ، وقد يكون الأمران معا.

وهو تعالى غفور للتائبين رحيم بالمحسنين المؤمنين الذين اتبعوا الرسل فيما جاؤوا به من تكاليف ؛ إذ رحمته سبقت غضبه ، ووسعت كل شيء ، فجعل الحسنة بعشر أمثالها ، وقد يضاعفها أضعافا كثيرة لمن يشاء ، والسيئة بسيئة مثلها ، وقد يغفرها لمن تاب منها ، ويسترها في الدنيا فضلا وكرما وحلما.

قال ابن كثير : وكثيرا ما يقرن الله تعالى في القرآن بين هاتين الصفتين : المغفرة والعذاب ، كقوله : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ) [الرعد ١٣ / ٦] وقوله : (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ، وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) [الحجر ١٥ / ٤٩ ـ ٥٠] إلى غير ذلك من

١٣١

الآيات المشتملة على الترغيب والترهيب ، فتارة يدعو عباده إليه بالرغبة وصفة الجنة ، والترغيب فيما لديه ، وتارة يدعوهم إليه بالرهبة وذكر النار وأنكالها وعذابها والقيامة وأهوالها ، وتارة بهما لينجع في كل بحسبه (١).

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآية على ثلاثة أحكام :

الأول ـ الناس خلفاء الأرض ، يخلف بعضهم بعضا ، فكل جيل يخلف من قبله من الأمم الماضية والقرون السالفة.

الثاني ـ الناس في الدنيا درجات في الخلق والرزق ، والقوة ، والضعف ، والبسطة والفضل ، والعلم ، من أجل الابتلاء أي الاختبار ، فيظهر من الناس ما يكون غايته الثواب والعقاب ، ويختبر الموسر بالغنى ويطلب منه الشكر ، ويختبر المعسر بالفقر ويطلب منه الصبر.

الثالث ـ الله تعالى سريع العقاب ، شديد العذاب للكفار والعصاة ، غفور رحيم بالطائعين التائبين. وهذا ترهيب وتحذير من ارتكاب الخطيئة ، وترغيب في الطاعة والإنابة والتوبة.

روى الإمام أحمد عن أبي هريرة مرفوعا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ، ما طمع بجنته أحد ، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ، ما قنط أحد من الجنة ، خلق الله مائة رحمة ، فوضع واحدة بين خلقه يتراحمون بها ، وعند الله تسعة وتسعون» وعنه أيضا قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لما خلق الله الخلق كتب في كتاب ، فهو عنده فوق العرش ، إن رحمتي تغلب غضبي».

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٢ / ٢٠٠

١٣٢

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الأعراف

مكية وهي مائتان وست آيات.

تسميتها :

سميت بسورة الأعراف لورود اسم الأعراف فيها ، وهو سور بين الجنة والنار ، قال ابن جرير الطبري : الأعراف جمع عرف ، وكل مرتفع من الأرض عند العرب يسمى عرفا ، وإنما قيل لعرف الديك عرفا لارتفاعه. روى ابن جرير الطبري عن حذيفة أنه سئل عن أصحاب الأعراف ، فقال : هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم ، فقعدت بهم سيئاتهم عن الجنة ، وخلفت بهم حسناتهم عن النار ، فوقفوا هناك على السور حتى يقضي الله فيهم.

صفة نزولها :

هي مكية ، إلا ثمان آيات ، وهي قوله تعالى : (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ) إلى قوله : (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ).

موضوعها :

نزلت هذه السورة لتفصيل قصص الأنبياء وبيان أصول العقيدة ، وهي كسورة الأنعام بل كالبيان لها ، لإثبات توحيد الله عزوجل ، وتقرير البعث والجزاء ، وإثبات الوحي والرسالة ، ولا سيما عموم بعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

١٣٣

ما اشتملت عليه السورة :

تضمنت سورة الأعراف التي هي من أطول السور المكية ما يلي من مبادئ العقيدة الإسلامية :

١ ـ القرآن كلام الله : افتتحت السورة بالتنويه بالقرآن العظيم معجزة الرسول الخالدة ، وأنه نعمة من الله ، وأنه يجب اتباع تعاليمه.

٢ ـ أبوّة آدم عليه‌السلام : الناس جميعا من أب واحد ، أمر الله الملائكة بالسجود له سجود تعظيم وتحية ، لا سجود عبادة وتقديس ، والشيطان عدو الإنسان.

وقد أعيد التذكير بقصة آدم مع إبليس ، وخروجه من الجنة ، وهبوطه إلى الأرض ، بسبب وسوسة الشيطان رمز الشر والباطل وصراعه مع الإنسان الذي يدعو إلى عبادة الله وإلى الخير والحق ، تأكيدا لما ذكر في سورة البقرة.

٣ ـ إثبات التوحيد : وهو الإقرار بوحدانية الله ، وعبادته وحده ، وإخلاص الدين له ، والاعتراف بحقه وحده في التشريع والتحليل والتحريم : (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ، وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ).

٤ ـ الوحي والرسالة : الوحي ثابت يتضمن هنا إنزال القرآن على قلب النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجوهره التكليف بالرسالة الإلهية ، وبعثة الرسل إلى الناس : (يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي).

٥ ـ تقرير البعث والجزاء في عالم الآخرة : تضمنت السورة الكلام عن البعث والإعادة يوم القيامة : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) والجزاء والحساب وانقسام الناس بسببه إلى فرق ثلاث : فرقة المؤمنين الناجين أهل الجنة ، وفرقة الكافرين الهالكين أهل النار ، وأصحاب الأعراف وهو سور بين الجنة والنار.

١٣٤

٦ ـ أدلة وجود الله : أقام الله تعالى الأدلة الكثيرة على وجوده مثل خلق السموات والأرض في ستة أيام ، وتعاقب الليل والنهار ، وتسخير الشمس والقمر والنجوم بأمر الله ، وإخراج الثمرات من الأرض

٧ ـ التهديد بالإهلاك : أهلك الله الأمم الظالمة عبرة لغيرها ، وأنذر الناس بإنزال العذاب المماثل ، ورغب بالإيمان والعمل الصالح لإفاضته الخيرات والبركات من السماء والأرض على الأمة : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) [الأعراف ٧ / ٩٦] وكذا لإرث الأرض والاستخلاف على الآخرين : (قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ : اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا ، إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ ، يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ، وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف ٧ / ١٢٨].

٨ ـ قصص الأنبياء : أورد الله تعالى مجموعة من قصص الأنبياء : نوح ، وهود ، وصالح ، ولوط ، وشعيب ، وموسى ، للتذكير بأحوال المكذبين أنبياءهم ، وللعظة والعبرة ، ومن أدلّها قصة موسى مع الطاغية فرعون ، وعقاب بني إسرائيل بالمسخ قردة وخنازير لما خالفوا أمر الله. وتشبيه عالم السوء بالكلب : (وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها ، وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ ، فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ ، إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ ، أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) [الأعراف ٧ / ١٧٦].

٩ ـ التنديد بعبادة الأصنام ، والتهكم بمن عبد ما لا يضر ولا ينفع ، ولا يبصر ولا يسمع ، من أحجار وهياكل ، وذلك كله لتقرير مبدأ التوحيد الذي ختمت به لسورة كما بدئت به.

١٣٥

اتباع القرآن الكريم

(المص (١) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٣))

الإعراب :

(كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ كِتابٌ) إما خبر (المص) على قول من جعله مبتدأ ، أي أنا الله أفصل ، وإما خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : هذا كتاب ، والثاني أولى.

(لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) اللام متعلقة بأنزل ، وتقديره : كتاب أنزل إليك لتنذر به ، وفصل بينهما بقوله : (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ). (وَذِكْرى) إما مرفوع عطفا على (كِتابٌ) ، أو خبر مبتدأ تقديره : هذه ذكرى ؛ وإما منصوب عطفا على موضع (لِتُنْذِرَ بِهِ) أي إنذارا وذكرى ، أو عطفا على موضع هاء (بِهِ) ؛ وإما مجرور عطفا على (لِتُنْذِرَ) بمعنى : للإنذار والذكرى.

(قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ قَلِيلاً) منصوب بفعل (تَذَكَّرُونَ) ، و (ما) زائدة ، وتقدير النصب من وجهين : إما لأنه صفة لمصدر محذوف تقديره : تذكرون تذكرا قليلا ، أو لأنه صفة لظرف زمان محذوف ، تقديره : زمانا قليلا.

البلاغة :

(حَرَجٌ مِنْهُ) أي ضيق من تبليغه ، ففيه حذف مضاف.

(مِنْ رَبِّكُمْ) وصف الربوبية مع الإضافة لضمير المخاطبين فيه إشعار بمزيد اللطف بهم ، وترغيب في امتثال الأوامر.

المفردات اللغوية :

(المص) تقرأ كما تقرأ الحروف الأبجدية ، أي ألف ، لام ، ميم ، صاد ، وقد ذكرت في أول سورة البقرة ومثلها آل عمران : أن هذه الحروف المقطعة يراد من افتتاح السور بها الإشارة إلى أن القرآن الكريم مركب من هذه الحروف العربية وأمثالها ، فهل يستطيع العرب المعروفون بالفصاحة

١٣٦

والبلاغة الإتيان بمثله ، وبما أنهم قد عجزوا ، فيدل ذلك على أنه كلام الله ، فحكمتها بيان إعجاز القرآن ، وتنبيه السامع إلى ما سيلقى إليه من أحكام.

والغالب أن السور التي بدئت بها وبذكر الكتاب مثل : «مريم والعنكبوت والروم وص ون» هي سور مكية لدعوة المشركين إلى الإسلام وإثبات النبوة والوحي. وأما السور المدنية التي بدئت بها كالبقرة وآل عمران (الزهراوين) فالدعوة فيها موجهة إلى أهل الكتاب.

(حَرَجٌ) ضيق (مِنْهُ) من تبليغه ، مخافة أن يكذبك الناس (لِتُنْذِرَ) متعلق بأنزل أي للإنذار به (وَذِكْرى) تذكرة نافعة وموعظة حسنة مؤثرة. (قَلِيلاً ما ما) حرف يؤكد معنى القلة (تَذَكَّرُونَ) أصله : تتذكرون.

التفسير والبيان :

بدأ الله تعالى هذه السورة المكية بالحروف الأبجدية المقطعة كغيرها من السور التي نزلت بمكة لإثبات النبوة والوحي.

هذا القرآن كتاب عظيم الشأن ، أنزل إليك يا محمد من عند ربك ، بقصد الهداية والخير ، ووصفه بالإنزال للدلالة على عظيم قدره وقدر من أنزل عليه. فلا يكن في صدرك ضيق من الإنذار به وتبليغه للناس ، وتذكير أهل الإيمان به ذكرى تنفعهم وتؤثر فيهم.

ومن المعلوم أن كل نبي ومصلح يلقى عادة إيذاء ومقاومة لدعوته ، وصدودا وإعراضا عن رسالته ، وما على الداعية إلا الصبر والمثابرة ومتابعة الطريق : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) [الأحقاف ٤٦ / ٣٥]. لذا كان المراد من هذا النهي شد العزيمة والاجتهاد في مقاومة الصعاب ، وتحمل الشدائد ، انتظارا لما عند الله على ذلك من وعد بالخير والفضل.

وبما أن هذا الكتاب ذو مهام خطيرة ، فقد خاطب الله تعالى العالم بقوله : اتبعوا أيها الناس ما أنزل إليكم من ربكم رب كل شيء ومليكه وخالقه ومدبره وراعيه ، فهو وحده صاحب الحق في التشريع وفرض العبادات والتحليل

١٣٧

والتحريم ؛ لأنه العليم بما هو مصلحة ، الخبير بما هو مضرة لكم ، فلا يشرع إلا الخير والسداد.

ولا تتبعوا من دون الله أولياء ، كأنفسكم أو الشياطين التي توسوس لكم بما فيه الضرر والخطر ، والضلال والفساد ، والشر والسوء ، والإيهام بأن الأصنام شركاء ذات تأثير عند الله ، مع أنها أحجار لا تضر ولا تنفع ، أي لا تخرجوا عما جاءكم به الرسول إلى غيره ، فتكونوا قد عدلتم عن الحق إلى الضلال ، وعن حكم الله إلى حكم الشيطان والأهواء. ولكنكم تتذكرون قليلا ، وتنسون الواجب عليكم نحو ربكم ، وهذا مثل قوله تعالى : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) [يوسف ١٢ / ١٠٣].

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ القرآن كلام الله المنزل على نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والعقل يشهد بأن هذا لا يكون إلا بطريق الوحي من عند الله تعالى ؛ لأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمي لا يقرأ ولا يكتب ؛ ولأنه كلام معجز لا يصدر عن بشر ؛ ولأن الأحداث ومرور الأزمنة تثبت تفوقه وصلاحه لكل الأوقات ، وهذا لا يمكن أن يتصف به تشريع وضعي.

٢ ـ واجب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسائر الأنبياء تبليغ الوحي المنزل ، وأما النتائج والآثار وانتصار الدعوات الإلهية فمردها إلى الله تعالى. وقد سرّى الله عن نبيه فنهاه عن أن يضيق صدره لعدم الإيمان به ، فإنما عليه البلاغ ، وليس عليه سوى الإنذار به ، من شيء من إيمانهم أو كفرهم ، كقوله تعالى : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ) [الكهف ١٨ / ٦] وقوله : (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [الشعراء ٢٦ / ٣].

١٣٨

٣ ـ المقصود بالقرآن إنذار الكافرين والعصاة بسبب إعراضهم عنه ، وتذكير المؤمنين به ؛ لأنهم المنتفعون به.

٤ ـ الأمر العام لجميع الناس باتباع ملة الإسلام والقرآن ، وإحلال حلاله ، وتحريم حرامه ، وامتثال أمره ، واجتناب نهيه.

واتباع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم داخل في ذلك ؛ لأن الله تعالى أمرنا باتباعه وطاعته بقوله : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) [النحل ١٦ / ٤٤] فدلت الآية على وجوب اتباع الكتاب والسنة.

٥ ـ تحريم اتباع أحد من الخلق في الدين ، كما فعل أهل الكتاب في طاعة رهبانهم : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) [التوبة ٩ / ٣١].

٦ ـ ترك اتباع الآراء الشخصية أو الاجتهادية مع وجود النص الشرعي.

٧ ـ المنع من عبادة أحد مع الله ، واتخاذ من عدل عن دين الله وليا ، علما بأن كل من رضي مذهبا فأهل ذلك المذهب أولياؤه.

عاقبة تكذيب الرسل في الدنيا

(وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (٤) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٥))

الإعراب :

(وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها ... كَمْ) مبتدأ ، وجملة : (أَهْلَكْناها) صفة لقرية. و (فَجاءَها بَأْسُنا) خبر المبتدأ ، ومعنى : (أَهْلَكْناها) : قارب إهلاكنا إياها. حتى لا يكون تكرار مع قوله : (فَجاءَها بَأْسُنا). ويجوز أن تكون (كَمْ) في موضع نصب بفعل مقدر دل عليه : (فَجاءَها بَأْسُنا) ، لا أهلكنا لأن أهلكنا صفة ، والصفة لا تعمل في الموصوف.

١٣٩

و (بَياتاً) منصوب على المصدر في موضع الحال.

(أَوْ هُمْ قائِلُونَ) جملة اسمية في موضع نصب على الحال من أهل القرية.

البلاغة :

(فَجاءَها) على حذف مضاف تقديره : فجاء أهلها ، لقوله : (أَوْ هُمْ قائِلُونَ) ولا حاجة لتقدير المضاف الذي هو الأهل قبل (قَرْيَةٍ) أو قبل الضمير في (أَهْلَكْناها) لأن القرية تهلك كما يهلك أهلها.

(بَياتاً ...) و (قائِلُونَ) بينهما طباق.

المفردات اللغوية :

(وَكَمْ) اسم يفيد التكثير ، وهي خبرية (قَرْيَةٍ) مكان اجتماع الناس ، أو الناس أنفسهم (أَهْلَكْناها) أردنا إهلاكها أو قاربنا إهلاكها. (بَأْسُنا) عذابنا (بَياتاً) ليلا ، البينات : الإغارة على العدو ليلا ، والإيقاع به على غرّة (قائِلُونَ) نائمون بالظهيرة ، من القيلولة : وهي استراحة نصف النهار ، وإن لم يكن معها نوم ، أي مرة جاءها ليلا ، ومرة جاءها نهارا. (دَعْواهُمْ) قولهم ودعاؤهم.

المناسبة :

لما أمر الله تعالى الرسول عليه الصلاة والسلام بالإنذار والتبليغ ، وأمر القوم بالقبول والاتباع ، ذكر في هذه الآية ما يترتب على المخالفة من عقاب ووعيد ، من طريق التذكير بإهلاك الأمم السابقة ، لمخالفتهم الرسل وتكذيبهم.

التفسير والبيان :

كثير من القرى وأهلها أهلكناهم بمخالفة رسلنا وتكذيبهم ، فجاءهم العذاب أو الهلاك مرة ليلا كقوم لوط ، ومرة نهارا كقوم شعيب ، أتاهم العذاب على غرّة أو حين القيلولة : وهي الاستراحة وسط النهار ، وكلا الوقتين وقت غفلة ولهو ، كما قال تعالى : (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ. أَوَأَمِنَ

١٤٠