التفسير المنير - ج ٨

الدكتور وهبة الزحيلي

الكلام اعتراف بما كان منهم من طاعة الشياطين ، واتباع الهوى ، والتكذيب بالبعث ، أي أن المقصود من الكلام : أننا في هذا اليوم الرهيب وهو يوم البعث والجزاء ، اعترفنا بذنوبنا ، فاحكم فينا بما تشاء ، وأنت أحكم الحاكمين ، ولقد أظهرنا الحسرة والندامة على ما كان منا من تفريط في الدنيا.

فأجابهم الحق تعالى : النار مأواكم ومنزلكم أنتم وإياهم وأولياؤكم ، وأنتم ماكثون فيها مكثا مخلدا الأبد كله ، إلا ما شاء الله من الخروج خارج النار لشرب الحميم أو الانتقال من عذاب النار إلى عذاب الزمهرير ، وكل من الحالين انتقال من عذاب إلى عذاب ، روي أنهم يدخلون واديا فيه من الزمهرير ما يميز بعض أوصالهم من بعض ، فيتعاوون ، ويطلبون الرد إلى الجحيم. (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ) فيما يجازي به الناس (عَلِيمٌ) بما يستحقه كل فريق.

وهي نظير قوله تعالى : (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ ، إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ ، إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) [هود ١١ / ١٠٧].

ويحسن الأخذ في تفسير هذه الآية وما هنا بما رواه ابن جرير الطبري وابن أبي حاتم وابن المنذر وأبو الشيخ ابن حيان عن ابن عباس قال : «إن هذه الآية آية لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه ، ولا ينزلهم جنة ولا نارا» (١).

فقه الحياة أو الأحكام :

آية : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ ...) تدل على إثبات الإرادة لله عزوجل في هداية الإنسان وتوفيقه للإيمان والحق والخير.

وتمسك أهل السنة بهذه الآية في بيان أن الضلال والهداية من الله تعالى ، أي بخلقه وإيجاده ، بمعنى أن العبد قادر على الإيمان ، وقادر على الكفر ، فقدرته

__________________

(١) تفسير الطبري : ٨ / ٢٦

٤١

بالنسبة إلى هذين الأمرين حاصلة على السوية ، لكن هذه القدرة منوطة بحصول باعث في النفس ، وداعية في القلب تدعو إما إلى الإيمان ، وإما إلى الكفر ، وذلك الباعث أو الداعية هو علمه أو اعتقاده أو ظنه بكون ذلك الفعل مشتملا على مصلحة أو ضرر ، فإن تكوّن في قلبه الميل إلى المصلحة أو المنفعة ، فعل الشيء ، وإن تكوّن في قلبه الميل إلى الضرر أو المفسدة ، ترك الشيء ، وحصول هذه الميول أو الدواعي لا يكون إلا من الله تعالى ، ومجموع القدرة البشرية مع الداعي الإلهي يوجب الفعل.

وعلى هذا لا يصدر الإيمان عن العبد إلا إذا خلق الله في قلبه اعتقاد أن الإيمان راجح المنفعة زائد المصلحة أي تكوين القناعة الذاتية ، وإذا حصل في القلب هذا الاعتقاد ، مال القلب ، ورغب في تحصيله ، وهذا هو انشراح الصدر للإيمان (١).

وهذا متفق مع ما ذكرت في تفسير الآية من حديث النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن شرح الصدر إذ قال : «هو نور يقذفه الله في قلب المؤمن ، فينشرح له وينفسح».

وقد ضرب الله تعالى مثلا في هذه الآية : وهو تشبيه المتلكئ عن الإيمان ، المتثاقل عن الإسلام بمنزلة من يصّعد في السماء ، فقد شبه الله الكافر في نفوره من الإيمان وثقله عليه بمنزلة من تكلف ما لا يطيقه ، كما أن صعود السماء لا يطاق ، أو أن الكافر إذا طولب بالإيمان تضايق وكان حاله كحال الصاعد في السماء ، كلما ارتفع وخف الضغط الجوي عليه ، ضاق نفسه ، وهذه نظرية علمية حديثة معروفة الآن فقط ، وقد أشار إليها القرآن.

ومثل جعل صدر الكافر شديد الضيق ، كذلك يلقي الله العذاب

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٣ / ١٧٧ ـ ١٧٨

٤٢

والخذلان ، أو اللعنة في الدنيا ، والعذاب في الآخرة على الذين لا يؤمنون بآيات الله تعالى.

والثابت المقرر المقطوع به : أن ما أنت عليه يا محمد والمؤمنون بك هو صراط الله المستقيم أي دين ربك لا اعوجاج فيه.

وللمتذكرين آيات الله ، والمتدبرين براهينه بعقولهم ، والمؤمنين المعتبرين المنتفعين بالآيات : دار السلام أي الجنة ، التي يسلم فيها المؤمن من الآفات ، كما سلم من الاعوجاج في الدنيا ، ومعنى (عِنْدَ رَبِّهِمْ) أنها مضمونة لهم عنده ، يوصلهم إليها بفضله ، والله هو وليهم أي ناصرهم ومعينهم.

وفي يوم الحساب تتبدد وتتقطع صلات الوصل والمنافع بين الإنس والجن الذين ينتفع كل منهم بالآخر ، فاستمتاع الجن من الإنس : أنهم تلذذوا بطاعة الإنس وإياهم ، واستمتاع الإنس من الجن : قبولهم وساوس الشياطين وإطاعتهم لهم حتى زنوا وشربوا الخمور بإغواء الجن إياهم. ومعنى الآية هنا : تقريع الضالين والمضلين وتوبيخهم في الآخرة على أعين العالمين.

وأما خلود الكفار في النار فمرجعه إلى مشيئة الله ، هذا ما أرجحه ، أي أن خلودهم بمشيئة الله. وقد قيل في استثناء (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) أقوال كثيرة ، رجح الزجاج والطبري منها : استثناء أوقات المحاسبة ؛ لأن في تلك الأحوال ليسوا بخالدين في النار ، لأن معنى الاستثناء إنما هو من يوم القيامة ، أي خالدين في النار إلا ما شاء الله من مقدار حشرهم من قبورهم ، ومقدار مدتهم في الحساب ، فالاستثناء منقطع.

والقول الثاني ـ المراد الأوقات التي ينقلون فيها من عذاب النار إلى عذاب الزمهرير ، روي أنهم يدخلون واديا فيه برد شديد ، فهم يطلبون الرد من ذلك البرد إلى حر جهنم.

٤٣

والقول الثالث لابن عباس : الاستثناء لأهل الإيمان ، استثنى الله تعالى قوما سبق في علمه أنهم يسلمون ويصدقون النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعلى هذا القول يجب أن تكون (ما) بمعنى «من» ولا يكون الاستثناء منقطعا.

تولية الظلمة على بعضهم وتقريع الكافرين على عدم إيمانهم

(وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٢٩) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (١٣٠) ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (١٣١) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٣٢))

الإعراب :

(يَقُصُّونَ) و (يُنْذِرُونَكُمْ) : كل منهما جملة فعلية في موضع رفع ؛ لأنها صفة لرسل.

(ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ ذلِكَ) خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : الأمر ذلك. و (أَنْ) في موضع نصب بتقدير حذف حرف الجر ، وتقديره : لأن لم يكن ربك ، فلما حذف حرف الجر انتصب ، فاللام مقدرة ، وأن مخففة من الثقيلة أي لأنه.

البلاغة :

(أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ) استفهام توبيخ وتقريع.

(وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ) أي لكل من العاملين ، فالتنوين عوض عن محذوف لهم.

٤٤

المفردات اللغوية :

(وَكَذلِكَ) أي كما متعنا عصاة الإنس والجن بعضهم ببعض (نُوَلِّي) من الولاية والإمارة ، أو نجعل بعضهم أنصار بعض (بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً) أي على بعض (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) من المعاصي (أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) أي من مجموعكم ، ويصدق ذلك على بعض الإنس : لأن الرسل من الإنس ، ولم يكن من الجن رسول ، فهذا من باب التغليب ، كقوله تعالى : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) [الرحمن ٥٥ / ٢٢] وإنما يخرجان من البحر المالح لا العذب. (يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ) يخبرونكم بها مع التوضيح والتبيان.

(شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا) أن قد بلّغنا (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) أي خدعتهم الدنيا بزخارفها فلم يؤمنوا.

(ذلِكَ) أي إرسال الرسل (وَأَهْلُها غافِلُونَ) لم يرسل إليهم رسول يبين لهم.

(وَلِكُلٍ) من العاملين (دَرَجاتٌ) مراتب جزاء على وفق أعمالهم (مِمَّا عَمِلُوا) من خير أو شر.

المناسبة :

لما حكى الله تعالى عن الجن والإنس أن بعضهم يتولى بعضا ، بيّن أن ذلك إنما يحصل بتقديره وقضائه ، فقال : (وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً) أي مثل ما ذكر من استمتاع الجن والإنس ببعضهم في الدنيا ، لتماثلهم في الاتجاه والوسائل والغايات والأعمال ، نولي بعض الظالمين ولاية بعض ، فنجعلهم أمراء عليهم ، أو أنصارا لهم.

التفسير والبيان :

مثل تولي الجن والإنس بعضهم لبعض نولي الظالمين بعضهم ببعض ، بأن نجعل بعضهم أنصار بعض بمقتضى التقدير والسنة الكونية ، كما أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض ، كما قال تعالى : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) [التوبة ٩ / ٧١] وقال سبحانه : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) [الأنفال ٨ / ٧٣].

٤٥

قال قتادة في تفسير الآية : إنما يولي الله الناس بأعمالهم ، فالمؤمن ولي المؤمن أين كان ، وحيث كان ، والكافر ولي الكافر أينما كان وحيثما كان ، ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي. واختاره الطبري ، ويكون معنى الآية : وكما جعلنا بعض هؤلاء المشركين من الجن والإنس أولياء بعض ، يستمتع بعضهم ببعض ، كذلك نجعل بعضهم أولياء بعض في كل الأمور ، بما كانوا يكسبون من معاصي الله ويعملون (١).

وقال السيوطي في الإكليل : الآية في معنى حديث «كما تكونوا يولّى عليكم» (٢) وقال الفضيل بن عياض : إذا رأيت ظالما ينتقم من ظالم ، فقف وانظر متعجبا. وروى أبو الشيخ ابن حيان عن منصور بن أبي الأسود ، قال : سألت الأعمش عن قوله تعالى : (وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً) ما سمعتهم يقولون فيه؟ قال : سمعتهم يقولون : إذا فسد الناس أمّر عليهم شرارهم ، أي أن الولاية والإمارة تكون لأشرارهم ، كما قال تعالى : (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها ، فَفَسَقُوا فِيها ، فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ ، فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً) [الإسراء ١٧ / ١٦].

أي أن التولية بين الظالمين إما بالتعاطف والتناصر فيما بينهم ، وإما بتسلط بعضهم على بعض وتأمّرهم عليهم ، فما من ظالم إلا سيبلى بأظلم منه. والظلم عام يشمل الظالمين لأنفسهم ، والظالمين للناس من الحكام وغيرهم ، فكل فريق يتولى شبهه في الخلق والعمل ، وينصره على غيره. قال ابن عباس : «إذا رضي الله على قوم ولى أمرهم خيارهم ، وإذا سخط على قوم ولى أمرهم شرارهم».

وهذا تهديد عام لكل ظالم في الحكم والسلطة أو غير ذلك.

__________________

(١) تفسير الطبري : ٨ / ٢٦ ، تفسير ابن كثير : ٢ / ١٧٦

(٢) رواه الديلمي في مسند الفردوس عن أبي بكرة ، ورواه البيهقي في شعب الإيمان عن أبي إسحاق السبيعي مرسلا ، وهو حديث ضعيف.

٤٦

وتابع الله تقريع الظالمين وتهديد كافري الجن والإنس ، وبيان حالهم يوم القيامة ، حيث يسألهم ، وهو أعلم ، هل بلّغتهم الرسل رسالاته ، وهذا استفهام تقرير وتقريع وتوبيخ ، فقال : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ ...) أي يا جماعة الجن والإنس ، ألم يأتكم رسل منكم؟ أي من جملتكم ، والرسل من الإنس فقط ، وليس من الجن رسل ، كما قرر جمهور السلف والخلف ، وقد عبر بذلك من باب التغليب ، كما قال تعالى : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) [الرحمن ٥٥ / ٢٢] واللؤلؤ والمرجان إنما يستخرجان في عرف المتقدمين من المالح ، لا من الحلو ، ثم ثبت أن بعض الأنهار الحلوة الماء قد استخرج منها اللؤلؤ.

ويمكن أن يكون المراد رسل الإنس المعروفين ، ورسل الجن : وهم الذين كانوا يستمعون إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم يذهبون لإنذار قومهم بما سمعوا : (وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) [الأحقاف ٤٦ / ٢٩] (قُلْ : أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ ، فَقالُوا : إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً ...) [الجن ٧٢ / ١].

ومهمة هؤلاء الرسل : أنهم يتلون على أقوامهم آيات الإيمان والأحكام والآداب ، وينذرونهم لقاء يوم الحشر وما فيه من الحساب والجزاء لمن يكفر بها ويجحدها.

فأجابوا عن السؤال ، وقالوا يوم القيامة : أقررنا بأن الرسل قد بلغونا رسالاتك ، وأنذرونا لقاءك ، وأن هذا اليوم كائن لا محالة ، ونظير الآية قوله تعالى : (قالُوا : بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ ، فَكَذَّبْنا وَقُلْنا : ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) [الملك ٦٧ / ٩].

وخدعتهم الحياة الدنيا بزينتها ومتاعها من الشهوات والأموال والأولاد وحب السلطة ورفعة الجاه ، ففرطوا في حياتهم الدنيا ، وهلكوا بتكذيبهم الرسل ، وإنكار المعجزات ، كبرا وعنادا.

٤٧

وشهدوا على أنفسهم يوم القيامة أنهم كانوا كافرين في الدنيا ، بما جاءتهم به الرسلعليهم‌السلام.

ذلك أي إرسال الرسل وإنذارهم الناس ، وإنزال الكتب ، بسبب أن من سنة الله ألا يؤاخذ أحد بظلمه إذا لم تبلغه الدعوة ، وألا تهلك الأمم بعذاب الاستئصال ، إلا بعد إرسال الرسل إليهم ، كما قال تعالى : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) [فاطر ٣٥ / ٢٤] وقال سبحانه : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ، وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [النحل ١٦ / ٣٦] وقال عزوجل : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء ١٧ / ١٥].

وقوله تعالى : (بِظُلْمٍ) يحتمل ـ كما ذكر الطبري ـ وجهين : الأول ـ بشرك ونحوه ، أي أن الظلم فعل للكفار. والثاني ـ لا يكون الهلاك ظلما بغير حق دون التنبيه والتذكير بالرسل والآيات والعبرة ، أي أن ذلك عائد إلى فعل الله تعالى والوجه الأول أقوى ، كما قال الطبري (١) والرازي وغيرهما ، والخلاصة : إن الله لا يظلم أحدا من خلقه ، ولكن الناس أنفسهم يظلمون ، فكل ما نزل وينزل بالمسلمين إنما هو لسوء أعمالهم ، وتركهم دينهم ، والعيب فيهم لا في نظام شرعهم.

ولكل عامل في طاعة الله أو معصيته مراتب ومنازل من عمله ، يبلغه الله إياها ، ويثيبه بها ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.

والله مطلع على كل الأعمال ، فما من عمل لهم إلا يعلمه ، وهو محصيه ومثبته لهم عنده ، ليجازيهم عليها عند لقائهم إياه ، ومعادهم إليه.

وهذا دليل على أن مناط السعادة والشقاء : هو عمل الإنسان ومشيئته ، أو كسبه وإرادته واختياره.

__________________

(١) تفسير الطبري : ٨ / ٢٨

٤٨

فقه الحياة أو الأحكام :

تدل آية : (وَكَذلِكَ نُوَلِّي ..) على أن الرعية متى كانوا ظالمين ، فالله تعالى يسلط عليهم ظالما مثلهم ، فإن أرادوا التخلص من ذلك الأمير الظالم ، فليتركوا الظلم.

وتدل الآية أيضا على أنه لا بد للناس من أمير وحاكم ؛ لأنه تعالى إذا كان لا يخلي أهل الظلم من أمير ظالم ، فبأن لا يخلي أهل الصلاح من أمير يحملهم على زيادة الصلاح ، كان أولى. قال علي رضي‌الله‌عنه : «لا يصلح للناس إلا أمير عادل ، أو جائر» فلما أنكروا قوله : «أو جائر» قال : نعم يؤمن السبيل ، ويمكن من إقامة الصلوات ، وحج البيت».

وتذكر الآية سنة من سنن الله في الناس ، وهي أنه لما كان تعالى ولي المؤمنين أي حافظهم وحارسهم ومعينهم وناصرهم وأن لهم دار السلام ، أبان أن أهل النار بعضهم أولياء بعض ، أي أن نصراءهم من يشبههم في الظلم والخزي والنكال.

ومهمة الرسل عليهم‌السلام : تلاوة الآيات الإلهية وتأويلها وتوضيحها ، وإنذار الناس وتخويفهم عذاب يوم القيامة.

ولم يجد الكفار بدا من الاعتراف بذلك ، ولكن الحياة الدنيا خدعتهم وظنوا أنها تدوم ، وخافوا زوالها عنهم إن آمنوا ، واعترفوا بكفرهم.

والله عادل أتم العدل وأكمله ، لذا فإن عذاب الكفار عدل وحق وواجب ، فلا يعذبهم إلا بعد بيان وإنذار ، ولا يعاقبهم إلا بعد بعثة الأنبياء والرسل إليهم. وإرسال الرسل أمر حتمي ضروري ، لأن من خصائص الله وصفاته أنه لا يهلك أهل القرى بشركهم قبل إرسال الرسل إليهم ، فيقولوا : ما جاءنا من بشير ونذير.

٤٩

ولكل العاملين لمن الجن والإنس مراتب بحسب أعمالهم ، فلمن عمل بطاعة الله درجات في الثواب ، ولمن عمل بمعصيته دركات في العقاب ، والله ليس بغافل ولا لاه ولا ساه عن كل عمل ، قليل أو كثير.

ودلت آية : (ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ) على أنه لا تكليف ولا إيجاب قبل ورود الشرع ، وأن العقل المحض لا يدل على التكليف والإيجاب أصلا.

التهديد بعذاب الاستئصال والإنذار بعذاب القيامة

(وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (١٣٣) إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (١٣٤) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (١٣٥))

الإعراب :

(إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ ما) اسم موصول بمعنى الذي في موضع نصب اسم (إِنَ). و (تُوعَدُونَ) صلة ، والعائد إليه محذوف ، تقديره : إن الذي توعدونه لآت ، مثل قوله تعالى : (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) [الفرقان ٢٥ / ٤١] أي بعثه.

(مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ مَنْ) إما استفهامية مبتدأ ، وما بعدها خبره ، والجملة في موضع نصب بتعلمون ، وإما أن تكون بمعنى «الذي» خبرا ، فتكون في موضع نصب بتعلمون.

البلاغة :

(إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ) عبر بالفعل المضارع المفيد للاستقبال ، للدلالة على الاستمرار المتجدد. والجملة مؤكدة بمؤكدين : إن ، واللام ، للرد على منكري البعث.

٥٠

المفردات اللغوية :

(يُذْهِبْكُمْ) يهلككم يا أهل مكة (وَيَسْتَخْلِفْ) أي ينشئ الخلف وهو الذرية والنسل (كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) أذهبهم ولكنه أبقاكم رحمة لكم ، وقوله (مِنْ ذُرِّيَّةِ) أي من نسل قوم (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) فائتين عذابنا ، فالله قادر غير عاجز على إدراككم.

(مَكانَتِكُمْ) حالتكم (عاقِبَةُ الدَّارِ) العاقبة المحمودة أو عاقبة الخير في الدار الآخرة ، إذ لا اعتداد بعاقبة الشر ؛ لأن الله جعل الدنيا مزرعة الآخرة. (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ) يسعد (الظَّالِمُونَ) الكافرون.

المناسبة :

لما بيّن الله تعالى ثواب أهل الطاعة وعقاب أهل المعصية ، وذكر أن لكل قوم درجة مخصوصة ومرتبة معينة ، بيّن أنّه غير محتاج إلى طاعة المطيعين ، ولا ينتقص بمعصية المذنبين ، فإنه تعالى غني لذاته عن جميع العالمين ، ولكنه أيضا ذو رحمة عامة كاملة ، ثم بيّن أنه قادر على وضع الرحمة في هذا الخلق ، أو في خلق جديد بديل عنهم ، ثم فوض الأمر إلى خلقه على سبيل التهديد.

التفسير والبيان :

وربك يا محمد هو الغني عن جميع خلقه وعن عبادتهم من جميع الوجوه ، وهم الفقراء إليه في جميع أحوالهم ، وهو مع ذلك ذو الرحمة الشاملة بهم ، كما قال تعالى : (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) [الحج ٢٢ / ٦٥] وقال في بيان غناه : (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ ، وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) [فاطر ٣٥ / ١٥].

وجملة (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ) تفيد الحصر ، بمعنى أنه لا غني إلا هو ، ولا رحمة إلا منه ، لأنه واجب الوجود لذاته ، وغيره ممكن لذاته ، والممكن محتاج ، فثبت أنه لا غني إلا هو ، وكل ما سوى الله منه ، فثبت أنه لا رحمة إلا من الحق ، فكل ما عداه محتاج إليه في وجوده وبقائه ، ومحتاج إلى الأسباب التي هي قوام وجوده وحياته.

٥١

إن يشأ يذهبكم أيها الكافرون المعاندون كأهل مكة ، كما أهلك من عاند الرسل كعاد وثمود ، ويأت بخلق جديد غيركم أفضل منكم وأطوع ، فهو قادر على أن يستخلف من بعدكم ما يشاء من الأقوام ، كما قدر على إنشائكم من ذرية قوم آخرين ، أي أنه قادر على الإهلاك والإنشاء معا ، وقد حق ذلك ، فأهلك زعماء الشرك المعاندين ، واستخلف من بعدهم قوما آخرين وهم المهاجرون والأنصار وأتباعهم الذين كانوا مظهر رحمة الله للبشر في سلمهم وحربهم ، حتى قال غوستاب لوبون : «ما عرف التاريخ فاتحا أعدل ولا أرحم من العرب».

وبعد أن وجه لهم هذا الإنذار بالإهلاك في الدنيا ، أتبعه إنذارا آخر في الآخرة ، فقال: (إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ ..) أي أخبرهم يا محمد أن الذي توعدون به من الجزاء الأخروي كائن لا محالة ، وما أنتم بمعجزين ، أي لا تعجزون بهرب ولا امتناع مما يريد ، فهو القادر على إعادتكم ، وإن صرتم ترابا رفاتا وعظاما ، وهو القاهر فوق عباده. روى ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري رضي‌الله‌عنه عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «يا بني آدم إن كنتم تعقلون ، فعدّوا أنفسكم من الموتى ، والذي نفسي بيده ، إنما توعدون لآت ، وما أنتم بمعجزين».

ثم أردف الله تعالى ذلك بتهديد آخر شديد ووعيد أكيد فقال : (قُلْ : يا قَوْمِ ، اعْمَلُوا ...) أي أخبرهم يا محمد بقولك : استمروا على طريقتكم وحالتكم التي أنتم عليها إن كنتم تظنون أنكم على هدى ، فأنا مستمر على طريقتي ومنهجي ، كقوله تعالى : (وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ : اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ ، إِنَّا عامِلُونَ ، وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) [هود ١١ / ١٢١ ـ ١٢٢].

قال الزمخشري في قوله : (اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) : يحتمل وجهين : اعملوا على تمكنكم من أمركم ، وأقصى استطاعتكم ، وإمكانكم ؛ أو اعملوا على جهتكم وحالكم التي أنتم عليها ، إني عامل على مكانتي التي أنا عليها ، والمعنى : اثبتوا على كفركم

٥٢

وعداوتكم لي ، فإني ثابت على الإسلام وعلى مصابرتكم (١).

فسوف تعلمون أينا تكون له العاقبة المحمودة ، أنحن أم أنتم؟ وعاقبة الدار : العاقبة الحسنى التي خلق الله تعالى هذه الدار لها.

وهذا ـ كما قال الزمخشري ـ طريق من الإنذار ، لطيف المسلك ، فيه إنصاف في المقال ، وأدب حسن ، مع تضمن شدة الوعيد ، والوثوق بأن المنذر محق ، والمنذر مبطل. وهو على طريقة قوله : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) [فصلت ٤١ / ٤٠] وقوله : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [سبأ ٣٤ / ٢٤].

وهو دليل على أن أحوال الأمم مرتبة بحسب أعمالها ، وأن عاقبة كل عمل نتيجة حتمية له ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.

إنه لا يفلح الظالمون أي لا يسعد ولا ينجح الظالمون أنفسهم بالكفر بنعم الله ، واتخاذ الشركاء له في ألوهيته ، وذلك مثل قوله تعالى : (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ ، وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ) [إبراهيم ١٤ / ١٤].

ومما نحمد الله عليه أن أنجز الله موعده لرسوله ، فمكّنه في البلاد ، ونصره على مشركي العرب ، ودانت له الجزيرة العربية واليمن والبحرين في حياته ، ثم فتحت الأمصار والأقاليم بعد وفاته في أيام خلفائه ، وانتشر الإسلام في المشارق والمغارب ، وتعاقبت دول الإسلام قوية عزيزة منيعة عدة قرون من الزمان ، كما قال تعالى : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ، إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [المجادلة ٥٨ / ٢١] وقال : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ ، يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ، وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ ، وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) [غافر ٤٠ / ٥١ ـ ٥٢].

__________________

(١) الكشاف : ١ / ٥٢٩

٥٣

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على صفات عظيمة لله عزوجل وهي الغنى المطلق عن خلقه وعن أعمالهم ، والرحمة الشاملة لعباده ، ولا سيما أولياؤه وأهل طاعته ، والقدرة الكاملة على الإماتة والاستئصال بالعذاب ، والإحياء والإنشاء واستخلاف خلق آخر أمثل وأطوع.

وقال المعتزلة : هذه الآية إشارة إلى الدليل الدال على كونه عادلا منزها عن فعل القبيح ، وعلى كونه رحيما محسنا بعباده.

ودلت الآيات أيضا على أن وعد الله محقق منجز ، وأن الإيعاد بعذاب الآخر كائن حتما لا محالة ، والجزاء أمر لازم لأهل الخير والشر.

وتضمنت الآيات إنذارين : إنذارا في الدنيا لتصحيح الأعمال بالتهديد بعذاب الاستئصال ، وإنذارا في الآخرة للرهبة من الحساب وعذاب النار.

ولا شك بأن المصير مختلف بين أهل الطاعة وأهل المعصية ، فالعاقبة الحسنة المحمودة لمن آمن بالإسلام وأطاع الله ، والمصير المشؤوم لمن كفر بالله وعصاه ورفض أوامره وتحدى رسله.

شريعة الجاهلية في الزروع والثمار والأنعام وقتل الأولاد

(وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ

٥٤

ما يَحْكُمُونَ (١٣٦) وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١٣٧) وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣٨) وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٣٩) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِراءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٤٠))

الإعراب :

(ساءَ ما يَحْكُمُونَ مِمَّا) في موضع رفع ؛ لأنه فاعل (ساءَ).

(زَيَّنَ) فعل مبني لمعلوم ، وفاعله : (شُرَكاؤُهُمْ) و (قَتْلَ) مفعول به وهو مصدر أضيف إلى المفعول. وقرئ زين بالبناء للمجهول ، وقتل بالضم نائب الفاعل ، و (شُرَكاؤُهُمْ) فاعل مرفوع بفعل مقدر دل عليه (زَيَّنَ) كأنه قيل : لما قيل : زين لهم قتل أولادهم : من زينه؟ فقيل : زينه لهم شركاؤهم. وقرأ ابن عامر بنصب : أولادهم ، وجر: شركائهم بالفصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول ، ولا يضر كما قال السيوطي ، وهو وجه سائغ لغة ، بدليل أنها قراءة متواترة.

(مَنْ نَشاءُ مَنْ) فاعل مرفوع لفعل : يطعم.

٥٥

(ما فِي بُطُونِ ما) اسم موصول ، بمعنى الذي مبتدأ مرفوع ، و (فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ) صلته. و (خالِصَةٌ) خبر المبتدأ ، وأنث خالصة ، حملا على معنى (ما) لأن المراد بما في بطون هذه الأنعام : الأجنة ، وذكّر : (مُحَرَّمٌ) حملا على لفظ (ما) ويجوز أن يكون (خالِصَةٌ) بدلا مرفوعا من (ما) بدل بعض من كل ، و (لِذُكُورِنا) الخبر. ومن قرأ خالصة بالنصب كان منصوبا على الحال من الضمير المرفوع في قوله (فِي بُطُونِ). وخبر المبتدأ الذي هو (ما) : (لِذُكُورِنا).

(وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً) اسم (يَكُنْ) ضمير مضمر فيها ، و (مَيْتَةً) خبرها. و (يَكُنْ) محمول على لفظ (ما) وتقديره : وإن يكن ما في بطون هذه الأنعام ميتة. ومن رفع ميتة فلأن تأنيث الميتة ليس بحقيقي. ومن قرأ : تكن بالتاء ، وجعل كان تامة بمعنى: حدث ووقع ، ورفع ميتة لأنه فاعل ، كقوله تعالى : (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً) [النساء ٤ / ٤٠] في قراءة الرفع. (سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ) منصوب بنزع الخافض أي بوصفهم. (سَفَهاً) إما منصوب على المصدر ، وإما على أنه مفعول لأجله.

البلاغة :

(ما رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِراءً عَلَى اللهِ) إظهار لفظ الجلالة الثاني ، لبيان كمال عتوهم وضلالهم.

المفردات اللغوية :

(وَجَعَلُوا) أي كفار مكة (ذَرَأَ) خلق وأبدع (الْحَرْثِ) الزرع ، جعلوا لله نصيبا يصرفونه إلى الضيفان والمساكين ، ولشركائهم نصيبا يصرفونه إلى سدنتها (فَقالُوا : هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا) أي الأوثان التي يتقربون بعبادتها إلى الله تعالى ، فكانوا إذا سقط في نصيب الله شيء من نصيبها التقطوه ، أو في نصيبها شيء من نصيبه تركوه ، وقالوا : إن الله غني عن هذا ، كما قال تعالى : (فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ) أي لجهته وهي سدنة الآلهة وخدمها. (ساءَ) بئس (ما يَحْكُمُونَ) حكمهم هذا.

(قَتْلَ أَوْلادِهِمْ) بالوأد (شُرَكاؤُهُمْ) من الجن (لِيُرْدُوهُمْ) يهلكوهم بالإغواء (وَلِيَلْبِسُوا) يخلطوا (حِجْرٌ) أي حرام ممنوع ، والحجر : أصله المنع ، ومنه سمي العقل حجرا لمنعه صاحبه (إِلَّا مَنْ نَشاءُ) من خدمة الأوثان وغيرهم (بِزَعْمِهِمْ) أي لا حجة لهم فيه (وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها) فلا تركب ، كالسوائب والحوامي (وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا) عند ذبحها بل يذكرون اسم أصنامهم ، ونسبوا ذلك إلى الله (ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ) المحرمة وهي السوائب والبحائر (خالِصَةٌ) حلال (أَزْواجِنا) النساء (وَصْفَهُمْ) أي سيجزيهم جزاء وصفهم ذلك بالتحليل والتحريم (إِنَّهُ حَكِيمٌ) في صنعه (عَلِيمٌ) بخلقه (سَفَهاً) جهلا.

٥٦

المناسبة :

بعد أن ندد الله تعالى بفساد عقائد المشركين ، ومنها إنكار القيامة والبعث والجزاء ، ذكر هنا أنواعا وصورا من جهالاتهم وأحكامهم المفتراة في تحليل وتحريم بعض الزروع والثمار والأنعام ، ووأد البنات.

التفسير والبيان :

هذه ألوان من شرائع الجاهلية العربية قبل الإسلام التي ابتدعها المشركون ، واخترعوها بأهوائهم وآرائهم الفاسدة ، وتأثرا بوساوس الشيطان.

النوع الأول :

(وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ ...) أي وجعلوا لله نصيبا مما خلق من الزرع والثمار والأنعام ، وخصصوا له جزءا وقسما من الغلة والثمرة والنتاج ، وجعلوا نصيبا آخر لشركاء لله المزعومين من الأوثان والأصنام.

وقالوا في النصيب الأول : (هذا لِلَّهِ) ، نتقرب به إليه ، وفي النصيب الثاني : (هذا لِشُرَكائِنا) أي لمعبوداتنا نتقرب به إليها.

وجعل الأوثان شركاءهم ؛ لأنهم جعلوا لها نصيبا من أموالهم ينفقونه عليها ، وأطاعوها طاعة إذعان وخضوع في التحليل والتحريم مما هو من خصائص الله تعالى. وقوله : (بِزَعْمِهِمْ) أي بتقولهم الذي لا بينة لهم عليه ولا هدى من الله ، فيزعمون أنهم يحرمونه قربة لله ، والقربة يجب أن تكون خالصة له وحده ، وبإذنه ؛ لأنه دين ، والدين لله ومن الله وحده.

ونصيب الله كانوا يجعلونه للضيوف وإكرام الصبيان والتصدق على المساكين ، ونصيب آلهتهم لسدنتها وخدمها ومصالحها.

٥٧

وما عينوه لشركائهم لا يصرف منه شيء إلى الوجوه التي جعلوها لله ، بل يجعلونه للسدنة وخدمة الأصنام والأوثان وذبح القرابين.

وما جعلوه لله فقد يصرف للتقرب به إلى الأوثان.

(ساءَ ما يَحْكُمُونَ) أي بئس الحكم الذي يحكمون أو يقسمون ويصنعون ، بإيثارهم المخلوق العاجز على الخالق القادر على كل شيء ، فهي قسمة جائرة ؛ لأن الله تعالى هو رب كل شيء ومليكه وخالقه ، وحينما قسموا جاروا فلم يصرفوا له حقوقه ، أو جعلوا له الصنف الأضعف ، كما قال تعالى : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ ، سُبْحانَهُ ، وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) [النحل ١٦ / ٥٧] وقال تعالى : (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً ، إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ) [الزخرف ٤٣ / ١٥] وقال عزوجل : (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى. تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) [النجم ٥٣ / ٢١ ـ ٢٢].

إنهم بهذا الصنع القبيح اعتدوا على حق الله في التشريع ، وأشركوا به غيره وعبدوا معه إلها آخر ، وفضلوه ورجحوه عليه بجعل ما لله لشركائهم ، ولم يستندوا في حكمهم على سند صحيح من عقل أو هداية من شرع إلهي.

قال ابن عباس في تفسير هذه الآية : «إن أعداء الله كانوا إذا حرثوا حرثا ، أو كانت لهم ثمرة ، جعلوا لله منه جزءا ، وللوثن جزءا ، فما كان من حرث أو ثمرة أو شيء من نصيب الأوثان ، حفظوه وأحصوه ، وإن سقط منه شيء فيما سمي للصّمد ، ردوه إلى ما جعلوه للوثن ، وإن سبقهم الماء الذي جعلوه للوثن ، فسقى شيئا ، جعلوه لله ، جعلوا ذلك للوثن ، وإن سقط شيء من الحرث والثمرة الذي جعلوه لله ، فاختلط بالذي جعلوه للوثن ، قالوا : هذا فقير ، ولم يردوه إلى ما جعلوه لله ، وإن سبقهم الماء الذي جعلوه لله ، فسقى ما سمي للوثن ، تركوه للوثن.

وكانوا يحرّمون من أموالهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي ، فيجعلونه

٥٨

للأوثان ، ويزعمون أنهم يحرمونه قربة لله تعالى».

النوع الثاني :

(وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ...) أي ومثل ذلك التزيين بقسمة الحرث والأنعام بين الله والأوثان ، زيّن لكثير من المشركين شركاؤهم (سدنة الآلهة وخدمها) أن يقتلوا أولادهم ، وقال مجاهد : شركاؤهم : شياطينهم يأمرونهم أن يئدوا أولادهم خشية العلية (الفقر) وقال السدي : أمرتهم الشياطين أن يقتلوا البنات ، إما ليردوهم فيهلكوهم ، وإما ليلبسوا عليهم دينهم ، أي فيخلطوا عليهم دينهم.

وسبب هذا التزيين : أن الشياطين خوفوهم الفقر في الحال أو في المستقبل ، كما وصف تعالى ونهى عن فعله فقال : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ) [الإسراء ١٧ / ٣١].

وخوفوهم العار ، فقتلوا البنات خوف العار والفقر والزواج من غير كفء ، وقد سنح الله تعالى عليهم بقوله : (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) [التكوير ٨١ / ٨].

وأوهموهم أن قتل الأولاد يقربهم إلى الله ، كما فعل عبد المطلب حين نذر قتل ابنه عبد الله ، وأشار إليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «أنا ابن الذبيحين».

وذكر تعالى علة تزيين المنكرات فقال : (لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ) أي زيّن هؤلاء الشياطين لهم هذه المنكرات ، ومنها قتل أولادهم ، ليردوا المشركين ويهلكوهم بالإغواء ، ويفسدوا عليهم فطرتهم ، وليخلطوا عليهم أمر دينهم الذي يدّعونه وهو دين إسماعيل وملة إبراهيم.

ولو شاء الله ما فعلوا هذا أبدا ، وكل هذا واقع بمشيئة الله تعالى وإرادته

٥٩

واختياره لذلك بمقتضى الحكمة التامة ، قال أهل السنة : إنه يدل على أن كل ما فعله المشركون ، فهو بمشيئة الله تعالى.

وقالت المعتزلة : إنه محمول على مشيئة الإلجاء ، أي إن مشيئة الله تعالى أن يتركهم واختيارهم ، فيأخذوا بما يرونه دون جبر ولا قهر ، علما بأن الله قادر على أن يجعلهم مؤمنين ، بأن يخلقهم مطبوعين على الاستعداد للإيمان كالملائكة ، أو يخلق فيهم بواعث الإيمان ودواعيه ، فينقادوا لدعوة الإيمان عند ظهورها ، وبمجرد مجيء الرسول الذي يقنعهم بضرورة الإيمان ، والإقرار بوجود الله ووحدانيته.

فاتركهم أيها الرسول وما يدينون ، وما عليك إلا التبليغ.

النوع الثالث :

(وَقالُوا : هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ ...) أي إنهم لشركهم وجاهليتهم المشوهة قسموا أنعامهم وزروعهم ثلاثة أقسام :

١ ـ أنعام وأقوات ممنوعة الانتفاع على أحد ، ومخصصة لمعبوداتهم وأوثانهم ، ويقولون: هي حجر أي محتجرة للآلهة لا تعطى لغيرهم ، ويقولون : لا يطعمها إلا من نشاء أي لا يأكل منها إلا خدم الأوثان ، والرجال دون النساء. وذلك قول صادر عن زعمهم الخالي من الحجة والبرهان.

٢ ـ أنعام حرّمت ظهورها ، فلا تركب ولا يحمل عليها ، وهي البحائر والسوائب والحوامي ، التي تقدم ذكرها وتفسيرها في سورة المائدة : (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ ..) [١٠٣].

٣ ـ أنعام لا يذكرون اسم الله عليها عند الذبح ، وإنما يذكرون عليها أسماء الأصنام ، ولا ينتفعون بها حتى في الحج.

٦٠