التفسير المنير - ج ٨

الدكتور وهبة الزحيلي

وقد قسموا تلك القسمة مفترين على الله ، كاذبين عليه ، فهو لم يشرعه لهم ، وما كان لهم أن يحللوا أو يحرموا شيئا لم يأذن الله به ، كما قال تعالى : (قُلْ : أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ ، فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً ، قُلْ : آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) [يونس ١٠ / ٥٩].

والله سيجزيهم الجزاء الذي يستحقونه بما كانوا يفترون. وهذا وعيد وتهديد لهم.

ثم ذكر الله تعالى نوعا آخر من التحليل والتحريم بزعمهم وسخفهم فقال : (وَقالُوا : ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ ..) أي إن أجنة وألبان هذه البحائر (أي المشقوقة الآذان) والسوائب المسيّبة للآلهة فلا يتعرض لها أحد : هو حلال خاص برجالنا ، ومحرم على إناثنا ، فلبنها للذكور ومحرم على الإناث ، وإذا ولدت ذكرا جعلوه خالصا للذكور لا تأكل منه الإناث ، وإذا ولدت أنثى تركت للنتاج فلم تذبح ، وإذا كان المولود ميتا اشترك فيه الذكور والإناث.

سيجزيهم جزاء وصفهم أي قولهم الكذب في ذلك ، كما قال تعالى : (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ : هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ ، لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ ، إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) [النحل ١٦ / ١١٦].

ثم ندد الله بوأد البنات وتحريم ما أحل الله فقال : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ ...) أي خسر الذين قتلوا أولادهم ، فوأدوا البنات خسرانا مبينا ، وحرموا ما رزقهم الله من الطيبات.

إنهم قتلوا أولادهم سفها أي خفة مذمومة ، وحماقة مفضوحة ، خوفا من ضرر موهوم وهو الفقر ، وجهلا بما ينفع ويضر ويحسن ويقبح ، ولا شك أن الجهل أعظم المنكرات والقبائح ، وحرموا الطيبات افتراء وكذبا على الله ، ولقد ضلوا ضلالا مبينا لعدم توصلهم إلى مصالح الدنيا والدين ، ولم يكونوا مهتدين إلى شيء

٦١

من الحق والصواب ، وفائدة قوله : (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) لبيان أنه لم يحصل منهم اهتداء قط.

أخرج البخاري عن ابن عباس قال : «إذا سرّك أن تعلم جهل العرب ، فاقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من سورة الأنعام : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً) إلى قوله : (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ).

وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة أنه قال في هذه الآية : هذا صنع أهل الجاهلية ، كان أحدهم يقتل ابنته مخافة السّباء والفاقة ، ويغذو كلبه.

فقه الحياة أو الأحكام :

تلك شرائع العرب في جاهليتهم الجهلاء ، مصدرها وهم وسخف ، وقصور عقل ، وهوى فاسد ، روي أن رجلا قال لعمرو بن العاص : إنكم على كمال عقولكم ، ووفور أحلامكم ، عبدتم الحجر! فقال عمرو : تلك عقول كادها باريها.

هذا الذي أخبر الله سبحانه من سخافة العرب وجهلهم أمر أذهبه الإسلام ، وأبطله الله ببعثة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فبئس الحكم حكمهم.

قال ابن زيد : كانوا إذا ذبحوا ما الله ، ذكروا عليه اسم الأوثان ، وإذا ذبحوا ما لأوثانهم لم يذكروا عليه اسم الله.

إنهم لم يعدلوا في قسمتهم الزروع والثمار والأنعام ، فما جعلوه لله بزعمهم صرفوه لأوثانهم ، وما جعلوه لأوثانهم قدموه لها.

وقد ارتكبوا ظلما عظيما بوأد البنات : وهو دفن البنت حية مخافة السّباء والحاجة ، ولعدم ما حرمن من النصرة ، أي أنهم لا يستطيعون الغزو والقتال.

وشركاؤهم وهم الذين كانوا يخدمون الأوثان ، أو الغواة من الناس أو

٦٢

الشياطين هم الذين زينوا لهم قتل أولادهم ليهلكوهم ، وليخلطوا عليهم دينهم الذي ارتضى لهم ، أي يأمرونهم بالباطل ويشككونهم في دينهم. وكانوا على دين إسماعيل.

وقد صنفوا أموالهم وأقواتهم ثلاثة أصناف ، صنف لمعبوداتهم وأوثانهم ، وصنف حرّمت ظهورها ، وصنف لا يذكرون اسم الله عليها عند الذبح ، افتراء وكذبا على الله بما لم يشرعه ، وسيلقون جزاء افترائهم.

وخصصوا ألبان الأنعام وذكورها لذكورهم الرجال ، وحرموها على الإناث ، وجعلوا الميتة شركة بين الذكور والإناث ، وتركوا الأنثى للنتاج ، سيجزيهم الله وصفهم ، أي كذبهم وافتراءهم ، أي يعذبهم على ذلك.

وكان أشد أنواع عاداتهم وأحكامهم ظلما وجرما قتلهم الأولاد أي البنات وتحريم ما أحل الله ، بدليل أنه كرر الله توبيخهم عليه في هذه الآيات ، وحكم عليهم بسبعة أمور (١) :

١ ـ الخسران : لأن الولد نعمة عظيمة من الله على العبد.

٢ ـ السفاهة : وهي الخفة المذمومة ؛ لأن قتل الولد لخوف الفقر ، والفقر وإن كان ضررا ، إلا أن القتل أعظم منه ضررا ، والفقر موهوم والقتل ضرر حتمي.

٣ ـ الجهل وعدم العلم : لأن هذه السفاهة تولدت من عدم العلم ، ولا شك أن الجهل أعظم المنكرات والقبائح.

٤ ـ تحريم ما أحل الله لهم ، وهو من أعظم أنواع الحماقة ، لأنه يمنع نفسه تلك المنافع والطيبات.

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٣ / ٢٠٩

٦٣

٥ ـ الافتراء على الله : ومن المعلوم أن الجرأة على الله والافتراء عليه أعظم الذنوب والكبائر.

٦ ـ الضلال عن الرشد في مصالح الدين ومنافع الدنيا.

٧ ـ إنهم ما كانوا مهتدين ، وهو وصف لازم دائم لهم.

روي أن رجلا من أصحاب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان لا يزال مغتما بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال له : «مالك تكون محزونا؟» فقال : يا رسول الله ، إني أذنبت ذنبا في الجاهلية ، فأخاف ألا يغفره الله لي ، وإن أسلمت! فقال له : «أخبرني عن ذنبك» فقال : يا رسول الله ، إني كنت من الذين يقتلون بناتهم ، فولدت لي بنت ، فتشفّعت إليّ امرأتي أن أتركها ، فتركتها حتى كبرت وأدركت ، وصارت من أجمل النساء ، فخطبوها ؛ فدخلتني الحميّة ولم يحتمل قلبي أن أزوجها أو أتركها في البيت بغير زوج ، فقلت للمرأة : إني أريد أن أذهب إلى قبيلة كذا وكذا في زيارة أقربائي فابعثيها معي ، فسرّت بذلك وزينتها بالثياب والحلّي ، وأخذت على المواثيق بألا أخونها ، فذهبت بها إلى رأس بئر ، فنظرت في البئر ، ففطنت الجارية أني أريد أن ألقيها في البئر ؛ فالتزمتني وجعلت تبكي وتقول : أيش تريد أن تفعل بي! فرحمتها ، ثم نظرت في البئر فدخلت عليّ الحميّة ، ثم التزمتني وجعلت تقول : يا أبت لا تضيع أمانة أمّي ؛ فجعلت مرة أنظر في البئر ، ومرة أنظر إليها فأرحمها ، حتى غلبني الشيطان ، فأخذتها وألقيتها في البئر منكوسة ، وهي تنادي في البئر : يا أبت ، قتلتني.

فمكثت هناك حتى انقطع صوتها فرجعت ، فبكى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه وقال : لو أمرت أن أعاقب أحدا بما فعل في الجاهلية لعاقبتك (١).

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٧ / ٩٧

٦٤

الأدلة الواضحة على قدرة الله تعالى

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (١٤١) وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٤٢) ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٤٣) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٤٤))

الإعراب :

(وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ) معطوف بالنصب على (جَنَّاتٍ) ، و (جَنَّاتٍ) : منصوب بأنشأ (مُخْتَلِفاً) حال مقدرة ، أي سيكون كذلك ، لأنها في أول ما تخرج لا أكل فيها ، وإنما توصف باختلاف الأكل وقت إطعامها.

(حَمُولَةً وَفَرْشاً) منصوب بالعطف على (جَنَّاتٍ) ، وتقديره : وأنشأ من من الأنعام حمولة وفرشا.

٦٥

(ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) منصوب من خمسة أوجه : إما بفعل مقدر ، أي وأنشأ ثمانية أزواج ، وإما بفعل تقديره : كلوا لحم ثمانية ، أو بدل من قوله : (حَمُولَةً وَفَرْشاً) أو بدل من (مِمَّا) في قوله : (كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) ، أو بدل من ما في قوله : (وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ) أي حرموا ثمانية أزواج.

و (مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ) بدل من (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) أي اثنتين من الضأن ، واثنتين من المعز ، واثنتين من الإبل ، واثنتين من البقر.

(آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ) منصوب بحرم ، و (الْأُنْثَيَيْنِ) معطوف على (آلذَّكَرَيْنِ). و (أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ) : معطوف على (الْأُنْثَيَيْنِ).

البلاغة :

(حَمُولَةً وَفَرْشاً) بينهما طباق ، لأن الأولى كبار ، والثانية صغار (خُطُواتِ الشَّيْطانِ) استعارة للتحذير من طاعة الشيطان.

المفردات اللغوية :

(أَنْشَأَ) خلق وأوجد بالتدريج (جَنَّاتٍ) بساتين مزدانة بالأشجار وسميت جنات ؛ لأنها تجن الأرض ، أي تسترها (مَعْرُوشاتٍ) مرفوعات على العرائش والدعائم لتمتد عليها الأغصان كالكروم ، يقال : سقف البيت : عرشه (وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ) متروكات على وجه الأرض لم تعرش أو مستغنية بسوقها وأغصانها عن التعريش (مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ) أي يختلف ثمره وحبه في الهيئة والطعم (مُتَشابِهاً) في النظر (وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) في الطعم (وَآتُوا حَقَّهُ) زكاته يوم حصاده أي قطافه من العشر أو نصفه (وَلا تُسْرِفُوا) بإعطاء كله ، فلا يبقى لعيالكم شيء (الْمُسْرِفِينَ) المتجاوزين ما حد لهم.

(حَمُولَةً) هي الكبار التي تطيق الحمل والعمل ، وتصلح لهما ، كالإبل والبقر الكبار وغيرها (وَفَرْشاً) هي الصغار التي لا تصلح للحمل والعمل ، كصغار الإبل وغيرها (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) أي طرائقه من التحريم والتحليل ، ومعنى الخطوة : المسافة بين القدمين (عَدُوٌّ مُبِينٌ) أي بيّن العداوة.

(ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) أصناف (مِنَ الضَّأْنِ الضَّأْنِ) الغنم ذوات الصوف ، و (الْمَعْزِ) ذوات الأشعار (اثْنَيْنِ) زوجين اثنين : ذكر وأنثى (آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ) قل يا محمد لمن حرم ذكور

٦٦

الأنعام تارة وإناثها أخرى ، ونسب ذلك إلى الله : آلذكرين حرم الله عليكم أم حرم الأنثيين منهما والاستفهام للإنكار. (أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ) هي الأجنة. (نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أخبروني عن كيفية تحريم ذلك ، إن كنتم صادقين فيه ، فمن أين جاء التحريم؟ فإن كان من قبل الذكورة فجميع الذكور حرام ، وإن كان من قبل الأنوثة فجميع الإناث حرام ، وإن كان مما اشتملت عليه الأرحام فهي تشتمل على الصنفين : الذكر والأنثى ، فمن أين جاء التخصيص؟

(أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ) حضورا (إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا) التحريم ، فاعتمدتم ذلك ، لا ، بل أنتم كاذبون فيه (فَمَنْ أَظْلَمُ) أي لا أحد.

سبب النزول :

نزول الآية (١٤١):

(وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) : أخرج ابن جرير الطبري عن أبي العالية قال : كانوا يعطون شيئا سوى الزكاة ، ثم تسارفوا ، فنزلت هذه الآية : (وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) وروي عنه أنه قال : كانوا يعطون يوم الحصاد شيئا سوى الزكاة ، ثم تباروا فيه وأسرفوا ، فقال الله : (وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ).

وأخرج الطبري أيضا عن ابن جريج قال : نزلت في ثابت بن قيس بن شماس : جذ نخلا فقال : لا يأتين اليوم أحد إلا أطعمته ، فأطعم حتى أمسى ، وليست له ثمرة ، فقال الله : (وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)(١).

المناسبة :

عرف مما سبق أن مدار القرآن الكريم على إثبات أصول الدين وهي التوحيد والنبوة ، والبعث (المعاد) والقضاء والقدر. وقد أثبتها تعالى ، وندد بمن أنكر شيئا منها ، ولما أتم المطلوب منها ، عاد إلى المقصود الأصلي وهو إقامة الدلائل على تقرير توحيد الله ، بإثبات الألوهية والربوبية له ، وإفراده بالعبادة وحق

__________________

(١) تفسير الطبري : ٨ / ٤٥

٦٧

التشريع ، فلا إله غيره ، ولا رب سواه ، ولا خالق عداه ، ولا مشرّع في عبادة وتحليل وتحريم غيره ، فقال : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ).

وفي ثنايا إبراز مظاهر القدرة الإلهية امتن الله على المشركين وغيرهم بما يسره لهم من الرزق ، وندد بما افتروه على الله من الكذب من الشرك وعدم الإيمان بالقضاء والقدر.

التفسير والبيان :

يبين الله تعالى أنه الخالق لكل شيء من الزروع والثمار ، والأنعام التي تصرف فيها المشركون بآرائهم الفاسدة وقسموها ، فجعلوا منها حراما وحلالا ، فقال : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ ...).

أي إن الله هو الذي أوجد البساتين والكروم المشجرة ، سواء منها المعروش أي الذي يحمل على العرش : وهو عيدان تصنع كهيئة السقف ويوضع الكرم عليها ، وغير المعروش : وهو الملقى على وجه الأرض ، أو المستغني باستوائه على سوقه عن التعريش كبقية أشجار الفاكهة ، حتى بعض كروم العنب نفسها ، منها المعروش وغير المعروش. وخلق أيضا النخل والزرع المختلف الطعم واللون والرائحة والشكل. وأفرد النخل بالذكر لكثرته عند العرب ، ولجماله ، ولما له من منافع كثيرة بكل أجزائه ، ولبقاء ورقه دون سقوط في مختلف الفصول ، حتى شبّه المؤمن في الحديث النبوي به.

وأنشأ سبحانه الزرع المختلف الأنواع والأكل : وهو الثمر المأكول ، والذي به حياة بني آدم ، وهو يشمل كل ما يزرع صيفا وشتاء ، وأفرده الله بالذكر كالنخل ، كما فيهما من الفضيلة.

وقد ذكرت هذه الأنواع على طريق الترقي من الأدنى في التغذية واقتيات الناس إلى الأعلى والأعم ، فإن الحبوب هي الغذاء الأساسي.

٦٨

وأنشأ الزيتون والرمان متشابها في المنظر وغير متشابه في الطعم والأكل.

وكل هذه الأنواع يسقي بماء واحد وفي تربة واحدة ، ولكن كل نوع يختلف عن الآخر طعما ولونا ورائحة ووقت نضج يتناسب مع حاجة الإنسان في زمن البرد والحر والاعتدال ، مما يدل على قدرة الخالق عليها ، وإبداع المنشئ المكون لأصنافها ، وذلك هو الله الواحد الأحد المتفرد بإمداد الرزق وبالتشريع المناسب.

وقد أباحها الله الإنسان وامتن بإنعامه بها عليه ، فقال : (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ) أي كلوا من ثمرات ما أنبت الله إذا أثمر ولو لم ينضج ، وفائدة التقييد بقوله : (إِذا أَثْمَرَ) الترخيص للمالك في الأكل منه قبل أداء حق الله تعالى وهو الزكاة.

ثم جاء التكليف الواجب فيها وهو الزكاة المفروضة ، فقال تعالى : (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) أي وأخرجوا الزكاة المفروضة فيه يوم الحصاد : وهو وقت قطعه بعد تمام نضجه ، ويتبعه زمن الدوس ، لفصل الحب عن التبن ، ويدخل في الحصاد : جني العنب وصرم النخل وقطف الفاكهة. والحق المفروض : هو العشر فيما سقي بالمطر ، ونصف العشر فيما سقي بالنهر والبئر ونحوهما من الينابيع. ويعطى الحق المقرر شرعا للمستحقين وهم ذوو القربى واليتامى والمساكين.

وللعلماء رأيان في الحق الواجب في الثمر ، فقال ابن عباس : إنه الزكاة المفروضة ، وهي العشر أو نصفه.

وروي عن ابن عباس أيضا وهو قول سعيد بن جبير : إنه ما كان يتصدق به على المساكين يوم الحصاد. وكان ذلك واجبا من غير تعيين المقدار ؛ لأن هذه

٦٩

الآية مكية ، والزكاة إنما فرضت بالمدينة ، فنسخ هذا الواجب بافتراض العشر ونصف العشر ، وهو الزكاة.

وقيل : إن الآية مدنية ، والحق أن المراد بها هو الزكاة المفروضة ، والمعنى : واعزموا على إيتاء الحق واقصدوه واهتموا به يوم الحصاد ، حتى لا تؤخروه عن أول وقت يمكن فيه الإيتاء.

ثم نبّه القرآن إلى منهجه المعروف وهو الوسطية والتوسط في الأمور والاعتدال في كل شيء ، فقال تعالى : (وَلا تُسْرِفُوا ...) أي كلوا مما رزقكم الله من غير إسراف في الأكل ، كما قال تعالى : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأعراف ٧ / ٣١] ولا تسرفوا أيضا في الصدقة ، كما روي عن ثابت بن قيس بن شماس أنه صرم خمسمائة نخلة ، ففرق ثمرها كله ، ولم يدخل شيئا إلى منزله ، كما قال تعالى : (وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) [الإسراء ١٧ / ٢٩].

وقال الزّهري : المعنى : لا تنفقوا في معصية الله ، وروي نحوه عن مجاهد فقد أخرج عنه ابن أبي حاتم أنه قال : لو كان أبو قبيس ـ جبل بمكة ـ ذهبا ، فأنفقه رجل في طاعة الله تعالى ، لم يكن مسرفا ، ولو أنفق درهما في معصية الله تعالى كان مسرفا. ومن هذا الاتجاه قول بعض الحكماء : لا سرف في الخير ، ولا خير في السّرف.

والحق : أن الإسراف في كل شيء خيرا كان أو غيره خطأ ، سواء في الأكل أو التّصدق ؛ لأن على الإنسان واجب الإنفاق على نفسه وعلى أهله وذويه وأولاده ، حتى إنه إن لم يكن له أولاد ، فادّخار شيء من دخله أمر محمود ، لإنفاقه في حوائج المستقبل ، وحتى لا يصبح عالة على الآخرين ، ولذا يحجر على السّفيه المبذر شرعا ، ولو كان الإنفاق في سبل الخير. جاء في صحيح البخاري تعليقا : «كلوا واشربوا والبسوا من غير إسراف ولا مخيلة».

٧٠

ومن تمام فضل الله ونعمته ورحمته أنه أنشأ لكم أيها الناس من الأنعام (وهي الإبل والبقر والغنم) كبارا صالحة للحمل ، وصغارا كالفصلان ، والغنم والمعز ، هي كالفرش المفروش عليها ، تفرش على الأرض للذّبح ، ويتّخذ من شعرها ووبرها الفرش واللباس. وهذا مثل قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ. وَذَلَّلْناها لَهُمْ ، فَمِنْها رَكُوبُهُمْ ، وَمِنْها يَأْكُلُونَ) [يس ٣٦ / ٧١ ـ ٧٢] ، وقوله : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً ، نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ) [النحل ١٦ / ٦٦].

ثم كرر الله تعالى إباحة الأكل من الأنعام كإباحته من الزّرع ، فقال : (كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) أي كلوا من هذه الأنعام ، كما تأكلون من الثمار والزّروع ، فكلها خلقها الله ، وجعلها رزقا لكم ، وانتفعوا بها بسائر أنواع الانتفاع المباحة شرعا.

ولا تتبعوا خطوات الشّيطان ، أي طريقه وأوامره ، كما اتّبعها المشركون الذين حرّموا ما رزقهم الله من الثّمار والزّروع والأنعام ، افتراء على الله ، وإيّاكم أن تحرّموا ما لم يحرّمه الله عليكم ، فذلك إغواء من الشّيطان ، والله قد أباحها لكم ، والله مصدر التّشريع والتّحريم والتّحليل ؛ لأنه هو الخالق المبدع لجميع الكائنات ، وهو المتصرّف فيها ، فليس لغيره أن يحرّم أو يحلّل برأيه.

إن الشّيطان لكم أيها الناس عدوّ مبين ، أي بيّن ظاهر العداوة ، لا يأمر إلا بالسّوء والفحشاء والمنكر ، كما قال تعالى : (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ ، فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ، إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ ، لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) [فاطر ٣٥ / ٦] ، وقال : (إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ ، وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) [البقرة ٢ / ١٦٩].

والأنعام التي هي حمولة وفرش ثمانية أصناف ، فإنّ الحمولة : إما إبل وإما بقر ، والفرش : إما ضأن وإما معز ، وكلّ قسم من هذه الأربعة : إما ذكر وإما

٧١

أنثى ، وقد أنشأ الله من الضّأن زوجين اثنين : الكبش والنّعجة ، ومن المعز زوجين اثنين : التّيس والعنزة ، ومن الإبل اثنين : الجمل والنّاقة ، ومن البقر اثنين : الثّور والبقرة.

قال لمشركي العرب أيّها الرّسول إنكارا لصنعهم بتقسيم الأنعام إلى بحيرة وسائبة ووصيلة وحام وغير ذلك مما ابتدعوا فيها : أحرم الله الذّكرين من الكبش والتّيس؟ أم حرّم الأنثيين من النّعجة والعنز؟ أم حرّم ما حملت إناث النّوعين؟ يعني هل يشتمل الرّحم إلا على ذكر أو أنثى ، فلم تحرمون بعضا وتحلّون بعضا؟ أخبروني عن يقين ، كيف حرّم الله عليكم ما زعمتم تحريمه من البحيرة والسّائبة والوصيلة والحام ونحو ذلك؟ أخبروني ببيّنة تدلّ على هذا التّحريم من كتاب الله ، أو خبر نبي من الأنبياء إن كنتم صادقين في ادّعاء التّحريم.

والحقيقة أنه لا منطق في تقسيم العرب في الجاهلية قبل الإسلام لأنواع الأنعام ، فمنها الحرام ومنها الحلال ، فإن كان المحرّم منها الذّكر ، وجب أن يكون كلّ ذكورها حراما ، وإن كان المحرّم منها الأنثى ، وجب أن يكون كلّ إناثها حراما ، وإن كان المحرّم منها ما حملته الأجنّة في بطون الإناث ، وهي تشتمل على الذّكر والأنثى ، وجب تحريم الأولاد كلّها.

والله تعالى ما حرّم عليهم شيئا من هذه الأنواع ، وإنهم لكاذبون في دعوى التّحريم ، ولا أحد في الدّنيا أظلم ممن يفتري الكذب على الله ، فيدّعي أنه حرّم شيئا ولم يحرّمه ، ونسب إليه تحريم ما لم يحرم ، من أجل إضلال النّاس ، وهو عمرو بن لحيّ بن قمعة الذي بحر البحائر ، وسيّب السّوائب ، ووصل الوصيلة ، وحمى الحامي ، وغيّر دين الأنبياء ، إن الله لا يهدي إلى الحقّ والخير القوم الظالمين الذين ظلموا أنفسهم ، فشرعوا ما لم يشرع الله تعالى.

ثمّ شدّد الله تعالى الإنكار عليهم والتّهكم بهم فقال : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ ..)

٧٢

أي هل كنتم حضورا شاهدتم ربّكم ، فوصّاكم بهذا التّحريم؟ وأمركم فيما ابتدعتموه وافتريتموه من تحريم ما لم يحرّمه الله ، وإنما هو محض الافتراء والكذب على الله ، ولا أحد أظلم ممن افترى على الله الكذب ، بقصد الإضلال عن جهل تام ، والله تعالى ، جزاء لهذا الظلم ، لا يوفق للرّشاد من افترى عليه الكذب ، ولا يهديه إلى الحقّ والعدل ، بل يحجبه عن إدراك الصواب وما فيه المصلحة.

فقه الحياة أو الأحكام :

الله تعالى خالق الكائنات هو مصدر شيئين أساسيين في هذه الحياة : فهو مصدر بقاء الناس بإمدادهم بالنّعم الكثيرة الوفيرة ، ومصدر التّشريع الصالح لكل زمان ومكان ، إبقاء على النظام الأصلح ، وحفاظا على مصالح البشر ، أفرادا وجماعات.

والمقصود من ذلك تقرير التّوحيد ، وإثبات الألوهيّة والرّبوبيّة لله عزوجل ، فإن في آية : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ ..) ثلاثة أدلّة :

أحدها ـ أن المتغيّرات لا بدّ لها من مغيّر.

الثاني ـ المنّة من الله سبحانه علينا ، فلو شاء إذ خلقنا ألا يخلق لنا غذاء ، وإذ خلقه ألا يكون جميل المنظر طيّب الطّعم ، وإذ خلقه كذلك ألا يكون سهل الجني ، فلم يكن عليه أن يفعل ذلك في ابتداء الخلق ؛ لأنه لا يجب عليه شيء.

الثالث ـ إظهار القدرة الإلهيّة في أشياء كثيرة ، منها صعود الماء (النسغ) في الشّجر من الأدنى إلى الأعلى ، مع أن من شأن الماء الانحدار والهبوط ، ومنها تعدّد أنواع الثّمار والأشجار والزّروع ، وتنوّع أصنافها وألوانها وطعومها وأشكالها.

ودلّت آية (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) على وجوب الزّكاة المفروضة في الزّروع والثّمار: العشر ونصف العشر.

وقال جماعة : هو حقّ في المال سوى الزّكاة ، أمر الله به ندبا.

٧٣

وقد تمسّك أبو حنيفة بهذه الآية وبعموم الحديث النّبوي الذي رواه البخاري وأبو داود عن ابن عمر : «فيما سقت السّماء العشر ، وفيما سقي بنضح (١) أو دالية (٢) نصف العشر» في إيجاب الزّكاة في كلّ ما تنبت الأرض طعاما كان أو غيره ، إلا الحطب والحشيش والقضب (البرسيم) والتين ، والسّعف (٣) وقصب الذريرة (٤) ، وقصب السّكر.

ورأى الجمهور أن الحديث لا يدلّ على ذلك ، وإنّما المقصود منه بيان ما يؤخذ منه العشر وما يؤخذ منه نصف العشر.

قال ابن عبد البر : لا اختلاف بين العلماء فيما علمت أنّ الزّكاة واجبة في الحنطة والشعير والتّمر والزّبيب.

فيكون للعلماء رأيان في زكاة ما تخرجه الأرض :

الرّأي الأول لأبي حنيفة : تجب الزّكاة في قليل ما أخرجته الأرض إلا ما استثني سابقا ، ودليله ظاهر الآية والحديث المتقدّم.

الرّأي الثاني للجمهور ومنهم صاحبا أبي حنيفة : لا تجب زكاة الزّروع والثّمار إلا فيما يقبل الاقتيات والادّخار ، وعند الحنابلة : فيما ييبس ويبقى ويكال ، ولم يوجب الشّافعي الزّكاة في الثّمار غير العنب والتّمر ؛ لأن الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذ الزّكاة منهما ، ولا زكاة في الخضروات والفواكه ؛ لأنّ الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عفا عنها وقال فيما رواه التّرمذي عن معاذ في الخضروات : «ليس فيها شيء» ، ولا بدّ من بلوغ

__________________

(١) النّضح : سقي الزّرع وغيره بالسّانية : وهي النّاقة التي يستقى عليها.

(٢) الدّالية : النّاعورة يديرها الماء ، والأرض التي تسقى بدلو أو بناعورة.

(٣) السّعف : جريد النّخل ، واحدها سعفة.

(٤) الذريرة : قصب يجاء به من الهند.

٧٤

النّاتج خمسة أوسق (٦٥٣ كغ) لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه مسلم عن جابر : «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة».

وإنما لا يشترط مضي الحول (العام الزّكوي) في زكاة النّاتج من الأرض ؛ لأنه يكمل نماؤه باستحصاده ، لا ببقائه ، واشترط الحول في غيره من الزّكوات ؛ لأنه مظنّة لكمال النّماء في سائر الأموال.

والصّحيح وهو رأي أبي حنيفة وجوب الزّكاة وقت الجذاذ ، لقوله تعالى : (يَوْمَ حَصادِهِ) والمشهور من مذهب المالكية يوم الطّيب ؛ لأن ما قبل الطّيب يكون علفا لا قوتا ولا طعاما ، فإذا طاب وحان الأكل الذي أنعم الله به ، وجب الحق الذي أمر الله به.

والمعتمد عند الشافعية والحنابلة : وجوب الزّكاة في الثّمار : ببدو صلاح الثّمر ؛ لأنه حينئذ ثمرة كاملة ، وهو قبل ذلك حصرم وبلح ، وفي الحبوب : ببدو اشتداد الحبّ ؛ لأنه كما قال المالكية حينئذ طعام ، وهو قبل ذلك بقل.

لكن خرص الثّمار أي تخمينها وتقديرها يكون بعد الطيب ؛ لحديث عائشة فيما أخرجه الدّار قطني قالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبعث ابن رواحة إلى اليهود ، فيخرص عليهم النّخل حين تطيب أوّل الثمرة ، قبل أن يؤكل منها ، ثم يخيّر يهودا يأخذونها بذلك الخرص أو يدفعونها إليه.

وإنما كان أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالخرص لكي تحصى الزّكاة ، قبل أن تؤكل الثّمار وتفرّق.

ودلّت آية (وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً) على مقدار نعمة الله بتسخير الأنعام للإنسان للرّكوب والحمل والعمل ، وللاستفادة من لحومها وأوبارها وأصوافها وأشعارها. والأنعام كما قال أحمد بن يحيى وهو الأصحّ : كلّ ما أحلّه الله عزوجل

٧٥

من الحيوان ؛ لقوله تعالى : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) [المائدة ٥ / ١].

ومن أجل بقاء نوع الحيوان جعل فيه كالإنسان صنفي الذّكر والأنثى ، للتّوالد والتّكاثر والتّكامل ، لذا كان تحريم الذّكور دون الإناث أو بالعكس معارضا لحكمة الشّرع.

وآية (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ ..) احتجاج على المشركين فيما حرّموه اعتباطا من البحائر والسّوائب والوصائل والحام وغيرها ، كما قالوا : (ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا) [الأنعام ٦ / ١٣٩].

وذلك دليل على إثبات المناظرة في العلم ؛ لأن الله تعالى أمر نبيّه عليه الصّلاة والسّلام بأن يناظرهم ، ويبيّن لهم فساد قولهم.

وفي هذه الآية أيضا إثبات القول بالنظر والقياس.

وفيها دليل على أنّ القياس إذا ورد به النّص بطل القول به ، ويروى : «إذا ورد عليه النّقض» لأن الله تعالى أمرهم بالمقايسة الصّحيحة ، وأمرهم بأن تكون علّة القياس مطّردة في جميع الأشباه والنّظائر. وهذا مستفاد من معنى الآية : قل لهم : إن كان الله حرّم الذّكور فكلّ ذكر حرام ، وإن كان حرّم الإناث فكلّ أنثى حرام ، وإن كان حرّم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين يعني من الضّأن والمعز ، فكلّ مولود حرام ، ذكرا كان أو أنثى ، لأن كلها مولود ، فكلّها إذن حرام ، لوجود العلّة فيها ، فبيّن تعالى بهذه المناظرة أو المناقشة ورود الانتقاض عليهم وفساد قولهم ، لأن ما فعلوه من ذلك افتراء على الله ، فمن أين هذا التحريم المزعوم؟ ولا علم عندهم ؛ لأنهم لا يقرءون الكتب ، وهل شاهدتم الله قد حرّم هذا. ولما لزمتهم الحجّة أخذوا في الافتراء ، فقالوا : كذا أمر الله ، فردّ الله

٧٦

عليهم : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً ، لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ) وهو دليل على أنهم كذبوا ، إذ قالوا ما لم يقم عليه دليل.

المطعوم المحرّم على المسلمين والمحرّم على اليهود

(قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤٥) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (١٤٦) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١٤٧))

الإعراب :

(طاعِمٍ) اسم فاعل من طعم يطعم ، وأكثر ما يجيء اسم الفاعل من فعل يفعل إذا كان لازما على فعل ، ويجيء على فاعل إذا كان متعدّيا كعلم يعلم فهو عالم. و (يَطْعَمُهُ) مضارع طعم. (مَيْتَةً) خبر (يَكُونَ) ، واسمها ضمير مستتر ، وتقديره : إلا أن يكون المأكول ميتة ، ومن قرأ بالرّفع جعل (يَكُونَ) تامّة ، و (مَيْتَةً) فاعل مرفوع بها ، ولا تفتقر إلى خبر.

(أَوِ الْحَوايا) إما مرفوع عطفا على قوله : (ظُهُورُهُما) ، وإما منصوب عطفا على (شُحُومَهُما) في قوله : (إِلَّا ما حَمَلَتْ). و (شُحُومَهُما) في موضع نصب على الاستثناء من الشحوم ، وهو استثناء من موجب ، أو منصوب عطفا على قوله : (شُحُومَهُما) وتقديره : حرّمنا عليهم شحومهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم إلا ما حملت ظهورهما.

(ذلِكَ جَزَيْناهُمْ ذلِكَ) : في موضع نصب ، لأنه مفعول ثان لجزيناهم ، وتقديره : جزيناهم ذلك ببغيهم.

٧٧

البلاغة :

(غَفُورٌ رَحِيمٌ) من صيغ المبالغة ، أي كثير المغفرة والرّحمة.

(رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ ، وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) فرّق بين الجملتين ، فجعل الأولى جملة اسميّة ؛ لأنها أبلغ من الفعليّة ، ليناسب وصف الرّحمة ، وجعل الثانية فعليّة: (وَلا يُرَدُّ) لتكون أقل في الإخبار عن وصف العقاب.

المفردات اللغوية :

(مُحَرَّماً) شيئا محظورا أو ممنوعا. (طاعِمٍ يَطْعَمُهُ) أكل يأكله. (مَيْتَةً) بهيمة ماتت حتف أنفها. (أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) سائلا يجري ويتدفّق من المذبوح ، بخلاف غيره كالكبد والطّحال. (رِجْسٌ) قذر قبيح حرام نجس. (أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) ذبح على غير اسم الله ، للأصنام ، والإهلال : رفع الصّوت. (فَمَنِ اضْطُرَّ) أي دعته ضرورة إلى تناول شيء منه كجوع شديد أو عطش شديد أو غصص. (غَيْرَ باغٍ) أي غير قاصد له. (وَلا عادٍ) أي متجاوز قدر الضرورة.

(الَّذِينَ هادُوا) اليهود ، لقولهم : (إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) [الأعراف ٧ / ١٥٦] أي رجعنا وتبنا. (كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) وهو ما لم تفرق أصابعه كالإبل والنّعام ، والظفر للإنسان وغيره مما لا يصيد ، والمخلب : لما يصيد. (شُحُومَهُما) الشّحم : ما يكون على الأمعاء والكرش والكلى من الدّهن. (إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما) أي علقت بها. (أَوِ الْحَوايا) أي حملته الأمعاء ، جمع حاوية وحاوياء.

(أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ) منه أي من الشّحم ، وهو شحم الألية ، فإنه أحل لهم. (ذلِكَ) التحريم. (جَزَيْناهُمْ) به. (بِبَغْيِهِمْ) أي بسبب ظلمهم. (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) في أخبارنا ومواعيدنا. (فَإِنْ كَذَّبُوكَ) فيما جئت به (فَقُلْ) لهم : (رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ) حيث لم يعاجلكم بالعقوبة ، وفيه تلطّف بدعوتهم إلى الإيمان. (وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ) أي عذابه إذا جاء.

سبب النزول :

نزول الآية (١٤٥):

(قُلْ : لا أَجِدُ ..) : أخرج عبد بن حميد عن طاوس قال : إن أهل الجاهلية كانوا يحرّمون أشياء ، ويستحلّون أشياء ، فنزلت : (قُلْ : لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً) الآية.

٧٨

المناسبة :

ردّ الله تعالى في الآيات السابقة على المشركين الذين كانوا يحرّمون ويحلّلون من الأنعام بحسب أهوائهم ، وأبان أن التّحريم والتّحليل لا يثبت إلا بالوحي ، ثم أوضح هنا أنّ المطعومات المحرّمات على الآكلين هي أربعة فقط : الميتة ، والدّم المسفوح ، ولحم الخنزير فإنه رجس ، والفسق : وهو الذي أهل به لغير الله.

التفسير والبيان :

بيّن الله تعالى في هذه السّورة المكيّة أنه لا محرّم إلا هذه الأربعة ، وأتى بها بصيغة الحصر ، مبالغة في بيان أنه لا يحرم إلا هذه الأربعة ، وأكّد ذلك في سورة النّحل فقال : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ ، فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ ، فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [النّحل ١٦ / ١١٥].

وكلمة (إِنَّما) تفيد الحصر ، فدلّت آيتان مكيّتان على حصر المحرّمات في هذه الأربعة ، وكذلك دلّت آية مدنيّة في سورة البقرة أنه لا محرّم إلا هذه الأربعة ، فقال : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) [البقرة ٢ / ١٧٣] ، وكلمة (إِنَّما) التي تفيد الحصر مطابقة لقوله : (قُلْ : لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً).

ثم ذكر الله تعالى في سورة المائدة قوله : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) [المائدة ٥ / ١] ، وأجمع المفسّرون على أن المراد بقوله (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) هو ما ذكره بعد هذه الآية بقليل ، وهو قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ ، وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ ، وَالْمُنْخَنِقَةُ ، وَالْمَوْقُوذَةُ ، وَالْمُتَرَدِّيَةُ ، وَالنَّطِيحَةُ ، وَما أَكَلَ السَّبُعُ ، إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) وكل هذه الأشياء من أنواع الميتة ، وأنه تعالى إنما أعادها بالذّكر ؛ لأنهم كانوا يحكمون عليها بالتّحليل ، فثبت أن الشريعة من أولها إلى آخرها كانت مستقرة على هذا الحكم وعلى هذا الحصر.

٧٩

والقصد هو الرّد على مشركي العرب ؛ لأنه لما ثبت أنه لا طريق إلى معرفة المحرّمات والمحللات إلا بالوحي ، وثبت أنه لا وحي من الله تعالى إلا إلى محمد عليه الصّلاة والسّلام ، ولم ينزل في الموضوع غير هذه الآية ونظائرها ، كان هذا مبالغة في بيان انحصار التّحريم في هذه الأربعة فقط.

المعنى : يقول الله تعالى آمرا رسوله : قل يا محمد لهؤلاء الذين حرّموا ما رزقهم الله ، افتراء على الله : لا أجد محرّما على آكل يأكله سوى هذه الأمور الأربعة وهي ما يلي :

الميتة :

وهي التي ماتت حتف أنفها بغير ذبح شرعي ، وذلك يشمل المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع ونحوها. وتحريمها لمضرّتها ، وانحباس الدم فيها ، مما يؤدي إلى تسممها ، وتفسّخ لحمها ، وإيذاء من تناول شيئا منها.

والدّم المسفوح :

أي الدّم المهراق السائل الذي يجري ويتدفق من عروق المذبوح. وهذا يدلّ على أنّ المحرّم من الدّم ما كان سائلا ، قال ابن عباس : يريد ما خرج من الأنعام وهي أحياء ، وما يخرج من الأوداج عند الذّبح ، فلا يدخل فيه الدّم الجامد كالكبد والطّحال لجمودهما ، ولا الدّم المختلط باللحم في المذبح ، ولا ما يبقى في العروق من أجزاء الدّم ، فإن ذلك كله ليس بسائل. وقال عكرمة في قوله : (أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) : لولا هذه الآية لتتبع الناس ما في العروق كما تتبعه اليهود. وجاء في الحديث الذي يرويه البيهقي في سننه والحاكم عن ابن عمر : «أحلّت لنا ميتتان ودمان ، فأما الميتتان فالحوت والجراد ـ أو السمك والجراد ـ وأما الدّمان : فالكبد والطحال». وسبب تحريم الدّم المسفوح : اشتماله على أنواع الجراثيم والميكروبات ؛ لأن الدّم بيئة صالحة لتفريخ الميكروبات ومباءة للجراثيم.

ولحم الخنزير :

ومثله شحمه وسائر أجزاء جسده ، ومثله أيضا الكلب ،

٨٠