ذيل تأريخ مدينة السلام - ج ١

أبي عبد الله محمّد بن سعيد بن الدبيثي

ذيل تأريخ مدينة السلام - ج ١

المؤلف:

أبي عبد الله محمّد بن سعيد بن الدبيثي


المحقق: الدكتور بشار عوّاد معروف
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٢

وأما المحور الثالث فتناول فيه خبر المدائن وتسمية من وردها من الصحابة.

وقيمة هذه المقدمة التي استغرقت خمسة أجزاء من بين المئة والستة أجزاء التي تكون منها الكتاب إنما تتبدّى في محورها الثاني الخاص بخطط مدينة السّلام فهو المحور الوحيد اللّصيق بموضوع الكتاب.

أما بقية الكتاب فكله تراجم لأهل بغداد ووارديها ، فالتراجم هي أسّ الكتاب ، وهو أمر يعكس مفهومه للتاريخ. وقد ذكر الخطيب في مقدمة القسم الخاص بالتراجم أنّ تاريخه هذا يشمل «الخلفاء ، والأشراف ، والكبراء ، والقضاة ، والفقهاء ، والمحدّثين ، والقرّاء ، والزّهّاد ، والصّلحاء ، والمتأدبين ، والشعراء من أهل مدينة السّلام الذين ولدوا بها وبسواها من البلدان ونزلوها ، وذكر من انتقل منهم عنها ومات ببلدة غيرها ، ومن كان بالنواحي القريبة منها ، ومن قدمها من غير أهلها» (١).

وهذا النّصّ يشير إلى طبيعة التّراجم التي انتقاها الخطيب لتكوّن مادة كتابه بموجب خطة بيّنة المعالم تشمل أربعة فئات من المترجمين :

١ ـ أهل مدينة السّلام الذين ولدوا بها أو بسواها من البلدان ونزلوها فصارت موطنهم.

٢ ـ أهل مدينة السّلام الذين ولدوا بها ثم رحلوا عنها فاستوطنوا غيرها من البلدن ، ولكنهم ظلّوا ينسبون إليها.

٣ ـ أهل المناطق المجاورة لبغداد ، مثل المدائن ، وعكبرا ، وبعقوبا ، والدّور ، وسامرّا ، والنّهروان ، والأنبر ، ودير العاقول ، ونحوها.

٤ ـ الغرباء الذي قدموا بغداد ، وحدّثوا بها أو استوطنوها.

ويلاحظ من النّص الذي نقلناه قبل قليل ، ومن دراستنا لطبيعة التّراجم التي انتقاها الخطيب أنّه استبعد من تاريخه الكثير من أعلام بغداد من المتكلمين

__________________

(١) تاريخه ٢ / ٥.

٤١

الكبار ، والحسّاب ، والمهندسين ، والأطباء ، والصّيادنة ، والفلكيين ، والأمراء ، والقوّاد ، وأرباب الصنائع من البنّائين والمعماريين وكبار التّجّار والمموّلين ونحوهم ، فكان تركيزه على الطبقة المثقفة بمنظاره هو ، وهم رواة الحديث والفقهاء والقضاة وبعض الشعراء والمتأدبين إضافة إلى الخلفاء وبعض المشهورين من أرباب السياسة ، فاجتهد أن يذكر في كتابه كل محدّث حدّث ببغداد مهما ضعف شأنه وقلّ خطره ، لم يترك من ذلك أحدا وقف عليه ، بل وجدنا تراجم لا يعرف عنها شيء سوى ورودها في إسناد رواية ، أو ذكرت في معجم لأحد الشيوخ مثل أبي القاسم ابن الثّلّاج أو ابن جميع الصّيداوي ، أو مما أخبر به أحد شيوخه ممن اتصلوا بهم ، ولم يجد المصنّف في كثير من هذه التراجم مادة يذكرها سوى هذا النّزر اليسير ، في الوقت الذي أهمل فيه ذكر تراجم خطيرة لغير أمثال هؤلاء أو قصّر فيها تقصيرا بيّنا.

أما إدخال المصنّف لتراجم أهل المناطق المجاورة لبغداد في الخطة العامة للكتاب فهو صنيع لم أفهمه جيدا ، ولم أجد له مبررا سوى توسيع الدائرة والاستكثار ، فإن قال قائل : إنه افترض أنّ أمثال هؤلاء لا بد أن يكونوا قدموا بغداد يوما ما لقربهم منها ، فهو مردود بذكره بعض من لم يدركوا بناء بغداد من الصحابة والتابعين ، من مثل أولئك الذين قدموا مع عليّ بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه إلى النّهروان ومروا بالمدائن وغيرها ، بله ذكره الصّحابة الذين نزلوا المدائن ، وهي تبعد عن بغداد أكثر من خمسة وعشرين كيلوا مترا ، فكأنه استخسر أن يخلو هذا الكتاب الوسيع من ذكر الصّحابة الكرام الذين هم صفوة الخلق بعد الأنبياء والمرسلين. أما سامرا فتبعد عن بغداد قرابة المئة وعشرين كيلو مترا ، ومثلها الأنبار والقرى المصاقبة لهما. فهذا في رأينا شيء خارج عن نطاق الموضوع الذي يتناوله الكتاب ، لكنه رأي ارتآه المصنّف ، وهو المسؤول عنه ، مع تقصيره في ذكر رجالات بغداد وعلمائها من خارج الوسط الدّيني والأدبي والسياسي.

٤٢

لقد ذكر الخطيب في المقدّمة الخاصة بخطط بغداد القصور الفخمة والعمائر العظيمة في دار الخلافة لكنه لم يذكر المهندسيين الذين أبدعوا تلك المرافق التي حيّرت الألباب في هندستها وتصاميمها وتنفيذها من البرك الجميلة ، والتّماثيل الرائعة ، والدّهاليز الفخمة. وذكر أن مهندسين وزنوا ماء الخالص حتى أدخلوه إلى الجانب الشّرقي من بغداد ، لكنه لم يذكر لنا واحدا منهم ، ويصح ذلك على مئات الأطباء والصّيادنة والصّناعيين الذين أبدعوا آلات الجراحة مثلا حيث لم يتضمن الكتاب ترجمة أي واحد منهم.

من هنا ينبغي أن ندرك بأنّ تراجم «تاريخ مدينة السلام» عنيت بشرائح معينة من المجتمع البغدادي حسب ، وأن المصنّف أسقط كثيرا من تراجم النّخبة الذين وجدهم ، بناء على تكوينه الفكري وثقافته ، غير جديرين بالذّكر والتدوين ، مما يتعين على الدارسين أخذ ذلك بنظر الاعتبار ، فهو في حقيقته لا يصوّر الحركة الفكرية ببغداد في المدة التي تناولها تصويرا حقيقيا وأمينا ، بل قد يعطي مفهوما معكوسا ويكوّن تصورا في ذهن القارئ ، وكأن ليس ببغداد إلا المحدّثين والفقهاء ، والصّوفية وبعض الشعراء والأدباء ، حتى بلغ الأمر به أن ترجم لمن يتعاطى الكدبة بسبب أنّه سمع منه وريقات بإسناد نازل ، قال في ترجمة الحسين ابن الحسن بن أحمد الجواليقي المعروف بابن العريف : «كتبنا عنه ، وكان شيخا فقيرا يسأل النّاس في الطّرقات ، فلقيناه ناحية سوق باب الشام ، ودفع إليه بعض أصحابنا شيئا من الفضة ، وقرأت عليه أوراقا من كتاب لبعض أصحابنا كان كتبه عنه ، وذلك في سنة ثمان وأربع مئة» (١). وقد صارت هذه عادة لمن جاء بعده ونهج نهجه كأبي سعد السمعاني وابن الدبيثي وابن النجار ونحوهم.

أما الغرباء فقد وضّح المصنّف الأسس التي انتقى بموجبها تراجم هؤلاء الغرباء ، فقال : «ولم أذكر من محدّثي الغرباء الذين قدموا مدينة السلام ولم يستوطنوها سوى من صحّ عندي أنّه روى العلم بها. فأمّا من وردها ولم يحدّث

__________________

(١) تاريخه ٨ / ٥٦٠.

٤٣

بها فإني أطرحت ذكره وأهملت أمره ؛ لكثرة أسمائهم وتعذّر إحصائهم ، غير نفر يسير عددهم ، عظيم عند أهل العلم محلهم ، ثبت عندي ورودهم مدينتنا ولم أتحقّق تحديثهم بها ، فرأيت أن لا أخلي كتابي من ذكرهم لرفعة أخطارهم ، وعلوّ أقدارهم» (١).

ويذكر المصنّف عادة فيما إذا كان المترجم قد مرّ ببغداد مرورا عابرا ، كأن يكون قدمها وهو في طريقه إلى الحجّ ، أو أنه قدمها ليسمع من شيوخها ، أو يحدّث فيها ، أو أنه قدمها دفعة واحدة أو دفعات عدّة ، أو أنّه قدمها ليستوطنها ، وهو غالبا ما يذكر في الحالة الأخيرة المحلة أو المكان الذي استقرّ به ببغداد.

وقد خلط الخطيب الغرباء القادمين إلى بغداد بأهلها ، وهي طريقة سار عليها بعض المؤلفين السابقين له أو الذين جاءوا بعده ممن ألفوا في تواريخ المدن ، لكنّ بعض المؤلفين اتبعوا طريقة الفصل فذكروا أهل البلد ثم ألحقوا بهم الغرباء كما فعل العلامة أبو سعيد بن يونس في «تاريخ مصر» حيث ذكر المصريين على حدة والغرباء الذين دخلوا مصر على حدة ، أو كما فعل ابن الفرضي في كتابه «تاريخ علماء الأندلس» ومن ذيّل عليه كابن بشكوال في «الصلة» وابن الأبار في «التكملة» حيث ذكروا كلّ حرف من أهل البلد ثم أتبعوه بالغرباء الذين حدّثوا بها (٢).

وقد طبع تاريخ الخطيب لأول مرة بمطبعة السعادة بالقاهرة سنة ١٩٣١ م طبعة سقيمة مليئة بالتصحيف والتحريف والسقط استنادا إلى مخطوطة سقيمة متأخرة محفوظة في مكتبة كوبرلي بإستانبول وعلى الأجزاء المحفوظة بمكتبة الأزهر ، وهي من نسخة جيدة نسخت عن النسخة التي كانت موقوفة بالسّميساطية ، ظنا منهم أنها هي نسخة السّميساطية ، وعلى جزء صوّره لهم

__________________

(١) تاريخه ٢ / ٥.

(٢) تنظر مقدمتنا لتاريخ مدينة السلام ١ / ٧٥ ـ ٧٩.

٤٤

المستشرق الألماني هلموت ريتر سدوا به نقصا كان في نسخة كوبرلي ، وجزء واحد من آخر الكتاب محفوظ بدار الكتب المصرية ، تاركين جميع النسخ الأصلية والعتيقة التي نسخت في المئة السادسة وغيرها من النسخ. والظاهر أن القائمين على نشر الكتاب قد كلّفوا أحد النساخ المصريين بنسخ الكتاب وطبعوه اعتمادا على ما نسخ مع ما وقع فيه هذا الناسخ من أخطاء في القراءة ورسم بعض الحروف. كما أن القائمين على تصحيح الكتاب لم يعتنوا بمقابلة المنسوخ على الأصل المنتسخ منه ، فسقطت مئات الجمل والكلمات والفقرات في مطبوعتهم مما هو موجود فيما اعتمدوه ، فضلا عن أن الناشرين قد وسّدوا تصحيح الكتاب إلى أناس غير متخصصين بموضوع الكتاب ، فكثرت الأخطاء وانتشر التصحيف والتحريف والسقط فيها بحيث سقطت قيمتها ، كما نوّه بذلك عدد من أهل العلم ، منهم الأستاذ الدكتور أكرم العمري حين قال : «إن مواضع السقط كثيرة ... وأما الأخطاء التي وقعت في طبعة تاريخ بغداد فكثيرة ، منها ما يتعلق بتصحيف الأسماء وقلبها واختلاط إسناد رواية بإسناد رواية أخرى مع سقط الرواية الأولى ، أو سقوط اسم وسط السند ، وغير ذلك» (١). ومنهم الأستاذ الفاضل الدكتور خلدون الأحدب حيث قال : «إن هذه النسخة المطبوعة من تاريخ بغداد كما هو معروف عند أهل العلم والباحثين ، فيها من أنواع التصحيف والتحريف والسقط والقلب ما يوجب الرجوع إلى النسخ الخطية منه ، لتقويم النصوص واستدراك ما يكون فيها من سقط» (٢).

وقد وفقنا الله سبحانه وتعالى إلى تحقيق هذا الكتاب الجليل بمعاونة صديقنا الفاضل الأستاذ الحاج حبيب اللمسي صاحب «دار الغرب الإسلامي» حين وظف لهذا المشروع ، كما هو دأبه أبدا ، إمكاناته المادية والأدبية خدمة

__________________

(١) العمري : موارد الخطيب ٨٧ هامش ١.

(٢) تنظر مقدمته لدراسته النافعة : زوائد تاريخ بغداد على الكتب الستة ١ / ١٣.

٤٥

لتراث أمتنا فظهر في سبعة عشر مجلدا ضخما ، فكانت أول نشرة علمية محققة على نسخ من المدينة المنورة ، والقاهرة ، وتونس ، والجزائر ، وإستانبول ، وباريس ، ولندن ، وإيرلندا. وقد وثقنا النص بالإشارة إلى مناجم الكتاب وتتبعها والعزو إلى المصادر التي اقتبست منه ، ومقابلة نص الخطيب بموارده وبمن نقل عنه وتثبيت الاختلافات الأساسية ، فضلا عن تفصيل النص بما يظهر معانيه ودلالاته وضبطه بالحركات ، وبيان ما وقع فيه من أوهام. ثم تخريج أحاديث الكتاب التي أربت على خمسة آلاف حديث مرفوع وموقوف تخريجا مستقصيا مع بيان عللها الظاهرة والخفية والكلام عليها تصحيحا وتضعيفا ، وعملنا له الفهارس المتنوعة التي تضمنها المجلد السابع عشر مما ييسر الإفادة من الكتاب على أحسن وجه ، فنال هذا العمل رضا أهل العلم وتقديرهم بحيث قال العلامة المحقق المدقق الأستاذ يوسف الهادي : «لقد بلغ المحقق بطبعته هذه لتاريخ مدينة السلام الصادرة عن دار الغرب الإسلامي أقصى ما استطاعه من دقة وضبط في عمل سيخلد اسمه في عالم التحقيق ، كما هو حاله في أعماله الأخرى وأهمها تهذيب الكمال» (١).

وممن ذيّل على تاريخ الخطيب أبو البركات هبة الله بن المبارك بن موسى ابن علي بن يوسف السّقطي المحدث الرّحال المولود في سنة ٤٤٥ ه‍ والمتوفى سنة ٥٠٩ ه‍ (٢).

وكان أبو البركات السّقطي من طلاب العلم المجدين في الطلب ، سمع

__________________

(١) من مقال له ـ حفظه الله ـ في صحيفة الوسط.

(٢) تنظر ترجمته عند السمعاني في «السقطي» من الأنساب ، وابن الجوزي في المنتظم ٩ / ١٨٣ ، وابن النجار في التاريخ المجدد كما في المستفاد ، الترجمة ١٩٣ ، والذهبي في تاريخ الإسلام ١١ / ١٣١ ، وسير أعلام النبلاء ١٩ / ٢٨٢ ، والعبر ٤ / ١٩ ، وميزان الاعتدال ٤ / ٢٦ ، واليافعي في مرآة الجنان ٣ / ١٩٨ ، وابن كثير في البداية والنهاية ١٢ / ١٧٩ ، وابن رجب في ذيل طبقات الحنابلة ١ / ١١٤ ـ ١١٥ ، وابن حجر في لسان الميزان ١ / ١١٤ ، والعيني في عقد الجمان ١٥ / الورقة ٧٠٥ ، وابن العماد في شذرات الذهب ٤ / ٢٦.

٤٦

الحديث ببلده بغداد ، ورحل إلى واسط ، والبصرة ، والكوفة ، والموصل ، وأصبهان ، والجبال وبالغ في الطلب وتعب في جمع الحديث وكتابته ، وكان مجدا في الطلب والسماع والبحث عن الشيوخ وإظهار مسموعاتهم ، والقراءة عليهم ، وقد أثنى عليه المحدث الكبير أبو طاهر السّلفي المتوفى سنة ٥٧٦ ه‍ وعدّه من أكابر الحفاظ الذين أدركهم.

إلا أن الشره في الطّلب أدى به إلى ادعاء السماع من شيوخ لم يسمع منهم ولا يتحمل سنه السماع منهم ، فقال عنه أبو سعد السمعاني : «لم يكن موثوقا به فيما ينقله ، وكان شيخنا أبو الفضل محمد بن ناصر الحافظ يقول : أبو البركات السّقطي من سقط المتاع» (١) وقال الإمام الذهبي : «أبو البركات ابن السقطي ، هبة الله بن المبارك البغدادي ، أحد المحدثين الضعفاء ... كذّبه ابن ناصر» (٢).

قال زين الدين ابن رجب : «جمع لنفسه معجما لشيوخه في نحو ثمانية أجزاء ضخمة ، وجمع تاريخا لبغداد ذيّل به على تاريخ الخطيب» (٣).

ومعجم شيوخه معروف مذكور ، ذكره غير واحد ممن ترجم له حتى قال الذهبي في السير «صاحب المعجم الضخم» (٤) ، ونقل منه المؤرخون ومنهم ابن الدّبيثي في هذا الكتاب (٥). إلا أن كتابه الذي ذيّل به على تاريخ الخطيب لم يكن معروفا عند المؤرخين الذين ترجموا له أو الذين جاءوا بعده وكان من المفترض أن ينقلوا منه. على أن ابن الجوزي أشار في ترجمته إلى عنايته بالتاريخ فقال : «فجمع الشيوخ وخرّج التاريخ وأرّخ لكنه أفسد ذلك بأن ادعى سماعا ممن لم

__________________

(١) الأنساب «السقطي».

(٢) العبر ٤ / ١٩.

(٣) الذيل على طبقات الحنابلة ١ / ١١٤.

(٤) سير أعلام النبلاء ١٩ / ٢٨٢.

(٥) ذيل تاريخ مدينة السلام ١ / ٤٢٠ ، ٤٤٢ ، ٥٣٥ و ٢ / ٢٩٩ و ٣ / ١٨٦ ، ٢٢٣ ، ٢٢٩ ، ٣٠٢ ، ٣٢٥ ، ٣٦٣ ، ٣٧١ ، ٣٨٩ و ٤ / ١٢٨ و ٤١٩ ، ٤٨٤ ، ٥٤٧.

٤٧

يره» (١) ولم يشر إليه السمعاني في الأنساب ، ولا ابن النجار في التاريخ المجدد مع عنايته بالتواريخ التي هي أقل شأنا من تاريخه هذا ، مما يدل على خموله أو انعدامه في عصره ، وقد قال الإمام الذهبي في تاريخ الإسلام : «جمع الشيوخ ، وخرّج الفوائد ، وقيل : إنّه ذيّل على تاريخ الخطيب وما ظهر ذلك ، وله معجم في مجلد» (٢) ، فانظر إلى تصدير الذهبي باللفظة التمريضية «وقيل» ثم قوله بعد ذلك : «وما ظهر ذلك» ، وإنما قال ذلك لعدم وقوفه على هذا «الذيل» المزعوم ، ولا وجد أحدا من المؤرخين الذين جاءوا بعده ينقل منه أو يشير إليه ، وعبارة الذهبي بكل حال أكثر دقة من عبارة ابن رجب الذي جزم بوجود هذا «الذيل» فلعله كتب مسودة ثم تركها ، فلم يعبأ بها أحد.

ومن ثم يمكن القول أنّ أول من ذيّل على تاريخ الخطيب هو الحافظ أبو سعد عبد الكريم بن محمد التّميمي السّمعاني ، وهو من عائلة علمية معروفة بمشرق العالم الإسلامي ، ولد بمرو في شعبان سنة ٥٠٦ ه‍ وتوفي بها في سنة ٥٦٢ ه‍ ، وله مصنفات مشهورة طبع الكثير منها. ولكن هذا «الذّيل» لم يصل إلينا فيما أعلم ، إذ لا نعرف عنه اليوم شيئا سوى أقسام اختصرها ابن منظور صاحب «اللسان» (٣) ، وتراجم اختارها منه الفتح بن عليّ البنداري في كتابه «تاريخ بغداد» (٤) ، ويبدو أنه كان بحجم تاريخ الخطيب أو أقل قليلا ، فقد ذكر الحافظ ابن النجار أنه في أربع مئة طاقة ، وذكر أن كتاب «الأنساب» في ثلاث مئة وخمسين طاقة (٥) ، وقد طبع «الأنساب» في اثني عشر مجلدا متوسطا. وحين ذكر السخاوي أن تاريخ الخطيب في عشر مجلدات ، ذكر في الوقت نفسه أن ذيل

__________________

(١) المنتظم ٩ / ١٨٣.

(٢) تاريخ الإسلام ١١ / ١٣١.

(٣) عندي قطعة منه بخط ابن منظور ، مصورة.

(٤) منه مجلد في دار الكتب الوطنية بباريس بخطه (رقم ٦١٥٢ عربيات).

(٥) الذهبي : سير ٢٠ / ٤٦٠ ـ ٤٦١.

٤٨

السّمعاني في «عشر مجلدات فأقل» (١). ومما يؤسف عليه ضياع هذا «الذيل» النفيس الذي أكثر المؤرخون النقل منه لا سيما الإمام الذهبي في «تاريخ الإسلام» وغيره مع أن نسخه كانت كثيرة كما يبدو فقد ذكر تاج الدين السّبكي المتوفى سنة ٧٧١ ه‍ أنه كانت عنده منه نسختان ، قال في ترجمة محمد بن عبد الكريم الشّهرستاني من طبقاته الكبرى : «ووقفت على الذّيل وعندي منه نسختان ، فلم أجد في الترجمة زيادة على ما حكيت» (٢).

وقد تضمّن الذيل الذي ألفه أبو سعد السمعاني ثلاثة أنواع من المترجمين :

١ ـ التراجم التي استدركها على الخطيب ممن لم يذكرهم وهم من شرطه الذي بيّنه في مقدمة كتابه.

٢ ـ التّراجم التي ذكرها الخطيب ولم يذكر وفيات أصحابها ، لتأخرها في الأغلب الأعم عن وفاة الخطيب ، فأعاد الترجمة وأضاف إليها ، وذكر وفيات أصحابها.

٣ ـ التراجم التي نجمت بعد الخطيب وإلى قريب من وفاته. وهو مثل الخطيب قد ذكر بعض المعاصرين له ، وهم في الحياة ، فتأخرت وفياتهم؟؟؟ عن تاريخ وفاته.

ويتبين من التراجم التي اقتبسها البنداري في «تاريخ بغداد» أنه سار على خطة الخطيب في الأغلب الأعم. لكن صياغته لعناصر الترجمة أجود من الخطيب لغة وسبكا.

وذيّل على أبي سعد ابن السمعاني الحافظ جمال الدين أبو عبد الله محمد ابن سعيد الواسطي المعروف بابن الدبيثي المتوفى سنة ٦٣٧ ه‍ ، مؤلف كتابنا هذا ، وسنفصّل القول في منهجه في فصل خاص من هذه المقدمة.

__________________

(١) الإعلان بالتوبيخ ٦٢٢.

(٢) الطبقات الكبرى ٦ / ١٢٩.

٤٩

وممن ذيل على ابن السمعاني أيضا أبو الحسن محمد بن أحمد بن عمر القطيعي المتوفى سنة ٦٣٤ ه‍ (١) وهو أول شيخ للحديث بالمدرسة المستنصرية (٢). وقد ذكره وذكر تاريخه هذا جمال الدين ابن الدّبيثي ، فقال : «وكتب بخطه ورحل إلى الشام ... وجمع تاريخا لبغداد ذكر فيه محدثيها وغيرهم ، لم أقف عليه» (٣) ، مما يدل على أنه ألّف هذا الذيل قبل أن يؤلف ابن الدّبيثي كتابه.

وذكر تاريخه هذا زكي الدين المنذري ، فقال : «وجمع تاريخا للبغداديين» (٤). وذكر ابن نقطة أنه ما أظهره (٥) ، وزعم الذهبي أنه لم يتممه (٦) ، ولكن قال زين الدين بن رجب : «وجمع تاريخا في نحو خمسة أسفار ، ذيّل به على تاريخ أبي سعد ابن السّمعاني سماه «درّة الإكليل في تتمة التذييل» رأيت أكثره بخطه ، وقد نقلت منه في هذا الكتاب كثيرا ، وفيه فوائد جمّة مع أوهام وأغلاط» (٧). وذكر صلاح الدين الصّفدي أنه ذيّل على كتاب التاريخ الذي عمله أبو سعد ابن السمعاني وأذهب عمره فيه ، ونقل عن محب الدين ابن النجار قوله : «وطالعته فرأيت فيه من الغلط والوهم والتّصحيف والتّحريف كثيرا أوقفته على وجه الصواب فيه فلم يفهمه ، وقد نقلت عنه أشياء ونسبتها إليه ، ولا يطمئن قلبي إليها ، والعهدة عليه فيما قاله ، فإنه لم يكن محققا فيما ينقله ويقوله ، عفا الله عنا

__________________

(١) انظر ترجمته ومصادرها في تكملة المنذري (٣ / الترجمة ٢٧٢٣ بتحقيقنا) ، وفي وفيات سنة (٦٣٤) من تاريخ الإسلام ، بتحقيقنا ، وفي السير ٢٣ / ١٠٠٨ بتحقيقنا.

(٢) ينظر كتاب عمي العلامة الدكتور ناجي معروف : تاريخ علماء المستنصرية ١ / ٣٢٤.

(٣) تاريخ ابن الدبيثي ١ / الترجمة ٥٧ بتحقيقنا.

(٤) التكملة ٣ / الترجمة ٢٧٢٣.

(٥) التقييد ٥٨.

(٦) الذهبي : تاريخ الإسلام ١٤ / ١٥٤.

(٧) ابن رجب : الذيل ٢ / ٢١٢.

٥٠

وعنه» (١). وذكر ابن رجب أنّ ابن النجار قد بالغ في الحط على تاريخ القطيعي مع أنه نقل منه أشياء كثيرة ، بل نقله كلّه. ويعزو ابن رجب هذه الخصومة إلى تعيين القطيعي شيخا للحديث بالمدرسة المستنصرية عند افتتاحها ، بينما كان ابن النجار مفيدا للطلبة فيها حسب ، ونقل عن عمر ابن الحاجب أنه أثنى على هذا التاريخ ، وقال : «وقفت على تراجم من بعضه فرأيته قد أحكمها ، واستوفى في كلّ ترجمة ما لم يعمله أحد في زمانه يدل على حفظه وإتقانه ومعرفته بهذا الشأن» (٢).

ومما يؤسف عليه أن يضيع هذا الكتاب ، لكن جمهرة المؤرخين المعنيين بهذا الشأن قد أكثروا النقل منه ، منهم ابن النجار في «التاريخ المجدد» ، وابن الفوطي في «تلخيص مجمع الآداب» ، والذهبي في «تاريخ الإسلام» ، وابن رجب في «الذيل على طبقات الحنابلة» ، وغيرهم.

وممن ذيّل على تاريخ الخطيب الإمام الحافظ المفيد محدث بغداد أبو الفضل أحمد بن صالح بن شافع بن صالح بن حاتم الجيلي ثم البغدادي المعدّل المتوفى سنة ٥٦٥ ه‍ ، قال ابن النجار : «كان حافظا متقنا ، ضابطا محققا ، حسن القراءة ، صحيح النّقل ، ثبتا حجة ، نبيلا ، ورعا متدينا تقيا ، متمسكا بالسّنّة على طريقة السّلف. وصنّف تاريخا على السنين بدأ فيه بالسّنة التي توفي فيها أبو بكر الخطيب ، وهي سنة ثلاث وستين وأربع مئة إلى بعد الستين وخمس مئة ، يذكر السنة وحوادثها ومن توفي فيها ، ويشرح أحوالهم ، ومات ولم يبيضه. وقد نقلت عنه من هذا الكتاب كثيرا» ، ثم قال ابن رجب : «وأنا فقد نقلت من تاريخ ابن شافع في هذا الكتاب فوائد مما وقع لي منه ، فإنه وقع لي منه عدة أجزاء من منتخبه لابن نقطة» (٣) ، وقال الذهبي : «ذيّل على تاريخ الخطيب على السّنين إلى

__________________

(١) الصفدي : الوافي ٢ / ١٣٠. وانظر الذهبي : سير ٢٣ / ٩ ـ ١٠.

(٢) الذيل ٢ / ٢١٢ ـ ٢١٣.

(٣) الذيل ١ / ٣١٢.

٥١

بعد الستين وخمس مئة» (١).

ويحق للقارئ أن يسأل : كيف يمكن أن يكون كتابا مرتبا على السّنين ذيلا لكتاب مرتب على حروف المعجم؟ وجواب ذلك فيما نرى ينبغي أن يفهم في إطار مفهوم «التاريخ» الذي ساد بين المحدثين ، وهو أنّ التاريخ عندهم يعني التراجم ، فقد نظم الخطيب تاريخه على حروف المعجم ثم على الوفيات ، وفي أثناء تراجمه حوادث تاريخية لا سيما في تراجم الخلفاء والوزراء وأرباب الإدارة ، وما أيسر أن يعاد تنظيمه على السّنوات لو أراد أي أحد ذلك ، فما عليه إلا أن يذكر التّراجم في وفيات كلّ سنة ، كما فعل الإمام الذهبي في كتابه «تاريخ الإسلام» مثلا. ولما كان تاريخ ابن شافع أكثره تراجم ، فإنه ارتأى أن تنظيم تراجمه على السّنوات مع فصل الحوادث عنها أفضل ، ولذلك لم يفرّق المؤرخون في هذه الأعصر بين التنظيمات ، وإنما لاحظوا نوعية المعلومات التي حواها كل تاريخ ، وهي مسألة تنطلق من مفهوم كل مؤرخ للتاريخ والغاية منه.

وممن ذيّل على تاريخ الخطيب أيضا مؤرخ بغداد ومحدّثها محب الدين أبو عبد الله محمد بن محمود بن الحسن بن هبة الله المعروف بابن النجار البغدادي المتوفى سنة ٦٤٣ ه‍ ، سمّاه : «التاريخ المجدد لمدينة السلام وأخبار فضلائها الأعلام ومن وردها من علماء الأنام» ، جمع فيه بين ذيلي ابن السّمعاني وابن الدّبيثي ، وأفاد من كتاب القطيعي وغيره من الكتب.

وقد ترجم لابن النجار ياقوت الحموي وتوفي قبله بسبعة عشر عاما ، وذكر تاريخه هذا ، فقال : «صاحبنا الإمام محب الدين ابن النجار البغدادي الحافظ المؤرخ الأديب العلّامة أحد أفراد العصر الأعلام. ولد في بغداد في ذي القعدة سنة ثمان وسبعين وخمس مئة ، وسمع .. واستمرت رحلته سبعا وعشرين سنة ، واشتملت مشيخته على ثلاثة آلاف شيخ. وكان إماما حجة ثقة حافظا مقرئا أديبا

__________________

(١) السير ٢٠ / ٥٧٣.

٥٢

عارفا بالتاريخ ... وله التصانيف الممتعة منها : تاريخ بغداد ذيّل به على «تاريخ مدينة السلام» للحافظ أبي بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي واستدرك فيه عليه ، وهو تاريخ حافل دلّ على تبحره في التاريخ وسعة حفظه للتراجم والأخبار» (١).

إنّ عنوان الكتاب يشير إلى ما استجد من تراجم بعد تاريخ الخطيب. ويبين النص الذي نقلناه من معجم الأدباء لياقوت الحموي أنّ ابن النجار قد ألّف تاريخه هذا منذ فترة مبكرة تعود إلى ما قبل وفاة ياقوت الحموي سنة ٦٢٦ ه‍ كما نقل الذهبي في مقدمة كتابه أنه قال : «كنت وأنا صبي عزمت على تذييل الذيل لابن السّمعاني ، فجمعت في ذلك مسودة ، ورحلت ... وكنت كثير التتبع لأخبار فضلاء بغداد ومن دخلها» (٢). ومما لا شك فيه أن المصنف قد أضاف الكثير إليه بعد هذا التاريخ ، فقد ذكر كثيرا من التّراجم التي توفي أصحابها بعد سنة ٦٤٠ ه‍ وبعض الأخبار التي أعقبت وفاة ياقوت الحموي ، وهو أمر واضح لمن يطالع تاريخه.

وذكره وذكر كتابه هذا كمال الدين ابن الشّعّار الموصلي المتوفى سنة ٦٥٤ ه‍ فقال بعد أن ترجم له ترجمة رائقة : «وهو اليوم إمام مدينته وحافلها وعالمها في الحديث وفاضلها يشار إليه في فضله ومعرفته ... وله : التاريخ المجدد لمدينة السلام وأخبار علمائها الأعلام ومن وردها من فضلاء الأنام» (٣). وقال الشريف عز الدين الحسيني : «وكان أحد الحفاظ المشهورين عارفا بالصناعة الحديثية» (٤).

__________________

(١) معجم الأدباء ٦ / ٢٦٤٤.

(٢) الذهبي : سير ٢٣ / ١٣٢.

(٣) عقود الجمان ٦ / الورقة ٢١٨ ـ ٢٢٠ (من نسختي المصورة).

(٤) صلة التكملة ، الورقة ٣٦ (من نسختي المصورة بخطه).

٥٣

وكان تاريخ ابن النجار تاريخا حافلا ، ذكر الإمام الذهبي في «تذكرة الحفاظ» أنه في ثلاث مئة جزء (١) ، وذكر في «السير» أنه في مئتي جزء (٢) ، وما أظنه أصاب في أي منهما ، ولعله كان يتكون من مئتين وأربعين جزءا ، إذ أن آخر ما في المجلد العاشر المحفوظ بالمكتبة الظاهرية بدمشق هو الجزء الستون بعد المئة ، وهو من نسخة تتكون من خمسة عشر مجلدا ، كما سيأتي بيانه بعد قليل ، فإن المجلدات الخمسة الباقية لا بد أن تحتوي على ثمانين جزءا.

أما عدد مجلدات الكتاب فتختلف باختلاف النساخ ، فقد ذكر تلميذه وصديقه تاج الدين عليّ بن أنجب المعروف بابن الساعي البغدادي خازن الكتب بالمدرسة المستنصرية والمتوفى سنة ٦٧٤ ه‍ أنه قرأ عليه هذا الكتاب وأنه كان في ستة عشر مجلدا (٣) ، وكذا ذكر مؤلف الكتاب المسمى بالحوادث (٤) وابن كثير (٥) وهما ينقلان عادة من تاريخ ابن الساعي. فلعل هذه النسخة هي نسخة المؤلف التي بخطه. وذكر شمس الدين السخاوي أنه في «سبعة عشر مجلدا (كذا) بخط الجمال ابن الظاهري في الأوقاف التي بجامع الحاكم ، وفقد بعضه» (٦) ، لكنه ذكر في موضع آخر أنه في خمسة عشر مجلدا ، وهو الأصوب ، فقد فصّل القول في الضائع منه ، فذكر عند الكلام على الكتاب الذي شرع في تأليفه وأصّله من «تاريخ الإسلام» للذهبي أنه استوفى عليه مجموعة من الكتب ذكر بعضها وقال : «واليسير من «تاريخ بغداد» للخطيب ، والمجلد الثاني والثالث من «الذيل» عليه لابن النجار وأولهما محمد بن حمزة بن عليّ بن طلحة بن علي ،

__________________

(١) الذهبي : تذكرة الحفاظ ٤ / ١٤٢٨.

(٢) الذهبي : سير أعلام النبلاء ٢٣ / ١٣٢.

(٣) الذهبي : تذكرة الحفاظ ٤ / ١٤٢٩ ، وتاريخ الإسلام ١٤ / ٤٨٠.

(٤) كتاب الحوادث ٢٤٥ (بتحقيقنا).

(٥) البداية والنهاية ١٣ / ١٦٩.

(٦) الإعلان بالتوبيخ ٦٢٢.

٥٤

وآخرها انتهاء المحمدين ، والكتاب كله في خمسة عشر مجلدا من الموقوف بجامع الحكم ، والموجود منه الأربعة الأول ، وانتهت إلى أحمد بن عليّ بن موسى ، وبعض السادس وأوله ... والمفقود منه من جعفر بن يحيى بن إبراهيم ابن يحيى إلى الحسين بن أحمد بن ميمون ، والسابع والثامن وانتهيا إلى عبد الله ابن محمد بن عليّ بن أحمد ، والتاسع وأظنه الذي كان عند التّقي القلقشندي وجحده ابن أخيه وفيه الشيخ عبد القادر ، وبعض الحادي عشر والمفقود منه كراريس من أوله إلى الهاء آخرها ، والأربعة الأخيرة وأولها (كذا) ، فالحاصل : أن المفقود الخامس ، وبعض السادس وجميع العاشر ، وبعض الحادي عشر. وكنت لمحت منه أجزاء في أوقاف الجمالية ، ثم لم أرها» (١).

وابن الظاهري الذي كتب هذه النسخة هو جمال الدين أبو العباس أحمد ابن محمد بن عبد الله الحلبي ثم القاهري المعروف بابن الظّاهري ، ولد سنة ٦٢٦ ه‍ وتوفي بمصر سنة ٦٩٦ ه‍ ، وهو أبرز شيخ للإمام الذهبي بالبلاد المصرية (٢).

أما النسخة التي اطلع عليها الذهبي (٣) وتلامذته : الصفدي (٤) والسّبكي (٥) فقد كانت في ثلاثين مجلدا. وقد نسخ علي بن عبد الله بن مسعود المسعودي المؤدب نسخة منها في خمسة عشر مجلدا سنة ٧٤٨ ه‍ كما سيأتي بيانه.

وذكر حاجي خليفة أنه رأى المجلد السادس عشر من هذا التاريخ وفيه من حرف العين (٦) ، فلا شك أن هذا من نسخة أخرى. ولم ير النّساخ في عصر

__________________

(١) الإعلان بالتوبيخ ٥٩٠ ـ ٥٩١.

(٢) الذهبي : تاريخ الإسلام ١٥ / ٨٣٥.

(٣) نفسه ١٤ / ٤٧٩.

(٤) الوافي بالوفيات ٥ / ١٠.

(٥) طبقات الشافعية الكبرى ٨ / ٩٨.

(٦) كشف الظنون ١ / ٢٨٨.

٥٥

المخطوطات ضيرا من تغيير عدد مجلدات الكتاب بحسب ما يرونه مناسبا.

وقد أتى الزمان على هذا السّفر النفيس فلم يصل إلينا اليوم منه غير مجلدين هما : المجلد العاشر المحفوظ في دار الكتب الظاهرية بدمشق برقم (٤٢ تاريخ) ، والمجلد الحادي عشر المحفوظ في المكتبة الوطنية بباريس برقم (٢١٣١ عربيات) ، وهما من نسخة واحدة تتكون من خمسة عشر مجلدا ، نسخت سنة ٧٤٨ ه‍ من النسخة التي كانت في ثلاثين مجلدا ، فجعل كل مجلدين في مجلد ، كما نص عليه الناسخ في آخر مجلد الظاهرية حيث ذكر أنه آخر المجلد العشرين من الأصل. كما توجد قطعة في تسع وعشرين ورقة محفوظة في مكتبة برنستن (رقم ٣٥١٨ ـ يهودا) لم أطلع عليها ، وأما المجلدان اللذان في الظاهرية وباريس فعندي نسخة مصورة منهما.

وقد طبع الهنود مجلد الظاهرية في ثلاثة أجزاء سنة ١٩٧٨ ـ ١٩٨٢ م ، ثم مجلد باريس في مجلدين ، بدائرة المعارف العثمانية طبعة رديئة جدا مليئة بالتصحيف والتحريف والسقط ، وأعيد تصويره ببيروت فألحق بالطبعة القديمة من تاريخ الخطيب.

وبقي من الكتاب انتقاء قام به الحافظ شهاب الدين أحمد بن أيبك الحسامي الدّمياطي المتوفى سنة ٧٤٩ ه‍ سماه «المستفاد من ذيل تاريخ بغداد» ، وهو في مجيليد ، حققه بإشرافي تلميذي الفاضل محمد مولود خلف ونال به رتبة الدبلوم العالي في تحقيق المخطوطات من الجامعة المستنصرية ، ونشرته مؤسسة الرسالة ببيروت سنة ١٩٨٦ م.

ونقل الذهبي من تاريخ تاج الدين ابن الساعي ، تلميذ ابن النجار ، أن ابن النجار ألف كتابا سماه «المستدرك على تاريخ الخطيب» (١). ونحن نعلم أن «ذيل تاريخ بغداد» وهو «التاريخ المجدد لمدينة السلام» يتضمن ما استدركه ابن

__________________

(١) تاريخ الإسلام ١٤ / ٤٨٠.

٥٦

السمعاني على الخطيب ، وما استدركه هو أيضا ، لأنه جمع كتابي ابن السمعاني وابن الدبيثي وزاد عليهما ، فالظاهر أنّ هذا الكتاب مستل من «التاريخ المجدد» خصصه لمن هو على شرط الخطيب ولم يذكره.

وذيّل على ذيل ابن النجار العلامة تقي الدين أبو المعالي محمد بن رافع السّلامي المتوفى سنة ٧٧٤ ه‍ ، قال الحافظ ابن حجر : «وجمع ذيلا على تايخ بغداد لابن النجار في ثلاث مجلدات أو أربع رأيت بعضه بخطه» (١).

وذكر السّخاوي ذيل ابن رافع هذا ، وذكر أنه وقف على مجلد بخطه هو المسوّدة ، قال : «مسوّدة الذّيل الذي للتقي ابن رافع على ابن النجار من خطه ، وهي في مجلد ، ولكن حصل فيها محو لكثير من تراجمه ، وكذا بعض المقول في بعضها مع أنه كتب عليها ما نصه : فيه نقص كثير عن المبيّضة ، وفيه زيادات قليلة. قال : والمبيّضة في ثلاثة مجلدات. وقال في خطبته : أذكر فيه من دخل بغداد من العلماء ، والفقهاء ، والمحدّثين ، والوزراء ، والأدباء ، ومن فاتهما ـ يعني الخطيب وابن النجار ـ أو أحدهما ذكره ذكرته. وعلى المسوّدة بخط الذهبي ما نصه : كتاب التّذييل والصّلة على تاريخ بغداد ، ألّفه وتلقفه الفقير إلى الله تعالى الإمام الحافظ مفيد الطلبة عمدة النّقلة تقي الدين محمد بن رافع الشّافعي ، ووصل به التاريخ الكبير الذي جمعه حافظ العراق محب الدين ابن النجار الذي عمل كتابه ذيلا واستدراكا على تاريخ الحافظ أبي بكر الخطيب غفر الله لهم ولنا ، انتهى. وقد أخبرني صاحبنا النّجم بن فهد أنه وقف على المبيّضة ، ولم يستحضر محلها» (٢). ولم يصل إلينا هذا الكتاب. ولكن انتقى تقي الدين الفاسي المتوفى سنة ٨٣٢ ه‍ تراجم من هذا الذيل سماها : «المنتخب المختار المذيّل به على تاريخ ابن النجار» نشره المحامي المشهور الأستاذ عباس العزاوي

__________________

(١) ابن حجر : الدرر الكامنة ٤ / ٥٩.

(٢) الإعلان ٥٩١ ـ ٥٩٢.

٥٧

سنة ١٩٣٨ م.

وذكر السّخاوي عند كلامه على تواريخ بغداد أنّ تاج الدين علي بن أنجب المعروف بابن السّاعي البغدادي المتوفى سنة ٦٧٤ ه‍ قد ذيّل على ذيل ابن النجار ، وقال : يقال : إنه في نحو ثلاثين مجلدا» (١) مما يدل على أنه لم يقف عليه. وذكر حاجي خليفة (٢) أنه ذيّل على تاريخ بغداد الذي ألّفه ابن المارستانية المتوفى سنة ٥٩٩ ه‍. وتاريخ ابن المارستانية هذا هو في تاريخ مدينة السلام ، ذكر ابن القادسي أنه على وضع كتاب الخطيب (٣) ، فما أظنه ذيلا عليه.

وهذا الذي ذكره السّخاوي وحاجي خليفة لم أجد له أصلا عند المتقدمين ولا عرفته من ترجمة ابن السّاعي ، فالمحفوظ أنّ ابن السّاعي ألّف مجموعة كبيرة من التآليف ، كان من أشهرها وأضخمها تاريخه الوسيع الذي أكثر النقل منه الملك الغسّاني صاحب كتاب «العسجد المسبوك» ، وابن كثير في «البداية والنهاية» ، كما صرح في ترجمته (٤) ، وأشار إليه في العديد من المواضع ، وغيرهما. وذكر الذهبي أنّ ابن الساعي ترجم لابن النجار في تاريخه الذي ذيّل به على «الكامل» لابن الأثير ، فقال ، كما نقلت من خطه : «وقال ابن الساعي في تذييله على ابن الأثير أنه مات في منتصف شعبان ... إلخ» (٥) ، وقال في ترجمته من تاريخه : «وذيّل على الكامل لابن الأثير» (٦).

فالذي ذكره الذهبي هو الأليق بتاريخ ابن الساعي الذي تدل النقول منه أنه

__________________

(١) الإعلان ٦٢٢.

(٢) كشف الظنون ١ / ٢٨٨.

(٣) ابن رجب : الذيل ١ / ٤٤٦. وقد طعن فيه غير واحد ، فانظر تفاصيل ذلك في كتيبنا : تواريخ بغداد التراجمية ١٠ ـ ١١.

(٤) البداية والنهاية (وفيات سنة ٦٧٤).

(٥) تاريخ الإسلام ١٤ / ٤٨٠.

(٦) نفسه ١٥ / ٢٧٩.

٥٨

كان يعنى بالحوادث أكثر من عنايته بالتراجم. وأيضا فإنه لو كان هذا التاريخ ذيلا على ذيل ابن النجار لنقل الذهبي منه ولسمّاه ، فضلا عن أن المؤرخين قد نقلوا منه الكثير مما ذكره بعد الثلاثين وست مئة.

وممن كتب تاريخا تراجميا لبغداد أبو بكر عبيد الله بن عليّ بن نصر بن حمرة (١) المعروف بابن المارستاني ، أو المارستانية ، المتوفى سنة ٥٩٩ ه‍ (٢). وقد أثيرت حول هذا الرجل شكوك تداولها ثقات المؤرخين ومنهم ابن الدبيثي نفسه فذكر أنه ادعى «الرواية والنقل عمن لم يدركه ولا سمع منه فأطلق ألسن الناس في جرحه وتكذيبه وإساءة القول في حقّه من أهل هذه الصناعة والعلماء بها» وتكلم فيه ابن الدبيثي وحط عليه كثيرا ، ووصفه بالكذب الصريح ، وتزوير الطباقات ، ورواية أشياء لم يسمعها (٣). وتكلم فيه محب الدين ابن النجار البغدادي المتوفى سنة ٦٤٣ وذكر نسبه ثم قال : «هكذا كان يذكر نسبه ويوصله إلى أبي بكر الصديق. ورأيت المشايخ الثقات من أصحاب الحديث وغيرهم ينكرون نسبه هذا ويقولون : إنّ أباه وأمه كانا يخدمان المرضى بالمارستان التّتشي في أسفل البلد وكان أبوه مشهورا بفريج تصغير «أبي فرج» عاميا لا يفهم شيئا وأنه

__________________

(١) بضم الحاء المهملة وسكون الميم وفتح الراء.

(٢) ابن نقطة : إكمال الإكمال ٢ / ٥٨ ، ابن الدبيثي ، ذيل تاريخ مدينة السلام ٣ / الترجمة ١٧٦٤ ، ابن النجار : التاريخ المجدد ٢ / ٩٥ ، المنذري : التكملة ١ / الترجمة ٧٥٤ ، أبو شامة : ذيل الروضتين ٣٤ ، ابن الساعي : الجامع المختصر ٩ / ٩٨ ، ١١٢ ، ابن الفوطي : تلخيص مجمع الآداب ٤ / الترجمة ٢١٩٥ ، ابن أبي أصيبعة : عيون الأنباء ٤٠٧ ، الذهبي : تاريخ الإسلام ١٢ / ١١٧٢ ، وسير أعلام النبلاء ٢١ / ٣٩٧ ، والمختصر المحتاج ٢ / ٨٧ ، والمشتبه ٢٤٦ ، وميزان الاعتدال ٣ / ١٤ ، الصفدي : الوافي ١٩ / ٣٩٠ ، ابن كثير : البداية ١٣ / ٣٥ ، ابن رجب : الذيل على طبقات الحنابلة ١ / ٤٤٢ ، الغساني : العسجد المسبوك ٢٨٠ ، ابن ناصر الدين : توضيح المشتبه ٣ / ٣١٠ ، ابن حجر : تبصير المنتبه ١ / ٤٥٧ ، لسان الميزان ٤ / ١٠٨ ، ابن العماد : شذرات ٤ / ٣٣٩.

(٣) ذيل تاريخ مدينة السلام ٣ / الترجمة ١٧٦٤.

٥٩

سئل عن نسبه فلم يعرفه وأنكر ذلك. ثم إنّه ادعى لأمه نسبا إلى قحطان وادعى لأبيه سماعا من أبي بكر محمد بن عبد الباقي الأنصاري وسمعته منه ، وكذلك ادعى لنفسه سماعا من أبي الفضل محمد بن عمر الأرموي ، وكل ذلك باطل» (١).

وذكر ابن الدبيثي تاريخ ابن المارستانية هذا فقال : «وجمع مسوّدة كتاب سماه «ديوان الإسلام الأعظم» في تاريخ بغداد فكتب منه كثيرا ، ولم يتممه ولا بيضه ، ووقفت منه على شيء. وقد ضمّنه من غرائب الشيوخ له والروايات غير قليل ، ولو ظهر هذا الكتاب وتم لكان من أكبر الشواهد على تخرّصه» (٢). ونقل زين الدين ابن رجب عن أبي المظفر سبط ابن الجوزي قوله : «وصنّف كتابا سماه «ديوان الإسلام في تاريخ دار السلام» قسمه ثلاث مئة وستين كتابا ، إلا أنه لم يشتهر» (٣). وأورد ابن رجب ما على الرجال وما له ، وخلص إلى القول ؛ إنه مطعون فيه من جهتين : من جهة ادعائه النسب إلى أبي بكر الصديق رضي‌الله‌عنه ، ومن جهة ادعائه سماع ما لم يسمع. وقال الحافظ ابن نقطة المتوفى سنة ٦٢٩ ه‍ : سألت أبا الفتوح الحصري عنه بمكة فقال : سامحه الله كان صديقي ، وكان يكرمني ، وكان غير ثقة! ونقل عن الشريف عليّ بن أحمد الزّيدي أنه استعار منه «مغازي» الأرموي فردها إليه وقد طبق عليها السماع على كل جزء ، ولم يسمعها (٤).

أما كيف رتّب ابن المارستانية كتابه وما نطاقه الذي اختطه لنفسه فهذا ما لم يصل إلينا. ولكن يبدو لي أنّ هذا الكتاب لم يكن ذيلا على كتاب ما من جهة ، وأنه تناول تاريخ بغداد منذ نشأتها من جهة أخرى. وهذا يعني أنه تناول مدة

__________________

(١) التاريخ المجدد (الورقة ١٠١ نسخة دار الكتب الظاهرية ٢ / ٩٦).

(٢) ذيل تاريخ مدينة السلام ٣ / الترجمة ١٧٦٤.

(٣) ابن رجب : الذيل ١ / ٤٤٣ ، وهذا الكلام غير موجود في المطبوع باسم الجزء الثامن من مرآة الزمان مما يدل على أن هذا المطبوع مختصر الكتاب أو فيه نقص واضح.

(٤) ابن نقطة : إكمال الإكمال ٢ / ٥٨ ـ ٥٩.

٦٠