منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٤

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة دار الكتاب ( الجزائري ) للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٧١

فيها : «انا كما نقطع بأنا مكلفون (١) في زماننا هذا تكليفا فعليا بأحكام فرعية كثيرة لا سبيل لنا بحكم العيان وشهادة الوجدان إلى تحصيل

______________________________________________________

وإسقاط بعضها الآخر وسيأتي التنبيه عليها ، قال : «الثامن ـ أي من أدلة حجية الخبر ـ الدليل المعروف بدليل انسداد باب العلم (*) ، ويمكن تقريره بوجهين : الأول : وهو المعتمد وان لم يسبقني إليه أحد ، وهو : أنا ... إلخ».

(١) توضيحه : أن هنا علمين :

أحدهما : يتعلق بالاحكام الفرعية ، وتقريبه : أنّا نعلم بكوننا مكلفين في هذا الزمان بأحكام فعلية ، ولا سبيل لنا إليها لا بقطع وجداني ولا بطريق ثبت شرعا حجيته وقيامه تعبدا مقام العلم بالاحكام مطلقا أو عند تعذر العلم كالخبر الواحد ، ولا بطريق ثبت حجية دليل اعتباره ، وأنه يقوم تعبدا مقام العلم بالاحكام مطلقا أو عند تعذر العلم كالإجماع المنقول بخبر الواحد ، حيث ثبت شرعا حجية دليله أعني خبر الواحد ، وأنه ـ يعني الإجماع المنقول ـ يقوم تعبدا مقام العلم مطلقا أو عند تعذر العلم.

ثانيهما : يتعلق بالطرق ، يعني : كما أنا نعلم بأحكام فرعية فعلية كذلك نعلم بنصب الشارع طرقا إليها بحيث صار تكليفنا الفعلي العمل بمؤديات تلك الطرق ، وحيث كان باب العلم بتلك الطرق الشرعية ، وكذا باب الطريق التعبدي إلى تلك الطرق الشرعية ، وباب طريق الطريق التعبدي إلى تلك الطرق الشرعية منسدا ، فلا ريب في حكومة العقل حينئذ بتعيين تلك الطرق بالظن ، لأنه أقرب إلى العلم من الشك والوهم. فنتيجة هذين العلمين حجية الظن بالطريق ، لأن التكليف ـ بمقتضى انحلال العلم بالتكاليف بالعلم بكوننا مكلفين بالعمل بمؤديات الطرق ـ هو العمل بالظن في الطريق.

__________________

(*) فيه أولا : أن الاستدلال بدليل الانسداد على حجية خبر الواحد في

٦٢١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

عرض الوجوه السبعة التي استدل بها على حجيته غير وجيه ، لأنه في طولها ، حيث ان من مقدماته انسداد باب العلم والعلمي ، وإثبات حجية الخبر بتلك الوجوه يوجب انفتاح باب العلمي ، ويهدم دليل الانسداد ، ولا يبقى مجال لقوله في آخر كلامه : «ولا ريب أن خبر الواحد ان لم يكن من الطرق القطعية فهو من الطرق الظنية ، للوجوه التي مر ذكرها ، فيجب العمل به ، وهو المطلوب» حيث ان الخبر بعد نهوض تلك الأدلة على حجيته يندرج في العلمي المفتوح بابه ، ومعه لا يبقى مجال للاستدلال عليه بدليل الانسداد.

وثانيا : أن لازم انفتاح باب العلمي ـ وهو الظن الخاصّ المراد به هنا الخبر الواحد ـ سقوط دعوى العلم الإجمالي بنصب الطرق الموجب للعمل بكل ظن بطريقية شيء ، لوفاء خبر الواحد بمعظم الفقه بحيث لا يلزم محذور من جريان الأصول ، فمرجع ما أفاده ـ من رجوع القطعين إلى قطع واحد ـ إلى وجوب العمل بالخبر الواحد حقيقة.

وثالثا : أن نصب الطرق انما هو لتنجيز الأحكام وإيجاد الداعي إلى موافقتها والاجتناب عن مخالفتها ، لا لتقييدها ، فلو فرض حصول ظن بنفس الحكم من دون ظن بطريق ، وصح الاستدلال بدليل الانسداد على حجية الظن كان ذلك حجة ، ولا يصلح ما أفاده (قده) لإثبات حجية خصوص الظن بالطريق ونفى حجية غيره ، كما يرشد إليه قوله في دفع بعض ما أورد على دليل الانسداد : «وبالجملة : فوجوب تحصيل الحكم عن طريق مخصوص يوجب دوران الحكم مدار ذلك الطريق ، فلا يعتبر غيره فيه ، وهذا واضح».

٦٢٢

كثير منها بالقطع (١) ولا بطريق (٢) معين يقطع من السمع بحكم (٣) الشارع بقيامه أو قيام (٤) طريقه مقام القطع ولو (*) عند تعذره (٥) ، كذلك (٦) نقطع

______________________________________________________

(١) متعلق بـ «تحصيل» وضمير «منها» راجع إلى الأحكام الفرعية.

(٢) معطوف على «بالقطع» و «يقطع من السمع» صفة لـ «بطريق معين»

(٣) متعلق بـ «يقطع» و «بقيامه» متعلق بـ «بحكم الشارع» وضميره راجع إلى «طريق معين» وذلك كخبر الثقة القائم مقام القطع.

(٤) أي : قيام طريق الطريق المعين ، وذلك كقيام خبر الثقة المفيد للظن على حجية الإجماع المنقول والقرعة ، فخبر الثقة ـ الّذي هو طريق الطريق ـ قام حينئذ مقام القطع.

(٥) أي : تعذر القطع بالواقع بأن كان جواز العمل بالطريق المنصوب مترتبا على تعذر القطع بالواقع ، لا أنه في عرضه ورتبته ، وهو ظرف لكل من «قيامه» و «قيام طريقه» فيكون ظرفا لقيام الطريق وقيام طريق الطريق ، يعني : أن نصب الشارع للطريق أو لطريق الطريق تارة يكون في ظرف التمكن من العلم ، وأخرى مقيدا بحال التعذر من تحصيله وانسداد بابه.

(٦) عدل لقوله : «كما نقطع بأنا مكلفون» وهذا بيان للعلم الإجمالي الثاني المتعلق بالطرق ، وقد مر توضيحه بقولنا : «ثانيهما : يتعلق بالطرق ... إلخ».

__________________

(*) لا يخفى ما في هذا التعبير من المسامحة ، لأن كلمة «لو» الوصلية يشار بها إلى الفرد الخفي ، ومن المعلوم أن الفرد الخفي هنا هو نصب الطريق حال انفتاح باب العلم ، فالأولى أن يقال : «ولو عند عدم تعذره». إلّا أن يقال : بكفاية قيام الظن مقام القطع بالواقع ولو حال الانسداد لا مطلقا ، إذ يكفي في قيامه مقام القطع اعتباره في خصوص هذا الحال.

٦٢٣

بأن الشارع قد جعل لنا إلى تلك الأحكام طريقا (١) مخصوصا وكلّفنا تكليفا فعليا بالعمل بمؤدى طرق مخصوصة ، وحيث انه لا سبيل غالبا إلى تعيينها (٢) بالقطع ولا بطريق (٣) [طريق] يقطع من السمع بقيامه بالخصوص أو (٤) قيام طريقه كذلك مقام القطع

______________________________________________________

(١) عبارة الفصول ـ المنقولة في الرسائل أيضا ـ هكذا «إلى تلك الأحكام طرقا مخصوصة ، وكلفنا تكليفا فعليا بالرجوع إليها في معرفتها ، ومرجع هذين القطعين عند التحقيق إلى أمر واحد وهو القطع بأنا مكلفون تكليفا بالعمل بمؤدى طرق مخصوصة (*)» والمقصود من القطعين هو القطع الإجمالي بالتكاليف والقطع الإجمالي بالطرق المنصوبة ، ومرجع هذين القطعين إلى القطع بلزوم امتثال الأحكام الواقعية من هذه الطرق ، أي قناعة الشارع في امتثال أحكامه بالعمل بمؤديات هذه الطرق فحسب.

(٢) أي : تعيين تلك الطرق المخصوصة المعلومة إجمالا.

(٣) عطف على «بالقطع» أي : ولا سبيل لنا إلى تعيين تلك الطرق بطريق نعلم اعتباره شرعا كخبر الثقة ، و «بقيامه» متعلق بـ «يقطع».

(٤) معطوف على «بقيامه» وضمير «طريقه» راجع إلى الطريق ، يعني : أو

__________________

(*) الأولى أن يقال : «الطرق المخصوصة» لأن المراد بها في الموضعين ـ وهي الطرق التي تعلق العلم الإجمالي بنصبها ـ واحد ، ومقتضى القاعدة حينئذ تعريفها هنا أيضا ليدل على اتحادهما ، مع أن ظاهر العبارة تغايرهما ، حيث أتى بهما نكرتين ، وقد قرر في محله أن تكرار النكرة ظاهر في التغاير نحو «رأيت رجلا وأكرمت رجلا» وليس المقام كذلك قطعا.

٦٢٤

ولو بعد تعذره ، فلا ريب (١) أن الوظيفة في مثل ذلك (٢) بحكم العقل انما هو الرجوع في تعيين ذلك الطريق إلى الظن الفعلي (٣) الّذي لا دليل على عدم حجيته (٤) [على حجيته] لأنه (٥)

______________________________________________________

قيام طريق الطريق ، والمراد بطريق الطريق دليل اعتباره كخبر الثقة الدال على حجية القرعة مثلا حتى تكون قاعدة القرعة طريقا إلى الأحكام ، وقوله : «كذلك» يعني بالخصوص ، وضمير «تعذره» راجع إلى القطع.

(١) جواب «وحيث» ونتيجة لحصول العلم بنفس الأحكام إجمالا والعلم بإقامة الشارع طرقا لتلك الأحكام مع فرض انسداد باب العلم بهما.

(٢) أي : فيما إذا انسد باب العلم بنفس الأحكام وبطرقها.

(٣) أي : الظن الشخصي ، لأن مقتضى مقدمات الانسداد ـ لو تمت ـ هو حجية الظن الشخصي ، وقوله : «إلى الظن» متعلق بـ «هو الرجوع».

(٤) هذا هو الصواب كما في الفصول وفي الرسائل نقلا عنه أيضا ، خصوصا مع ملاحظة كلام الفصول بعده ، حيث قال : «وانما اعتبرنا في الظن بأن لا يقوم دليل معتبر على عدم جواز الرجوع إليه حينئذ ، لأن الحكم بالجواز هنا ظاهري فيمتنع ثبوته مع انكشاف خلافه» نعم يمكن توجيه النسخة الثانية وهي «لا دليل على حجيته» بأن يقال : ان الدليل يشمل الظنون الممنوعة كالظن القياسي أولا ، إذ يصدق عليها أنه لا دليل على حجيتها وان صدق عليها أيضا أنها مما قام الدليل على عدم حجيتها ، فلا بد من إخراجها حينئذ بدليل آخر عن عموم نتيجة دليل الانسداد.

(٥) أي : لأن الظن الفعلي ، وهذا تعليل لنفي الريب عن الرجوع إلى الظن الفعلي بحكم العقل.

٦٢٥

أقرب إلى العلم وإلى إصابة الواقع (١) مما عداه (٢)».

وفيه أولا (٣): ـ بعد تسليم العلم بنصب طرق خاصة باقية فيما بأيدينا من الطرق غير العلمية ، وعدم وجود المتيقن بينها أصلا ـ

______________________________________________________

(١) يعني : الواقع المقيد بكونه مؤدى الطريق ، كما هو مقتضى ما أفاده الفصول من العلمين المزبورين ، ضرورة أن الظن بالطريق إلى الواقع لا يكون أقرب إلى الواقع من الظن بنفس الواقع ، بل الأمر بالعكس.

(٢) أي : مما عدا الظن الفعلي الّذي لم يقم دليل على عدم حجيته ، وما عدا هذا الظن الفعلي هو الظن النوعيّ المستفاد من القياس مثلا. ثم ان لكلام الفصول تتمة لم ينقلها الشيخ ولا المصنف ، وينبغي ذكر جملة واحدة منها ، وهي قوله : «ومستند قطعنا في المقامين الإجماع» إذ دعوى القطع بالاحكام وبنصب الطرق مع عدم ذكر مستنده بعيد عن مثل صاحب الفصول.

(٣) أجاب المصنف عن هذا الدليل العقلي بوجهين ، هذا أولهما ، وهو متضمن لأربعة من الردود الخمسة التي أوردها شيخنا الأعظم عليه.

الأول : ما أشار إليه بقوله : «بعد تسليم العلم بنصب طرق» وهو ناظر إلى ما أفاده الفصول بقوله : «كذلك نقطع بأن الشارع قد جعل لنا إلى تلك الأحكام طريقا مخصوصا» فهو في الحقيقة راجع إلى منع الإجماع الّذي استند إليه الفصول في دعوى القطع بالتكاليف وبنصب الطرق ، وكيف كان ، فتوضيح ما أفاده : أن العلم بالتكاليف الفعلية وان كان ثابتا ، لكن لا نسلِّم العلم الثاني وهو العلم بنصب الطرق الخاصة ، بل الشارع أو كل المكلفين إلى الطرق العقلائية الوافية بالاحكام ، سواء كانت إمضائية كخبر الثقة ، أم تأسيسية كالإجماع المنقول والشهرة وخبر العدل ونحوها ، وليس وراء العلم بهذه الطرق قطع إجمالي آخر

٦٢٦

.................................................................................................

______________________________________________________

بنصب طرق أخرى على التكاليف حتى نلتزم بتعيينها بالظن كما أفاده الفصول. قال الشيخ : «وفيه أولا : إمكان منع نصب الشارع طرقا خاصة للأحكام الواقعية ... إلخ» وبيّنه المصنف في حاشية الرسائل بقوله : «دعوى منع نصب طرق خاصة كذلك من رأس وان كانت مكابرة ، إلّا أن المنع عن غير ما علم تفصيلا من الطرق الخاصة الابتدائية أو الإمضائية في محله ، ودعوى العلم به لا بيّنة ولا مبيّنة».

الثاني : ما أشار إليه بقوله : «باقية فيما بأيدينا» وحاصله : أنه ـ بعد تسليم العلم بنصب الطرق ـ يمكن دعوى عدم بقاء تلك الطرق إلى هذا الزمان ، ومع عدم بقائها لا معنى للزوم مراعاتها حتى تصل النوبة إلى تعيينها بالظن كما يدعيه صاحب الفصول ، توضيحه ـ كما هو ظاهر كلام الشيخ ـ أنه يحتمل أن يكون الطريق المنصوب من قبل الشارع على الأحكام الشرعية هو خصوص خبر العدل المفيد للاطمئنان وهو المحفوف بالقرينة المفيدة للوثوق بالصدور ، ولا شك في أن تلك القرائن ـ مثل تكرره في الأصول المعتبرة أو عمل قدماء الأصحاب به ونحوهما ـ قد اختفيت علينا بمرور الزمان ، ومن المعلوم أن الظفر بهذا القسم الخاصّ من الخبر فعلا مشكل جدا ، وعليه فتسليم العلم بنصب الشارع طرقا خاصة غير مجد في تعيينها بالظن بعد احتمال أن يكون المنصوب طريقا خاصا وهو في غاية الندرة في أمثال هذا الزمان. قال الشيخ : «وثانيا سلمنا نصب الطرق ، لكن بقاء ذلك الطريق لنا غير معلوم ... إلخ».

الثالث : ما أشار إليه بقوله : «وعدم وجود المتيقن منها» وتوضيحه : أنه ـ بعد تسليم العلم بنصب الطرق وتسليم بقائها إلى زماننا هذا ولزوم رعايتها ـ لا نسلّم لزوم رعايتها مطلقا حتى المظنون الاعتبار منها ، لإمكان وجود ما هو متيقن

٦٢٧

.................................................................................................

______________________________________________________

الاعتبار فيها ، فيجب مراعاته فقط كالخبر الصحيح أو الموثوق صدوره ، ومع وجود المتيقن الاعتبار لا تصل النوبة إلى حجية المظنون الاعتبار من تلك الطرق الا مع عدم كفايته بمعظم الفقه ، فيتنزل إلى المظنون الاعتبار بالإضافة كالخبر الحسن بالنسبة إلى الصحيح وهكذا.

قال الشيخ : «وثالثا سلمنا نصب الطريق ووجوده في جملة ما بأيدينا من الطرق الظنية ، إلّا أن اللازم من ذلك هو الأخذ بما هو المتيقن من هذه ، فان وفي بغالب الأحكام اقتصر عليه ، وإلّا فالمتيقن من الباقي ، فلا معنى لتعيين الطريق بالظن بعد وجود القدر المتيقن ووجوب الرجوع في المشكوك إلى أصالة حرمة العمل ... إلخ».

الرابع : ما أفاده بقوله : «ان قضية ذلك» وتوضيحه : أن مقتضى العلم الإجمالي المزبور بنصب الطرق ـ بعد تسليمه ، وتسليم بقاء تلك الطرق ، وعدم وجود القدر المتيقن منها ـ هو الاحتياط في أطراف هذا العلم الإجمالي من الطرق المعلومة إجمالا ، فكل شيء يحتمل أن يكون طريقا من مظنون الطريقية ومشكوكها وموهومها يؤخذ به ، كسائر العلوم الإجمالية المنجزة المقتضية للزوم الاحتياط عقلا بين جميع الأطراف ، بلا فرق بين ما يظن انطباق المعلوم بالإجمال عليه وغيره ، وعليه فلا تصل النوبة إلى تعيين الطرق بالظن حتى يختص الظن الانسدادي بما إذا تعلق بالطريق دون الواقع ، لما عرفت في بيان المراتب الأربع للامتثال من تقدم الامتثال العلمي الإجمالي على الظني.

قال الشيخ الأعظم : «ورابعا : سلمنا عدم وجود القدر المتيقن ، لكن اللازم من ذلك وجوب الاحتياط ، لأنه مقدم على العمل بالظن ، لما عرفت من تقديم الامتثال العلمي على الظن ... إلخ».

٦٢٨

أن (١) قضية ذلك (٢) هو الاحتياط في أطراف هذه الطرق المعلومة بالإجمال ، لا تعيينها بالظن.

لا يقال (٣) : الفرض هو عدم وجوب الاحتياط بل عدم جوازه ، لأن (٤) الفرض انما هو عدم وجوب الاحتياط التام في أطراف

______________________________________________________

(١) مبتدأ مؤخر لقوله : «وفيه» وهذا هو الجواب الأصلي ، وقد عرفت توضيحه آنفا.

(٢) أي : أن مقتضى تعذر تحصيل العلم بكل من الواقع والطريق ليس هو التنزل إلى الظن بالطريق ، كما أفاده الفصول ، بل مقتضاه الاحتياط في كل ما يحتمل كونه طريقا إلى الواقع.

(٣) هذا إشكال على الوجه الرابع وهو وجوب الاحتياط في الطرق المعلومة إجمالا ، وتوضيحه : أن الاحتياط في تلك الطرق يستلزم الاختلال المبطل له أو العسر الرافع لوجوبه ، وعليه فلا يجوز أو لا يجب الاحتياط في الطرق المعلومة إجمالا ، بل يتعين العمل بالظن بما هو طريق كما أفاده صاحب الفصول. وهذا الإيراد ذكره شيخنا الأعظم من غير تعرض لجوابه ، إلّا أنه أمر بالتأمل فيه ، قال (قده) : «اللهم إلّا أن يقال : انه يلزم الحرج من الاحتياط في موارد جريان الاحتياط في نفس المسألة كالشك في الجزئية ، وفي موارد الاستصحابات المثبتة للتكليف والنافية له ... إلخ».

(٤) هذا جواب الإشكال المزبور ، وتوضيحه : أن الاحتياط المخل بالنظام أو الموجب للعسر هو الاحتياط التام أعني الاحتياط في جميع أطراف العلم الإجمالي الكبير ، لانتشار أطرافه في الوقائع المظنونة والمشكوكة والموهومة ، والاحتياط فيها مخل بالنظام أو ملق في العسر ، بخلاف الاحتياط في أطراف

٦٢٩

الأحكام مما يوجب العسر المخل بالنظام ، لا الاحتياط (١) في خصوص ما بأيدينا من الطرق ، فان (٢) قضية هذا الاحتياط هو جواز رفع اليد عنه في غير مواردها ، والرجوع (٣) إلى الأصل فيها ولو كان نافيا للتكليف.

وكذا فيما إذا نهض الكل (٤) على نفيه.

______________________________________________________

العلم الإجمالي الصغير وهو العلم بنصب الطرق ، فانه لا يوجب اختلالا ولا حرجا على المحتاط فيها ، لقلة أطراف العلم بالطرق ، هذا. وقد استشهد المصنف ـ لبيان عدم لزوم الاختلال أو العسر والحرج من الاحتياط في أطراف هذا العلم الإجمالي الصغير ـ بموارد عديدة يجوز فيها رفع اليد عن هذا الاحتياط ، وسيأتي بيانها.

(١) معطوف على «الاحتياط التام».

(٢) تعليل لنفي عدم وجوب الاحتياط أي : لثبوته في خصوص الطرق ، يعني : فان مقتضى الاحتياط في الطرق هو جواز رفع اليد عن الاحتياط في غير موارد الطرق وهو نفس الأحكام.

(٣) عطف على «جواز» أي : الرجوع إلى الأصل في نفس الأحكام ولو كان الأصل نافيا ، وهذا شروع في بيان تلك الموارد ، فالأوّل منها : أنه إذا احتمل التكليف في مورد ولم يكن من موارد الطرق ، فبما أنه يكون حينئذ من أطراف العلم الإجمالي الكبير لا يجب فيه الاحتياط ، وليس من أطراف العلم الإجمالي بالطرق حتى يجب فيه الاحتياط بمقتضى العلم الإجمالي بنصب الطرق ، بل مقتضى القاعدة حينئذ الرجوع إلى الأصل وان كان نافيا.

(٤) أي : نهض كل ما هو من أطراف العلم الإجمالي بالطرق على نفى

٦٣٠

وكذا (١) فيما إذا تعارض فردان من بعض الأطراف فيه نفيا وإثباتا (٢)

______________________________________________________

التكليف ، وهذا هو المورد الثاني ، وتوضيحه : أنه إذا دلّ جميع ما احتملت طريقيته على نفي التكليف في مورد ، كما إذا فرض قيام خبر الثقة والإجماع المنقول والشهرة وغيرها مما يحتمل كونه طريقا على عدم حرمة شرب التتن مثلا ، فانه يرفع اليد عن الاحتياط هنا أيضا من ناحية هذا العلم الإجمالي الصغير ، لكنه يجب بمقتضى العلم الإجمالي الكبير ، لكون الحكم مشكوكا أو موهوما.

(١) هذا هو المورد الثالث ، توضيحه : أنه إذا تعارض فردان من بعض الطرق ، فان كانا خبرين وكان أحدهما مثبتا والآخر نافيا كما إذا دل أحدهما على وجوب سجدة السهو لكل زيادة ونقيصة ، والآخر على عدمه ، قدّم النافي منهما ان كان أرجح من المثبت أو مساويا له ، ولا مجال حينئذ للاحتياط في الطريق ، لتنافيهما ، فلا بد من رفع اليد عن الاحتياط في العلم الإجمالي الصغير في هذا المورد أيضا ، فيكون خارجا عن الاحتياط الصغير ، وداخلا في الاحتياط الكبير.

وان كان الطريقان المتعارضان من غير الخبر سواء كانا من سنخ واحد كما إذا كانا شهرتين أو إجماعين ، أم من سنخين كأن يكون أحدهما خبرا والآخر إجماعا مثلا ، فانه لا يجب الاحتياط فيهما مطلقا سواء قلنا بالتخيير أم التساقط ، إذ على الأول يؤخذ بالنافي ، وعلى الثاني يسقط كلاهما عن الحجية ، فيكون كما إذا لم يقم مظنون الاعتبار على ثبوت التكليف أصلا.

(٢) كما إذا دل أحد الخبرين على وجوب تثليث التسبيحات الأربع والآخر على عدم وجوبه. وضمير «فيه» راجع إلى الموصول في «فيما» المراد به التكليف.

٦٣١

مع ثبوت المرجح للنافي (١) ، بل (٢) مع عدم رجحان المثبت في خصوص (٣) الخبر منها ، ومطلقا في غيره (٤) بناء (٥)

______________________________________________________

(١) كرجحان خبر العدل الإمامي النافي للتكليف على خبر الإمامي ـ الممدوح بما لا يفيد العدالة المعبر عنه بالحسن ـ المثبت للتكليف.

(٢) اضراب عن قوله : «مع ثبوت» يعني : بل يرجح النافي حتى في صورة انتفاء المرجح للخبر المثبت ، وعليه فالنافي للتكليف يقدم في صورتين : الأولى : ثبوت المرجح له على المثبت كما تقدم في مثال الخبر الصحيح والحسن. الثانية : عدم ثبوت المرجح للمثبت ، أي : تكافؤ الخبرين في المرجحات. ويبقى لتقديم المثبت صورة واحدة فقط وهي ثبوت المرجح له على الخبر النافي.

(٣) قيد لقوله : «مع ثبوت» وغرضه : أن تقديم النافي ـ لرجحانه ـ يكون في خصوص الخبر الّذي ثبت فيه الترجيح بالأخبار العلاجية دون سائر الطرق المتعارضة ، لعدم ثبوت الترجيح فيها ، بل الحكم فيها هو التساقط بناء على الطريقية. وضمير «منها» راجع إلى الأطراف المراد بها الطرق.

(٤) أي : غير الخبر ، يعني : أنه لا يكون مورد تعارض غير الخبر من سائر الطرق من موارد الاحتياط الصغير مطلقا سواء كان لأحدهما ـ من المثبت أو النافي ـ مرجح أم لا بناء على اختصاص الترجيح بالخبرين المتعارضين كما هو مقتضى الاخبار العلاجية. وبالجملة : فالطريقان المتعارضان خارجان عن موارد الاحتياط الصغير وداخلان في الاحتياط الكبير.

(٥) لاختصاص الترجيح المدلول عليه بالأخبار العلاجية بالخبرين المتعارضين ، وعدم شمولها لسائر الطرق المتعارضة.

٦٣٢

على عدم ثبوت الترجيح على تقدير (١) الاعتبار في غير (٢) الاخبار.

وكذا (٣) لو تعارض اثنان منها (٤) في الوجوب والتحريم ، فان المرجع في جميع ما ذكر من موارد التعارض هو الأصل الجاري فيها ولو كان نافيا ، لعدم (٥) نهوض طريق معتبر ، ولا ما هو من أطراف العلم به (٦) على خلافه ، فافهم (٧).

______________________________________________________

(١) أي : على تقدير اعتبار الاخبار العلاجية في مواردها وهو الاخبار المتعارضة وعدم حملها على الاستصحاب كما قيل.

(٢) متعلق بـ «عدم ثبوت» أي : عدم ثبوت الترجيح بالأخبار العلاجية في غير الاخبار المتعارضة.

(٣) أي : وكذا لا يلزم الاحتياط في الطرق ويرجع إلى الأصل ، وهذا هو المورد الرابع ، وحاصله : أنه إذا تعارض طريقان ـ من أطراف العلم الإجمالي بنصب الطريق ـ في الوجوب والحرمة لم يجب فيه الاحتياط ، لعدم إمكانه حيث يدور الأمر بين المحذورين.

(٤) أي : من أطراف العلم الإجمالي بنصب الطرق.

(٥) تعليل لمرجعية الأصل في موارد تعارض الخبرين وعدم وجوب الاحتياط فيها.

(٦) أي : بطريق معتبر ، يعني : لعدم وجود طريق معتبر من غير أطراف العلم الإجمالي على خلاف هذا الأصل النافي.

(٧) لعله إشارة إلى : أن الاحتياط في دوران الأمر بين المحذورين متعذر مطلقا ، فلا يختص عدم إمكانه بتعارض الطريقين ، فهذا المورد خارج عن موارد

٦٣٣

وكذا (١) كل مورد لم يجر فيه الأصل المثبت ، للعلم (٢) بانتقاض الحالة السابقة فيه (*) إجمالا بسبب العلم به أو بقيام أمارة معتبرة عليه (٣)

______________________________________________________

رفع اليد عن الاحتياط في العلم الإجمالي بنصب الطرق. أو إشارة إلى : أن خروج هذه الموارد عن الاحتياط لا يكفي في الاحتياط في باقي الأطراف إذا لم يلزم حرج منه.

(١) عطف على «وكذا» المتقدم وهو إشارة إلى الموارد الخامس ، وتوضيحه : أن المورد الّذي لا يجري فيه الاستصحاب المثبت للتكليف ـ لأجل العلم الإجمالي بانتقاض الحالة السابقة في بعض أطرافه ، أو لأجل قيام حجة قطعية الاعتبار على الانتقاض المزبور للزوم التناقض بين صدر الدليل وذيله كما تقدم في شرح المقدمة الرابعة بقوله : «ولو قيل بعدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي لاستلزام شمول دليله لها التناقض في مدلوله ... إلخ» ـ خارج أيضا عن الاحتياط في الطرق وداخل في الاحتياط الكلي ، لكونه أصلا عقليا لا ينافيه العلم بالخلاف.

(٢) متعلق بـ «لم يجر» وضمير «فيه» راجع إلى كل مورد.

(٣) أي : على الانتقاض ، كقيام البينة على انتقاض الحالة السابقة في بعض أطراف العلم الإجمالي ، وقوله : «بسبب» متعلق بـ «بانتقاض» وضمير «به» راجع إلى الانتقاض ، وضمير «أطرافه» راجع إلى «كل مورد».

__________________

(*) هذه الجملة مستدركة ، للاستغناء عنها بقوله : «بسبب العلم به أو بقيام» فكان الأولى برعاية الاختصار أن يقول : «لانتقاض الحالة السابقة إجمالا بعلم وجداني أو بأمارة معتبرة ... إلخ».

٦٣٤

في بعض أطرافه (*) بناء (١) على عدم جريانه بذلك.

وثانيا (٢):

______________________________________________________

(١) قيد لـ «لم يجر» يعني : أن عدم جريان الاستصحاب ـ بعد العلم بالانتقاض إجمالا ـ مبني على عدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي ، وإلّا فلا تصل النوبة إلى الأصل النافي ، بل يؤخذ بالاستصحاب المثبت للتكليف ، فقوله : «بذلك» أي بالعلم بالانتقاض.

(٢) هذا هو الجواب الثاني عما أفاده صاحب الفصول ، وتوضيحه : أنه ـ بعد تسليم اقتضاء الوجه الّذي أفاده صاحب الفصول للتنزل في باب الطرق إلى الظن ـ نقول : ان هنا ظنونا ثلاثة :

الأول : الظن بالطريق فقط كالظن بحجية الخبر الواحد.

الثاني : الظن بالواقع فقط كالظن بحرمة شيء من دون الظن بقيام طريق ـ معتبر واصل إلى المكلف ـ عليه ، وان كان الظن بالواقع كالظن بحرمة العصير العنبي لا بد من حصوله من طريق معين ، ولكن لم يصل هذا الطريق إلى

__________________

(*) اقتصر المصنف على بيان هذه الموارد الخمسة ، وهناك موردان آخران لا بأس بذكرهما :

الأول : محتمل التكليف الّذي يعلم بعدم قيام طريق على ثبوته ، فانه خارج أيضا عن الاحتياط الصغير ، إذ مورده محتمل الطريقية ، والمفروض عدم احتمال طريق حتى يحتاط فيه.

الثاني : ما إذا قام واحد من الطرق أو أزيد على نفي الحكم ، ولم يعلم وجود حجة ولا أصل مثبت في البين ، فانه لا مجال للاحتياط الصغير فيه ، لعدم محتمل الطريقية فيه ، لكنه مورد للاحتياط الكلي.

٦٣٥

لو سلم أن قضيته (١) لزوم التنزل إلى الظن ، فتوهم أن الوظيفة حينئذ (٢) هو خصوص الظن بالطريق فاسد قطعا ، وذلك (٣) لعدم كونه أقرب إلى العلم وإصابة الواقع من الظن بكونه (٤) مؤدى طريق (٥) معتبر من دون الظن بحجية طريق (٦)

______________________________________________________

المكلف.

الثالث : الظن بالواقع المظنون كونه مؤدى طريق معتبر من دون قيام ما هو مظنون الطريقية عليه ، كالظن بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال مع الظن بكونه مؤدى طريق معتبر من دون الظن بحجية طريق أصلا. وهذه الظنون الثلاثة في رتبة واحدة ليس أوّلها أولى بالاعتبار من الآخر بالنظر إلى دليل الانسداد ، فليس الظن بالطريق أقرب إلى العلم من الظنين الآخرين حتى يتعين في الحجية. وقد أفاد هذا الجواب شيخنا الأعظم بقوله : «وخامسا : «وخامسا : أن ذلك لا يوجب تعيين العمل بالظن في مسألة تعيين الطريق فقط ، بل هو مجوّز له كما يجوز في المسألة الفرعية ... إلخ».

(١) أي : أن مقتضى ما أفاده صاحب الفصول من حجية الظن بالطريق وعدم وجوب الاحتياط في الطرق هو لزوم التنزل إلى الظن.

(٢) أي : حين لزوم التنزل ـ حال الانسداد ـ إلى الظن.

(٣) بيان لفساد التوهم ، وضمير «كونه» راجع إلى الظن بالطريق.

(٤) أي : بكون الواقع ، و «من دون» متعلق بـ «الظن بكونه».

(٥) هذا ثالث الظنون الثلاثة المزبورة.

(٦) أي : طريق خاص ، كما إذا علمنا إجمالا بأن الواقع مؤدى طريق معتبر ، ولكن لم نعلم ولم نظن خصوصية ذلك الطريق من كونه خبرا أو شهرة ونحوهما.

٦٣٦

أصلا ومن الظن بالواقع (١) كما لا يخفى (٢).

لا يقال : انما لا يكون (٣) أقرب من الظن بالواقع إذا لم يصرف التكليف الفعلي عنه (٤) إلى مؤديات الطرق ولو بنحو التقييد (٥) (*)

______________________________________________________

(١) معطوف على قوله : «من الظن بكونه» وهذا ثاني الظنون المذكورة.

(٢) فغاية ما يقتضيه البرهان المذكور لحجية الظن بالطريق هو كونه في مرتبة الظن بالواقع ، فكيف يقدم عليه؟

(٣) أي : الظن بالطريق أقرب إلى الواقع من الظن بالواقع ، وغرض صاحب الفصول من هذا الإشكال ـ على ما استظهره شيخنا الأعظم من عبارته كما سيأتي ـ إثبات أقربية الظن بالطريق من غيره وتعينه في مقام الحجية دون سائر الظنون ، وحاصله : أن عدم أقربية الظن بالطريق من الظنين المذكورين انما هو فيما إذا لم نقل بصرف الواقع إلى المؤدى ، وأما مع صرفه إليه فالمتبع هو مؤديات الطرق ، إذ ليس غيرها أحكاما فعلية ، فالظن بالواقع فقط غير مجد ، إلّا إذا كان الواقع مؤدى الطريق ، لعدم تعلقه بالحكم الفعلي ، إذ المفروض عدم كون الواقع فعليا.

قال شيخنا الأعظم : «وكأن المستدل توهم أن مجرد نصب الطريق ولو مع عروض الاشتباه فيه موجب لصرف التكليف عن الواقع إلى العمل بمؤدى الطريق كما ينبئ عنه قوله : وحاصل القطعين إلى أمر واحد وهو التكليف الفعلي بالعمل بمؤديات الطرق ... إلخ».

(٤) أي : عن الواقع.

(٥) يعني : ولو كان الصرف بنحو التقييد ، فان صرف التكليف الفعلي عن

__________________

(*) لا يخفى أن مقتضى صرف الواقعيات إلى مؤديات الطرق هو حجية

٦٣٧

.................................................................................................

______________________________________________________

الواقع على وجهين :

أحدهما : صرفه عنه لا بنحو التقييد ، والمراد به صرف التكليف الفعلي عن الواقع إلى مؤدى الطريق مطلقا ـ يعني بلا تقييد كون هذا المؤدى هو الواقع ـ فيكون المنجز في حق المكلف هو مؤدى الطريق سواء صادف الواقع أم لا.

ثانيهما : صرفه عنه بنحو التقييد ، والمراد به صرف التكليف الفعلي عن الواقع ـ بما هو واقع ـ إلى الواقع المقيد بكونه مؤدى الطريق ، فيكون المنجز في حق المكلف هو الواقع الّذي أدى إليه الطريق ، لا الواقع بما هو واقع.

والفرق بين الوجهين : أنه على الأول لا يوجد في الواقع ـ بالنسبة إلى من لم يصل إليه الطريق ـ حكم أصلا يعني لا بمرتبته الاقتضائية ولا الإنشائية ولا الفعلية ولا التنجز ، وعلى الثاني يوجد الحكم بمرتبته الإنشائية في حق من وصل إليه الطريق ومن لم يصل إليه ، ويصير في حق من وصل إليه الطريق فعليا ومنجزا أيضا. وعلى كلا الوجهين لا يكون الظن بالحكم الواقعي بما هو حكم واقعي حجة ، إذ ليس في الواقع حكم فعلي حتى يكون الظن به ظنا بالحكم الفعلي ليكون حجة ، وانما الحجة هو الظن بمؤدى الطريق مطلقا أو مقيدا به الواقع.

وبالجملة : فمع صرف التكليف الفعلي عن الواقع إلى مؤدى الطريق مطلقا أو إلى الواقع المقيد بكونه مؤدى الطريق يكون الظن بالطريق أقرب إلى الواقع من الظن بنفس الواقع ، فلا بد من الالتزام به.

__________________

الظن بالطريق ، والظن بالواقع الّذي ظن بأنه مؤدى طريق معتبر.

ثم انه لا بأس ببيان الوجوه المتصورة في جعل الأحكام ونصب الطرق عليها وهي أقسام :

٦٣٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

أحدها : أن يدور الحكم الواقعي مدار العلم أو الظن به بمعنى أن لا يكون قبلهما حكم ، وانما يحدث بالعلم أو الظن به ، والمشهور أنه محال ، لاستلزامه الدور ، لتوقف الحكم عليهما توقف الحكم على موضوعه ، وتوقفهما عليه توقف العارض على معروضه. وقد نوقش فيه بعدم لزوم الدور ، حيث ان متعلق العلم هو ماهية الحكم لا وجوده ، لامتناع تقوم العلم بأمر خارج عن أفق النّفس ، والحكم المترتب على العلم هو وجوده خارجا. وبعبارة أخرى : متعلق العلم هي الصور الذهنية ، لا الأمور الخارجية بشهادة إمكان تعلقه بالمعدومات بل الممتنعات. وعليه فترتب الحكم خارجا على العلم لا يوجب الدور ، إذ المفروض عدم توقف العلم على الحكم الخارجي.

لكنه يندفع بأن المراد بالحكم هو الأمر الاعتباري الّذي تكوينه إنشاؤه ممن بيده الاعتبار ، والحكم بهذا المعنى متقدم على العلم معروضا ومتأخر عنه طبعا تأخر كل حكم عن موضوعه ، وليس هذا إلّا الدور ، لتوقف العلم عليه ، إذ بدون تشريعه لا يكون المعلوم حكما ، والمفروض أن هذا الحكم أيضا مترتب على العلم المأخوذ موضوعا له.

ومن هذا البيان يظهر لزوم الخلف أيضا ، لأن الحكم المعروض للعلم لا بد أن يكون ثابتا لموضوعه المستقل في الموضوعية قبل تعلق العلم به ، فدخل العلم فيه خلف. فالمتحصل : أنه لا دافع للدور.

ثانيها : أن يكون في الواقع أحكام قبل قيام الأمارات عليها مطابقة لمؤدياتها سنخا وعددا ، حيث انه سبحانه وتعالى يعلم بتحقق آراء فيما بعد ، فيجعل أحكاما

٦٣٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

على طبقها قبل تحققها ، وهذا هو التصويب الّذي يقال انه قام الإجماع والاخبار المتواترة على خلافه.

والفرق بين هذين القسمين ـ بعد اشتراكهما في ترتب الأحكام الواقعية على تلك الآراء بالطبع والعلية ، إذ المفروض تبعية جعل الأحكام لتلك الآراء في القسم الثاني أيضا وان كان جعلها قبل الآراء زمانا ، لكنها متأخرة عنها طبعا ـ هو : أن جعل الأحكام مترتبة على الآراء يكون في هذا القسم على نحو القضية الحقيقية ، وفي القسم الأول على نحو القضية الخارجية ، حيث ان الحكم فيه ينشأ بعد أداء رأي المجتهد إليه ، فتوقف الحكم على العلم أو الظن به هناك من قبيل توقف المشروط على شرطه ، وتوقفه عليهما هنا من قبيل توقف العارض على معروضه.

ثالثها : أن يكون للأحكام ثبوت واقعي من دون توقفها على علم أو ظن أصلا ، لكن فعليتها منوطة بقيام الطرق عليها ، وهو يتصور على وجهين :

أحدهما : أن تصرف تلك الأحكام إلى مؤديات الطرق بحيث لو قام طريق على خلافها لسقطت عن الفعلية ، فالفرق بينه وبين القسم الثاني أن الحكم هناك لم يجعل على خلاف مؤدى الطريق ، بخلافه هنا ، إذ الحكم فيه جعل على خلافه لكنه بقيام الطريق على خلافه سقط من أصله ، لكون مؤدى الطريق ذا مصلحة غالبة على مصلحة الحكم الواقعي ، وسقوط المصلحة المغلوبة يقتضي سقوط مقتضاها وهو الحكم الواقعي. فالقسم الثاني تصويب حدوثا ، وهذا الوجه تصويب بقاء.

٦٤٠