منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٤

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة دار الكتاب ( الجزائري ) للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٧١

المفسدة والمصلحة ، ولا الكراهة والإرادة كما لا يخفى. وأما تفويت (١) مصلحة الواقع ، أو الإلقاء في مفسدته (٢) فلا محذور فيه أصلا إذا كانت في التعبد به (٣) مصلحة غالبة (*) على مفسدة التفويت أو الإلقاء. نعم (٤)

______________________________________________________

(١) هذا بيان لمنع الكبرى ـ وهي ما أشار إليه بقوله : «أو غير باطل» ـ وتوضيحه : أن تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة وان كان يلزم في التعبد بالأمارة عند مخالفتها للواقع ، إلّا أنه لا محذور فيه ، ولا يكون باطلا ، لأنه مع وجود المصلحة في التعبد بالأمارة يتدارك المصلحة الواقعية الفائتة ، أو المفسدة الملقى فيها. نعم إذا لم يكن في التعبد بالأمارات مصلحة يتدارك بها المصلحة الفائتة أو المفسدة الملقى فيها كان المحذور المتقدم لازماً.

(٢) أي : مفسدة الواقع ، كما إذا أدت الأمارة إلى حلية شرب التتن مع فرض حرمته واقعاً ، وضمير «فيه» راجع إلى ما ذكر من التفويت أو الإلقاء.

(٣) أي : بالطريق غير العلمي.

(٤) استدراك على ما ذكره في الجواب عن الإشكال الأول والثاني من عدم لزوم المحذور الخطابي والملاكي ، والمقصود من هذا الاستدراك الإشكال ثانياً على وقوع التعبد بالأمارات غير العلمية بلزوم محذور اجتماع حكمين

__________________

(*) ظاهر العبارة اعتبار غلبة مصلحة اعتبار الأمارة على الواقع في صحة التعبد بها ، لكن التحقيق عدم اعتبارها وكفاية التساوي ، لارتفاع المحذور به أيضا.

إلّا أن يقال : ان ذلك المحذور وان كان يرتفع بالتعبد بالأمارة ، لكن مجرده لا يكفي في التعبد بها ويلغو تشريع الحجية لها حينئذ ، بل لا بد من ملاك آخر مضافاً إلى جبر ما يفوت من المصلحة أو يقع فيه من المفسدة.

٢٢١

.................................................................................................

______________________________________________________

مثلين أو ضدين أيضا ، وهذا الإشكال مبني على أحد قولين ، وتوضيحه : أن في باب حجية الأمارات غير العلمية قولين آخرين :

أولهما : أن الحجية التي هي من الأحكام الوضعيّة وان كانت قابلة للجعل بنفسها ، لكنها مستتبعة لأحكام تكليفية كوجوب العمل بمؤدى الأمارة.

ثانيهما : أن الحجية غير مجعولة بنفسها ولكنها مجعولة بتبع جعل منشأ انتزاعها أعني الأحكام التكليفية ، وهو وجوب العمل كما عليه شيخنا الأعظم ، فالحجية نظير الملكية في انتزاعها من جواز تصرف المالك في ماله وعدم جواز تصرف غيره فيه بدون اذنه ، وكانتزاع الزوجية من جواز الاستمتاع ووجوب الإنفاق وغيرهما من أحكامها ، فحجية الأمارات منتزعة من جعل الشارع المؤدى هو الواقع ، كما يظهر من قول الشيخ في الانسداد في رد الوجه الثاني من أدلة صاحب الحاشية على حجية الظن بالطريق : «فيه : أن تفريغ الذّمّة عما اشتغلت به اما بفعل نفس ما أراده الشارع في ضمن الأوامر الواقعية ، واما بفعل ما حكم حكماً جعلياً بأنه نفس المراد ، وهو مضمون الطرق المجعولة».

وبناء على كل من هذين القولين يلزم اجتماع الحكمين المثلين أو الضدين ، وذلك لأن الأمارة غير العلمية إذا قامت على وجوب صلاة الجمعة مثلا وفرض وجوبها واقعاً اجتمع فيها وجوبان أحدهما وجوبها واقعاً ، وثانيهما وجوب مؤدى الطريق ، ومن المعلوم أن اجتماع المثلين ممتنع كاجتماع الضدين فيما إذا فرض عدم وجوبها واقعاً ، فلا يمكن التعبد بالطريق غير العلمي حذراً عن المحاذير المتقدمة.

وقد دفع المصنف هذا الإشكال بما محصله : أن الحكم على قسمين :

٢٢٢

لو قيل باستتباع (١) جعل الحجية للأحكام التكليفية أو بأنه (٢) لا معنى لجعلها

______________________________________________________

الأول : حقيقي ناشٍ عن مصلحة أو مفسدة في متعلقه بناءً على مذهب مشهور العدلية من تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في المتعلقات.

الثاني : طريقي ناشٍ عن مصلحة في نفسه لا في متعلقه كالأوامر الامتحانية في عدم وجود مصلحة في متعلقاتها. وحينئذ فحيث ان الأمر الطريقي غير كاشف عن مصلحة في متعلقه ولا عن إرادة له ، بل المصلحة في جعل نفس الطريقية للأمارة ، والحكم الحقيقي كاشف عن المصلحة والمفسدة والإرادة والكراهة في نفس متعلقه لم يلزم اجتماع حكمين مثلين أو ضدين في مورد واحد ، إذ المفروض أنه ليس في مورد الأمارات حكم حقيقي كاشف عن مصلحة أو مفسدة وإرادة أو كراهة حتى يلزم اجتماع في الخطابين والملاكين ، بل المصلحة أو المفسدة وكذا الإرادة أو الكراهة منحصرة في الحكم الواقعي.

وبالجملة : فلا يلزم محذور اجتماع المثلين أو الضدين في شيء من الخطاب والملاك على كلا القولين في باب حجية الأمارات غير العلمية ـ أي القول بأن المجعول في بابها هو خصوص الحكم الوضعي أعني الحجية دون الحكم التكليفي ، والقول بأن المجعول فيه هو الحكم التكليفي الطريقي ، غاية الأمر أنه حينئذ يلزم اجتماع حكمين حقيقي وطريقي ، ولا محذور فيه ، لكونهما نوعين مختلفين ، والممتنع انما هو اجتماع فردين من نوع واحد كاجتماع الوجوبين الحقيقيّين أو الطريقيين أو الفعليين أو الإنشائيين ، هذا ملخص ما أفاده المصنف.

(١) إشارة إلى أحد القولين في باب حجية الأمارات اللذين بنى عليهما إشكال اجتماع الحكمين ، وقد تقدم توضيحه بقولنا : «أولهما أن الحجية ... إلخ».

(٢) هذا إشارة إلى ثاني القولين اللذين بنى عليهما إشكال الاجتماع ، وقد تقدم توضيحه بقولنا : «الثاني أن الحجية ... إلخ». ويبتني هذا القول على إنكار

٢٢٣

إلّا جعل تلك الأحكام ، فاجتماع حكمين وان كان يلزم ، إلّا (١) أنهما ليسا بمثلين أو ضدين ، لأن أحدهما طريقي (٢) عن مصلحة في نفسه (٣) موجبة لإنشائه الموجب (٤) للتنجز أو لصحة (٥) الاعتذار بمجرده (*) من دون

______________________________________________________

الجعل في الوضعيات والالتزام بانتزاعها من الأحكام التكليفية.

(١) هذا شروع في الجواب عن إشكال الاجتماع ، وقد تقدم توضيحه بقولنا : «وقد دفع المصنف هذا الإشكال بما محصله ... إلخ».

(٢) وتسميته هنا بالطريقي لكونه متعلقاً بما هو محرز للواقع وطريق إليه ، فالمراد بالحكم الطريقي هو الإنشاء بداعي تنجيز الواقع لا بداعي البعث الجدي. وان شئت فقل : ان الغرض من إنشائه جعل المنجز ، وهو غير الغرض القائم بنفس الحكم الواقعي من المصلحة والمفسدة.

(٣) أي : في نفس هذا الحكم الطريقي في قبال مصلحة المؤدى ، وقوله : «عن مصلحة» متعلق بمحذوف أي : ناش عن مصلحة في نفس هذا الطريق موجبة لإنشائه الموجب هذا الإنشاء لمجرد التنجز عند الإصابة ولمجرد صحة الاعتذار عند الخطاء من دون إرادة ... إلخ ، و «موجبة» صفة لمصلحة ، وضمير «لإنشائه» راجع إلى الحكم الطريقي.

(٤) صفة لـ «إنشائه» يعني : أنه لا يترتب على هذا الإنشاء الا تنجز الواقع أو صحة الاعتذار.

(٥) معطوف على «للتنجز» وضمير «بمجرده» راجع إلى كل من التنجز والاعتذار كما تقدم توضيحه ، و «من دون» تفسير لـ «مجرده».

__________________

(*) لا يخفى عدم استقامة العبارة ، لأن الإنشاء بنفسه ليس موجباً للتنجز ، بل الموجب له هو العلم بهذا الإنشاء ، فالطريق غير الواصل إلى المكلف ليس

٢٢٤

إرادة نفسانية أو كراهة كذلك (١) متعلقة (٢) بمتعلقه فيما (٣) يمكن هناك انقداحهما ، حيث (٤) انه مع المصلحة أو المفسدة الملزمتين في فعل

______________________________________________________

(١) أي : نفسانية. وبالجملة : الإرادة والكراهة والمصلحة والمفسدة مختصة بالحكم الحقيقي دون الطريقي الّذي منه حجية الأمارات.

(٢) صفة لـ «إرادة أو كراهة» يعني : أن جعل الحجية للأمارة لا يوجب إرادة ولا كراهة بالنسبة إلى متعلق الطريق وهو المؤدى ، فجعل الحجية لخبر الواحد الدال على وجوب صلاة الجمعة لا يوجب تعلق كراهة أو إرادة بنفس الوجوب.

(٣) متعلق بـ «من دون» أي : أن عدم حدوث الإرادة والكراهة انما هو فيما يمكن حصولهما.

(٤) تعليل لما ذكره بقوله : «فيما يمكن» وضمير «انه» للشأن ، وغرضه : أن الإرادة والكراهة مفقودتان في الحكم الطريقي ، وانما تتحققان في الحكم الحقيقي ، فإذا قامت الأمارة على وجوب صلاة الجمعة ، فهذا الوجوب يدل على تعلق إرادة بها ناشئة عن مصلحة في نفس الصلاة ، ولكن هذه الإرادة لا تتحقق في ذات الباري تعالى شأنه ، لتوقفها على مقدمات من خطور الشيء بالبال وتصور نفعه وميل النّفس إليه وغيرها من مبادئ الإرادة الممتنعة في حقه تعالى شأنه. نعم تحصل الإرادة والكراهة في الحكم الحقيقي في المبادئ العالية ، وهي النّفس المقدسة النبوية والولويّة صلوات الله وسلامه عليهما وآلهما الطاهرين ، فانه تتحقق الإرادة والكراهة فيهما ، وتترتبان على المصلحة والمفسدة الثابتتين في المتعلقات.

__________________

منجزاً للواقع كالطريق الواصل الّذي لم يعلم التعبد به شرعاً أو عقلاً كما سيأتي ، فحق العبارة أن تكون هكذا : «موجبة لإنشائه الّذي يوجب العلم به تنجز الواقع عند الإصابة ، والعذر عند الخطأ».

٢٢٥

وان لم يحدث بسببها إرادة أو كراهة في المبدأ الأعلى (١) ، إلّا أنه تعالى إذا أوحى بالحكم الشأني [الإنشائي] من قبل تلك المصلحة أو المفسدة إلى النبي أو ألهم به (٢) الولي فلا محالة ينقدح في نفسه الشريفة بسببهما (٣) الإرادة أو الكراهة (٤) الموجبة للإنشاء بعثاً أو زجراً ، بخلاف (٥).

______________________________________________________

(١) لعدم كونه تعالى محلا الحوادث.

(٢) أي : ألهم بالحكم الشأني ، والمراد بالشأني المعبر عنه بالإنشائي أيضا هو المرتبة الثانية من مراتب الحكم عند المصنف.

(٣) أي : بسبب المصلحة أو المفسدة.

(٤) حيث ان الإرادة ان كانت هي الشوق المؤكد كما قيل

عقيب داع دركنا الملائما

شوقاً مؤكداً إرادة سما

فهي ممتنعة في حقه تبارك وتعالى. وان كانت عبارة عن العلم بالنفع ، كما هو المنسوب إلى كثير من المعتزلة ، وظاهر عبارة المحقق الطوسي (قده) في التجريد في الكيفيات النفسانيّة حيث قال فيها : «وهما ـ أي الإرادة والكراهة ـ نوعان من العلم» فليست ممتنعة في الباري تعالى شأنه ، وظاهر عبارة المصنف (ره) هنا : أن الإرادة هو العلم بالنفع والصلاح ، والكراهة هو العلم بالضرر والفساد دون الشوق المؤكد ، ولذا نفي حدوثهما عن المبدأ الأعلى تعالى بقوله قبل أسطر : «وان لم يحدث بسببهما إرادة أو كراهة في المبدأ الأعلى» وأثبت العلم المذكور له تعالى بقوله فيما سيأتي : «وان لم يكن في المبدأ الأعلى إلّا العلم بالمصلحة أو المفسدة».

(٥) متعلق بقوله قبل أسطر : «حيث انه مع المصلحة والمفسدة» فكأنه قيل : «ان الإرادة والكراهة تحدثان في نفس النبي والولي عند وجود المصلحة

٢٢٦

ما ليس هناك (١) مصلحة أو [و] مفسدة في المتعلق ، بل انما كانت في نفس إنشاء الأمر به (٢) طريقياً. والآخر (٣) واقعي حقيقي عن (٤) مصلحة أو مفسدة في متعلقه موجبة (٥) لإرادته أو كراهته الموجبة لإنشائه (٦) بعثاً أو زجراً في بعض (٧) المبادي العالية وان لم يكن في المبدأ الأعلى إلّا العلم بالمصلحة أو المفسدة كما أشرنا (٨) ، فلا يلزم (٩)

______________________________________________________

والمفسدة في المتعلق ، ولا تحدثان إذا لم توجد المصلحة والمفسدة في المتعلق.

(١) أي : في الواقع ونفس الأمر ، كما في الحكم الطريقي المجعول في الأمارات.

(٢) أي : بالطريق طريقياً ، فمرجع الضمير حكمي ، والأولى تبديل الأمر بالوجوب أو الحكم ، لأن الأمر آلة للإنشاء ، وليس هو المنشأ ، والأمر سهل.

(٣) معطوف على قوله قبل أسطر : «لأن أحدهما طريقي».

(٤) أي : ناش عن مصلحة أو مفسدة في متعلقه ، وهذا هو الحكم حقيقة في مقابل الطريقي الثابت للأمارة.

(٥) صفة لـ «مصلحة أو مفسدة» و «الموجبة» صفة لـ «إرادته أو كراهته»

(٦) هذا الضمير وضمير «متعلقه» راجعان إلى الحكم ، وضميرا «إرادته ، كراهته» راجعان إلى المتعلق.

(٧) متعلق بـ «لإرادته أو كراهته» يعني : أن المصلحة والمفسدة الواقعيتين موجبتان لتحقق الإرادة أو الكراهة في نفس النبي أو الولي صلى الله عليهما وآلهما الطاهرين ، وهما توجبان إنشاء الحكم الوجوبيّ أو التحريمي.

(٨) قبل أسطر حيث قال : «وان لم يحدث بسببها إرادة أو كراهة في المبدأ الأعلى».

(٩) هذا تفريع على ما ذكره بقوله : «لأن أحدهما طريقي ... إلى أن قال :

٢٢٧

أيضا (١) اجتماع إرادة وكراهة ، وانما لزم (٢) إنشاء حكم واقعي حقيقي بعثاً أو [و] زجراً ، وإنشاء حكم آخر طريقي ، ولا مضادة بين الإنشاءين (٣) فيما إذا اختلفا (٤) ولا يكون من اجتماع المثلين المستحيل فيما اتفقا (٥) ولا إرادة (٦) ولا كراهة أصلا إلّا بالنسبة إلى متعلق الحكم الواقعي (٧) ،

______________________________________________________

والآخر واقعي حقيقي» فلا يلزم الاجتماع المذكور أي المحذور الملاكي والخطابي.

(١) أي : كما لا يلزم اجتماع الإرادة والكراهة في شيء واحد بناء على الجواب الأول المذكور بقوله : «لأن التعبد بطريق غير علمي انما هو بجعل حجيته ... إلخ».

(٢) الأولى أن يقال : «وانما يلزم» ، لكونه معطوفاً على «فلا يلزم».

(٣) وهما إنشاء الحكم الواقعي وإنشاء الحكم الآخر الطريقي.

(٤) أي : الحكمان ، بأن كان الحكم الواقعي الحرمة ، والطريقي الوجوب ، فانه لا بأس باجتماعهما ، لاختلافهما سنخاً.

(٥) بأن كان كل من الحكم الواقعي والطريقي الوجوب ، فانه ليس من اجتماع المثلين المستحيل ، لاختلاف الحكمين سنخاً.

(٦) عطف على «ولا مضادة» أي : ولا إرادة ولا كراهة بالنسبة إلى الحكم الطريقي ، وانما هما ثابتتان بالنسبة إلى متعلق الحكم الواقعي فقط.

(٧) لأنه الحكم النفسيّ التابع المصلحة والمفسدة المستتبعتين للإرادة والكراهة. بخلاف الحكم الصوري الّذي منه الطريقي ، فانه في نفسه فاقد للمصلحة والمفسدة المستتبعتين للإرادة والكراهة المتوقفتين على مبادئ خاصة كما عرفت.

٢٢٨

فافهم (١).

نعم (٢) يشكل الأمر في بعض الأصول العملية كأصالة الإباحة

______________________________________________________

(١) لعله إشارة إلى : أن ظاهر ما تقدم في دفع غائلة الاجتماع المذكور بقاء الحكم الواقعي على الفعلية الحتمية المستلزمة لانقداح الإرادة والكراهة في صورتي إصابة الأمارة وخطائها ، وحينئذ يقع الإشكال في أنه كيف يسوغ الاذن في خلافه ، فان الحكم الطريقي ان كان هو الإباحة مثلا كان منافياً قطعاً للحرمة أو الوجوب الحقيقي ، فمجرد الالتزام بالحكم الطريقي وان كان يدفع غائلة اجتماع المثلين أو الضدين ، لكنه لا يدفع منافاة الإرادة أو الكراهة للإذن ، لأنه مساوق لعدمهما وان كان صورياً. ولكن سيأتي من المصنف (قده) دفع هذه المنافاة في الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي ، فانتظر.

(٢) هذا استدراك على ما ذكره في دفع غائلة اجتماع الحكمين في الأمارات بجعل أحد الحكمين حقيقياً والآخر طريقياً ، وحاصل الاستدراك : أن ظاهر أدلة بعض الأصول العملية كقوله عليه‌السلام في رواية مسعدة بن صدقة (١) : «كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه» جعل الإباحة الشرعية ، وهي تنافي الحرمة الواقعية ، ويلزم اجتماع المثلين إذا كان الحكم الواقعي هو الإباحة أيضا. وعليه فلا يندفع محذور اجتماع الحكمين المتماثلين أو المتضادين في مثل أصالة الإباحة بما دفع به في حجية الطرق.

ولتوضيحه نقول : ان الإباحة على قسمين :

أحدهما : الإباحة الاقتضائية ، وهي الإباحة الناشئة عن مصلحة في متعلق الإباحة أو نفسها.

ثانيهما : الإباحة اللااقتضائية ، وهي الإباحة الناشئة عن عدم المصلحة والمفسدة

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٤ ، ص ٦٠.

٢٢٩

.................................................................................................

______________________________________________________

في المتعلق ، إذ لو كان فيه إحداهما كان الحكم الوجوب أو الحرمة ان كانت ملزمة ، أو الاستحباب أو الكراهة ان لم تكن ملزمة ، وغالب الإباحات الظاهرية بل تمامها من قبيل الأول ، والإباحات الواقعية من قبيل الثاني ، ولذا تتغير بالعناوين الثانوية كالنذر وأخويه.

إذا عرفت هذين القسمين من الإباحة تعرف لزوم الإشكالات المتقدمة من اجتماع المثلين والضدين في الحكم بالإباحة ظاهراً وان كانت لمصلحة في نفس الإباحة ، غاية الأمر أن محذور الإباحة الناشئة عن عدم المقتضي في المتعلق أكثر من الإباحة الناشئة عن المصلحة في نفس الإباحة ، إذ الإباحة الناشئة عن عدم المصلحة والمفسدة في المتعلق تستلزم اجتماع الضدين في الحكم ، لتضاد الحرمة أو الوجوب للإباحة ، وكذا في مبادئ الحكم من الإرادة والكراهة والمصلحة والمفسدة ، لكشف الإباحة عن عدم الإرادة والكراهة وعن عدم المصلحة والمفسدة. وهذا بخلاف الإباحة الاقتضائية الناشئة عن مصلحة في نفس الإباحة ، فان محذورها أقل من الإباحة اللااقتضائية ، إذ يلزم حينئذ اجتماع الضدين في الحكم والإرادة والكراهة دون المصلحة والمفسدة ، لكشف الإباحة الاقتضائية عن عدمهما ، فإشكال الإباحة الاقتضائية أقل من محذور الإباحة الناشئة عن عدم المصلحة والمفسدة في المأذون فيه. لكن أقلية المحذور لا توجب ارتفاع غائلة اجتماع الضدين.

والحاصل : أن الالتزام بكون الإباحة المجعولة في أصالة الإباحة من الإباحة الناشئة عن مصلحة في نفس الإباحة لا عن عدم المصلحة والمفسدة في المأذون فيه لا يدفع الإشكال وان كان أقل محذوراً من الإباحة الناشئة عن عدم المصلحة والمفسدة في المتعلق.

٢٣٠

الشرعية ، فان الاذن في الإقدام والاقتحام ينافى (١) المنع فعلا كما فيما صادف الحرام وان كان (٢) الاذن فيه لأجل مصلحة فيه (٣) لا لأجل عدم مصلحة أو مفسدة ملزمة في المأذون فيه (٤) ، فلا محيص (٥) في مثله (٦)

______________________________________________________

(١) يعني : فان الاذن في الإقدام بجعل الإباحة الظاهرية ينافي الحرمة الواقعية الفعلية ، وهذه المنافاة لا تختص بالإباحة الظاهرية ، بل هي ثابتة مطلقاً سواء كان الاذن لمصلحة في نفس الإباحة ، أم كان لعدم مصلحة أو مفسدة في المتعلق. نعم محذور المنافاة في الإباحة الاقتضائية أكثر من الإباحة اللااقتضائية ، وذلك لأن التضاد بين الحكم الواقعي ـ وهو الحرمة ـ وبين الإباحة الظاهرية لا يختص بالخطاب ، بل يسري إلى الملاك أيضا ، لوقوع التضاد بين مفسدة الحرمة الواقعية ومصلحة الإباحة الظاهرية.

(٢) إشارة إلى الفرد الخفي من المحذور الموجود في كل من الإباحة الظاهرية والواقعية ، وقد تقدم بقولنا : «نعم محذور المنافاة في ... إلخ».

(٣) هذا الضمير وضمير «فيه» المتقدم راجعان إلى الاذن ، أي الإباحة الظاهرية.

(٤) كما في الإباحة الواقعية.

(٥) هذا هو الجواب الثالث عن محذور اجتماع الحكمين أو طلب الضدين ، وهو جواب عن محذور الاجتماع في جميع الأحكام الظاهرية سواء ثبتت بالأمارة أم بالأصل.

(٦) أي : مثل بعض الأصول ، وأشار بقوله : «في مثله» إلى جريان الوجه ـ الّذي سيذكره في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري ـ في غير أصالة الإباحة ، بل كل حكم ظاهري نفسي سواء كان في الأمارات على القول به ، أم في غيرها كالاستصحاب على ما يظهر منه (قده) في الاستصحاب من التزامه بجعل الحكم

٢٣١

الا عن (*)

______________________________________________________

المماثل وان كان كلامه في الاجزاء «بل واستصحابهما في وجه قوي» يحتمل الخلاف. وكيف كان ، فمحصل مرامه في هذا الجمع هو : إنكار انقداح الإرادة والكراهة في بعض المبادي العالية ، وتوقفه على عدم الاذن لمصلحة فيه ، لما عرفت من أنه على تقدير انقداحهما يلزم اجتماع النقيضين فضلا عن اجتماع الضدين في نفس الحكمين ، لتضاد الإباحة مع الحرمة أو الكراهة ، ومناقضة الإرادة أو الكراهة لعدمهما المنكشف بالإباحة الظاهرية.

وبالجملة : فلا بعث ولا زجر في الحكم الواقعي ولا تنجز له أيضا ، وفعليته ـ أي تنجزه ـ معلقة على قيام الأمارة عليه.

وأما الحكم الظاهري فهو فعلي حتمي ، فيجمع بين الحكم الواقعي والظاهري بأن كلا الحكمين فعلي ، غاية الأمر أن الواقعي فعلي تعليقي ، والظاهري فعلي حتمي ، ولا مضادة بينهما ، لاختلاف رتبتهما.

__________________

(*) الصواب إسقاط «الا» أو «عن» إذ المقصود إثبات الالتزام بعدم انقداح الإرادة والكراهة في بعض المبادئ العالية أيضا ، وأنه مما لا بد منه في دفع الإشكال في بعض الأصول العملية ، وحينئذ فاما أن يقال : «فلا محيص الا الالتزام» يعني : أنه لا مفر من الإشكال المذكور الا الالتزام ، فالالتزام هو الّذي يدفع الإشكال ، وهذا كناية عن ثبوت الالتزام المذكور. أو يقال : «لا محيص عن الالتزام» أي : لا يوجد شيء غير الالتزام يفر من الإشكال المذكور إليه ، بل الالتزام هو الّذي يفر إليه في دفع الإشكال ، وهذا أيضا كناية عن ثبوت هذا الالتزام. وهذا بخلاف ما إذا قلنا : «لا محيص إلّا عن الالتزام» فان المعنى ـ بمقتضى كلمة المجاوزة ـ أن الالتزام هو الّذي يفر منه إلى غيره ، ويرفع اليد عنه ، دون الإشكال ، وأن الإشكال المذكور لا يفر منه ولا يرفع اليد عنه ،

٢٣٢

الالتزام (*) بعدم انقداح الإرادة أو الكراهة في بعض المبادي العالية

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

ومعنى ذلك ثبوت الإشكال وتسليمه ، وهو خلاف المقصود كما لا يخفى.

(*) لا يخفى أن الالتزام بعدم انقداح الإرادة والكراهة اللتين هما من مبادئ الحكم يستلزم كون الحكم اقتضائياً أو إنشائياً محضاً ، إذ لا معنى للفعلية بمعنى التنجز في ظرف العلم به مع فرض عدم الإرادة والكراهة ، إذ معنى التنجز هو استحقاق المؤاخذة على مخالفة الحكم ، ومن المعلوم توقف هذا الاستحقاق على بعث المولى أو زجره التابعين للإرادة والكراهة ، فمع عدمهما لا بعث ولا زجر ولا مخالفة.

وبالجملة : فإنكار انقداح الإرادة والكراهة بالنسبة إلى الحكم الواقعي يساوق الالتزام بالإنشائية التي ذكرها الشيخ الأعظم (قده) ، ولازمه عدم وجوب موافقة مؤديات الأمارات ، إذ وجوبها منوط بالبعث أو الزجر المنوطين بالإرادة والكراهة ، والأمارة لا تنجز الحكم الا بعد البعث والزجر ، إذ يعتبر أن يكون انبعاث العبد عن بعث المولى لتكون إرادته التكوينية تابعة لإرادة المولى التشريعية ، ومع عدم الإرادة لا بعث فلا انبعاث ، هذا.

اللهم إلّا أن يقال : ان قيام الأمارة يوجب كلا من البعث والزجر ، حيث ان المانع عن انقداح الإرادة والكراهة هو مصلحة الجهل ، وبالأمارة ـ كالعلم ـ يرتفع المانع ، فينقدح الإرادة أو الكراهة ، ويتنجز أيضا. وعليه فالعلم بالحكم الإنشائي موضوع لمرتبتين : إحداهما الفعلية ـ وهي البعث أو الزجر ـ والثانية التنجز ، إذ لو كان العلم بالبعث أو الزجر موضوعاً لمتعلقه لزم الدور كغيره مما يؤخذ العلم موضوعاً لمتعلقه ، ولزم وحدة رتبتي الفعلية والتنجز ، وذلك خلاف ما عليه المصنف (قده) من تربيع مراتب الحكم ، وتأخر التنجز رتبة عن الفعلية

٢٣٣

أيضا (١) كما في المبدأ الأعلى ، لكنه (٢)

______________________________________________________

(١) قيد لـ «بعض المبادئ» وقوله : «كما في المبدأ الأعلى» تفسير له ، يعني : كعدم انقداحهما في المبدأ الأعلى جلّ وعلا. والحاصل : أنه لا تنقدح الإرادة أو الكراهة بالنسبة إلى الحكم الواقعي لا في ذاته تعالى ، ولا في النّفس النبوية والولويّة.

(٢) أي : لكن الالتزام ، وهذا دفع لما ربما يتوهم من : أن الالتزام بعدم وجود الإرادة والكراهة في المبادئ العالية يوجب الالتزام بعدم فعلية الحكم الواقعي ، لفرض أنه لم يتعلق الإرادة أو الكراهة به ، وإذا لم يصِر الحكم الواقعي فعلياً انهدم أساس الجمع المذكور ، لانحصار الحكم في الظاهري فقط.

والحاصل : أن ما أفاده المصنف بقوله : «بعدم انقدح الإرادة أو الكراهة» صار منشأ لتوهم عدم فعلية الحكم الواقعي ، فأورد عليه بعدم وجود حكمين فعليين حينئذ حتى يجمع بينهما بما ذكره الماتن ، بل ليس هنا إلّا الحكم الظاهري الّذي هو مقتضى الأمارة أو الأصل.

والمصنف دفع هذا التوهم بما حاصله : أن الفعلية على قسمين :

الأول : الفعلية المنجزة ، وهي بالنسبة إلى الحكم الّذي قامت الحجة من علم أو علمي عليه.

__________________

هذا. لكن إشكال وحدة رتبتي الفعلية والتنجز باقٍ على حاله ، إذ المفروض كونهما معاً معلولين للعلم بالإنشاء.

وبالجملة : فقول المصنف : «لو علم به المكلف لتنجز عليه» مع الاعتراف «بعدم انقداح الإرادة أو الكراهة في بعض المبادئ العالية أيضا» مشكل جداً ، فتأمل جيداً.

٢٣٤

لا يوجب (*) الالتزام بعدم كون التكليف الواقعي بفعلي بمعنى كونه على صفة ونحو لو علم به المكلف لتنجز عليه (١) كسائر التكاليف الفعلية التي تتنجز بسبب القطع بها ، وكونه (٢) فعلياً انما يوجب (**) البعث أو الزجر في النّفس النبوية أو الولويّة فيما إذا لم ينقدح فيها الاذن لأجل مصلحة فيه.

______________________________________________________

الثاني : الفعلية المعلقة ، وهي بالنسبة إلى الحكم الّذي كان بنحو لو علم به لتنجز. والمراد بالفعلية في المقام هو المعنى الثاني ، فالحكم الواقعي يكون فعلياً معلقاً ، ولا منافاة بينه وبين الحكم الظاهري الّذي هو فعلي منجز بأمارة أو أصل.

(١) أي : على المكلف ، وضميرا «كونه ، به» راجعان إلى التكليف الواقعي.

(٢) أي : وكون الحكم الواقعي ، وهذا تتميم لدفع التوهم ، وتوضيحه : أن وصول الحكم الواقعي إلى مرتبة الفعلية بالمعنى الثاني لا يستلزم البعث أو الزجر مطلقاً ، بل انما يستلزمهما فيما إذا لم ينقدح في النّفس النبوية أو الولويّة الاذن في الإقدام لأجل مصلحة في نفس الاذن فيه ، فإذا انقدح الاذن في نفسهما

__________________

(*) بل يوجب الالتزام بعدم فعليته كما عرفت إلّا بناء على ما ذكرناه أخيراً بقولنا : «اللهم إلّا أن يقال ... إلخ».

(**) سوق العبارة يقتضي أبدال البعث أو الزجر بالإرادة أو الكراهة كما في كلام المتوهم ، لأنهما وان كانا كالإرادة والكراهة قائمين بالنفس المقدسة النبوية أو الولويّة ، لكن العلم بهما لا يوجب التنجز واستحقاق المؤاخذة على المخالفة ، بل الموجب لهما هو العلم بالبعث والزجر المتأخرين عن الإرادة والكراهة والمبرزين لهما.

٢٣٥

فانقدح (١) بما ذكرنا أنه لا يلزم الالتزام بعدم كون الحكم الواقعي في مورد الأصول والأمارات فعلياً كي يشكل (٢) تارة بعدم لزوم الإتيان

______________________________________________________

المقدسة ، فلا تتحقق فعلية الحكم بمعنى إيجابها للبعث والزجر ، إذ الاذن مانع عنهما.

(١) يعني : ظهر بما ذكرناه ـ في دفع الإشكالات الواردة على التعبد بالأمارات غير العلمية والأصول العملية ، وفي مقام الجمع بين الحكمين الواقعي والظاهري من حمل الحكم الواقعي على الفعلي التعليقي الّذي لو علم به لتنجز والظاهري على الفعلي التنجيزي ـ أنه لا يلزم في بيان إمكان التعبد بالأمارات غير العلمية الالتزام بعدم كون الحكم الواقعي في مورد الأصول والأمارات فعلياً ، والالتزام بأنه شأني كما أفاده شيخنا الأعظم في الرسائل في الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي بقوله : «الثاني : أن يكون الحكم الفعلي تابعاً لهذه الأمارة ... إلى أن قال ... فالحكم الواقعي فعلي في في حق غير الظان بخلافه ، وشأني في حقه ...» والحاصل أن مراد المصنف من نفي فعلية الحكم الواقعي ليس نفى الفعلية بكلا معنييها المتقدمين ، والالتزام بالشأنية كما ذكره الشيخ (قده) ، بل مراد المصنف من نفي الفعلية نفي الفعلية التنجيزية وإثبات التعليقية ، وهي أنه لو علم به لتنجز.

(٢) توضيحه : أن حمل الأحكام الواقعية على الإنشائية ـ كما أفاده الشيخ ـ يستلزم ورود إشكالين عليه ، أشار إلى أولهما بقوله : «تارة بعدم ...» وحاصله : أن لازم الإنشائية عدم لزوم امتثال مؤديات الأمارات ، إذ المفروض كون مؤدياتها أحكاماً إنشائية ، ومن المعلوم : أن الحكم الإنشائي لا يجب عقلا امتثاله إذا علم به فضلا عما إذا قامت عليه الأمارة غير العلمية. ومن البديهي خلافه ، للزوم امتثال مؤديات الأمارات. وأما الإشكال الثاني فسيأتي توضيحه.

٢٣٦

حينئذ (١) بما قامت الأمارة على وجوبه (٢) ، ضرورة (٣) عدم لزوم امتثال الأحكام الإنشائية (*) ما لم تصر فعلية (٤) ولم تبلغ (٥) مرتبة البعث والزجر ، ولزوم (٦) الإتيان به مما لا يحتاج إلى مزيد بيان وإقامة برهان.

______________________________________________________

(١) أي : حين كون الحكم الواقعي إنشائياً.

(٢) الضمير راجع إلى الموصول في «بما» المراد به متعلق الحكم الإنشائي.

(٣) تعليل لقوله : «بعدم لزوم» وقد عرفت توضيحه.

(٤) أي : بعثية وزجرية ، إذ لا بد في تنجز الحكم بالأمارة من وصوله إلى هذه المرتبة.

(٥) عطف تفسيري لقوله : «ما لم تصر فعلية». ويمكن إرادة التنجز من الفعلية ، فيكون المعنى عدم لزوم امتثال الأحكام الإنشائية ما لم تتنجز ولم تبلغ مرتبة البعث والزجر ، لكنه لا يخلو عن حزازة ، لتقدم رتبة البعث والزجر على التنجز.

(٦) الواو للحال ، أي : والحال أن لزوم الإتيان بما قامت الأمارة على وجوبه مما ...

والحاصل : أن حمل الأحكام الواقعية على الإنشائية يستلزم عدم وجوب امتثالها ولو أدت الأمارة إليها ، مع أن لزوم امتثالها حينئذ من البديهيات ، وفساد هذا اللازم كاشف عن بطلان جعل الأحكام الواقعية إنشائية.

__________________

(*) لا يخفى أن مغايرة الحكم الشأني للإنشائي مبنية على مذهب المصنف (قده) من كون الحكم ذا مراتب أربع ، حيث ان الشأني هو مرتبة الاقتضاء التي هي مرتبة الملاكات ، والإنشائي هو ما يبلغ مرتبة الإنشاء. لكن الشيخ (قده) لما لم يلتزم بتعدد مراتب الحكم ، فلا بد أن يكون مراده بالشأني هو الإنشائي ، ولذا حمله المصنف (قده) عليه.

٢٣٧

لا يقال : لا مجال لهذا الإشكال (١) لو قيل بأنها كانت قبل أداء الأمارة إليها إنشائية ، لأنها (٢) بذلك (٣) تصير فعلية تبلغ (٤) تلك المرتبة.

فانه يقال (٥) : لا يكاد يحرز بسبب قيام الأمارة المعتبرة على حكم

______________________________________________________

(١) أي : إشكال عدم لزوم الإتيان بما قامت الأمارة على وجوبه ، ببيان : أن هذا الإشكال ـ بناء على إنشائية الأحكام الواقعية ـ مبني على بقائها على الإنشائية حتى بعد قيام الأمارات عليها. وأما بناء على أن قيام الأمارات سبب لوصولها إلى مرتبة الفعلية ، فلا وجه للإشكال المزبور ، لصيرورتها بواسطة الأمارة فعلية ، فلا يتوجه إشكال عدم لزوم امتثال مؤديات الأمارات على مبنى إنشائية الأحكام الواقعية كما يستفاد من كلام الشيخ (قده).

(٢) تعليل لقوله : «لا مجال لهذا الإشكال» وقد مر توضيحه ، والضمائر في «لأنها ، بأنها ، إليها» راجعة إلى الأحكام الواقعية.

(٣) أي : بقيام الأمارات على الأحكام تصير فعلية.

(٤) صفة لـ «فعلية» والمراد بـ «تلك المرتبة» مرتبة البعث والزجر.

(٥) هذا دفع الإشكال ، وتوضيحه : أن موضوع الفعلية ـ على ما ذكره المستشكل من أنه الحكم الإنشائي المتصف بكونه مؤدى الأمارة ـ مؤلف من الإنشائية والوصف المزبور ، ومن المعلوم توقف أثر المركب على وجود جميع أجزائه ، كالاستيلاء غير المأذون فيه الموضوع للضمان ، فما لم يحرز الموضوع بتمام أجزائه بالوجدان أو بالتعبد أو بالاختلاف لم يترتب عليه الأثر. وفي المقام كذلك ، فانه لا يترتب أثر الفعلية على الحكم الإنشائي الّذي أدت إليه الأمارة ، وذلك لانتفاء إحراز الموضوع وجداناً وتعبداً ، أما وجداناً فلان إصابة الأمارة غير معلومة ، فلا يعلم أن مؤداها هو الحكم الإنشائي.

٢٣٨

إنشائي لا حقيقة ولا تعبداً الا حكم (١)

______________________________________________________

وأما تعبداً ، فلان دليل حجية الأمارة لا يقتضي إلّا التعبد بوجود مؤداه ، وأن مؤداها هو الواقع ، فلا يتكفل الا تنزيل المحكي بالأمارة منزلة الواقع ، ولا يمكن أن يتكفل الجزء الثاني من الموضوع وهو كون هذا الحكم الإنشائي المحكي مؤدى الأمارة وذلك لأن اتصاف المحكي بهذا الوصف متأخر عن قيام الأمارة عليه فلو فرض تقدمه على قيام الأمارة عليه ـ لفرض أنه جزء الموضوع ، والموضوع بجميع أجزائه مقدم على الحكم ـ ، لزم الدور كما هو واضح.

ومنه يظهر عدم إحراز جزئي الموضوع بالاختلاف ، بأن يحرز أحدهما بالوجدان والآخر بالتعبد ، وذلك لأن المحرز وجداناً ان كان نفس الحكم كالوجوب ، فلا مجال حينئذ لحجية الأمارة ، إذ لا شك في الواقع حتى يحرز بالتعبد. وان كان قيد الحكم الواقعي ـ أعني كونه مؤدى الأمارة ـ فلا يتصور كونه مؤدى الأمارة بالوجدان ، إذ هذا الإحراز منوط بإحراز الواقع ، إذ لا يعقل إحراز القيد وجداناً مع عدم إحراز نفس المقيد أعني الواقع كذلك ، وحيث ان نفس المقيد لم يحرز ، إذ لو كان محرزاً لم يبق مجال لحجية الأمارة كما تقدم فلا يعقل إحراز قيده فقط كما لا يخفى.

وبالجملة : فلا يمكن تكفل دليل التعبد لإحراز قيد الحكم الإنشائي وهو اتصافه بكونه مؤدى الأمارة. نعم لو فرض دليل آخر غير دليل حجية الأمارات يدل على اعتبار قيام الأمارة في فعلية الأحكام الإنشائية ، فيصير الحكم الّذي قامت عليه الأمارة فعلياً ، لوجود القيد ـ أعني قيام الأمارة بالوجدان ـ لكن ذلك الدليل مفقود.

(١) نائب فاعل «يحرز» ، وقوله : «لا حقيقة ولا تعبداً» قيد لـ «يحرز».

٢٣٩

إنشائي ، لا حكم إنشائي أدت (١) إليه الأمارة ، أما حقيقة فواضح (٢) ، وأما تعبداً ، فلان قصارى ما هو قضية حجية الأمارة كون مؤداه [مؤداها] هو الواقع تعبداً ، لا الواقع (٣) الّذي أدت إليه الأمارة ، فافهم (٤).

اللهم إلّا أن يقال (٥) : ان الدليل على تنزيل المؤدى منزلة الواقع

______________________________________________________

(١) صفة لـ «إنشائي».

(٢) لما مر من أن إصابة الأمارة غير معلومة حتى يكون مؤداها حكماً إنشائياً قطعاً.

(٣) يعني : أن الأمارة تؤدي إلى الواقع بما هو واقع ، لا الواقع المتصف بكونه مما أدت إليه الأمارة ، لأن الأمارة لا تزيد على العلم الوجداني ، فان العلم يتعلق بنفس الواقع لا الواقع بعنوان كونه معلوماً.

(٤) لعله إشارة إلى : أنه لو فرض إمكان دلالة دليل غير الأمارة على كون مؤداها هو الواقع المتصف بكونه مؤدى الأمارة لم يكف ذلك أيضا في الحكم بالفعلية ، لأن الحكم بها منوط بدلالة دليل على هذا الوصف ، ولم يثبت ، فالقول بصيرورة الأحكام الإنشائية فعلية بمجرد قيام الأمارة عليها خال عن الدليل.

(٥) غرضه تصحيح ما أنكره ـ من عدم تكفل دليل التنزيل لإثبات كون مؤدى الأمارة هو الحكم الإنشائي الموصوف بكونه مؤدى الأمارة بدلالة الاقتضاء ـ يعني : أن نفس دليل حجية الأمارة يوجب اتصاف مؤداها بالوصف المذكور ـ وهو كونه مؤدى الأمارة ـ بدلالة الاقتضاء ، وذلك لأن دليل اعتبار الأمارة لو لم يثبت الوصف المذكور ـ وهو كونه مؤدى الأمارة ـ لزم لغويته ، لعدم ترتب الأثر الا على الحكم الإنشائي المتصف بالوصف المزبور ، فصون كلام الحكيم

٢٤٠