منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٤

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة دار الكتاب ( الجزائري ) للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٧١

يصح أخذ القطع بمرتبة (*) من الحكم في مرتبة أخرى منه أو مثله أو ضده [أو من مثله أو من ضده].

وأما الظن (١) بالحكم ، فهو وان كان كالقطع في عدم جواز أخذه

______________________________________________________

(١) الغرض من هذا الكلام بيان حال الظن بالحكم ، وأنه كالقطع به في استحالة أخذه في موضوع نفس ذلك الحكم ، ولكنه يفترق عن القطع بجواز أخذه ـ إذا تعلق بحكم ـ موضوعاً لمثل ذلك الحكم أو ضده ، لعدم لزوم محذور اجتماع المثلين أو الضدين ، وتوضيحه : أن الظن بالحكم وان كان كالقطع به في عدم جواز أخذ الظن به موضوعاً لنفس ذلك الحكم المظنون ، كأن يقال : «إذا ظننت بحرمة الخمر ، فالخمر حرام بنفس تلك الحرمة» للزوم الدور الّذي عرفت تقريبه في القطع ، إلّا أن جعل حكم آخر مثل الحكم المظنون أو ضده ممكن ، وذلك للفرق الواضح بين الظن والقطع ، وهو : أن القطع لما كان موجباً لانكشاف الواقع بتمامه بحيث لا يبقى معه احتمال الخلاف أصلا لم يمكن حينئذ جعل حكم آخر مِثلا كان أو ضدّاً كما لا يخفى. وهذا بخلاف الظن بالحكم ، فانه لما لم يكن كاشفاً عن الواقع كشفاً تاماً ، فلا محالة تكون مرتبة الحكم الظاهري معه محفوظة ، فيمكن جعل حكم آخر مماثل للحكم المظنون ، أو مضاد له ، فيصح أن يقال : إذا ظننت بحرمة الخمر ، فالخمر حرام بحرمة مماثلة للحرمة المظنونة ، أو مباح.

__________________

(*) لا يخفى أن إجراء تعدد الرتبة في عدم لزوم هذه المحاذير ما لم يوجب تعدد الموضوع لا يخلو من كلام.

نعم لا بأس بأخذ العلم بالحكم الفعلي موضوعاً لحكم العقل ، كأن يقال : إذا علمت بفعلية حرمة الخمر تنجزت وحسن العقاب على مخالفتها.

١٢١

في موضوع نفس ذلك الحكم المظنون ، إلّا أنه لما كان معه (١) مرتبة الحكم الظاهري محفوظة كان جعل حكم آخر في مورده (٢) مثل الحكم المظنون أو ضده بمكان (٣) من الإمكان.

ان قلت : (٤) ان كان الحكم المتعلق به الظن فعلياً أيضا (٥) بأن يكون الظن متعلقاً بالحكم الفعلي لا يمكن أخذه في موضوع حكم

______________________________________________________

(١) أي : مع الظن بالحكم ، وضمير «أنه» للشأن.

(٢) أي : جعل حكم آخر غير الحكم المظنون في مورد الظن بالحكم.

(٣) خبر «كان» في قوله : «كان جعل».

(٤) هذا الإشكال ناظر إلى ما ذكره من الفرق بين القطع والظن في إمكان أخذ الظن بحكم موضوعاً لمثل ذلك الحكم أو ضده دون القطع ، وحاصله : أن جعل مثل الحكم المظنون أو ضده انما يصح فيما إذا لم يكن الحكم المظنون فعلياً ، وإلّا يلزم اجتماع الحكمين الفعليين المتضادين أو المتماثلين ، مثلا إذا كانت الحرمة المظنونة للخمر حكماً فعلياً له ، فلا يعقل أن يؤخذ الظن بهذه الحرمة الفعلية موضوعاً لحرمة مماثلة أو للإباحة المضادة لها ، لاجتماع المثلين أو الضدين ، إذ الخمر مثلا يصير ذا حكمين متماثلين أو متضادين. نعم لا بأس بأخذ الظن بحكم فعلي لموضوع في موضوع حكم آخر مماثل له أو مضاد ، كأن يقال : «إذا ظننت بحرمة الخمر فالخل لك حلال أو حرام» كإمكان أخذ القطع بحكم لموضوع في موضوع حكم آخر كقوله : «إذا علمت بوجوب الصلاة فالتصدق واجب».

(٥) يعني : كفعلية الحكم الّذي أخذ الظن بحكم موضوعاً له ، وحاصله : كون الحكمين فعليين.

١٢٢

فعلي آخر مثله أو ضده (١) ، لاستلزامه الظن باجتماع الضدين أو المثلين ، وانما يصح أخذه (٢) في موضوع حكم آخر كما في القطع طابق النعل بالنعل.

قلت (٣) : يمكن أن يكون الحكم فعلياً بمعنى أنه لو تعلق به

______________________________________________________

(١) هذان الضميران راجعان إلى الحكم الفعلي المظنون.

(٢) هذا الضمير وضمير «استلزامه» راجعان إلى الظن بالحكم الفعلي ، وقوله : «لا يمكن» جواب الشرط ، وقوله : «لاستلزامه» تعليل له ، وقد عرفت توضيحه.

(٣) هذا دفع الإشكال ، وحاصله : أن الفعلية تتصور على وجهين : أحدهما : كون الحكم بمثابة لو تعلق به العلم لتنجز على العبد ، وصارت مخالفته موجبة لاستحقاق المؤاخذة عقلا ، مع عدم تعلق إرادة المولى أو كراهته به ، فلا بأس حينئذ بالإذن في فعله أو تركه ، ولا يجب عليه رفع جهل العبد وجعله عالماً تكويناً ، ولا إيجاب الاحتياط تشريعاً عليه مطلقاً أو في خصوص صورة عدم التمكن من إزالة جهله ، فالفعلية بهذا المعنى برزخ بين الإنشائية التي لا تتنجز معها الحكم بقيام الحجة عليه ، وبين الفعلية التامة التي يكون معها الإرادة أو الكراهة.

ثانيهما : كون الحكم مقروناً بالإرادة أو الكراهة ، فيكون تاماً في البعث والزجر ومقتضياً لرفع جهل العبد مع الإمكان ، ولإيجاب الاحتياط بدونه ، وهذا المعنى من الفعلية هو مراد المصنف بما عبر عنه في غير مقام بالفعلي من جميع الجهات.

إذا عرفت هذين المعنيين فاعلم : أن الحكم المظنون ان كان فعلياً بالمعنى الثاني ـ وهو المقرون بالإرادة أو الكراهة ـ فالتنافي المزبور ثابت ، لمنافاة

١٢٣

القطع على ما هو (١) عليه (٢) من الحال لتنجز ، واستحق (٣) على مخالفته العقوبة ، ومع ذلك (٤) لا يجب على الحاكم رفع [دفع] عذر المكلف برفع جهله (٥)

______________________________________________________

إرادة الفعل وكراهته مع الاذن في الترك في الأول ، والفعل في الثاني. وأما إذا كان المراد بالفعلية تنجز الحكم إذا تعلق القطع به من دون إرادة أو كراهة ، فلا ضير في اجتماع الحكمين الفعليين ـ كما هو المفروض في المقام ـ مثلا إذا كانت الحرمة المظنونة للخمر فعلية ـ بمعنى تنجزها بالقطع من دون كراهة الشارع ـ فلا بأس باجتماعها مع الإباحة أو الكراهة الفعلية.

(١) هذا الضمير وضمير «به» راجعان إلى الحكم ، وضمير «انه» للشأن.

(٢) الضمير راجع إلى الموصول في «ما هو» والمراد به الحال ، يعني : أن الحكم المظنون فعلي بفعلية غير منجزة ، وتنجزه يكون بالعلم به ، بخلاف الحكم الثاني الّذي موضوعه الحرمة المظنونة ، فانه حكم فعلي بفعلية منجزة ، ولا تنافي بين الحكم المنجز وغيره حتى يلزم محذور اجتماع المثلين أو الضدين. وعلى هذا فعبارة المتن لا تفي بالمقصود ، فالأولى سوقها هكذا : «قلت : انما يمتنع أخذ الظن بحكم فعلي موضوعاً لحكم فعلي مثله أو ضده إذا كانت الفعلية في كليهما بمعنى واحد وهو كون الحكم بحيث إذا تعلق به القطع لتنجز واستحق على مخالفته العقوبة ... وأما إذا اختلف معناها فيهما بأن أريد بها في الحكم المظنون الفعلية غير المنجزة ، وفي الثاني الفعلية المنجزة فلا يلزم محذور اجتماع المثلين أو الضدين ، لتعدد الرتبة فيهما».

(٣) معطوف على «لتنجز» وتفسير له.

(٤) يعني : ومع كون الحكم المظنون فعلياً بالمعنى الأول لا يجب ... إلخ.

(٥) أي : بجعله عالماً تكويناً.

١٢٤

لو أمكن ، أو بجعل (١) لزوم الاحتياط عليه فيما أمكن ، بل يجوز (٢) جعل أصل أو أمارة مؤدية إليه تارة وإلى ضده أخرى ، ولا يكاد (٣) يمكن مع القطع به جعل حكم آخر مثله أو ضده (٤) كما لا يخفى ،

______________________________________________________

(١) معطوف على قوله : «برفع جهله» ، يعني : لا يجب رفع عذر المكلف برفع جهله مع الإمكان أو بجعل وجوب الاحتياط عليه فيما أمكن كما في غير موارد دوران الأمر بين المحذورين.

(٢) هذا من آثار الفعلية بالمعنى الأول وهو كون الحكم بمثابة لو علم به لتنجز ، إذ بعد فرض عدم تعلق إرادة المولى أو كراهته به ، وعدم وجوب رفع جهله تكويناً على المولى ، ولا جعل وجوب الاحتياط على المكلف لا مانع من جعل أصل مرخص في الارتكاب ، أو أمارة كذلك مخطئة كانت أم مصيبة إلى الحكم الواقعي الفعلي بهذا المعنى ، فلا منافاة بين هذا الفعلي وبين جعل حكم آخر مثله أو ضده. وبهذا المعنى من الفعلية جمع المصنف بين الحكم الواقعي والظاهري كما سيجيء إن شاء الله تعالى.

(٣) معطوف على قوله : «يجوز» وضمير «به» راجع إلى الحكم ، وقوله : «جعل حكم» فاعل «ولا يكاد يمكن» على التنازع ، والوجه في عدم إمكان جعل حكم آخر مع تعلق القطع بالحكم هو : عدم كون رتبة الحكم الظاهري محفوظة مع القطع ، لانكشاف الواقع به ، فجعل حكم آخر معه مستلزم لاجتماع الضدين أو المثلين. بخلاف الظن ، فان رتبة الحكم الظاهري معه محفوظة ، فجعله حينئذ غير مستلزم لاجتماع الضدين أو المثلين ، لتعدد رتبتهما باختلاف الفعلية فيهما كما تقدم.

(٤) الضميران راجعان إلى الحكم المقطوع به.

١٢٥

فافهم (١).

ان قلت (٢) : كيف يمكن ذلك (٣) ، وهل هو (٤) إلّا أنه يكون مستلزماً لاجتماع المثلين (٥) أو الضدين.

قلت (٦) : لا بأس باجتماع الحكم الواقعي الفعلي بذاك المعنى (٧) ـ أي لو قطع به من باب الاتفاق لتنجز ـ مع حكم آخر فعلي في مورده (٨)

______________________________________________________

(١) لعله إشارة إلى عدم صحة فعلية الحكم بالمعنى الأول ، أو إلى عدم إجرائها ـ بعد تسليمها ـ في دفع التنافي المذكور.

(٢) هذا إشكال على ما ذكره من إمكان جعل حكم آخر مثل الحكم المظنون أو ضده ، بجعل الحكم المظنون فعلياً بالمعنى الأول ، وحاصله : امتناع أخذ الظن بحكم موضوعاً لحكم آخر مثله أو ضده ، لاستلزامه لاجتماع الحكمين المثلين أو الضدين ، هذا. ولا يخفى عدم الحاجة إلى هذا الإشكال ودفعه أصلا ، لإغناء الإشكال الأول ودفعه عنهما.

(٣) أي : كيف يمكن جعل حكم آخر يقتضيه أصل أو أمارة مؤدية إلى الحكم المظنون تارة وإلى ضده أخرى؟

(٤) يعني : وليس هذا الجعل للحكم الثاني إلّا أنه يكون مستلزماً ... إلخ.

(٥) في صورة إصابة الأمارة ، واجتماع الضدين في صورة الخطأ.

(٦) هذا دفع الإشكال ، وحاصله : ما تقدم في جواب الإشكال الأول من أن اختلاف معنى الفعلية مانع عن لزوم اجتماع المثلين أو الضدين كما مر توضيحه.

(٧) وهو أول الوجهين اللذين عرفتهما في معنى الفعلية.

(٨) أي : مورد الحكم الواقعي الفعلي ، و «مع حكم» متعلق بـ «اجتماع الحكم».

١٢٦

بمقتضى الأصل أو الأمارة (١) أو دليل (٢) أخذ في موضوعه الظن بالحكم بالخصوص (٣) به على ما سيأتي (٤) من التحقيق في التوفيق بين الحكم الظاهري والواقعي.

______________________________________________________

(١) كما هو قضية عمومات أدلة الأمارات والأصول ، فان مؤدى الأمارة والأصل حكم فعلي ، ويمكن أن يكون الحكم الواقعي فعلياً أيضا بمعنى تنجزه وحتميته لو علم به ، ولا منافاة بين الحكمين الفعليين إذا كانت فعلية أحدهما بهذا المعنى ، فقوله : «بمقتضى الأصل» متعلق بقوله : «فعلي» و «الأمارة» معطوف على الأصل.

(٢) معطوف على «الأصل» يعني : وفعلية الحكم غير الواقعي اما بمقتضى الأصل واما بمقتضى الأمارة ، واما بمقتضى دليل خاص دل على موضوعية الظن بالحكم الواقعي لحكم آخر مثله أو ضده كما هو مفروض البحث ، والأولى سوق العبارة هكذا : «أو دليل دل بالخصوص على أخذ الظن بحكم موضوعاً لحكم آخر مثله أو ضده» كما لا يخفى.

(٣) قيد للظن ، ولا يخفى أنه لا حاجة إلى كلمة «به» كما أن بعض النسخ خالية عنه.

(٤) قيد لقوله : «لا بأس» ، وقوله : «من التحقيق» بيان للموصول في «ما سيأتي» واختار المصنف هذا المسلك في أوائل بحث الأمارات في الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي ، هذا.

وقد اتضح من قول المصنف (قده) : «وأما الظن بالحكم فهو وان كان كالقطع ... إلخ» أن الظن إذا كان طريقاً محضاً ، ولم يؤخذ موضوعاً لحكم لم يصلح لأن يكون واسطة لإثبات متعلقه ان كان حكماً ، كما إذا ظن بوجوب صلاة الجمعة مثلا ، ولا لإثبات أحكام متعلقه ان كان موضوعاً ذا أثر شرعي ،

١٢٧

الأمر الخامس : هل تنجز التكليف بالقطع (*)

______________________________________________________

كما إذا تعلق الظن بإطلاق ماء ، فان الإطلاق موضوع لآثار شرعية ، كجواز الغسل والتوضؤ والتطهير الخبثي به ، فحال الظن الطريقي المحض حال القطع الطريقي الصرف ، فلا أثر له الا حكم العقل بلزوم متابعته في حال الانسداد بناء على الحكومة ، هذا في الظن الّذي لم يقم دليل شرعي على اعتباره. وأما إذا قام عليه كالظنون الخاصة ، فلا إشكال في كونه واسطة لإثبات متعلقه تعبداً سواء كان موضوعاً أم حكماً ، فيصح تأليف قياس منه تكون صغراه وجدانية ، كقولنا : «هذا مظنون الخمرية أو مظنون الوجوب واجب» وكبراه شرعية ، وهي «كل مظنون الخمرية واجب الاجتناب» أو «كل مظنون الوجوب واجب» كما لا يخفى.

__________________

(*) أو غيره من الطرق والحجج ، وتخصيص القطع بالذكر اما لكون الكلام في مباحث القطع ، واما لأنه أجلى الطرق ، فحق العبارة أن تكون هكذا : «بالقطع أو غيره مما يوجب تنجز الأحكام».

وكيف كان لا يرتبط هذا البحث بوجوب تصديق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما أتى به من ربه جل وعلا من التكاليف ، لأن معناه كون أحكامه صلى‌الله‌عليه‌وآله من قبله عزوجل كما هو مقتضى قوله تبارك وتعالى : «وما ينطق عن الهوى ان هو الا وحي يوحى» وبعد الالتزام بهذا المعنى يقع البحث في أن وجوب الصلاة مثلا الّذي أتى به النبي الأعظم عليه أفضل الصلوات وقطعنا بأنه من قبل الله عزوجل هل يقتضي عقلا وجوب إطاعته قلباً كما يقتضي لزوم امتثاله عملا أم لا؟ فالبحث عن اقتضاء التكليف المعلوم لزوم الالتزام به عقلا وعدمه مغاير لوجوب التصديق الّذي هو من لوازم الإيمان ، فالبحث عن وجوب الالتزام مترتب عليه ومتأخر عنه.

١٢٨

كما يقتضى (١)

______________________________________________________

الموافقة الالتزامية

(١) أي : عقلا ، والغرض من عقد هذا الأمر : التعرض لوجوب الموافقة الالتزامية وعدمه بعد بداهة حكم العقل بوجوب الموافقة العملية ، وحاصل ما

__________________

مضافاً إلى عدم اختصاص وجوب التصديق بتكليف ثابت في حق هذا المكلف ، لعمومه لكل حكم جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وان كان في حق الغير كأحكام الدماء الثلاثة بالنسبة إلى الرّجال.

ثم ان الموافقة الالتزامية ـ وهي التدين بحكم الشارع وعقد القلب عليه ـ لا تختص بالاحكام الإلزامية ، بل تجري بناء على وجوبها في غيرها كالإباحة أيضا. بخلاف وجوب الموافقة العملية ، فانه يختص بالاحكام الاقتضائية.

ثم انهما تنفكان في التوصليات ، لإمكان الالتزام بوجوب دفن الميت مثلا بدون الامتثال عملا وبالعكس ، بخلاف التعبديات ، فان الموافقة العملية فيها تلازم الموافقة الالتزامية ولا تنفك عنها ، إذ المفروض أن وجوب الصلاة مثلا يقتضي امتثاله مطلقاً على وجه العبادة سواء كان امتثالا قلبياً أم عملياً.

نعم تنفك الموافقة الالتزامية عن العملية ، لإمكان الالتزام بوجوب الصلاة مع عدم امتثاله عملا ، هذا ما قيل.

لكن يمكن أن يقال : ان العبادية لا تقتضي أزيد من اعتبار قصد القربة في مقام الامتثال مطلقاً من غير فرق في ذلك بين الإطاعة العملية والالتزامية. وأما ارتباطية الإطاعتين فهي مما لا تقتضيه العبادية ، بل تحتاج إلى دليل آخر ، فيمكن حينئذ إطاعة الأمر العبادي عملا بدون الالتزام وعقد القلب عليه ، ولا بد من مزيد التأمل.

١٢٩

موافقته عملا يقتضي موافقته التزاماً (١) والتسليم له اعتقاداً وانقياداً كما هو (٢)

______________________________________________________

أفاده : أن تنجز التكليف بالقطع أو غيره من الحجج القائمة على الأحكام هل يوجب إطاعتين : إحداهما بحسب العمل ، والأخرى بحسب الاعتقاد ، بأن يعقد قلبه على ذلك الحكم أم لا؟ بل يقتضي إطاعة واحدة عملية من دون وجوب الالتزام وعقد القلب عليه.

ثم انه يحتمل إرادة وجوب الموافقة الالتزامية شرعاً ، ويحتمل إرادته عقلا وعلى الثاني يحتمل وجوب الإطاعتين العملية والالتزامية بنحو الارتباط بأن لا تتحقق الموافقة العملية بدون الالتزامية ، فإذا وافق التكليف عملا وخالفه التزاماً كان كمن لم يوافق أصلا ويستحق العقوبة ويحتمل وجوبهما بنحو الاستقلال ، بأن يكون كل منهما واجباً مستقلا ، فإذا وافق التكليف عملا صح عمله واستحق المثوبة وان خالفه التزاماً ، وإذا خالفه عملا أيضا استحق عقوبتين عليهما ، كما أنه إذا وافقه عملا والتزاماً استحق مثوبتين. والظاهر من عبارة المصنف (قده) هو وجوب الموافقة الالتزامية عقلا بنحو الاستقلال ، حيث انه صحح الموافقة العملية ولو كانت بدون الالتزامية ، وجعل منشأ وجوب الموافقة الالتزامية اقتضاء التنجز الّذي هو حكم عقلي.

وعليه ، فحاصل ما أفاده المصنف (قده) هو : أن تنجز التكليف هل يقتضي عقلا وجوب إطاعتين إحداهما عملية والأخرى التزامية ، وحرمة مخالفتين كذلك أم لا يقتضي إلّا وجوب إطاعة واحدة وهي العملية وحرمة مخالفة كذلك؟ ثم اختار الثاني وهو عدم اقتضاء تكليف واحد الا إطاعة واحدة لما سيأتي منه (قده).

(١) قد عرفت معنى الموافقة الالتزامية.

(٢) أي : الالتزام ، وقوله : «والتسليم» معطوف على «موافقته».

١٣٠

اللازم في الأصول الدينية والأمور الاعتقادية بحيث كان له امتثالان (١) وطاعتان [وإطاعتان] إحداهما بحسب القلب والجنان (٢) والأخرى بحسب العمل بالأركان ، فيستحق (٣) العقوبة على عدم الموافقة التزاماً (٤) ولو مع الموافقة عملا ، أو لا يقتضي (٥) ، فلا يستحق (٦) العقوبة عليه (٧) بل انما يستحقها على المخالفة العملية (٨)؟ الحق هو الثاني (٩) ، لشهادة [بشهادة] الوجدان (١٠

______________________________________________________

(١) هذه قرينة أخرى على إرادة وجوب الموافقة الالتزامية عقلا ـ كقرينية قوله : «تنجز» ـ بداهة أن الحاكم بلزوم الإطاعة هو العقل لا الشرع. والضمائر في «موافقته ، له» في الموضعين راجعة إلى التكليف.

(٢) بفتح الجيم عطف تفسير للقلب.

(٣) هذا متفرع على اقتضاء تنجز التكليف إطاعتين.

(٤) قيد لـ «الموافقة» يعني : الموافقة الالتزامية.

(٥) معطوف على قوله : «يقتضي» يعني : أو لا يقتضي تنجز التكليف موافقته التزاماً؟ فالأولى أن تكون العبارة هكذا : «أو لا يقتضيها».

(٦) هذا متفرع على عدم وجوب الموافقة الالتزامية.

(٧) يعني : على عدم الموافقة التزاماً.

(٨) يعني : فقط ، وضمير «يستحقها» راجع إلى العقوبة.

(٩) وهو : عدم اقتضاء تنجز التكليف وجوب الموافقة الالتزامية ، لما سيأتي.

(١٠) هذا استدلال على ما اختاره بقوله : «الحق هو الثاني» وتوضيحه : أن مناط استحقاق العقوبة ـ وهو هتك حرمة المولى والطغيان عليه كما تقدم في مبحث التجري ـ مفقود هنا ، إذ المفروض أن للغرض من التكليف ـ وهو احداث

١٣١

الحاكم في باب الإطاعة والعصيان بذلك (١) ، واستقلال (٢) العقل بعدم استحقاق العبد الممتثل (٣) لأمر سيده الا المثوبة دون العقوبة ولو لم يكن مسلماً [متسلماً] وملتزماً به (٤) ومعتقداً ومنقاداً له وان كان ذلك (٥) يوجب [لوجب] تنقيصه وانحطاط درجته (٦)

______________________________________________________

الداعي في نفس العبد إلى إيجاد ما فيه المصلحة الداعية إلى التشريع ـ متحقق ، لفرض الموافقة العملية وان لم تتحقق الموافقة الالتزامية.

وبالجملة : فالعقل لا يرى العبد الممتثل عملا تحت الخطر وان لم يكن ملتزماً ومسلماً لحكم المولى اعتقاداً. نعم عدم التزامه اعتقاداً بتكليف المولى يوجب نقصانه عن كمال العبودية ، لا انحطاطه عن أصلها ، لكن النقصان عن مزايا العبودية وعدم الفوز بها لا يوجب استحقاق العقوبة ، لما عرفت من أن سبب استحقاقها هو الهتك وعدم المبالاة بأحكام المولى ، وهو مفقود فيمن يمتثل أحكام المولى عملا ، ولا يوافقها التزاماً.

(١) أي : بعدم الاقتضاء.

(٢) عطف تفسيري لـ «شهادة الوجدان» ، يعني : ولاستقلال العقل ... إلخ.

(٣) يعني : امتثالا عملياً.

(٤) هذا الضمير والضمير المجرور في «والمنقاد له» راجعان إلى «أمر سيده».

(٥) أي : وان كان عدم التسليم والالتزام والانقياد يوجب تنقيصه ، فكلمة «ان» وصلية و «يوجب» خبر «كان» ، وبناء على كون النسخة «لوجب» فقوله «ذلك» إشارة إلى الاقتضاء ، يعني : وان ثبت الاقتضاء لوجب تنقيص العبد وانحطاط درجته ، فكلمة «ان» حينئذ شرطية ، و «لوجب» جواب الشرط.

(٦) يعني : انحطاط درجة العبد عن مزايا العبودية كما عرفت آنفاً.

١٣٢

لدى سيده ، لعدم اتصافه (١) بما يليق أن يتصف العبد به (٢) من الاعتقاد بأحكام مولاه والانقياد لها ، وهذا (٣) غير استحقاق العقوبة على مخالفته لأمره (٤) أو نهيه التزاماً (٥) مع موافقته (٦) عملا كما لا يخفى.

ثم لا يذهب عليك (٧) أنه على تقدير لزوم الموافقة الالتزامية

______________________________________________________

(١) تعليل لانحطاط العبد عن درجة الكمال.

(٢) الضمير راجع إلى «ما» الموصول ، وقوله : «من الاعتقاد» بيان له.

(٣) يعني : وانحطاط العبد عن مرتبة كمال العبودية غير استحقاق العقوبة الّذي مناطه هتك المولى والطغيان عليه ، لوضوح أنه ليس في المخالفة الالتزامية مع الموافقة العملية هتك وطغيان.

(٤) يعني : مخالفة العبد لأمر سيده أو نهيه.

(٥) قيد لـ «مخالفته» يعني : مخالفة التزامية.

(٦) أي : موافقة العبد للتكليف عملا.

(٧) غرضه التفكيك بين وجوب الموافقة الالتزامية ـ على فرض تسليمه ـ وبين وجوب الموافقة العملية وعدم الملازمة بينهما ، وانفكاكهما في بعض الموارد كما في دوران الأمر بين المحذورين ، ضرورة أن الموافقة القطعية العملية غير مقدورة للعبد مع تمكنه من الموافقة الالتزامية فيه ، لإمكان الالتزام بما هو حكم الله تبارك وتعالى في الواقعة ، إذ لا يشترط في الموافقة الالتزامية معرفة الحكم الملتزم به بعينه ، بل يكفي في تحققها معرفة الحكم ولو إجمالا ، فيعقد القلب عليه ، فلا ملازمة بين الإطاعتين ، فتجب الموافقة الالتزامية ، ولا تجب الموافقة العملية القطعية ، ولا تحرم المخالفة كذلك ، لعدم القدرة عليهما.

١٣٣

لو كان [وكان] المكلف متمكناً منها (١) (*) تجب (٢) ولو فيما لا يجب (٣) عليه الموافقة القطعية عملا ، ولا يحرم المخالفة القطعية عليه كذلك (٤) أيضا (٥) ،

______________________________________________________

(١) أي : من الموافقة الالتزامية.

(٢) خبر «انه» والضمير المستتر فيه راجع إلى الموافقة الالتزامية ، ووجه اعتبار التمكن منها على تقدير لزومها : أن القدرة شرط عقلي في كل تكليف ، فبدونها لا تجب الموافقة الالتزامية ، وتعليق وجوبها على التمكن ـ مع إمكان الموافقة الالتزامية إجمالا في دوران الأمر بين المحذورين ـ لعله لأجل عدم كون الموافقة الالتزامية الإجمالية موافقة ، فتنحصر الموافقة الالتزامية في الالتزام التفصيليّ ، هذا لكن فيه ما ذكرناه في التعليقة فراجع.

(٣) لاستقلال كل منهما وعدم الوجه في سقوط الميسور منهما بالمعسور ، فوجوب الموافقة الالتزامية لا يسقط بتعذر الموافقة العملية سواء كان وجوب الموافقة الالتزامية عقلياً كما هو الظاهر ، أم نقلياً كما يدعى دلالة قوله تبارك وتعالى «يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الّذي نزل على رسوله ...» عليه ، فتأمل.

(٤) أي : عملا ، وضمير «عليه» في الموضعين راجع إلى المكلف.

(٥) يعني : كعدم وجوب الموافقة القطعية العملية.

__________________

(*) الظاهر زيادة هذه الجملة ، لأنه مع عدم اعتبار العلم التفصيليّ بالحكم الملتزم به في وجوب الموافقة الالتزامية وكفاية العلم الإجمالي به خصوصاً مع ملاحظة قوله فيما بعد : «وان أبيت ... إلخ» لا يتصور عدم التمكن من الموافقة الالتزامية ، كما هو ظاهر قوله : «لو كان» أو «وكان» مع وضوح إمكان الموافقة الالتزامية مع العلم الإجمالي أيضا.

١٣٤

لامتناعهما (١) كما إذا علم إجمالا (٢) بوجوب شيء أو حرمته للتمكن (٣) من الالتزام بما هو الثابت واقعاً والانقياد له والاعتقاد به (٤) بما هو الواقع والثابت وان لم يعلم أنه الوجوب أو الحرمة. وان أبيت (٥) الا عن

______________________________________________________

(١) تعليل لعدم وجوب الامتثال القطعي العملي ، وعدم حرمة المخالفة كذلك ، يعني : أن عدم القدرة أوجب ارتفاع الوجوب عن الموافقة العملية القطعية والحرمة عن المخالفة كذلك.

(٢) هذا مثال لعدم التمكن من الموافقة والمخالفة القطعيتين.

(٣) تعليل لقوله : «تجب» يعني : تجب الموافقة الالتزامية ـ ولو مع عدم التمكن من الموافقة العملية ـ للقدرة على الموافقة الالتزامية ، بأن يلتزم بالحكم الثابت واقعاً وان لم يعلم أنه خصوص الوجوب أو الحرمة ، فيكفي الالتزام بما هو عليه واقعاً.

(٤) مرجع هذا وضمير «له» الموصول في «بما هو الثابت» المراد به الحكم.

(٥) غرضه إمكان فرض لا يتمكن فيه العبد من شيء من الموافقة العملية والالتزامية معاً ، توضيحه : أن تنجز التكليف كما يقتضى إطاعة خصوصه عملا دون غيره أو ما هو أعم منه ، كذلك يقتضى الالتزام بنفسه دون ضده أو الجامع بينه وبين ضده ، كعنوان «الإلزام» الجامع بين الوجوب والحرمة ، لأن اقتضاء التكليف لوجوب الالتزام به ليس إلّا كاقتضائه لوجوب الموافقة العملية. وعلى هذا يسقط وجوب الموافقة الالتزامية ، لعدم التمكن منها ، إذ المفروض عدم كفاية الالتزام الإجمالي واعتبار العلم التفصيليّ بالحكم الموجب لانتفاء القدرة على كل من الموافقة الالتزامية والعملية ، فتسقط الموافقة الالتزامية كالعملية.

ثم ان المصنف (قده) شرع في بيان جملة من اللوازم المترتبة على وجوب الالتزام بخصوص الحكم الواقعي ، وسيأتي بيانها إن شاء الله.

١٣٥

لزوم الالتزام به بخصوص عنوانه لما كانت (١) موافقته (٢) ([الموافقة] القطعية الالتزامية حينئذ (٣) ممكنة ، ولما (٤) وجب عليه الالتزام بواحد قطعاً ، فان محذور الالتزام بضد التكليف عقلا (٥) ليس بأقل من محذور عدم الالتزام به بداهة (٦). مع (٧) ضرورة أن التكليف لو قيل باقتضائه

______________________________________________________

(١) هذا هو اللازم الأول ، وحاصله : أن وجوب الالتزام حينئذ ساقط ، لعدم القدرة على الالتزام بنفس الحكم الواقعي وعنوانه تفصيلا مع فرض الجهل به.

(٢) مرجع هذا الضمير وضميري «به ، عنوانه» هو الحكم.

(٣) يعني : حين وجوب الالتزام بخصوص عنوان الحكم الواقعي.

(٤) معطوف على قوله : «لما كانت» وهذا هو اللازم الثاني ، وحاصله : أنه لا يجب على المكلف الالتزام بشيء من الحكمين لا خصوص الوجوب ولا خصوص الحرمة ، لإمكان أن يكون الحكم الملتزم به ضد الحكم الواقعي ، ومن المعلوم أن محذور الالتزام بضد الحكم الواقعي ـ وهو التشريع ـ ليس بأقل من محذور عدم الالتزام بحكم رأساً ، بل لا محذور في عدم الالتزام ، لارتفاع وجوبه بعدم القدرة عليه ، فكما يكون الالتزام بحكم الله حسناً فكذلك يكون الالتزام بغير حكمه تعالى قبيحاً ، لأنه تشريع محرم.

(٥) قيد لـ «محذور الالتزام» والمراد من المحذور هو التشريع.

(٦) قيد «ليس» وضمير «به» راجع إلى الحكم ، والمراد بمحذور عدم الالتزام به هو المعصية.

(٧) هذا هو اللازم الثالث من اللوازم المترتبة على وجوب الالتزام بخصوص الحكم الواقعي ، وحاصله : أنه يرد على وجوب الأخذ بأحدهما المعين من

١٣٦

للالتزام لم يكد يقتضي الا الالتزام بنفسه عيناً لا الالتزام به أو بضده تخييراً (*).

______________________________________________________

خصوص الوجوب أو الحرمة إشكالان :

أحدهما : محذور التشريع ، لاحتمال كون الحكم الملتزم به ضد الحكم الواقعي ، وهو الّذي أشار إليه بقوله : «فان محذور الالتزام ... إلخ» وقد تقدم توضيحه.

ثانيهما : أن التكليف إذا اقتضى وجوب الالتزام فلا يقتضي الا الالتزام بنفسه عيناً ، لا الالتزام به أو بضده تخييراً.

والحاصل : أنه ـ بناء على عدم كفاية الموافقة الالتزامية الإجمالية ـ لا بد من الالتزام بارتفاع وجوبها كارتفاع وجوب الموافقة العملية.

وتوهم أنه لا بد اما من وجوب الالتزام بكلا الحكمين في الدوران بين الوجوب والحرمة ، لتوقف الموافقة القطعية الالتزامية عليه ، أو الالتزام بأحدهما

__________________

(*) لا يقال : ان وجوب الالتزام بأحد الحكمين تخييراً نظير التخيير بين محتملات تكليف واحد كالصلاة إلى إحدى الجهات فيما إذا لم يتمكن من الجمع بين المحتملات.

فانه يقال : ان التكليف هناك منجز ، ويجب عقلا امتثاله القطعي ان أمكن وإلّا فبما تيسر ، بخلاف المقام ، لعدم تنجز التكليف مطلقاً ، أما بالنسبة إلى الموافقة العملية ، فلوضوح عدم إمكانها ، وعدم خلو المكلف من الفعل والترك ليس موافقة احتمالية عقلية بل قهرية تكوينية ، ولذا نقول بأن التخيير في دوران الأمر بين المحذورين ليس عقلياً ولا شرعياً. وأما بالنسبة إلى الموافقة الالتزامية فلما عرفت من عدم تعقل الالتزام الجدي بكل منهما بعد العلم بعدم كون أحدهما حكماً له تعالى شأنه.

١٣٧

ومن هنا (١) قد انقدح أنه لا يكون من قِبل لزوم الالتزام مانع عن إجراء الأصول الحكمية (٢)

______________________________________________________

بالخصوص تخييراً ، لإناطة الموافقة الاحتمالية به فاسد. أما الأول ، فلعدم معقوليته ، إذ مع العلم بعدم كون أحدهما مراداً له سبحانه وتعالى لا ينقدح في نفس العاقل التزام جدي بكل واحد منهما بعينه ، هذا. مضافاً إلى استلزامه ـ بعد تسليمه ـ للمخالفة القطعية ، لعلمه بعدم كون أحدهما حكماً له تعالى.

وأما الثاني ، فلدورانه بين المحذورين ، لأنه إذا اختار الوجوب والتزم به بعينه ، فان كان الحكم الواقعي هو الوجوب أيضا ، فلا بأس بهذا الالتزام ، ولم يتوجه إليه محذور ، وان كان هو الحرمة فقد شرع ووقع في محذور التشريع. وكذا القول إذا اختار الحرمة والتزم بها ، فالالتزام بأحد الحكمين عيناً اما واجب واما حرام.

(١) يعني : ومن اقتضاء التكليف المعلوم وجوب الالتزام بنفسه وبعنوانه ـ بناء على أصل الاقتضاء ـ دون التخيير بينه وبين ضده قد ظهر : أن وجوب الالتزام ليس مانعاً عن جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي إذا كانت بنفسها ـ مع قطع النّظر عن وجوب الموافقة الالتزامية ـ جارية فيها بأن تمت أدلتها بحيث تشمل أطراف العلم الإجمالي ، ولم يمنع عن جريانها مانع آخر ، والوجه فيه ما عرفته من سقوط وجوب الالتزام بامتناع امتثاله.

وبالجملة : فبعد البناء على اختصاص وجوب الالتزام بالحكم المعلوم تفصيلا لا يكون وجوب الالتزام ـ فيما لا يعلم التكليف تفصيلا ـ ثابتاً حتى يمنع عن جريان الأصول.

(٢) كأصالة الإباحة فيما دار أمره بين الوجوب والحرمة ، كالدعاء عند رؤية الهلال إذا فرض دوران حكمه الكلي بين الوجوب والحرمة.

١٣٨

أو الموضوعية (١) في أطراف العلم لو كانت (٢) جارية مع قطع النّظر عنه (٣).

كما لا يدفع بها (٤) [هنا] محذور عدم الالتزام به ، بل الالتزام

______________________________________________________

(١) كاستصحاب عدم تعلق الحلف لا فعلا ولا تركاً بوطي المرأة المعينة في زمان معين فيما إذا ترددت بين من وجب وطيها بالحلف وبين من وجب ترك وطيها به.

(٢) فلو لم تجر فيها الأصول لمانع آخر غير وجوب الالتزام ـ كالمخالفة العملية ـ كان عدم جريانها مستنداً أيضا إلى ذلك المانع لا إلى وجوب الالتزام.

(٣) يعني : عن وجوب الالتزام.

(٤) أي : بالأصول الحكمية والموضوعية ، وهذا إشارة إلى ما في كلمات شيخنا الأعظم في بحث الموافقة الالتزامية من مباحث العلم الإجمالي ، قال في الرسائل : «وأما المخالفة الغير العملية فالظاهر جوازها في الشبهة الموضوعية والحكمية معاً سواء كان الاشتباه والترديد بين حكمين لموضوع واحد كالمثالين المتقدمين أم بين حكمين لموضوعين كطهارة البدن وبقاء الحدث لمن توضأ غفلة بمائع مردد بين الماء والبول ... إلخ» وحاصله : أن الأصول الموضوعية رافعة لموضوع وجوب الالتزام وهو الحكم الّذي يجب الالتزام به ، فلا يلزم من جريانها طرح الحكم ورفعه عن موضوعه حتى يترتب عليه محذور عدم الالتزام به بسبب طرحه ، بل يلزم من جريانها ارتفاع الموضوع ، حيث ان الأصول الموضوعية حاكمة على أدلة الأحكام ، لأنها ناظرة إلى موضوعاتها بإثباتها أو نفيها ، ومن المعلوم قصور أدلة الأحكام عن هذا النّظر ، حيث انها في مقام بيان الحكم للموضوع على فرض وجوده ، فان قوله : «أكرم العلماء» مثلا لا نظر له إلى كون زيد عالماً أو جاهلا ، بخلاف الاستصحاب الموضوعي فانه ناظر إلى أنه عالم فعلا إذا كان عالماً سابقاً ، وإلى كونه جاهلا كذلك إذا

١٣٩

بخلافه (١) لو قيل بالمحذور فيه (٢) حينئذ (٣) أيضا (٤) الا على وجه دائر (٥)

______________________________________________________

كان سابقاً جاهلا ، فإذا ثبت بالاستصحاب جهل زيد لا يكون ذلك طرحاً لدليل وجوب أكرم العلماء. وعليه ، فإذا جرى استصحاب عدم تعلق الحلف بوطي هذه المرأة أو تركه لم يكن ذلك طرحاً لدليل وجوب الوفاء باليمين ، بل تخرج المرأة حينئذ عن المرأة التي تعلق بها الحلف ، فالأصول الموضوعية أو الحكمية النافية للحكم رافعة لموضوع وجوب الالتزام ، هذا توضيح كلام الشيخ ، وسيأتي بيان إيراد المصنف عليه.

(١) هذا الضمير وضمير «به» راجعان إلى التكليف ، والمراد من المحذور هو المعصية.

(٢) أي : في عدم الالتزام ، وقوله : «بل الالتزام» معطوف على «عدم الالتزام».

(٣) يعني : حين العلم الإجمالي بوجوب شيء أو حرمته.

(٤) يعني : كالعلم التفصيليّ في ثبوت المحذور في عدم الالتزام بالتكليف أو الالتزام بضده. وغرضه من هذه العبارات : أن العقل إذا حكم بلزوم الالتزام بالتكليف مطلقاً سواء كان معلوماً تفصيلا أم إجمالا ، وبوجود المحذور في عدم الالتزام به أو في الالتزام بخلافه ، فلا يمكن رفع هذا اللزوم العقلي بجريان الأصول ، لما سيذكره من لزوم الدور.

(٥) هذا هو الوجه في عدم اندفاع محذور عدم الالتزام بالتكليف بسبب إجراء الأصول الحكمية أو الموضوعية بالتقريب المتقدم.

وحاصل هذا الوجه : أن دفع محذور عدم الالتزام بالتكليف بإجراء الأصول كما يستفاد من كلام الشيخ (قده) مستلزم للدور ، وذلك لأن جريان الأصول موقوف على عدم ترتب محذور في عدم الالتزام بالحكم الواقعي بسبب جريانها ، إذ

١٤٠