منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٤

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة دار الكتاب ( الجزائري ) للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٧١

الظاهر عدم اختصاص ذلك (١) بمن قصد افهامه ، ولذا (٢) لا يسمع اعتذار من لا يقصد افهامه إذا خالف (٣) ما تضمنه ظاهر كلام المولى من تكليف

______________________________________________________

القوانين (قده) في آخر مسألة حجية الكتاب وفي أول مسألة الاجتهاد والتقليد وهو الفرق بين من قصد افهامه بالكلام ، فالظواهر حجة بالنسبة إليه من باب الظن الخاصّ ... إلخ» وحاصله : اختصاص حجية الظواهر بمن قصد افهامه دون غيره. وحاصل وجه اندفاعه هو : عموم دليل اعتبار الظاهر ـ أعني سيرة العقلاء الثابتة في الظواهر مطلقاً حتى بالنسبة إلى من لم يقصد افهامه ـ والشاهد على إطلاق بنائهم هو : أنه لا يسمع اعتذار من لم يقصد افهامه بأني لم أكن مقصوداً بالإفهام ، فلا يكون مخالفة الحكم الّذي تضمنه الخطاب الموجه إلى شخص معين ـ إذا كان شاملا لغيره أيضا ـ معصية ، ومن المعلوم أن عدم السماع ليس إلّا لعدم صحته الكاشف عن عموم السيرة قطعاً ، فلا مجال لتوهم أن مقتضى القدر المتيقن من السيرة التي هي دليل لبي هو الالتزام بحجية الظواهر في بعض الموارد لا مطلقاً.

(١) أي : اتباع الظواهر.

(٢) أي : ولأجل عدم اختصاص حجية الظواهر بمن قصد افهامه لا يسمع اعتذار ... إلخ.

(٣) قيد لقوله : «لا يسمع» وفاعل «خالف» ضمير راجع إلى «من لا يقصد» و «من تكليف» بيان للموصول في «ما تضمنه» يعني : إذا خالف من لم يقصد افهامه ظاهر ما تضمنه ... إلخ.

٢٨١

يعمه أو يخصه (١) (*)

______________________________________________________

(١) الضميران راجعان إلى الموصول في «من لم يقصد افهامه» يعني : أن غير المقصود بالإفهام قد يشمله الحكم المذكور في الكلام إما بلسان العموم بمعنى كون الحكم عاماً لغير المقصود بالإفهام في ضمن المقصودين به ، كما إذا سأل الراوي عن معنى الاستطاعة الشرعية الموجبة لاستقرار الحج على المكلف فقال عليه‌السلام : «من كان صحيحاً في بدنه ، مخلى سربه ، له زاد وراحلة ، فهو مستطيع للحج» (١) ، فان الحكم المذكور في الجواب يشمل بلسان العموم غير المقصود بالإفهام. وإما بلسان الخصوص ، كما إذا سأل الراوي عن حكم الدماء الثلاثة ، فأجاب الإمام عنه ، فان الحكم الّذي تضمنه ظاهر كلامه عليه‌السلام يشمل غير المقصود بالإفهام وهو المرأة بنحو يختص بها.

__________________

(*) لا يخفى أن ظاهر عبارة المتن ـ بل صريحها ـ إناطة حجية ظاهر الكلام بالنسبة إلى غير المقصود بالإفهام باختصاص الحكم المذكور في الكلام به أو شمول عمومه له. مع أنه ليس كذلك ، لوضوح أنه إذا سأل الراوي عن حكم تحيض المرأة مثلا ، فأجابه الإمام عليه‌السلام ، ثم وقع هذا الجواب على يد رجل آخر غير الراوي ، فلا إشكال حينئذ في حجية ظاهره بالنسبة إلى هذا الرّجل الآخر غير المقصود بالإفهام أيضا مع عدم كونه مشمولاً للحكم المذكور لا عموماً ولا خصوصاً.

فالنتيجة : أن ظاهر الكلام حجة بالنسبة إلى كل أحد من غير فرق بين كونه مقصوداً بالإفهام وعدمه ، ولا بين كونه مشمولا للحكم وعدمه. والمناقشة في المثال لا تقدح في صحة المدعى.

__________________

(١) الوسائل ، ج ٨ ، الباب ٨ من أبواب وجوب الحج الحديث ١٠ ص ٢٣.

٢٨٢

ويصح (١) به الاحتجاج لدى المخاصمة واللجاج ، كما تشهد به (٢) صحة الشهادة بالإقرار من كل من سمعه (٣) ولو قصد عدم افهامه فضلا عما إذا لم يكن بصدد افهامه (*).

______________________________________________________

(١) معطوف على «لا يسمع» أي : ولذا يصح ، وضمير «به» راجع إلى «ظاهر» يعني : ويصح احتجاج المولى بظاهر كلامه على العبد التارك للعمل به مع كونه غير مقصود بالإفهام ، فصحة الاحتجاج تكشف عن حجية الظواهر مطلقاً.

(٢) أي : كما تشهد ـ بعدم سماع الاعتذار وصحة الاحتجاج بظاهر الكلام ـ صحة الشهادة بالإقرار ... إلخ.

(٣) أي : سمع الإقرار ، وقوله : «من كل» متعلق بالشهادة ، أي : يصح الشهادة بالإقرار من كل أحد سمع ذلك الإقرار ، كما إذا سمع زيد شخصاً يقول : «لعمرو عليّ عشرة دراهم» ولم يكن زيد مقصوداً بالإفهام ، فانه يصح لزيد أن يشهد أن هذا الشخص أقر بالدراهم لعمرو عليه ، بل تصح الشهادة المذكورة حتى إذا علم زيد بأن المتكلم قصد عدم افهامه بكلامه.

__________________

(*) الحق أن يقال : ان ظاهر اللفظ سواء كان ناشئاً من الوضع أم غيره حجة ببناء العقلاء مطلقاً من غير فرق بين من قصد افهامه به وغيره ، ولا بين ظاهر الكتاب والسنة وغيرهما ، لاستقرار بناء العقلاء على ذلك.

نعم إذا علم من حال المتكلم أنه بصدد بيان مقصوده لخصوص المخاطب أو غيره ممن قصد افهامه بألفاظ خاصة كالرموز بحيث يريد إخفاء مرامه عمن لم يقصد افهامه بها ، فلا شك في عدم حجية هذه الظواهر حينئذ بالنسبة إلى غير من قصد افهامه ، بل لا ينعقد ظهور لكلامه حتى ينازع في حجيته بالنسبة

٢٨٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

إلى من لم يقصد افهامه ، لكون هذا البناء منه قرينة مانعة عن انعقاد ظهور لكلامه.

فان كان هذا مقصوده من التفصيل فليس هو تفصيلا في حجية الظهور بين من قصد افهامه وغيره ، بل هو تفصيل بين الكلام الّذي له ظهور وبين الكلام الّذي ليس له ظهور ، وهو خارج عن موضوع البحث ، لأن ظاهر العنوان هو انعقاد الظهور ، والخلاف انما هو في حجيته مطلقاً كما هو المشهور ، أو حجيته لخصوص من قصد افهامه كما نسب إلى المحقق القمي قدس‌سره وان كانت عبارته لا تخلو من اضطراب بالنسبة إلى أن مورد البحث في ظواهر الكتاب والسنة هل هو حجيتها بالنسبة إلى من قصد افهامه دون غيره أم انعقاد الظهور لهما ، فلا ظهور لهما بالنسبة إلى غير المقصودين بالإفهام ، فالأولى حينئذ نقل عبارته.

قال في بحث السنة : «وأما السنة المعلومة الصدور عنه عليه‌السلام ، فيحتمل ضعيفاً أن تكون مثل المصنفات والمكاتيب ، ولكن الأظهر أن يكون المراد منها تفهيم المخاطبين وبلوغ نفس الحكم إلى من سواهم بواسطة تبليغهم ، ومع ذلك فلا يعلم من حاله رضاه عليه‌السلام بما يفهمه غير المشافهين حتى يكون ظناً معلوم الحجية ... إلى أن قال : وثبوت اشتراكنا غير المشافهين حتى يكون ظناً معلوم الحجية ... إلى أن قال : وثبوت اشتراكنا معهم في أصل التكليف بالإجماع لا يوجب اشتراكنا معهم في كيفية الفهم من هذه الأدلة ، وتوجه الخطاب إلينا ، ولا إجماع على مساواتنا في العمل بالظن الحاصل منها لنا».

وقال في بحث الاجتهاد والتقليد : «لكنا نقول : المسلم منه حجية متفاهم المشافهين والمخاطبين ومن يحذو حذوهم ، لأن مخاطبته كان معهم ، والظن الحاصل للمخاطبين من جهة أصالة الحقيقة أو القرائن المجازية حجة إجماعاً» إلى أن قال : «والحاصل :

٢٨٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

أن دعوى العلم بأن وضع الكتاب العزيز انما هو على وضع تأليف المصنفين سيما في الأحكام الفرعية دعوى لا يفي بإثباتها بينة».

أقول : يكفي في إثباتها بناء العقلاء على حجية الظواهر مطلقاً ، وعدم الوجه في اختصاص حجية ظواهر الروايات المتضمنة للأحكام بخصوص الرّواة بعد كون مضامينها أحكاماً كلية لجميع المكلفين ، واقتضاء ارتكاز رواة أحاديثنا السؤال من الحكم الكلي ، فلا موجب لجعل تلك الأحكام مختصة بالرواة وإثباتها لغيرهم بقاعدة الاشتراك مثلا كما ادعاه المحقق القمي.

ومما ذكرنا يظهر ما في قوله : «ولا إجماع على مساواتنا في العمل بالظن الحاصل منها لنا» حيث ان ظاهره تسليم ظهور الكتاب العزيز بالنسبة إلى غير المخاطبين ، لكنه لا دليل على اعتباره شرعاً ، لما مر آنفاً أيضا من حجية ظواهر الألفاظ ما لم يحرز قرينة على إرادة الخلاف ، ومجرد احتمال نصب القرينة وإرادة خلاف الظاهر لا يقدح في حجية بناء العقلاء على اتباع الظواهر بعد وضوح بنائهم على نفي القرينة بالأصل العقلائي.

والحاصل : أن ما أفاده المحقق القمي (قده) من الفرق بين المقصود بالإفهام وغيره يرجع إلى جريان أصالة عدم الغفلة والخطأ في الأول دون الثاني ، حيث ان عدم إرادة الظاهر بالنسبة إلى المقصود بالإفهام ناش عن غفلة المتكلم عن نصب القرينة على إرادة خلاف الظاهر ، أو عن غفلة المخاطب عن القرينة المنصوبة من المتكلم ، واحتمال الغفلة في كليهما مدفوع بأصالة عدم الغفلة التي هي من الأصول العقلائية.

وهذا بخلاف من لم يقصد افهامه ، لعدم انحصار عدم إرادة الظاهر

٢٨٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

بالنسبة إليه في هذين الاحتمالين حتى يندفعا بأصالة عدم الخطاء والغفلة ، لإمكان أن يكون منشؤه اختفاء القرائن لأجل أمور خارجية ، فلم يثبت منهم بناء على عدم الاعتناء بهذا الاحتمال.

والسر في ذلك : أنه لا يجب على المتكلم أن يعالج اختفاء القرائن الحالية أو المقالية عمن لم يقصد افهامه ، بل الواجب عليه عند أبناء المحاورة إلقاء كلامه على وجه يفي بتمام مراده بالنسبة إلى من قصد افهامه.

ثم انه فرّع على هذا المسلك عدم حجية ظواهر الكتاب والسنة ، لاختصاص حجيتها بالمشافهين المقصودين بالإفهام ، ومنه نشأ انسداد باب العلمي إلى معظم الأحكام ، لأن إنكار حجية ظواهرهما يوجب الانسداد المزبور.

فدعوى المحقق المذكور تنحل إلى كبرى وصغرى :

أما الأولى ، فهي عدم حجية الظواهر بالنسبة إلى من لم يقصد افهامه ، لما ذكر من الوجه.

وأما الثانية ، فهي كون ظواهر الكتاب والسنة من الظواهر التي لم يقصد إفهامها لغير المخاطبين. أما الكتاب ، فلعدم توجه خطاباته إلينا وعدم كونه من قبيل الكتب المقصود افهام كل من يرجع إليها. وأما الروايات ، فلان أكثرها أجوبة عن الأسئلة ، فهي موجهة إلى الرّواة دون غيرهم.

وقد عرفت الإشكال في كل من الكبرى والصغرى ، إذ في الأولى : أن منشأ احتمال عدم إرادة خلاف الظاهر بالنسبة إلى من لم يقصد افهامه وان لم يكن منحصراً بغفلة المتكلم عن نصب القرينة أو غفلة المخاطب عن الالتفات إليها ، إلّا أن أصالة الظهور أصل برأسه ، وعليه استقرت طريقة العقلاء في الأخذ بالظواهر

٢٨٦

ولا فرق في ذلك (١) بين الكتاب المبين وأحاديث سيد المرسلين

______________________________________________________

٢ ـ التفصيل في حجية الظواهر بين الكتاب وغيره

(١) أي : في حجية الظواهر ، وهذا هو القول الثالث المنسوب إلى جماعة من المحدثين ، وهو التفصيل في حجية الظواهر بين ظواهر الكتاب فليست بحجة وبين ظواهر غير الكتاب فهي حجة ، وقد تعرض شيخنا الأعظم لهذا التفصيل بقوله : «أما الكلام في الخلاف الأول فتفصيله : أنه ذهب جماعة من الأخباريين إلى المنع عن العمل بظواهر الكتاب من دون ما يرد التفسير وكشف المراد عن الحجج المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين ، وأقوى ما يتمسك لهم على ذلك وجهان ... إلخ».

__________________

وعدم الاعتناء باحتمال إرادة خلافها ، ومنشأ هذا الأصل استقرار سيرة العقلاء في محاوراتهم على إرادة ظواهر الأقوال بملاحظة القرائن العامة أو الخاصة الحالية أو المقالية ، ومنشأ أصالة عدم الغفلة هو ما يقتضيه طبع الإنسان من عدم صدور السهو والغفلة عنه.

وفي الثانية : أن الكتاب العزيز والروايات من قبيل كتب المصنفين كما مر آنفاً.

وأما ما عن المحقق القمي (قده) من منع حجية الاخبار بالنسبة إلينا لوقوع التقطيع الهادم لظهورها ، ففيه : أن ذلك التقطيع يهدم الظهور ممن لا يعرف أسلوب الكلام والقواعد العربية ، أو لا يبالي بتغير الأحكام الشرعية ، وأما العارف بأساليب الكلام والمبالي بالاحكام والورع في الدين كالكليني والشيخ وغيرهما من أرباب الجوامع ، فلا يقدح التقطيع في الظهور ، وكذا الحال في اعتماد الأئمة الأطهار عليهم الصلاة والسلام على القرائن المنفصلة ، فانه لا يهدم الظهور ، بل يوجب الفحص عن القرينة ، وعدم جواز العمل بالظواهر قبل الفحص.

٢٨٧

والأئمة الطاهرين (١) وان ذهب بعض الأصحاب إلى عدم حجية ظاهر الكتاب ، اما بدعوى (٢) اختصاص فهم القرآن ومعرفته بأهله ومن خوطب

______________________________________________________

أحدهما : الاخبار المتواترة المدعى ظهورها في ذلك ...» والوجه الأول من الوجهين المذكورين في الرسائل هو الاخبار وهي على طوائف.

الأولى : ما تدل على اختصاص فهم القرآن بمن خوطب به وقد جعلها المصنف أول الوجوه كما سيأتي. الثانية : ما يدل على النهي عن تفسير القرآن بالرأي ، وقد جعلها المصنف خامس الوجوه. الثالثة : ما تدل على أن للقرآن مضامين عالية لا تصل إليها أفكار الرّجال ، وجعلها المصنف هنا وفي حاشية الرسائل ثاني الوجهين ، والوجه الثاني المذكور في الرسائل قد جعله المصنف رابع الوجوه ، وسيأتي الحديث عنه.

(١) أو غيرهم عليهم‌السلام.

(٢) هذا هو الوجه الأول ، وحاصله : منع الصغرى وهي الظهور ، واختصاص فهم القرآن بمن خوطب به ، كما يرشد إليه جملة من النصوص المتضمنة لذلك.

منها : ما عن بعض أصحاب أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث أنه «قال أبو عبد الله عليه‌السلام لأبي حنيفة : أنت فقيه أهل العراق؟ قال : نعم ، قال : فبِمَ تفتيهم؟ قال : بكتاب الله وسنة نبيه ، قال : يا أبا حنيفة : تعرف كتاب الله حق معرفته وتعرف الناسخ والمنسوخ؟ قال : نعم ، قال : يا أبا حنيفة : لقد ادعيت علماً ، ويلك ما جعل الله ذلك الا عند أهل الكتاب الذين أنزل عليهم ، ويلك ولا هو الا عند الخاصّ من ذرية نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما ورثك الله من كتابه حرفاً ـ وذكر الاحتجاج عليه ـ إلى أن قال : يا أبا حنيفة إذا ورد

٢٨٨

.................................................................................................

______________________________________________________

عليك شيء ليس في كتاب الله ولم تأتِ به الآثار والسنة كيف تصنع؟ فقال : أصلحك الله أقيس وأعمل فيه برأيي ، فقال : يا أبا حنيفة : ان أول من قاس إبليس الملعون قاس على ربنا تبارك وتعالى ، فقال : أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ، قال : فسكت أبو حنيفة ، فقال : يا أبا حنيفة أيما أرجس البول أو الجنابة؟ فقال : البول ، فقال : فما بال الناس يغتسلون من الجنابة ، ولا يغتسلون من البول؟ فسكت ، فقال : يا أبا حنيفة : أيما أفضل : الصلاة أم الصوم؟ قال : الصلاة ، قال : فما بال الحائض تقضي صومها ، ولا تقضي صلاتها؟ فسكت» (١).

ومنها : ما رواه زيد الشحام ، قال : «دخل قتادة بن دعامة على أبي جعفر عليه‌السلام فقال : يا قتادة أنت فقيه أهل البصرة؟ فقال : هكذا يزعمون ، فقال : أبو جعفر عليه‌السلام : بلغني أنك تفسر القرآن ، فقال له قتادة : نعم ، فقال له أبو جعفر عليه‌السلام : بعلم تفسره أم بجهل؟ قال : لا بعلم ، فقال له أبو جعفر عليه‌السلام : فان كنت تفسره بعلم فأنت أنت وأنا أسألك ، قال قتادة : سل ، قال : أخبرني عن قول الله عزوجل في سبإ : وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما آمنين ، فقال قتادة : ذلك من خرج من بيته بزاد حلال وراحلة وكراء حلال يريد هذا البيت كان آمناً حتى يرجع إلى أهله ، فقال أبو جعفر عليه‌السلام : نشدتك الله يا قتادة هل تعلم أنه قد يخرج الرّجل من بيته بزاد حلال وراحلة وكراء حلال يريد هذا البيت فيقطع عليه الطريق فتذهب نفقته ويضرب مع ذلك ضربة فيها اجتياحه؟ قال قتادة : اللهم نعم ، فقال أبو جعفر عليه‌السلام : ويحك يا قتادة ان كنت انما فسرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت وان كنت قد أخذته من الرّجال فقد هلكت وأهلكت ، ويحك يا قتادة ذلك من

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٨ ، الباب السادس من أبواب صفات القاضي الحديث ٢٧.

٢٨٩

به ، كما يشهد به (١) ما ورد في ردع أبي حنيفة وقتادة عن الفتوى به.

أو بدعوى أنه لأجل احتوائه (٢) على مضامين شامخة ومطالب

______________________________________________________

خرج من بيته بزاد وراحلة وكراء حلال يروم هذا البيت عارفاً بحقنا يهوانا قلبه ، كما قال الله عزوجل : واجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم ، ولم يعن البيت ، فيقول : إليه ، فنحن والله دعوة إبراهيم عليه‌السلام التي من هوانا قلبه قبلت حجته ، وإلّا فلا ، يا قتادة : فإذا كان كذلك كان آمناً من عذاب جهنم يوم القيامة ، قال قتادة : لا جرم والله لا فسّرتها الا هكذا ، فقال أبو جعفر عليه‌السلام : ويحك يا قتادة انما يعرف القرآن من خوطب به» (١).

وهاتان الروايتان تدلان على اختصاص فهم القرآن بالأئمة الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين ، فليس للقرآن ظهور بالنسبة إلى غيرهم عليهم‌السلام حتى يجوز العمل به حتى لو سلم حجية الظواهر.

(١) أي : بهذا الاختصاص ، وضمير «به» الآتي راجع إلى ظاهر الكتاب.

(٢) هذا الضمير وضمير «أنه» راجعان إلى الكتاب ، وهذا هو الوجه الثاني وحاصله : منع الصغرى أيضا ـ وهي الظهور ـ بعد عدم معرفة أبناء المحاورة بتلك المعاني الغامضة ، فجهلهم بها يمنع عن انعقاد الظهور ، ويشهد لهذا الوجه بعض الروايات :

منها : ما رواه العياشي في تفسيره عن عبد الرحمن بن الحجاج قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : ليس شيء أبعد من عقول الرّجال عن القرآن» (٢) ووردت هذه العبارة في رواية جابر (٣) ، ولأجل علو مضامين الكتاب العزيز لا يبلغ

__________________

(١) الكافي ، الروضة ، ص ٣١١ الحديث ٤٨٥.

(٢) الوسائل ، ج ١٨ ، الباب ١٣ من أبواب صفات القاضي ، ص ١٤٩ ، الحديث ٦٩.

(٣) الوسائل ، ج ١٨ ، الباب ١٣ من أبواب صفات القاضي ص ١٥٠ الحديث ٧٤.

٢٩٠

غامضة عالية لا يكاد تصل إليها أيدي أفكار أولي الأنظار غير الراسخين العالمين (١) بتأويله ، كيف (٢) ولا يكاد يصل إلى فهم كلمات الأوائل (٣) الا الأوحدي من الأفاضل؟ فما ظنك بكلامه تعالى مع اشتماله على علم ما كان (٤) وما يكون وحكم كل شيء.

______________________________________________________

أحد كنه معانيه الا النبي وأوصياؤه صلوات الله عليهم أجمعين.

(١) وهم كما في عدة من الأحاديث : أمير المؤمنين والأئمة من ولده عليهم‌السلام.

منها : ما رواه عبد الرحمن بن كثير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «الراسخون في العلم أمير المؤمنين عليه‌السلام والأئمة من ولده عليهم‌السلام» (١).

(٢) أي : كيف تصل أيدي أفكار أولي الأنظار إلى مضامين الكتاب العزيز العالية والحال أنه لا يكاد يصل ... إلخ.

(٣) وهم المتقدمون في العلم ، لأنهم الأوائل في الرتبة ، فان غيرهم متأخر عنهم فيها.

(٤) كما ورد في عدة من الروايات :

منها : ما رواه مرازم عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «قال الله تبارك وتعالى أنزل في القرآن تبيان كل شيء حتى والله ما ترك الله شيئاً يحتاج إليه العباد حتى لا يستطيع عبد يقول لو كان هذا أنزل في القرآن الا وقد أنزله الله فيه» (٢).

ومنها : ما رواه عمر بن قيس عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «سمعته يقول : ان الله تبارك وتعالى لم يدع شيئاً يحتاج إليه الأمة الا أنزله في كتابه وبينه لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله الحديث (٣).

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٨ ، الباب ١٣ من أبواب صفات القاضي ص ١٣٢ ، الحديث ٧.

(٢) الكافي ، ج ١ ص ٥٩ ، الحديث ١ وغيرهما مما دل على أن في القرآن علم ما مضى وما يأتي إلى يوم القيامة.

(٣) الكافي ، ج ١ ص ٥٩ ، الحديث ٢ وغيرهما مما دل على أن في القرآن علم ما مضى وما يأتي إلى يوم القيامة.

٢٩١

أو بدعوى (١) شمول المتشابه الممنوع عن اتباعه للظاهر ، لا أقل

______________________________________________________

(١) هذا هو الوجه الثالث ، حكاه شيخنا الأعظم عن السيد الصدر ، قال الشيخ ملخّصاً كلام السيد : «ان المتشابه كما يكون في أصل اللغة كذلك يكون بحسب الاصطلاح مثل أن يقول أحد : انا استعمل العمومات وكثيراً ما أريد الخصوص من غير قرينة ، وربما أخاطب أحداً وأريد غيره ، ونحو ذلك ، فحينئذ لا يجوز لنا القطع بمراده ولا يحصل لنا الظن به ، والقرآن من هذا القبيل ، لأنه نزل على اصطلاح خاص ... إلى أن قال : ذم على اتباع المتشابه ولم يبين لهم المتشابهات ما هي وكم هي ، بل لم يبين لهم المراد من هذا اللفظ وجعل البيان موكولا إلى خلفائه ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله نهي الناس عن التفسير بالآراء وجعلوا الأصل عدم العمل بالظن الا ما أخرجه الدليل ... وأيضا ذم الله تعالى من اتباع الظن ، وكذا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يستثنوا ظواهر القرآن ...» (*).

وحاصل ما أفاده المصنف في تقريبه هو : منع الكبرى ـ وهي حجية كل ظهور ـ بدعوى إجمال المتشابه ، واحتمال شموله للظاهر ، ويكفي في عدم حجية الظاهر احتمال شمول المتشابه له ، إذ احتمال اندراجه في المتشابه يوجب

__________________

(*) ويظهر من هذه العبارة أن السيد الصدر يسلّم الصغرى وهي أصل الظهور ، ولكنه يمنع حجيته بزعم اندراجه في المتشابه ، خلافاً لما استظهره المصنف منها في حاشية الرسائل من جعل النزاع صغروياً ، حيث قال فيها : «ثالثها كون المنع لأجل أن ما يتراءى فيه ظاهراً ليس بظاهر ، اما لما عن السيد الصدر من أنه على اصطلاح خاص من وضع جديد أو مجازات لا يعرفها العرب» وان كان في نسبة الوضع الجديد إليه منع ، لتصريحه بنفيه.

وكيف كان فالإنصاف أن عبارات السيد مضطربة ، فيستفاد من بعضها صغروية النزاع ومن بعضها كبرويته ، فلاحظ.

٢٩٢

من احتمال شموله له (١) ، لتشابه (٢) المتشابه وإجماله.

أو بدعوى أنه (٣) وان لم يكن منه ذاتاً ، إلّا أنه (٤) صار منه عرضاً ، للعلم (٥) الإجمالي بطروّ التخصيص والتقييد والتجوز في غير واحد من ظواهره (٦)

______________________________________________________

الشك في حجيته ، وقد عرفت أن مقتضى الأصل في مشكوك الحجية عدم جواز العمل به.

(١) أي : شمول المتشابه للظاهر.

(٢) تعليل لقوله : «لا أقل ...» و «إجماله» عطف تفسير للمتشابه ، يعني : بعد كون المتشابه مجملا فيحتمل شموله للظاهر أيضا.

(٣) أي : أن ظاهر الكتاب ، وهذا هو الوجه الرابع ، وقد جعله شيخنا الأعظم ثاني الوجهين ، حيث قال : «انا نعلم بطرو التخصيص والتقييد والتجوز في أكثر ظواهر الكتاب ، وذلك مما يسقطها عن الظهور» وحاصله : منع الصغرى ـ وهي الظهور ـ بتقريب : أن ظاهر الكتاب وان لم يكن ذاتاً مندرجاً في المتشابه ، لكنه مندرج فيه عرَضاً ، فيسقط عن الظهور ، لأجل العلم الإجمالي بطرو التخصيص والتقييد والتجوز في الكتاب ، وهذا العلم الإجمالي يمنع عن الرجوع إلى الأصول المرادية ، كأصالة عدم التخصيص وغيرها ، والمفروض أن حجية الظاهر منوطة بجريان الأصول المرادية ، ومع عدم جريانها ـ كعدم جريان الأصول العملية في أطراف الشبهة المحصورة ـ يسقط الظاهر عن الحجية ، فيكون الظاهر حينئذ بحكم المتشابه في عدم الحجية.

(٤) أي : أن ظاهر الكتاب ، وضمير «منه» في الموضعين راجع إلى المتشابه.

(٥) تعليل لصيرورة الظاهر من المتشابه عرضاً وان لم يكن ذاتاً متشابهاً.

(٦) أي : ظواهر الكتاب.

٢٩٣

كما هو الظاهر (*)

أو بدعوى (١) شمول الاخبار الناهية عن تفسير القرآن بالرأي

______________________________________________________

(١) هذا هو الوجه الخامس ، وحاصله منع الكبرى وهي حجية كل ظهور بدعوى شمول الاخبار ـ الناهية عن التفسير بالرأي ـ لحمل الكلام على ظاهره ، فيحرم حمل الظاهر على ما هو ظاهر فيه ، لأنه مصداق للتفسير بالرأي المنهي عنه ، والروايات الناهية عن التفسير بالرأي عديدة.

منها : ما رواه الريان بن الصلت عن الرضا عليه‌السلام عن آبائه عليهم‌السلام قال : «قال الله عزوجل. ما آمن بي من فسر برأيه كلامي» الحديث (١).

ومنها : ما رواه عبد الرحمن بن سمرة قال : «قال رسول الله : لعن الله المجادلين في دين الله على لسان سبعين نبياً ، ومن جادل في آيات الله كفر ، قال الله : وما يجادل في آيات الله الا الذين كفروا ، ومن فسّر القرآن برأيه فقد افترى على الله الكذب ، ومن أفتى الناس بغير علم لعنته ملائكة السماوات والأرض ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة سبيلها إلى النار» الحديث (٢).

ومنها : ما رواه أبو البختري عن الصادق عن آبائه عليهم‌السلام : «ان أهل البصرة كتبوا إلى الحسين بن علي عليهما‌السلام ... إلى أن قال عليه‌السلام : فاني سمعت

__________________

(*) هكذا وقع فيما بأيدينا من النسخ ، والصواب «كما هو ظاهر» بإسقاط اللام ، لأن غرضه بيان وضوح طروّ الإجمال عرضاً على ظواهر الكتاب بسبب التخصيص والتقييد وغيرهما ، وهذا لا يلائم التعبير عنه بـ «الظاهر» لأنه يوهم الترديد فيه ، وهو ينافي جزمه الناشئ من العلم الإجمالي بكثرة التخصيص والتقييد.

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٨ ، الباب ١٣ من أبواب صفات القاضي ص ١٣٧ الحديث ٢٨.

(٢) نفس المصدر ص ١٤٠ الحديث ٣٧).

٢٩٤

لحمل (١) الكلام الظاهر في معنى على إرادة هذا المعنى (٢).

ولا يخفى (٣) أن النزاع يختلف صغروياً وكبروياً بحسب الوجوه ، فبحسب غير الوجه الأخير والثالث يكون صغروياً ، وأما بحسبهما فالظاهر أنه كبروي (٤) ، ويكون المنع عن الظاهر إما لأنه من المتشابه

______________________________________________________

جدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار» الحديث (١).

ومنها : ما رواه أبو بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «من فسر القرآن برأيه ان أصاب لم يؤجر وان أخطأ خرّ أبعد من السماء» (٢).

(١) متعلق بـ «شمول» وقوله : «على إرادة» متعلق بـ «حمل».

(٢) أي : الظاهر ، فحمل الكلام على ظاهره منهي عنه ، لأنه مصداق للتفسير بالرأي.

(٣) حاصله : أن الوجوه الخمسة المذكورة تختلف مقتضاها ، فالنزاع بحسب الوجه الأخير والثالث كبروي ، إذ مقتضاهما ـ كما تقدم ـ عدم حجية الظاهر لا منع أصل الظهور ، وبحسب الوجه الأول والثاني والرابع صغروي ، لأن مقتضاها عدم انعقاد الظهور لكلامه تعالى.

(٤) يعني : وان سلمت الصغرى ـ وهي : القرآن له ظاهر ـ لكن مقتضى الوجه الثالث والأخير منع كلية الكبرى ـ وهي : كل ظاهر حجة ـ حتى الّذي ردع الشارع عن اتباعه كظاهر القرآن ، فيكون سبب منع الكبرى اما لأن ظاهر القرآن من المتشابه ، واما لكونه من التفسير بالرأي. وضمير «اما لأنه» راجع إلى القرآن.

__________________

(١) نفس المصدر ص ١٤٠ الحديث ٣٥.

(٢) نفس المصدر ص ١٤٩ الحديث ٦٦.

٢٩٥

قطعاً أو احتمالا (١) ، أو لكون حمل الظاهر على ظاهره من التفسير بالرأي (٢).

وكل هذه الدعاوي فاسدة.

أما الأولى ، فبأن [فانما] المراد (٣) مما دل على اختصاص فهم القرآن ومعرفته بأهله اختصاص فهمه بتمامه بمتشابهاته ومحكماته (٤) ، بداهة (٥) أن فيه ما لا يختص به (٦) كما لا يخفى. وردع أبي حنيفة (٧) وقتادة

______________________________________________________

(١) كما هو مقتضى الوجه الثالث.

(٢) كما هو مقتضى الوجه الخامس. وبالجملة : فوجه المنع كبروياً بحسب الوجه الثالث والخامس بعد تسليم الصغرى ـ وهي أن للقرآن ظهوراً ـ هو كونه من المتشابه أو من التفسير بالرأي.

(٣) حاصل ما ذكره في الجواب عن الدعوى الأولى يرجع إلى وجوه ثلاثة : الأول : أن المراد من الاخبار الدالة على اختصاص فهم القرآن بأهله هو فهم مجموعه من حيث المجموع من متشابهه ومحكمه وناسخه ومنسوخه وعامه وخاصه وغير ذلك ، لا فهم كل آية آية ، لوضوح أن في الكتاب المجيد ما لا يختص فهمه بهم عليهم‌السلام وهو ما يكون صريحاً في معناه كقوله تعالى : «حرمت عليكم الميتة والدم ...» فانها نصّ في التحريم.

(٤) الضمائر الأربعة راجعة إلى القرآن.

(٥) تعليل لإثبات إرادة فهم تمام القرآن ، وقد عرفت توضيحه.

(٦) أي : أن في القرآن آيات لا يختص فهمها بأهله.

(٧) هذا هو الجواب الثاني عن الدعوى الأولى ، وحاصله : أنه ـ بعد تسليم أن يكون المراد اختصاص فهم كل واحدة من الآيات وان كانت ظاهرة بهم عليهم‌السلام ـ يراد من الردع عن العمل بالظواهر العمل بها استقلالا لا مطلقاً حتى بعد

٢٩٦

عن الفتوى به انما (١) هو لأجل الاستقلال به في الفتوى بالرجوع إليه (٢) من دون مراجعة أهله ، لا عن (٣)

______________________________________________________

الفحص عما ورد منهم عليهم‌السلام من المخصص والمقيد وغيرهما. ويشهد له سؤال الإمام عليه‌السلام عن أبي حنيفة : «أتعرف الناسخ والمنسوخ» إذ يدل على كون المانع عن التمسك بظواهر القرآن والاستدلال بها هو عدم معرفة الناسخ والمنسوخ وغيرهما ، فإذا عرف ذلك بعد الفحص فقد ارتفع المانع ، وجاز التشبث بها.

وبالجملة : فردع أبي حنيفة لا يمنع عن العمل بالظواهر مطلقاً كما هو مقصود المستدل ـ على ما ينسب إليه ـ بل يمنع عن العمل بها استقلالا ، وبدون الرجوع إلى ما ورد عنهم عليهم‌السلام من المخصص والقرينة وغيرهما.

وقد ذكر الشيخ الأعظم هذا الجواب بقوله : «إذ لو سلم كون مطلق حمل اللفظ على معناه تفسيراً ، لكن الظاهر أن المراد بالرأي هو الاعتبار العقلي الظني الراجع إلى الاستحسان ... إلى أن قال : ان المنهي في تلك الاخبار المخالفون الذين يستغنون بكتاب الله عن أهل البيت عليهم‌السلام بل يخطئونهم به ، ومن المعلوم ضرورة من مذهبنا تقديم نصّ الإمام عليه‌السلام على ظاهر القرآن كما أن المعلوم ضرورة من مذهبهم العكس ، ويرشدك إلى هذا ما تقدم في رد الإمام على أبي حنيفة ، حيث انه يعمل بكتاب الله ، ومن المعلوم أنه انما كان يعمل بظواهره لا أنه كان يؤوله بالرأي ، إذ لا عبرة بالرأي عندهم مع الكتاب والسنة ... إلخ».

(١) خبر «وردع» وضمير «به» راجع إلى ظاهر القرآن.

(٢) أي : إلى ظاهر الكتاب ، وقوله : «بالرجوع» متعلق بـ «الفتوى».

(٣) معطوف على «لأجل الاستقلال» والمقصود من العبارة : أن ردع المعصوم عليه‌السلام لأبي حنيفة وقتادة ليس ردعاً عن الفتوى مطلقاً ولو كان

٢٩٧

الاستدلال بظاهره مطلقاً ولو (١) بالرجوع إلى رواياتهم والفحص (٢) عما ينافيه والفتوى (٣) به مع اليأس عن الظفر به ، كيف (٤)؟

______________________________________________________

بالرجوع إليهم عليهم‌السلام ، بل ردعهم عليهم‌السلام انما هو عن الإفتاء المستند إلى ظاهر الكتاب من دون مراجعة أبي حنيفة وأضرابه إلى الأئمة عليهم‌السلام.

وحق العبارة أن تكون هكذا «لا لأجل أصل الاستدلال».

(١) بيان للإطلاق ، وضمير «بظاهره» راجع إلى القرآن.

(٢) معطوف على «الرجوع».

(٣) معطوف على «الاستدلال» وضميرا «ينافيه ، به» راجعان إلى ظاهر القرآن ، والضمير في «الظفر به» راجع إلى الموصول في «ما ينافيه» المراد به المخصص أو المقيد ونحوهما.

(٤) أي : كيف يكون الردع عن الاستدلال بظاهر الكتاب مع الرجوع إلى رواياتهم ، مع أنه قد وقع ... إلخ ، وهذا هو الجواب الثالث عن الدعوى الأولى ، وحاصله : أنه لا بد من إخراج الظواهر عما دل على اختصاص فهم كل آية من الآيات بهم عليهم‌السلام ، إذ هو مقتضى التوفيق بينه وبين الاخبار الكثيرة الآمرة بالرجوع إلى الكتاب العزيز في موارد متفرقة ، كالاخبار الدالة على عرض الروايات المتعارضة على الكتاب ، وما دل على بطلان الشرط المخالف للكتاب ، وما دل على وجوب الرجوع إلى الكتاب ، وغير ذلك ، فانه لا يمكن طرح تلك الاخبار الكثيرة لأجل ما دل على اختصاص فهم القرآن بأهله عليهم‌السلام. والنسبة بين تلك الاخبار وبين ما يدل على هذا الاختصاص وان كانت عموماً من وجه ، لاجتماعهما في الظواهر ، وافتراقهما في النصوص والمتشابهات إلّا أن الجمع العرفي بينهما يقتضي حمل الاخبار الكثيرة على الظواهر ، وحمل

٢٩٨

وقد وقع في غير واحد من الروايات الإرجاع إلى الكتاب والاستدلال (١) بغير واحد من آياته [من الآيات].

وأما الثانية ، فلأن احتواءه (٢) على المضامين العالية الغامضة لا يمنع عن فهم ظواهره المتضمنة للأحكام وحجيتها (٣)

______________________________________________________

غيرها على غير الظواهر ، وعلى الظواهر قبل الفحص.

فالمتحصل : أن ظواهر الكتاب حجة كحجية الاخبار ، غاية الأمر : أن ظاهر الكتاب كظاهر السنة لا يجوز العمل به قبل الفحص عن المخصص وغيره. قال الشيخ الأعظم : «هذا كله مع معارضة الاخبار المذكورة بأكثر منها مما يدل على جواز التمسك بظاهر القرآن مثل خبر الثقلين المشهور بين الفريقين وغيرها مما يدل على الأمر بالتمسك بالقرآن والعمل بما فيه ...».

(١) معطوف على «الإرجاع» كما في خبر عبد الأعلى مولى آل سام الوارد في المسح على المرارة المتضمن لقوله عليه‌السلام : «يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله : ما جعل عليكم في الدين من حرج».

(٢) أي : احتواء القرآن ، وهذا رد للدعوى الثانية ـ وهي اشتمال الكتاب على المطالب الشامخة المانعة عن انعقاد الظهور له ـ وحاصل الرد : أن اشتمال الكتاب على تلك المطالب لا يمنع عن حجية الظاهر في الآيات المتضمنة للأحكام الشرعية فضلا عن أصل ظهورها فيها ، لأن تلك المطالب تكون في بطون الآيات ومن قبيل المعاني الكنائية ، ولا ربط لها بالمعاني التي تكون الألفاظ ظاهرة فيها عند أبناء المحاورة.

وان شئت فقل : ان محل الكلام هو حجية ظواهر آيات الأحكام ، ومن المعلوم عدم المجال لإنكار الظهور بالنسبة إليها.

(٣) أي : حجية الظواهر ، وضمير «هو» راجع إلى فهم ظواهر آيات

٢٩٩

كما هو (١) محل الكلام.

وأما الثالثة (٢) فللمنع عن كون الظاهر [الظواهر] من المتشابه ، فان (٣) الظاهر كون المتشابه هو خصوص المجمل ، وليس (٤) بمتشابه ومجمل.

______________________________________________________

الأحكام.

(١) لعدم الملازمة والارتباط بين تعذر فهم الغوامض وإمكان فهم ظواهر آيات الأحكام ، فلا منافاة بين فهم بعض الآيات ـ كآيات الأحكام مثلا ـ لوضوح معانيها ، وبين تعذر فهم آيات أخرى لإجمالها ، كما هو الشأن أيضا في بعض الروايات المشتملة على جمل يكون بعضها مجملا وبعضها ظاهراً ، فان إجمال مجملها لا يسري إلى الجمل التي هي ظاهرة في معانيها.

(٢) وهي كون الظاهر من المتشابه ولو احتمالا ، وحاصل ردها : منع كون الظاهر من المتشابه ، إذ المتشابه هو خصوص المجمل ، وليس المتشابه ظاهراً فيما هو أعم من الظاهر ، ولا مجملا ليتردد المتشابه بين الأقل ـ وهو خصوص المجمل ـ والأكثر ـ وهو الشامل للمجمل والظاهر ـ حتى يقال بعدم حجية الظاهر ، لاحتمال كونه من المتشابه. ويظهر هذا الجواب من شيخنا الأعظم (قده) حيث قال في جملة ما أورده على السيد الصدر : «ثم ان ما ذكره من عدم العلم بكون الظواهر من المحكمات ، واحتمال كونها من المتشابهات ممنوع أولا بأن المتشابه لا يصدق على الظواهر لا لغة ولا عرفاً ... إلى أن قال : وثانياً بأن احتمال كونها من المتشابه لا ينفع في الخروج عن الأصل ...».

(٣) تعليل لمنع شمول المتشابه للظاهر.

(٤) أي : وليس لفظ «المتشابه» من الألفاظ المجملة ، بل هو من الألفاظ المبينة ، لأن معناه هو المجمل ، فقوله : «ومجمل» عطف تفسير للمتشابه.

٣٠٠