منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٤

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة دار الكتاب ( الجزائري ) للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٧١

القطعية ، فضعيف (١) جداً ، ضرورة أن احتمال ثبوت المتناقضين (٢) [المناقضة] كالقطع بثبوتهما (٣) [بثبوتها]

______________________________________________________

فالظاهر عدم جوازها سواء كانت في الشبهة الموضوعية كارتكاب الإناءين المشتبهين المخالف لقول الشارع : اجتنب عن النجس أو كترك القصر والإتمام في موارد اشتباه الحكم ، لأن ذلك معصية لذلك الخطاب ، لأن المفروض وجوب الاجتناب عن النجس الموجود بين الإناءين ووجوب صلاة الظهر والعصر ، وكذا لو قال : أكرم زيداً واشتبه بين شخصين ، فان ترك إكرامهما معصية ... إلخ».

(١) هذا جواب «وأما احتمال» وحاصله : أنه لا وجه للتفصيل بين وجوب الموافقة القطعية وبين حرمة المخالفة كذلك ، بدعوى الاقتضاء في الأولى والعلية في الثانية ، وذلك لأن محذور الاذن في ارتكاب جميع الأطراف ـ وهو التناقض بين الترخيص وبين التكليف المعلوم إجمالا الّذي دعا الشيخ الأعظم وغيره إلى الالتزام بالعلية بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية ـ موجود بعينه في الترخيص في بعض الأطراف أيضا ، لأن المعلوم بالإجمال إذا انطبق على مورد الاذن لزم التناقض أيضا ، غاية الأمر أن التناقض في صورة الترخيص في جميع الأطراف قطعي وفي صورة الترخيص في بعضها احتمالي ، واحتمال صدور التناقض من العاقل ـ فضلا عن الحكيم ـ كالقطع بصدوره في استحالته ، فإذا جاز الاذن في ارتكاب بعض الأطراف جاز في الكل. وعليه فيكون العلم الإجمالي مقتضياً مطلقاً وبلا تفاوت بين الموافقة القطعية وبين حرمة المخالفة القطعية.

(٢) يعني : ثبوت المتناقضين في الترخيص في بعض الأطراف ، والمراد بالمتناقضين الحكم المعلوم بالإجمال والحكم الظاهري الّذي هو مقتضى الأصل.

(٣) أي : كالقطع بثبوت المتناقضين ، وذلك في الاذن في ارتكاب جميع

١٨١

في الاستحالة ، فلا يكون (١) عدم [هدم] القطع بذلك (٢) معهما [معها] موجباً لجواز الاذن في الاقتحام (٣) ، بل لو صح معهما (٤) [معها] الاذن في المخالفة الاحتمالية صح في القطعية أيضا (٥) ، فافهم (٦).

______________________________________________________

الأطراف الموجب للإذن في المعصية القطعية ، فكما أن مناقضة الحكم الإلزامي المعلوم إجمالا للترخيص في جميع الأطراف ضرورية ، فكذلك مناقضته للترخيص في بعض الأطراف.

(١) هذا متفرع على التساوي بين المناقضة القطعية وبين المناقضة الاحتمالية ، يعني : أن مجرد عدم القطع بالمناقضة في الاذن بارتكاب بعض الأطراف لا يسوغ الاذن فيه ، بل يكون احتمال التناقض كالعلم به في الاستحالة ، فلا يجوز الاذن في ارتكاب شيء من الأطراف.

(٢) أي : بثبوت المتناقضين ، ويمكن جعل المشار إليه «التناقض» المستفاد من قوله : «المتناقضين» وضمير «معهما» راجع إلى الموافقة الاحتمالية وترك المخالفة القطعية.

(٣) يعني : في بعض الأطراف.

(٤) أي : مع الموافقة الاحتمالية وترك المخالفة القطعية. وفي بعض النسخ «معها» ومرجع الضمير حينئذ «المناقضة الاحتمالية» المستفادة من العبارة.

(٥) يعني : صح الاذن في المخالفة القطعية كالإذن في المخالفة الاحتمالية ، لوحدة المناط ـ وهو عدم التضاد ـ إذ الاذن في ارتكاب بعض الأطراف كاشف عن عدم التناقض أو التضاد ، وهذا موجود أيضا في الترخيص في الكل ، وحيث لم يقل أحد بجواز ارتكاب جميع الأطراف في المخالفة القطعية ، فلا بد من عدم القول بجواز الارتكاب في المخالفة الاحتمالية أيضا.

(٦) لعله إشارة إلى : أن الاذن في ارتكاب بعض الأطراف يمكن أن يكون

١٨٢

ولا يخفى أن المناسب (١)

______________________________________________________

بنحو جعل البدل عن الواقع بأن يجعل الشارع الباقي ـ وهو البعض الآخر الّذي لم يرتكبه المكلف ـ بدلاً عن الحرام الواقعي ، كما هو مذهب من من جوز ارتكاب ما عدا ما يساوي مقدار الحرام الواقعي أو أزيد كالمحقق القمي (قده) في القوانين ، فلا محذور فيه حينئذ ، وهذا بخلاف الاذن في جميع الأطراف.

(١) اعلم : أن كل ما يعد من شئون القطع وأحكامه ينبغي البحث عنه في مبحث القطع ، وكل ما يعد من أحكام الشك وشئونه ينبغي البحث عنه في المقصد المتكفل لمباحث البراءة والاشتغال. وعلى هذا فالمناسب هنا البحث عن تأثير العلم الإجمالي في التنجيز بنحو الاقتضاء أو العلية التامة أو عدم تأثيره أصلا ، فعلى القول بتأثيره فيه بنحو العلية التامة مطلقاً ـ يعني بالنسبة إلى كل من وجوب الموافقة القطعية وحرمة المخالفة كذلك ـ لا يبقى مجال للبحث عنه في البراءة والاشتغال ، لكونه حينئذ كالقطع التفصيليّ في عدم إمكان التعبد بشيء من الأصول معه. وعلى القول بتأثيره بنحو الاقتضاء مطلقاً يبحث عنه في الاشتغال من حيث وجود المانع وعدمه ، ولا مجال للبحث عنه في البراءة ، إذ المفروض العلم بالتكليف النافي للشك الّذي هو موضوع الأصول. وعلى القول بتأثيره بنحو العلية التامة بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية والاقتضاء بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية لا يبقى مجال للبحث عن الجهة الأولى ـ وهي التنجيز وإثبات التكليف ـ إذ التكليف بالنسبة إليها حينئذ ثابت ومنجز ، ويبقى المجال للبحث عن الجهة الثانية وهي ثبوت التكليف وعدم ثبوته ، وأنه ان وجد المانع من تنجزه فهو غير ثابت ، وان فقد فهو ثابت. وعلى القول بعدم تأثير العلم الإجمالي أصلا وكونه كالشك البدوي يبحث عنه في البراءة فقط ، لكونه كسائر الشكوك

١٨٣

.................................................................................................

______________________________________________________

في موضوعيته لأصل البراءة.

فالمتحصل : أنه بناء على تأثير العلم الإجمالي بنحو الاقتضاء مطلقاً يبحث في الاشتغال عن وجود المانع وعدمه ، وبناء على عدم تأثيره مطلقاً يبحث في البراءة عن جريان الأصل في أطراف العلم الإجمالي.

وكيف كان فغرض المصنف (قده) التعريض بشيخنا الأعظم (قده) بوجهين :

الأول : أنه تكلم في العلم الإجمالي من مباحث القطع عن حرمة المخالفة القطعية وأو كل البحث عن وجوب الموافقة القطعية أو كفاية الاحتمالية إلى مباحث الاشتغال ، قال الشيخ في المقام الأول من العلم الإجمالي : «أما المقام الأول وهو كفاية العلم الإجمالي في تنجز التكليف واعتباره كالتفصيلي ، فقد عرفت أن الكلام في اعتباره بمعنى وجوب الموافقة القطعية وعدم كفاية الموافقة الاحتمالية راجع إلى مسألة البراءة والاحتياط ، والمقصود هنا بيان اعتباره في الجملة الّذي أقل مرتبته حرمة المخالفة القطعية» وحاصل تعريض المصنف به : أن المناسب هو البحث عن كل من حرمة المخالفة ووجوب الموافقة في مباحث القطع ، لرجوعهما إلى تنجيزه ، فلا وجه لتأخير البحث عن وجوب الموافقة القطعية وعدمه إلى البراءة والاشتغال اللذين موضوعهما الشك.

الثاني : أن الشيخ الأعظم تعرض لعلية العلم الإجمالي لكل من حرمة المخالفة ووجوب الموفقة القطعيتين في بحث الاشتغال ، حيث عقد للشبهة المحصورة مقامين ، فقال : «أما المقام الأول ، فالحق فيه عدم الجواز وحرمة المخالفة القطعية ، وحكى عن بعض جوازها ، لنا على ذلك وجود المقتضى للحرمة وعدم المانع عنها». وقال في المقام الثاني : «فالحق فيه وجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين وفاقاً للمشهور ...» وحاصل التعريض به : أنهما من آثار العلم لا الشك ، فالمناسب

١٨٤

للمقام (١) هو البحث عن ذلك (٢) ، كما أن (٣) المناسب في باب البراءة والاشتغال بعد الفراغ هاهنا (٤) عن أن تأثيره في التنجز بنحو (٥) الاقتضاء لا العلية هو البحث عن ثبوت المانع شرعاً أو عقلا ، وعدم ثبوته. كما لا مجال بعد البناء على أنه (٦) بنحو العلية للبحث عنه هناك (٧) أصلا ، كما لا يخفى. هذا (٨)

______________________________________________________

هو البحث عنهما هنا ، وما يناسب البحث عنه في الاشتغال هو التعرض لثبوت الترخيص عقلا أو شرعاً في بعض الأطراف أو جميعها بعد البناء على أن العلم الإجمالي مقتض لكلتا المرتبتين ، كما أنه لا وجه للبحث عن الترخيص بعد البناء على عليته التامة للتنجيز مطلقاً كما لا يخفى.

وبالجملة : كل ما يعد من شئون العلم كاستحقاق العقوبة على مخالفته يناسب البحث عنه هنا ، وكل ما يعد من شئون الجهل ينبغي البحث عنه في المقصد المعقود لأحكام الشك من البراءة والاشتغال.

(١) أي : البحث عن أحكام القطع.

(٢) يعني : عن تنجيز العلم الإجمالي بنحو العلية أو الاقتضاء.

(٣) هذا إشارة إلى الإشكال الثاني على الشيخ ، وقد تقدم بقولنا : «الثاني أن الشيخ الأعظم تعرض ... إلخ».

(٤) أي : في أحكام القطع ، وضمير «تأثيره» راجع إلى العلم الإجمالي.

(٥) خبر «أن تأثيره» وقوله : «هو البحث» خبر «أن المناسب».

(٦) أي : أن العلم الإجمالي ، وضمير «ثبوته» راجع إلى المانع.

(٧) يعني : في البراءة والاشتغال ، وضمير «عنه» راجع إلى ثبوت المانع ، وقوله : «للبحث» متعلق بقوله : «لا مجال».

(٨) أي : ما تقدم إلى هنا من كون العلم الإجمالي علة تامة أو مقتضياً انما هو

١٨٥

بالنسبة إلى إثبات التكليف وتنجزه به (١).

وأما سقوطه به (٢) بأن يوافقه إجمالا فلا إشكال فيه (٣) في التوصليات ، وأما في العبادات (٤) [العبادة] فكذلك (٥) فيما لا يحتاج إلى التكرار ،

______________________________________________________

بالنسبة إلى إثبات التكليف وتنجيزه به.

(١) أي : تنجز التكليف بالعلم الإجمالي.

(٢) أي : سقوط التكليف بالعلم الإجمالي وضمير «يوافقه» راجع إلى التكليف.

وهذا هو المقام الثاني من مقامي الأمر السابع ، وحاصله : أنه يبحث تارة عن الامتثال العلمي الإجمالي في التوصليات ، وهي التي يكون المطلوب فيها نفس وجودها في الخارج بأي داع كان ولو بدون قصد القربة. وأخرى يبحث عنه في التعبديات ، فيقع الكلام في جهتين ، الأولى في التوصليات والثانية في التعبديات.

(٣) أي : في السقوط بمعنى موافقة التكليف إجمالا ، وهذا بيان الجهة الأولى وحاصلها : أن المقصود بالتوصليات وجودها في الخارج بأي نحو اتفق من غير فرق بين توقف الاحتياط في التوصليات على التكرار وعدمه.

(٤) هذا بيان الجهة الثانية ، وفيه موضعان للكلام ، الأول : في الاحتياط غير المستلزم للتكرار ، الثاني : في الاحتياط المستلزم له وشرع في بيان الموضع الأول بقوله : «وأما في العبادات فكذلك فيما لا يحتاج إلى التكرار ...» وحاصله : أن الاحتياط إذا لم يتوقف على التكرار فلا إشكال في سقوط التكليف به ، كما إذا ترددت العبادة ـ كالصلاة ـ بين عشرة أجزاء وتسعة ، فان الاحتياط فيها يتحقق بإتيان عشرة ، ولا يتوقف على تكرار الصلاة ، ويسقط التكليف به سواء كان المشكوك فيه جزءاً أم شرطاً.

(٥) يعني : لا إشكال في السقوط.

١٨٦

كما إذا ترددت عبادة [تردد أمر عبادة] بين الأقل والأكثر ، لعدم (١) الإخلال بشيء مما يعتبر أو يحتمل اعتباره (٢) في حصول الغرض منها مما (٣) لا يمكن أن يؤخذ فيها ، فانه (٤) [لكونه] نشأ من قِبل الأمر بها كقصد (٥) الإطاعة ، والوجه والتميز (٦) [التمييز]

______________________________________________________

(١) تعليل لمشروعية الاحتياط غير المستلزم للتكرار في العبادات وعدم الإشكال في سقوط التكليف به ، وحاصله : أنه إذا أتى بالأكثر ، فلا يقدح ذلك في الامتثال وسقوط الأمر ، لعدم كونه موجباً للإخلال بما يعتبر قطعاً في حصول الغرض من العبادة من القيود التي لا يعقل أن تؤخذ في نفس العبادة ، كقصد القربة والوجه والتميز ، لتأخرها عن الأمر ولنشوها عنه ، فكيف يمكن أخذها في موضوع الأمر. نعم يكون الاحتياط مخلا بقصد الجزئية أو الشرطية بالنسبة إلى المشكوك فيه ، إلّا أن دخل قصدها في حصول الغرض من العبادة في غاية الضعف والسقوط. وعلى هذا فلا إشكال في مشروعية الاحتياط في العبادات فيما لا يلزم منه التكرار.

(٢) الضمير راجع إلى الموصول المراد به الشيء.

(٣) بيان لقوله : «ما يعتبر أو يحتمل» وضميرا «منها ، فيها» راجعان إلى العبادة.

(٤) تعليل لقوله : «لا يمكن أن يؤخذ» وقد عرفت إجمالا وجه عدم إمكان الأخذ في نفس العبادة بحيث تكون على حذو سائر ما له دخل في متعلق الأمر ، وضمير «بها» راجع إلى العبادة.

(٥) مثال لما يعتبر قطعاً في حصول الغرض من العبادة ، ولا يمكن أخذه في نفس العبادة.

(٦) مثالان لما يحتمل اعتباره في حصول الغرض ، مع عدم إمكان أخذهما

١٨٧

فيما (١) إذا أتى بالأكثر ، ولا يكون إخلال حينئذ (٢) الا بعدم إتيان ما احتمل جزئيته (٣) على تقديرها بقصدها (٤) ، واحتمال دخل قصدها (٥) في حصول الغرض ضعيف في الغاية وسخيف إلى النهاية.

______________________________________________________

في نفس العبادة ، وسيأتي المراد منهما.

(١) متعلق بقوله : «لعدم الإخلال» ومحصل غرضه : أن الاحتياط في العبادة ـ إذا لم يلزم منه تكرار ـ لا مانع عنه أصلا ، لأنه ليس مخلا بشيء مما يعتبر في نفس العبادة من الاجزاء والشرائط ، إذ المفروض الإتيان بتمامها ، أو يعتبر في الغرض من العبادة مما يقطع باعتباره في تحقق الغرض كقصد القربة ، أو يحتمل اعتباره كقصد الوجه والتميز ، ضرورة إمكان قصد القربة بما علم دخله في العبادة جزءاً وشرطاً ، وإمكان قصد الوجه والتميز أيضا بما علم دخله في نفس العبادة من الاجزاء والشرائط. نعم يلزم الإخلال بقصد جزئية المشكوك فيه على تقدير كونه جزءاً واقعاً ، وقد أشار إلى هذا بقوله : «ولا يكون إخلال».

(٢) يعني : حين الاحتياط بإتيان الأكثر لاحتمال وجوبه.

(٣) الضمير راجع إلى «ما» الموصول المراد به الشيء.

(٤) متعلق بـ «إتيان» والضميران راجعان إلى الجزئية.

(٥) أي : الجزئية ، وغرضه دفع توهم ، وهو : أن دخل قصد جزئية المشكوك فيه في حصول الغرض على فرض جزئيته واقعاً مانع عن الامتثال الاحتياطي بإتيان الأكثر ، لكونه مخلا بالقصد المزبور ومفوتاً له.

وحاصل الدفع : أن احتمال دخل قصد الجزئية في حصول الغرض في غاية الوهن ، فالإخلال بقصد الجزئية لا يضر بالاحتياط أصلا كما لا يخفى.

والوجه في وهن احتمال دخل قصد الجزئية في حصول الغرض هو عدم

١٨٨

وأما (١) فيما احتاج إلى التكرار ، فربما يشكل من جهة الإخلال بالوجه تارة (٢)

______________________________________________________

الدليل على دخله في معلوم الجزئية فضلا عن محتملها ، بل الدليل قائم على عدم اعتباره ، لاقتضاء الإطلاقات المقامية لعدم الاعتبار كما لا يخفى ، فقصد مشكوك الجزئية أو الشرطية حينئذ يكون تشريعاً محرماً (*).

(١) هذا هو الموضع الثاني ، وهو الاحتياط في العبادة المستلزم للتكرار ، وفيه جهتان :

الأولى : في الامتثال الاحتياطي مع التمكن من الامتثال العلمي التفصيليّ.

الثانية : في الامتثال الاحتياطي مع عدم التمكن من الإطاعة العلمية التفصيلية.

أما الجهة الأولى ـ وهي التي أشار إليها المصنف بقوله : «وأما فيما احتاج إلى التكرار» ـ فحاصلها : أن الاحتياط المستلزم للتكرار ـ كالصلاة إلى جهتين أو أزيد في اشتباه القبلة ، أو في الثوبين المشتبهين مع التمكن من تشخيص القبلة أو تمييز الثوب الطاهر عن المتنجس ونحو ذلك من الأمثلة ـ قد استشكل فيه بوجوه ثلاثة يأتي بيانها في طي شرح كلمات المصنف.

(٢) هذا هو الوجه الأول ، وحاصله : أن الاحتياط المتوقف على التكرار مخل بقصد الوجه وهو الوجوب ، حيث انه حين الإتيان بكل واحدة من الصلاتين لا يعلم بوجوبها حتى يقصد الوجوب ، بل كل منهما محتمل الوجوب ، فلا يمكن قصد الوجوب بالنسبة إلى واحدة منهما بعينها ، مع أن قصد الوجوب دخيل في تحقق الامتثال حسب الفرض. ولا فرق فيما ذكرناه بين كون الاحتياط المستلزم

__________________

(*) ومع الغض عن الإطلاق المقامي ، وتسليم اعتبار قصد الجزئية يمكن منع اعتباره في المقام أيضا ، لاختصاصه بصورة العلم بها. وأما مع الجهل بها فلا دليل على اعتباره فيه ، إذ لا إطلاق في دليله ، والمتيقن منه هو صورة العلم بها.

١٨٩

وبالتميز [وبالتمييز] أخرى (١) ، وكونه (٢) لعباً وعبثاً ثالثة.

وأنت خبير (٣)

______________________________________________________

للتكرار في الشبهات الموضوعية كالمثالين المزبورين ونظائرهما ، وبين كونه في الشبهات الحكمية ، كدوران فريضة يوم الجمعة بين الظهر والجمعة ، ودوران الوظيفة في بعض الموارد بين القصر والإتمام ، مع التمكن في الجميع من إزالة الشبهة والامتثال العلمي التفصيليّ كما هو المفروض.

(١) هذا هو الوجه الثاني ، وحاصله : أن تكرار العبادة يوجب الإخلال بالتمييز ، وهو إحراز عنوان المأمور به الواقعي ، لوضوح عدم العلم بكون هذا المأتي به هو المأمور به بحيث ينطبق عليه عنوان المأمور به ، ويكون هذا المأتي به مصداقه.

وبالجملة : فالتمييز وقصد الوجه يفوتان في الامتثال الاحتياطي.

(٢) أي : التكرار ، وهذا هو الوجه الثالث ، وحاصله : أن التكرار لعب وعبث بأمر المولى ، ولا يكون إطاعة له بنظر العقلاء ، إذ الواجب صلاة واحدة ، فلا وجه لتكريرها.

(٣) هذا شروع في رد الوجوه الثلاثة المتقدمة وأشار إلى رد الوجه الأول بقوله : «بعدم الإخلال بالوجه بوجه» وحاصله : أنه لا يلزم من التكرار إخلال بقصد الوجه ، حيث ان الداعي إلى فعل كل واحد واحد من المحتملين أو المحتملات هو الأمر المتعلق بالواجب ، فإتيانه بكل منهما أو منها منبعث عن ذلك الأمر ، فلا محالة يكون قاصداً للواجب ، فقصد الوجه ـ أعني الوجوب ـ موجود قطعاً ، وحينئذ فيقصد الوجوب بنحو الغاية تارة بأن ينوي «أصلي صلاة الظهر لوجوبها» وبنحو الوصف أخرى بأن يقصد «أصلي الصلاة الواجبة» فليس التكرار مخلا

١٩٠

بعدم الإخلال بالوجه بوجه (١) في الإتيان مثلا بالصلاتين المشتملتين على الواجب لوجوبه (٢) ، غاية (٣) الأمر أنه لا تعيين له ولا تميز (٤) ، فالإخلال انما يكون به ، واحتمال (٥)

______________________________________________________

بقصد الوجه. نعم يكون التكرار مخلا بالتمييز ، لعدم تمييزه للمأمور به عن غيره ، لأن احتمال انطباق المأمور به على كل واحد من المحتملين أو المحتملات موجود.

لكن عدم التميز ليس مخلا بالإطاعة ومانعاً عن صدق الامتثال ، إذ لا دليل على اعتباره كما سيأتي (١) أي : لا يخل بوجه المأمور به الواقعي بوجه من وجهيه ، وهما قصده بنحو الغاية أو بنحو الوصف ، يعني : أن التكرار غير مانع عن قصد الوجه أصلا لا غاية ولا وصفاً.

(٢) أي : لوجوب الواجب ، وهو متعلق بـ «الإتيان» وهذا تقريب أخذ قصد الوجه غاية كما تقدم مثاله بقولنا : «أصلي صلاة الظهر لوجوبها».

(٣) يعني : أن الإشكال ليس من ناحية فقد قصد الوجه ، بل الإشكال يكون من جهة عدم التمييز ، لعدم تمييز المأمور به عن غيره كما هو واضح.

(٤) عطف تفسير لـ «لا تعيين» والمراد عدم تعين المأمور به الواقعي وعدم تميزه عند المكلف وان كان له تعين وتميز في الواقع. وعلى هذا فالصواب التعبير بـ «لا تعين له» من باب التفعل كما عبر بـ «التميز» من بابه ، لأن التعين كالتميز وصف قائم بنفس المأمور به. كما أن الصواب جعلهما من باب التفعيل ان كان المقصود بهما فعل المكلف.

وبالجملة : فاما أن يجعل كلاهما من باب التفعل أو كلاهما من باب التفعيل وان كان الأولى أولى.

(٥) هذا إشارة إلى رد الوجه الثاني من وجوه الإشكال الثلاثة المتقدمة ،

١٩١

اعتباره أيضا (١) في غاية (٢) الضعف ، لعدم (٣) عين منه ولا أثر في الاخبار ، مع أنه (٤) مما يغفل عنه غالباً ،

______________________________________________________

وحاصله : أن إخلال الاحتياط بالتميز وان كان مسلماً ، لكنه غير قادح ، لأن احتمال اعتباره ضعيف جداً لوجهين سيأتي بيانهما.

وبالجملة : فالإخلال اما غير لازم كما في قصد الوجه ، واما غير قادح كما في التميز ، لما سيأتي.

(١) يعني : كضعف الإشكال عليه بلزوم الإخلال بقصد الوجه ، فالأولى جعل كلمة «أيضا» بعد قوله : «في غاية الضعف» وضميرا «به ، اعتباره» راجعان إلى التميز.

(٢) خبر قوله : «واحتمال» ودفع له.

(٣) تعليل لقوله : «في غاية الضعف» وهذا هو الوجه الأول من وجهي ضعف اعتبار التميز ، وحاصله : أن تمييز المأمور به غير لازم على المكلف حين الامتثال ، وذلك لعدم الدليل على اعتباره في الاخبار.

(٤) أي : التميز ، وضمير «منه» راجع إلى «ما» الموصول ، وهذا هو الوجه الثاني من وجهي ضعف اعتبار التميز.

وتوضيحه : أن الشيء الّذي يكون له دخل في الغرض تارة يكون مما هو مركوز في أذهان عامة الناس ، وأخرى لا يكون كذلك ، بل مما يغفل عنه العامة. فان كان من قبيل الأول لم يلزم على المتكلم بيانه ، لكفاية تنبه العامة له وارتكازه لديهم في عدم فوات الغرض ، فيصح الاعتماد على هذا الارتكاز وعدم تعرض المتكلم لبيانه نظير اعتبار السلامة في البيع ، فانه مرتكز عند المتعاقدين ، ولذا لا يصرح به في العقد ويكتفي في اعتبارها على هذا الارتكاز.

وان كان من قبيل الثاني لزم على المتكلم بيانه ، وإلّا لأخل بغرضه ، إذ

١٩٢

وفي مثله لا بد من التنبيه على اعتباره ودخله (١) في الغرض ، وإلّا (٢) لأخل بالغرض كما نبهنا عليه سابقاً.

وأما كون التكرار لعباً وعبثاً ، فمع (*)

______________________________________________________

ليس هنا ارتكاز يعتمد عليه عند عدم بيانه. والتمييز من القسم الثاني ، لغفلة عامة الناس عن دخله في الغرض ، فلو كان دخيلا فيه لزم التنبيه عليه ، وإلّا لأخل بالغرض اللازم استيفاؤه. وقد عرفت الإشارة إلى خلوّ الاخبار عن اعتبار التميز ، فيقطع حينئذ بعدم دخله في الغرض.

(١) هذا الضمير وضميرا «مثله ، اعتباره» راجع إلى الموصول المراد به مما يغفل عنه غالباً.

(٢) يعني : وان لم ينبه عليه لأخل بالغرض كما نبهنا سابقاً على لزوم التنبيه على ما يغفل عنه عامة الناس مع دخله في الغرض ، وقوله : «سابقاً» يعني : في مبحث التعبدي والتوصلي.

__________________

(*) العبارة لا تخلو عن قصور ، فالأولى أن تكون هكذا : «ففيه ـ مع أنه ممنوع ، إذ يمكن أن يكون التكرار لداع عقلائي فلا يكون عبثاً ـ أنه لو سلم كونه لعباً وعبثاً فهو انما يضر ... إلخ».

وكيف كان يندفع إشكال العبثية بنشوء التكرار عن داعٍ عقلائي ، بداهة عدم كونه حينئذ لعباً عندهم ، فما في تقرير بعض الأعاظم (١) من «أن هذا الجواب غير واف بدفع الإشكال ، لأن اللعب ان سرى إلى نفس الامتثال لا يجدي كونه بغرض عقلائي ، إذ الكلام في العبادة المتوقفة على قصد القربة ، ولا يجدي في صحتها مطلق اشتمالها على غرض عقلائي ، بل لا بد من صدورها عن قصد التقرب ،

__________________

(١) مصباح الأصول ج ٢ ص ٨٣.

١٩٣

أنه (١) ربما يكون لداعٍ عقلائي [عقلاني] انما (٢) يضر إذا كان لعباً بأمر

______________________________________________________

(١) أي : التكرار ، وهذا إشارة إلى رد الوجه الثالث من وجوه الإشكال الثلاثة المتقدمة على الاحتياط ، وقد دفع المصنف هذا الوجه بوجهين يأتي توضيحهما. وكيف كان فأما الوجه الأول وهو الّذي أشار إليه بقوله : «فمع أنه ...» فحاصله : أن التكرار يمكن أن يكون لداعٍ عقلائي يخرجه عن اللغوية والعبث ، كما إذا كان تحصيل العلم التفصيليّ موجباً لمشقة أو مستلزماً لمنة ، بحيث يكون التكرار أهون من تحملهما ، فيكرر الصلاة لذلك ، أو نحوه من الأغراض العقلائية المخرجة لتكرير العبادة عن اللغوية والعبث ، فلا يكون التكرار عبثاً ولعباً بأمر المولى بعد انبعاث العبد عن أمره بالنسبة إلى جميع الافراد.

(٢) هذا هو الوجه الثاني ، وحاصله : ـ بعد تسليم عبثية التكرار ـ أنه انما

__________________

واللعب لا يوجب القرب ، فلا يصح التقرب به».

لا يخلو من الغموض ، ضرورة أنه بالغرض العقلائي تنتفي لعبية التكرار ، لامتناع اجتماع الغرض العقلائي واللعبية ، حيث انهما ضدان ، فلم يظهر معنى لقوله : «لأن اللعب ان سرى إلى نفس الامتثال ... إلخ» لأن السراية فرع وجود الساري ، وهو منتفٍ بالفرض.

مع أنه بعد فرض وجود اللعب مع الغرض العقلائي كيف يسري إلى نفس الامتثال المتحقق بإتيان المأمور به الواقعي ، مثلا إذا كرر الصلاة في الثوبين المشتبهين مع كون التكرار لغرض عقلائي ، فان الامتثال يتحقق بفعل الصلاة في الثوب الطاهر ، فهل تسري إليها لعبية الصلاة الأخرى الواقعة في الثوب المتنجس؟ وهل يتصور بينهما رابط يوجب هذه السراية؟ وأما قصد القربة فالمفروض حصولها ، لكون الإتيان بقصد إطاعة الأمر.

١٩٤

المولى (١) ، لا في كيفية إطاعته (٢) بعد حصول الداعي إليها (٣) ، كما لا يخفى. هذا (٤)

______________________________________________________

يقدح إذا كان لعباً بأمر المولى ، حيث ان التكرار حينئذ لا يكون إطاعة مع فرض الاستهزاء بالأمر ، فليس منبعثاً عن أمره ، ولا إشكال حينئذ في عدم صدق الإطاعة ، لكن هذا لا يختص بصورة التكرار ، بل مع العلم التفصيليّ بالمأمور به ، أو عدم استلزام الاحتياط للتكرار كدوران المأمور به بين الأقل والأكثر إذا أتى به مستهزئاً ولاعباً بالأمر لا يصح المأتي به ، ولا يكون مجزياً أيضا ، لعدم تحقق الإطاعة ، كما لا يخفى.

أما إذا كان أصل العمل منبعثاً عن أمر المولى ، ولم يكن له داع سواه ، فليس العبث في نفس الإطاعة التي هي عبارة عن الانبعاث المترتب على بعث المولى حتى يكون قادحاً في تحققها ، بل العبث انما هو في طريق الإطاعة ، وكيفيتها ، ومن المعلوم أنه ليس قادحاً في تحقق الإطاعة كما هو المطلوب.

فالمتحصل : أن التكرار ليس عبثاً أولا ، لإمكان اقترانه بغرض عقلائي.

وعلى تقديره ليس عبثاً في نفس الإطاعة ثانياً ، بل انما هو في كيفيتها ، وهو غير قادح.

(١) اللعب بأمر المولى هو الاستهزاء به كما مر آنفاً ، فالداعي إلى الفعل حينئذ شيطاني لا رحماني.

(٢) أي : إطاعة الأمر ، والضمير المستتر في «إذا كان» راجع إلى التكرار.

(٣) أي : إلى الطاعة ، والمراد بالداعي إلى الإطاعة هو الأمر.

(٤) أي : ما ذكرناه من حكم الامتثال العلمي الإجمالي انما كان في ظرف القدرة على تحصيل الامتثال العلمي التفصيليّ ، وبه تم الكلام في الجهة الأولى.

١٩٥

كله في قبال ما إذا تمكن من القطع تفصيلا بالامتثال (*)

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

(*) فعلى ما ذكره المصنف (قده) يكون الامتثال الاحتياطي في عرض الامتثال العلمي التفصيليّ ، وهو الّذي ينبغي المصير إليه ، خلافاً للمحقق النائيني (قده) لذهابه إلى أنه في طول الامتثال العلمي التفصيليّ «نظراً إلى اعتبار العلم التفصيليّ بانطباق المأمور به على المأتي به حين العمل في الإطاعة عقلا ، وهو مفقود في الامتثال الاحتياطي المتوقف على التكرار ، لعدم انبعاث العبد إلى إتيان كل فرد إلّا عن احتمال الأمر دون العلم به ، مع أنه يعتبر عقلا في الإطاعة الحقيقية الانبعاث عن الأمر المعلوم تفصيلا ، فمع التمكن منه لا تصل النوبة إلى الإطاعة الاحتياطية.

ولو فرض شك في جوازها مع إمكان الإطاعة العلمية التفصيلية فأصالة الاشتغال تقضي بعدم الاجزاء ، حيث ان الشك في كيفية

الإطاعة عقلا لا في دخل شيء في المأمور به شرعاً حتى تجري فيه البراءة. ومن المعلوم أن الشك في مرحلة الفراغ مجرى قاعدة الاشتغال لا البراءة.

نعم لا بأس بالامتثال الاحتياطي فيما إذا دار المعلوم بالإجمال بين الأقل والأكثر ، كدوران الأمر بين جزئية السورة للصلاة وعدمها ، وذلك لتحقق الامتثال التفصيليّ بالنسبة إلى جملة العمل ، للعلم بتحقق الأمر بجملته وان كان تعلقه بالجزء مشكوكاً فيه» انتهى كلامه ملخصاً.

وفيه : أن المقام ليس من إطاعة الأمر الاحتمالي ـ بعد تسليم اعتبار العلم بالأمر عقلا في الإطاعة ـ وذلك لأن كل فرد لا يؤتى به الإبداعي الأمر القطعي ، إذ المفروض حصول العلم به كالصلاة في الثوبين المشتبهين ، أو المرددة بين

١٩٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

القصر والإتمام ، بالإتيان بكل فرد يكون بداعي الأمر القطعي لا الأمر الاحتمالي ، وعدم تميز متعلقه لا يرفع قطعية الأمر ولا يوجب انقلاب الانبعاث عن الأمر القطعي إلى الانبعاث عن الأمر الاحتمالي.

وأما ما أفاده في مرجعية الاشتغال إذا شك في جواز الامتثال الاحتياطي مع التمكن من العلم التفصيليّ ، ففيه : أن قصد القربة وما يتعلق به ان كان معتبراً فاعتباره شرعي لا عقلي كما تقدم تفصيله في الجزء الأول من هذا الشرح ، فلو شك في اعتبار تميز متعلق الأمر خارجاً في الإطاعة عقلا فالمرجع الإطلاق المقامي ، وإلّا فأصل البراءة لا قاعدة الاشتغال.

ثم ان هنا أمراً ينبغي التنبيه عليه ، وهو : أنه كما يجري الاحتياط في التعبديات كالصلاة ـ على ما تقدم آنفاً ـ كذلك يجري في التوصليات ، فإذا علم إجمالا باشتغال ذمته بدينار لزيد أو لعمرو ، فلا إشكال في جريان الاحتياط حينئذ بأن يعطي ديناراً لزيد وديناراً لعمرو ، وحصول اليقين بالفراغ وبراءة ذمته به.

وفي الوضعيات كالطهارة ، فإذا اغتسل أو توضأ بمائعين أحدهما ماء مطلق والآخر مضاف ، أو غسل بهما متنجساً ارتفع الحدث والخبث.

وكذلك يجري الاحتياط في العقود والإيقاعات ، فلو أنشأ البيع أو الطلاق بصيغ متعددة يعلم إجمالاً بصحة إحداها وترتب الأثر عليها حكم بتحقق البيع أو الطلاق.

والإشكال فيه ـ كما عن شيخنا الأعظم (قده) ـ «بأن الاحتياط ينافي الجزم المعتبر في الإنشاء ، ولذا لا يصح التعليق في الإنشائيات إجماعاً» مندفع بأن

١٩٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

التعليق تارة ينشأ من تردد المنشئ في إنشائه لأجل أمور خارجية كقدوم الحجاج ونحوه بأن يقول : «بعتك المتاع الفلاني ان قدم الحاج في هذا اليوم أو ان كنت عالماً أو هاشمياً أو ابن زيد مثلا» فان تعليق الإنشاء في مثل هذه الموارد مانع عن صحته ، لعدم جزم المنشئ بما أنشأه من الأمر الاعتباري النفسانيّ ، إذ المفروض جهله بحصول المعلق عليه.

وأخرى ينشأ من عدم علمه بإمضاء الشارع له مع جزمه بما أنشأه من الاعتبار النفسانيّ ، فعدم جزمه ليس إلّا من جهة جهله بالسبب المؤثر شرعاً في ترتب الأثر. والقادح في صحة الإنشاء هو الأول دون الثاني ، ولذا لو عامل الوالد مع ولده معاملة ربوية ، أو طلق شخص زوجته ـ التي لم يدخل بها ـ حال الحيض أو تزوج بأخت زوجته المطلقة بائناً في عدتها ، أو بالربيبة بعد تطليق أمها قبل الدخول بها وغير ذلك جاهلاً بإمضاء الشارع لها ثم انكشف صحتها ، فلا إشكال في ترتب آثار الصحة عليها ، بل لا ينبغي التأمل في صحتها مع العلم بعدم إمضاء الشارع لها وانكشاف خطائه ، حيث ان موضوع إمضائه ـ وهو الاعتبار النفسانيّ المنشأ جزماً من ناحية المنشئ ـ قد تحقق بالفرض ، وليس علم المنشئ بترتب الأثر الشرعي على إنشائه دخيلا في الموضوع ، لخروجه عما هو فعله وتحت اختياره.

فالنتيجة : أن الإنشاء جزمي لا تعليق فيه ، وهو الموضوع لإمضاء الشارع ، والمردد هو السبب المؤثر والممضى شرعاً ، لتردده بين هذا وذاك ، وبالجمع بينهما يحصل العلم بتحقق ما هو الموضوع لإمضاء الشارع ، فيجري الاحتياط في العقود والإيقاعات كجريانه في العبادات والتوصليات والوضعيات.

١٩٨

وأما إذا لم يتمكن الا من الظن به كذلك (١)

______________________________________________________

(١) أي : من الظن بالامتثال تفصيلا ، وهذا شروع في الجهة الثانية وهي جواز الاحتياط المزبور عند تعذر الامتثال العلمي التفصيليّ ، وحاصل ما أفاده : أنه إذا لم يقدر على الامتثال العلمي التفصيليّ ولكن تمكن من الامتثال الظني التفصيليّ فله صور ، لأن ذلك الظن اما ظن خاص وهو ما ثبت اعتباره بغير دليل الانسداد الآتي بيانه إن شاء الله تعالى ، أو ظن مطلق وهو ما ثبت اعتباره بدليل الانسداد ، والظن الخاصّ قد يكون معتبراً بشرط عدم التمكن من الامتثال العلمي الإجمالي أي الاحتياط ، وقد يكون معتبراً مطلقاً يعني حتى مع التمكن من الاحتياط. والظن المطلق ـ أي الثابت اعتباره بدليل الانسداد ـ قد يبنى على أن من مقدمات دليل اعتباره ـ أي الانسداد ـ عدم وجوب الاحتياط ، وقد يبنى على أن من مقدمات دليل اعتباره عدم جواز الاحتياط ، فالصور حينئذ أربع :

الأولى : الظن الخاصّ المشروط اعتباره بعدم التمكن من الاحتياط ، ولا إشكال حينئذ في عدم جواز الامتثال الظني إذا تمكن من الامتثال العلمي الإجمالي ، ووجوب تقديمه على الامتثال الظني ، لعدم اعتباره حسب الفرض.

الثانية : الظن الخاصّ المعتبر مطلقاً حتى مع التمكن من الامتثال العلمي الإجمالي ، بأن يكون مقتضى دليل اعتباره حجيته في عرض الاحتياط ورتبته ، ولا إشكال في جواز الاجتزاء بكل من الامتثال الظني والاحتياطي حينئذ.

الثالثة : الظن المطلق أي الثابت اعتباره بدليل الانسداد مع البناء على أن من مقدماته عدم وجوب الاحتياط ، ولا إشكال أيضا في جواز الاجتزاء بالامتثال الظني في عرض الامتثال العلمي الإجمالي كما في الصورة الثانية لأن الظن المطلق حينئذ كالظن الخاصّ المعتبر مطلقاً في جواز كل من الامتثال الظني والاحتياطي.

١٩٩

فلا إشكال في تقديمه (١) على الامتثال الظني لو لم يقم (٢) دليل على اعتباره الا فيما إذا لم يتمكن منه (٣).

وأما (٤) لو قام على اعتباره مطلقاً (٥) فلا إشكال في الاجتزاء بالظني.

كما (٦) لا إشكال في الاجتزاء بالامتثال الإجمالي في قبال الظني بالظن المطلق المعتبر بدليل الانسداد بناء (٧) على أن يكون من مقدماته

______________________________________________________

الرابعة : الظن المطلق المذكور مع البناء على أن من مقدماته عدم وجوب الاحتياط ، لما سيذكره المصنف (قده) من استلزامه ـ أي الاحتياط ـ العسر ، أو أنه ليس طاعة ، بل هو لعب بأمر المولى فيما إذا توقف على التكرار. ولا إشكال هنا في تعين الامتثال الظني التفصيليّ ، لبطلان الاحتياط حسب الفرض ، وعلى هذه الصورة الرابعة يبتني بطلان عبادة تارك طريقي الاجتهاد والتقليد وان احتاط فيها ، لما عرفت من عدم كونه امتثالا ، فلا يوجب الاحتياط سقوط الأمر كما ذهب إليه بعض ، بل حكى عليه الإجماع ، فلاحظ.

(١) أي : في تقديم الامتثال الاحتياطي على الظني التفصيليّ.

(٢) إشارة إلى الصورة الأولى من الصور الأربع ، وضمير «اعتباره» راجع إلى الظن.

(٣) أي : من الامتثال العلمي الإجمالي.

(٤) معطوف على : «لو لم يقم» وهو إشارة إلى الصورة الثانية.

(٥) أي : على اعتبار الظن مطلقاً سواء تمكن من الاحتياط أم لا.

(٦) هذا إشارة إلى أن الظن المطلق كالظن الخاصّ في جواز الاجتزاء به كالعلمي الإجمالي كما أشرنا إليه في بيان الصورة الثالثة.

(٧) قيد لـ «الاجتزاء بالامتثال» وضمير «مقدماته» راجع إلى الانسداد ، وهو

٢٠٠