منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٤

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة دار الكتاب ( الجزائري ) للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٧١

وأما عن الروايات ، فبأن الاستدلال بها خال عن السداد ، فانها أخبار آحاد (١).

لا يقال (٢) : انها وان لم تكن متواترة لفظاً ولا معنى ،

______________________________________________________

لكنهما محل إشكال ، بل منع ، والتفصيل في محله.

قال شيخنا الأعظم : «والجواب أما عن الآيات ، فبأنها بعد تسليم دلالتها عمومات مخصصة بما سيجيء من الأدلة». أقول : قوله : «بعد تسليم دلالتها» إشارة إلى المناقشة في إطلاق الآيات أو عمومها للظن في الفروع ، إذ يمكن الخدشة في إطلاقها بقرينة موردها كما عرفته ، فما أفاده المصنف من الوجه الثالث مستفاد من كلام الشيخ (قدس‌سرهما) أيضا.

(١) غرضه : أن الاستدلال بالأخبار على عدم حجية خبر الواحد غير مستقيم ، لاستلزامه الدور المحال ، ضرورة أن عدم حجية خبر الواحد ـ الّذي هو مفروض البحث ـ موقوف على حجية الروايات المشار إليها بطوائفها ، إذ لو لم تكن حجة لم يمكن التشبث بها لإثبات عدم اعتبار خبر الواحد ، وحجية هذه الروايات موقوفة على حجية مطلق خبر الواحد ، إذ لو لم يكن حجة لما صح الاستدلال بهذه الاخبار على عدم حجية الخبر ، فعدم حجية خبر الواحد مطلقاً موقوف على حجية الروايات المتقدمة ، وحجية تلك الاخبار موقوفة على حجية مطلق خبر الواحد وهكذا ، وهذا هو الدور.

وان شئت فقل : ان الاستدلال بهذه الروايات على عدم حجية خبر الواحد يستلزم عدم حجية نفسها ، فيلزم من وجودها عدمها ، وما يلزم من وجوده عدمه محال. ويستفاد هذا الجواب مما أفاده شيخنا الأعظم بقوله : «وأما عن الاخبار فعن الرواية الأولى ، فبأنها خبر واحد ، ولا يجوز الاستدلال بها على المنع عن الخبر الواحد».

(٢) الغرض من هذا الإشكال المناقشة فيما أجاب به المصنف (قده) عن

٤٢١

.................................................................................................

______________________________________________________

الاخبار المتقدمة بأنها أخبار آحاد ، وأن الاستدلال بها على عدم حجية الخبر الواحد دوري ، وحاصل الإشكال : أن الاخبار المتقدمة وان لم تكن متواترة لفظاً ولا معنى ، لكنها مع ذلك ليست أخبار آحاد ، ولتوضيحه نقول : ان للتواتر أقساماً ثلاثة :

الأول : التواتر اللفظي ، وهو عبارة عن اخبار جماعة بلفظ واحد عن واقعة واحدة يوجب حصول العلم ، سواء كان ذلك اللفظ تمام الخبر مثل قوله عليه‌السلام : «انما الأعمال بالنيات» كما ادعي تواتره ، أو بعضه كلفظ «من كنت مولاه فعلي مولاه» وحديث الثقلين ، وروايات «من حفظ أربعين حديثاً» كما ادعي تواترها كما يظهر من شيخنا الأعظم حيث قال : «النبوي المستفيض بل المتواتر».

الثاني : التواتر المعنوي ، وهو اخبار جماعة بألفاظ مختلفة مع اشتمال كل منها على معنى مشترك بينها سواء كان ذلك المعنى المشترك مدلولا عليه بالدلالة المطابقية كالاخبار بأن «الهرة طاهرة» أو «أنها نظيفة» أو أن «السنور نظيف» وهكذا ، حيث ان المتواتر في كل قضية هو معناها المطابقي أعني طهارة الهرة. ولا يبعد دعوى تواتر ما ورد منطوقاً في انفعال الماء القليل بملاقاة النجس ، مع القطع بتواتر مجموع ما دل على ذلك منطوقاً ومفهوماً (١). أم بالدلالة التضمنية ، مثل ما ورد في حرمان الزوجة عن بعض التركة ، فان نفس الحرمان في الجملة متواتر ، وانما الخلاف فيما تحرم عنه (٢). أم بالدلالة الالتزامية كالاخبار الواردة في غزوات مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام وحروبه ، فان كل واحدة من تلك الحكايات خبر واحد ، لكن اللازم المترتب على مجموعها وهي شجاعته عليه‌السلام

__________________

(١) راجع الوسائل ، ج ١ ، الباب الثامن والتاسع من أبواب الماء المطلق.

(٢) راجع الوسائل ، ج ١٧ ، الباب السادس من أبواب ميراث الأزواج.

٤٢٢

.................................................................................................

______________________________________________________

متواتر.

الثالث : التواتر الإجمالي ، وهو اصطلاح جديد من المصنف ولم نعثر عليه في كتب الدراية ، وقد فسره في حاشية الرسائل في مقام الجواب عن الاخبار المتقدمة بقوله : «وأما عن الاخبار ، فبأن غاية تقريب الاستدلال بها أن يقال : انها وان لم تكن متواترة لفظاً ولا معنى لاختلافها بحسبهما كما لا يخفى ، إلّا أنه يقطع بصدور بعضها إجمالا بحيث يستحيل عادة أن يكون كلها كاذبة ، وهو كاف في المنع ، ولا يخفى أن قضية ذلك أن يؤخذ بأخص الطائفة التي يقطع بصدور البعض في جملتها ليتوافق عليه الكل» وحاصله : أن التواتر الإجمالي هو صدور جملة من الاخبار مع اختلافها عموماً وخصوصاً ، والعلم إجمالا بصدور بعضها.

إذا عرفت هذه الأقسام الثلاثة ، تعرف أن الاخبار المتقدمة وان لم ينطبق عليها حد التواتر اللفظي ، لاختلاف ألسنتها ، ولا المعنوي ، لورود بعضها في حكم الخبرين المتعارضين بحيث يختص الحكم بعدم حجية المخالف للكتاب بباب التعارض ، ولا ربط له بعدم حجية خبر الواحد مطلقاً وان لم يكن له معارض ، كما أن بعضها الآخر الدال على عدم حجية خبر الواحد لم يثبت تواتره حتى يتمسك به لإثبات المطلوب.

ولكن تندرج في المتواتر الإجمالي ، للعلم بصدور بعضها ، فيثبت بمجموعها ما هو الجامع بين الكل وما هو أخص مضموناً كعنوان «المخالف للكتاب» الّذي تضمنه جميع الطوائف المتقدمة ، فليست تلك الاخبار بالنسبة إلى هذا القدر الجامع أخبار آحاد حتى يتجه إشكال إثبات عدم حجية خبر الواحد بخبر الواحد ، وانما هي أخبار متواترة موجبة لحصول العلم ، للعلم بعدم حجية الخبر المخالف للكتاب. وعليه فالمقام ليس من قبيل إنكار حجية خبر الواحد بالخبر

٤٢٣

إلّا أنها متواترة إجمالا (*) ، للعلم (١) الإجمالي بصدور بعضها لا محالة. فانه يقال : انها وان كانت كذلك (٢) ، إلّا أنها لا تفيد الا فيما توافقت عليه (٣) ،

______________________________________________________

الواحد ، بل من باب إنكار حجية ما يفيد الظن بما يفيد العلم.

(١) تعليل لقوله : «متواترة إجمالا» وبيان للتواتر الإجمالي ، وقد عرفت توضيحه.

(٢) أي : متواترة إجمالا ، توضيح ما أفاده في الجواب عن استدلال المنكرين هو : أن إشكال كونها أخبار آحاد وان كان مندفعاً بأن التمسك ليس بكل واحد منها حتى يلزم الخلف بدعوى كون كل منها خبر واحد ، وانما هو بالمجموع المفروض تواتره إجمالا ، ولكن ـ مع ذلك ـ لا يثبت دعوى النافين ، إذ هي أخص من مدعاهم ـ الّذي هو سلب الحجية عن خبر الواحد رأساً ـ ، ضرورة أن مقتضى العلم الإجمالي بصدور بعضها هو الأخذ بالقدر المتيقن منها ، وهو أخصها مضموناً ، ومن المعلوم أن أخصها مضموناً هو المخالف للكتاب والسنة معاً ، فيختص عدم الحجية بذلك بنحو القضية السالبة الجزئية ، وهذا لا يضر بمدعى المثبتين الّذي هو اعتبار خبر الواحد في الجملة ، أي بنحو الإيجاب الجزئي ، فلهم القول بحجية ما عدا المخالف للكتاب والسنة.

(٣) الضمير راجع إلى الموصول في «فيما توافقت» المراد به الخبر المخالف

__________________

(*) الحق أن تواترها معنوي ، لدلالة مجموعها تضمناً والتزاماً على عدم حجية الخبر المخالف للكتاب والسنة ، فان الكل متفق على عدم حجية الاخبار المخالفة لهما ، إذ مع عدم الدلالة ـ ولو التزاماً ـ على ذلك لا يتفق الكل على مضمون واحد ، ولا يجدي مجرد التواتر الإجمالي بدونه كما أفاده المصنف بقوله : «الا فيما توافقت عليه» فالتواتر الإجمالي يراد به هنا خصوص المعنوي منه.

٤٢٤

وهو (١) غير مفيد في إثبات السلب كلياً ، كما هو (٢) محل الكلام ومورد النقض والإبرام ، وانما تفيد عدم حجية الخبر المخالف للكتاب والسنة ، والالتزام به (٣) ليس بضائر (٤) ، بل لا محيص عنه (٥) في باب المعارضة.

______________________________________________________

للكتاب والسنة معاً ، إذ هو الّذي توافقت الاخبار المتقدمة على عدم حجيته بنحو السلب الجزئي.

(١) أي : وما توافقت الاخبار عليه غير مفيد في إثبات المدعى وهو عدم حجية أخبار الآحاد مطلقاً ، وجه عدم الإفادة ما عرفته من أن أخص مضامينها ـ الّذي يتعين الأخذ به ـ هو الخبر المخالف للكتاب والسنة ، لا كل خبر واحد ، والمدعى هو الثاني ، فيكون الدليل أخص من المدعى.

(٢) أي : كما أن السلب كلياً محل الكلام ومورد البحث.

(٣) أي : والالتزام بعدم حجية الخبر المخالف للكتاب والسنة ليس بضائر.

(٤) إذ لا منافاة بين ما دل على عدم الحجية بنحو السلب الجزئي ، وبين ما دل من الروايات على الحجية بنحو الإيجاب الجزئي ـ على ما سيأتي بيانها ـ إذ من الواضح أنه لا منافاة بين الإيجاب والسلب الجزئيين.

وبالجملة : فالالتزام بالتواتر الإجمالي في الاخبار المشار إليها الدالة على عدم حجية الخبر الواحد غير قادح في حجيته في الجملة.

(٥) أي : لا محيص عن عدم حجية الخبر المخالف للكتاب والسنة عند المعارضة ، يعني : أنه لا بد للقائل بحجية الخبر الواحد من الالتزام أيضا بعدم حجية الخبر المخالف للكتاب والسنة في صورة التعارض ، لما سيأتي في باب

٤٢٥

وأما عن الإجماع (١) فبأن المحصل منه غير حاصل ، والمنقول منه للاستدلال به (٢) غير قابل ، خصوصاً في المسألة (٣)

______________________________________________________

التعادل والترجيح من تسالمهم على تقديم الخبر الموافق للكتاب وطرح المخالف له. وعليه ، فطرح الخبر المخالف للكتاب عند التعارض أمر مفروغ عنه سواء قلنا بحجية خبر الواحد في الجملة أم لم نقل. وقد اتضح وجه الإضراب عن قوله : «والالتزام به ليس بضائر» وأن وجهه تسالمهم على ذلك في باب التعارض ، فانه مما لا محيص عنه هناك.

(١) أجاب عن دعوى الإجماع على عدم حجية خبر الواحد بوجوه أربعة : الأول ما أشار إليه بقوله : «فبأن المحصل منه ...» وحاصله : أن الإجماع المدعى اما محصل واما منقول. أما المحصل فغير حاصل ، لوجهين : أحدهما أنه يمتنع تحصيل الإجماع مع مخالفة جمع من الأساطين كما سيظهر. وقد تعرض له الشيخ بقوله : «وأما الجواب عن الإجماع الّذي ادعاه السيد والطبرسي فبأنه لم يتحقق لنا هذا الإجماع». ثانيهما : أنه ـ بعد تسليم تحقق الإجماع ـ لا يمكن الاستناد إليه ، لاحتمال استناد المجمعين إلى الوجوه المتقدمة المستدل بها على عدم حجية خبر الواحد ، فيصير الإجماع مدركياً ولو احتمالا كما لا يخفى. وأما الإجماع المنقول ، فلا يصلح للاستدلال به في شيء من المقامات ، لعدم حجيته رأساً كما عرفت سابقاً.

(٢) متعلق بـ «غير قابل».

(٣) هذا هو الوجه الثاني من وجوه الجواب عن دعوى الإجماع ، وهو إشكال على خصوص الإجماع المنقول ، وحاصله : أنه ـ لو أغمضنا عن عدم حجية الإجماع المنقول في جميع المقامات وبنينا على حجيته في بعضها ـ لا يمكن الالتزام بحجيته في خصوص المقام ، للزوم المحال على كلا تقديري

٤٢٦

كما يظهر وجهه (١) للمتأمل. مع أنه (٢)

______________________________________________________

حجية خبر الواحد وعدم حجيته. أما على تقدير عدم حجيته خبر الواحد فواضح ، لأن هذا الإجماع المنقول به أيضا من أفراده ، فلا يكون حجة ، إذ البناء على عدم حجية الخبر الواحد معناه الالتزام بعدم حجية الإجماع المنقول به أيضا ، فكيف يثبت هو عدم حجية الخبر الواحد. وبعبارة أخرى : إثبات عدم حجية الخبر الواحد بالإجماع المنقول به ـ على هذا التقدير ـ تحصيل للحاصل ، وهو محال. وأما على تقدير حجية الخبر الواحد فلأنه يلزم حينئذ حجية الإجماع المنقول ، لكونه من أفراد الخبر الواحد ، فيثبت بحجيته حجية كل خبر واحد ، ومنه نفس هذا الإجماع ، فالتمسك به ـ على هذا التقدير ـ مبطل لنفسه ، وهو محال أيضا.

وبالجملة : فالتمسك بالإجماع المنقول بالخبر الواحد لإثبات عدم حجية الخبر الواحد ـ على كل تقدير ـ باطل ، لأنه مبطل لنفسه. ودعوى أن هذا الإجماع لا يشمل نفسه حتى يلزم المحال المذكور غير مسموعة ، إذ غايته عدم شموله لنفسه لفظاً ، أما حقيقة ـ أي بنحو القضية الطبيعية ـ فيشمل نفسه ، لاتحادهما في الواقع ونفس الأمر كما لا يخفى ، فتدبر. ويستفاد هذا الجواب من كلام شيخنا الأعظم : «والاعتماد على نقله تعويل على خبر الواحد».

(١) أي : وجه عدم قابلية الإجماع للاستدلال به في خصوص المسألة ، وقد تقدم توضيحه بقولنا : «أما على تقدير ... إلخ».

(٢) أي : مع أن الإجماع الّذي ادعاه السيد وغيره معارض بمثله ، وهذا هو الوجه الثالث من وجوه الجواب عن الإجماع ، وتقريبه : وهن هذا الإجماع بسبب معارضته بالإجماع الّذي نقله الشيخ وجماعة على حجية خبر الواحد ، فلو كان الإجماع المنقول حجة في نفسه لم يكن حجة في المقام لأجل المعارضة كما

٤٢٧

معارض بمثله ، وموهون (١) بذهاب المشهور إلى خلافه.

وقد استدل للمشهور بالأدلة الأربعة

______________________________________________________

لا يخفى ، وهذا الوجه مذكور في الرسائل أيضا بقوله : «مع معارضته بما سيجيء من دعوى الشيخ المعتضدة بدعوى جماعة أخرى الإجماع على حجية خبر الواحد في الجملة»

(١) معطوف على «معارض» وهذا هو الوجه الرابع من وجوه الجواب عن الإجماع ، وحاصله : أن الإجماع لا يتحقق مع ذهاب المشهور إلى خلافه ، وهذا الوجه يستفاد أيضا من كلمات شيخنا الأعظم ، حيث قال : «وتحقق الشهرة على خلافها بين القدماء والمتأخرين ...» ولا يخفى أن الأنسب تقديم هذا على الوجه الثالث بأن يقال : «مع أنه موهون ... ومعارض بمثله».

٤٢٨

فصل

في الآيات التي استدل بها ، فمنها آية النبأ ، قال الله تبارك وتعالى : «ان جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا» ويمكن تقريب الاستدلال بها من وجوه (١)

______________________________________________________

(الآيات التي استدل بها على حجية الخبر)

(١ ـ آية النبأ)

(١) سبعة ذكرها في حاشية الرسائل ، ونحن نذكر بعضها : الأول : من جهة مفهوم الوصف ـ بناء على ثبوت المفهوم له ـ بأن يقال : ان تعليق وجوب التبين على كون الخبر نبأ الجائي الفاسق يقتضي انتفاءه عند انتفاء وصف الجائي أعني فسقه ، فكأنه قيل : «خبر الجائي الفاسق يجب التبين عنه» فان مفهومه «ان خبر الجائي غير الفاسق وهو العادل لا يجب التبين عنه».

الثاني : من جهة مفهوم خصوص الوصف الخاصّ في المقام ـ كما اختاره في القوانين ـ وان لم نقل بحجية مفهوم الوصف في سائر الموارد ، بأن يقال : ان وجوب التبين انما هو لأجل عدم الأمن من تعمد الكذب في الفاسق ، فهذه الخصوصية في وصف الفسق أوجبت له المفهوم ، وهو أنه إذا انتفى انتفى وجوب

٤٢٩

.................................................................................................

______________________________________________________

التبين (*).

الثالث : أن التبين المأمور به بقوله تعالى : «فتبينوا» هو التبين العرفي المفيد للاطمئنان وان لم يفد القطع الوجداني بالواقع ، وخبر العادل بما أنه مفيد للاطمئنان ، فلا يبقى معه موضوع لوجوب التبين والتفحص عرفاً بالنسبة إليه ، فيكون كما إذا أفاد خبره القطع الوجداني بالواقع ، فانه لا معنى لوجوب التبين فيه ، فكأنه قيل : «ان أخبركم من لا يفيد قوله الاطمئنان ـ وهو الفاسق ـ بخبر فتبينوا» فان مفهومه أنه «ان أخبركم من يفيد قوله الاطمئنان ـ وهو العادل ـ لم يجب التبين فيه». فالآية الشريفة في مقام بيان وجوب التبين في خبر الفاسق لأجل تحصيل الاطمئنان بصدق خبره ، وعدم وجوبه في خبر العادل ، لأن الاطمئنان بصدق خبره حاصل ، فلا موضوع لوجوب التبين في خبر العادل ، لأن نتيجة التبين ـ وهو انكشاف صدق الخبر ـ حاصل في خبره.

الرابع : من جهة التعليل في الآية المباركة بخوف الوقوع في الندم ، فانه يقتضي اعتبار خبر العادل ، إذ لا يترتب الندم الا على ما لا يحسن ارتكابه عند العقلاء ، ومنه الاعتماد على خبر الفاسق بدون تبين ، وهذا بخلاف الاعتماد على خبر العادل بدونه ، فانه ليس مما لا يحسن ارتكابه حتى إذا انكشف خطاؤه ، وترتب عليه الندم ، إذ لا يزيد خبر العادل على العلم الّذي يعتمد عليه العالم ثم ينكشف خطاؤه ، فكأنه قيل : ان أخبركم من لا يوجب الاعتماد على خبره خوف الوقوع في الندم ـ وهو العادل ـ فلا يجب التبين عنه.

الخامس : التقريب المذكور في المتن وسيأتي توضيحه.

__________________

(*) ولعل تقريب الاستدلال بالآية الشريفة بما في الرسائل يرجع إلى مفهوم الوصف ، وحاصله : أن هنا وصفين : أحدهما : ذاتي وهو كونه خبر واحد ،

٤٣٠

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

والآخر عرضي وهو كون المخبر فاسقاً ، وتعليق وجوب التبين على الوصف العرضي دون الذاتي ظاهر في أن سبب الوجوب هو الوصف العرضي ، إذ لو كان السبب هو الوصف الذاتي لم يكن وجه للعدول عنه إلى العرضي ، لتقدم الذاتي رتبة عليه. وعلى هذا فلا بدّ من عدم وجوب التبين إذا كان المخبر عادلا ، وحينئذ يدور الأمر بين وجوب القبول وهو المطلوب ، والرد وهو باطل ، لاستلزامه أسوئية حال العادل من الفاسق.

وبالجملة : فهذا الوجه لا يخرج عن مفهوم الوصف ، لترتب عدم وجوب التبين في خبر غير الفاسق على انتفاء الوصف وهو فسق المخبر.

والإشكال عليه هو : عدم دلالة الوصف على المفهوم ، إذ التعليق على الوصف لا يدل على كونه علة منحصرة ، والمفروض توقف المفهوم على الانحصار المزبور.

وأما الإيراد عليه «تارة بأن كون الخبر خبر واحد أيضا من العناوين العرضية ، فكل من عنواني ـ خبر الواحد ـ وـ خبر الفاسق ـ عرضي ، ويحتمل دخل كليهما في الحكم ، وذكر خصوص الفسق لعله من جهة الإشارة إلى فسق الوليد.

وأخرى : بأن تقييد موضوع وجوب التبين بأعم من العادل والفاسق أو بخصوص الفاسق ضروري ، إذ لا يعقل الإهمال الثبوتي ، وحيث ان كلا من التقييدين محتمل ، فلا يدل ذكر الفاسق على تقيد الموضوع به حتى ينتفي وجوب التبين بانتفائه ، لاحتمال أن يكون ذكره لنكتة مرت الإشارة إليه. وثالثة بالقطع بعدم دخل الفسق في وجوب التبين ، إذ لازمه حجية خبر غير الفاسق وان لم يكن عادلا كمن لم يرتكب المعصية في أول بلوغه مع عدم حصول ملكة العدالة له بعد ، وكذا

٤٣١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الصغير والمجنون».

ففيه ما لا يخفى ، إذ في الأول : أن المراد بالذاتي في المقام ليس هو الذاتي الإيساغوجي ، بل الذاتي البرهاني بمعنى كفاية تصور الموضوع وعدم الحاجة إلى أمر خارجي في صحة الحمل عليه كإمكان الإنسان ، ومن المعلوم أن الخبر كذلك ، لأنه ـ في نفسه بدون لحاظ أمر خارجي معه ـ يحتمل الصدق والكذب ، والمراد بالخبر الواحد هو هذا ، ومن المعلوم صحة حمل «واحد» على الخبر بدون لحاظ شيء خارجي معه. وعلى هذا فالاتصاف بالواحد ذاتي للخبر ، بخلاف كونه خبر فاسق ، ضرورة عدم كفاية مجرد تصور خبريته في صحة حمل «خبر الفاسق» عليه.

إلّا أن يقال : ان اتصاف الخبر بالواحد كاتصافه بالمتواتر انما هو بملاحظة المخبر وعدم بلوغه حد التواتر ، فوصف الواحد كخبر الفاسق أيضا عرضي للخبر لا ذاتي له ، لأن ذاتيه هو احتمال صدق النسبة الخبرية وكذبها مع الغض عن المخبر. وأما اتصافه بالواحد فانما هو بملاحظة المخبر كاتصافه بالمتواتر.

وعليه فاتصافه بكل من هذين الوصفين عرضي ، فتدبر.

وفي الثاني : أن عدم معقولية الإهمال الثبوتي لا يقتضي ضرورية التقييد بأحد القيدين ، لإمكان الإطلاق بمعنى لحاظ الطبيعة بدون القيود والخصوصيات بحيث لو فرض إمكان وجود الطبيعي مجرداً عنها لكان هو الموضوع للحكم وعليه فتقييده بالفاسق مع إمكان إطلاق الخبر يدل على انتفاء الحكم عن غير مورده ، وإلا لزم لغوية ذكره.

وفي الثالث ـ مضافاً إلى إمكان دعوى عدم دخول خبر الصبي والمجنون في منطوق الآية حتى يدخل في مفهومها ، لعدم بناء العقلاء على العمل بخبرهما

٤٣٢

أظهرها (*)

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وان لم يردع عنه الشارع ـ أن إطلاق المفهوم لهما يقيد بما دل على اعتبار العقل والبلوغ في الشاهد ، فلا منافاة بين المفهوم وبين خروج خبرهما عنه ، لأنهما كسائر المطلقات والمقيدات. وأما من لا يرتكب المعصية فان كانت العدالة نفس اجتناب المعاصي بداع إلهي فهو عادل ومندرج في المفهوم ، وان كانت هي الملكة النفسانيّة فهو خارج عن إطلاق المفهوم كخروج خبر الصبي والمجنون عنه بالدليل ، ومن المعلوم أنه غير ضائر بأصل المفهوم.

وبالجملة : لا يرد شيء من هذه الإيرادات على الشيخ (قده) فالإيراد عليه هو ما مر من عدم دلالة الوصف على المفهوم.

(*) جعله في حاشية الرسائل غير خال عن الوجه ، حيث قال فيها ما لفظه : «الموضوع هو النبأ لا نبأ الفاسق ، وعليه يكون مفهومه عدم اشتراط قبوله بالتبين عند انتفاء شرطه وهو إتيان الفاسق به كما هو واضح ، ويمكن أن يكون نظر من استدل بالآية من هذا الوجه إلى ذلك ، والإنصاف أنه لا يخلو من وجه».

أقول : كما يحتمل أن يكون الموضوع طبيعة النبأ كما أفاده (قده) ولها حالتان : إحداهما كون الجائي بها فاسقاً ، والأخرى عدم كون الجائي بها فاسقاً ، ووجوب التبين حيث علق على إتيان الفاسق بها ينتفي بانتفائه ، فتكون القضية الشرطية ذات مفهوم ، لكون تعليق الحكم على الشرط شرعياً لا عقلياً كقوله : «ان رزقت ولداً فاختنه» كما هو واضح. كذلك يحتمل أن يكون الموضوع الجائي بالنبإ ، فكأنه قيل : «الجائي بالنبإ ان كان فاسقاً وجب التبين عن خبره ، وان لم يكن فاسقاً فلا يجب التبين عنه». وكذلك يحتمل أن يكون الموضوع خصوص الفاسق ، فكأنه قيل : «الفاسق ان جاءكم بنبإ فتبينوا». وعلى هذا

٤٣٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الاحتمال لا مفهوم للآية ، لأن تعليق وجوب التبين على مجيء الفاسق بالنبإ عقلي لا شرعي ، ضرورة أن انتفاء وجوب التبين حينئذ انما هو لعدم موضوعه وهو مجيء الفاسق بالنبإ.

ومع هذه الاحتمالات الثلاثة في الآية الشريفة وعدم المفهوم لها على الاحتمال الأخير لا بد من ملاحظة ظهورها في أحد هذه الاحتمالات ، فان كان لها ظهور في أحدها أخذ به ، وإلّا يعامل معها معاملة المجمل.

والظاهر من هذه الاحتمالات هو الاحتمال الأخير ، لوجهين :

أحدهما : وقوع مجيء الفاسق موقع الفرض والتقدير ، فهو المعلق عليه ، لوقوعه تلو أداة الشرط.

ثانيهما : أن مجيء الخبر عبارة أخرى عن الاخبار ، لا أنه شيء آخر غير النبأ حتى يكون النبأ موضوعاً والمجيء معلقاً عليه ، فمعنى الآية الشريفة حينئذ «ان أخبركم فاسق فتبينوا عن خبره» وهذا مثل قولهم : «ان جاءك زيد بخبر فصدقه أو تبين عنه» ، أو «ان أعطاك زيد درهماً فتصدق به» ، وغير ذلك من النّظائر التي يكون انتفاء الجزاء فيها بانتفاء الشرط عقلياً. نعم ان كان معنى الآية : «ان كان الجائي بالخبر فاسقاً» أفاد المطلوب ، إذ مفهومه حينئذ «ان لم يكن الجائي به فاسقاً فلا يجب التبين» حيث ان المعلق عليه هو فسق الجائي مع محفوظية مجيء النبأ ، لكنه خلاف الظاهر ، لأن الواقع تلو أداة الشرط كما عرفت هو مجيء الفاسق المراد به اخباره.

ولو نوقش في ظهور الآية الشريفة في هذا المعنى الأخير ، فلا أقل من مساواته للاحتمالين الأولين ، وعليه تكون الآية مجملة ، ولا يصح الاستدلال بها

٤٣٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

على حجية خبر الواحد وان حكي عن الفقيه الكبير كاشف الغطاء (قده) في أوثق الوسائل : «أنه لو أورد على الآية بألف إيراد فهو لا يقدح في ظهورها في اعتبار خبر العادل».

وكيف كان فما ذكر من الإشكالات على المفهوم يرجع إلى ناحية المقتضي.

وقد أورد عليه من ناحية المانع أيضا بوجوه :

الأول : أن في الآية قرينة مانعة عن دلالة القضية الشرطية على المفهوم ، وتلك القرينة عموم التعليل في قوله تعالى : «أن تصيبوا قوماً بجهالة» حيث ان العلة تقتضي عدم حجية كل خبر غير علمي وان كان خبر عادل ، وهذه القرينة الحافة بالكلام تمنع عن انعقاد ظهوره في المفهوم وهو حجية خبر العادل ، ولا أقل من صلاحيته للقرينية.

وبالجملة : فالعمل بالخبر غير العلمي معرض للوقوع في الندم ، فيجب التبين عنه ، ومن المعلوم أن عدم تعمد العادل للكذب لا يمنع عن غفلته وخطائه ، فعدالته لا تدفع احتمال الخطاء الموجب لخوف الوقوع في الندم ، فيجب التبين عن خبره كخبر الفاسق.

وقد أجيب عنه تارة بابتناء الإيراد على إرادة عدم العلم من الجهالة ، لكن الظاهر أن المراد منها السفاهة ، إذ العمل بخبر الفاسق سفهي عند العقلاء ، بخلاف خبر العادل ، فان العقلاء يعملون بخبر الثقة فضلا عن خبر العادل.

والإشكال على ذلك بأن العمل بخبر الوليد لو كان سفاهة لما أقدم عليه

٤٣٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الصحابة ، مندفع بعدم علمهم بفسق الوليد أو غفلتهم عنه ، ولذا نبههم الله تعالى عليه.

وأخرى بعدم مانعية التعليل ـ ولو بإرادة عدم العلم من الجهالة ـ عن المفهوم ، إذ المفهوم ـ بناء على دلالة الآية الشريفة عليه ـ حاكم على عموم التعليل ، حيث ان مقتضى حجية خبر العادل كونه علماً تعبدياً ، فهو خارج عن عموم التعليل موضوعاً ، ويكون حكومة المفهوم على عموم التعليل نظير حكومة الأمارات على الأصول العملية.

وبالجملة : فلا يمنع عموم التعليل عن المفهوم ، هذا.

وأنت خبير بما في كليهما ، إذ في الأول : أن حمل الجهالة على السفاهة التي هي غير معناها الحقيقي بلا موجب بعد وضوح عدم بناء العقلاء على العمل بخبر غير علمي ، وخروجه عن طريقتهم وكونه سفهياً عندهم ، ولا يختص هذا البناء منهم بخبر الفاسق ، بل يعم كل خبر لا يفيد العلم أو الاطمئنان وان كان خبر عادل. بل لا يندفع الإيراد بإرادة السفاهة من الجهالة أيضا ، لما عرفت من عدم بناء العقلاء على العمل بالخبر غير العلمي وان كان المخبر به عادلا ، وأنهم يعدون العمل بغير العلم والاطمئنان سفهياً.

وفي الثاني أولا : أن مقتضى أدلة حجية الخبر ليس جعل خبر العادل علماً تعبدياً حتى يكون خروجه عن عدم العلم موضوعياً ، بل أدلة حجيته إرشاد إلى ما عليه العقلاء من بنائهم على العمل بخبر يفيد الوثوق والاطمئنان كما تقدم في محله وسيأتي أيضا إن شاء الله تعالى.

٤٣٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وثانياً : أن الحكومة فرع وجود الحاكم ـ أعني المفهوم ـ وهو أول الكلام ، إذ المفروض اكتناف المنطوق بعموم التعليل المانع عن تحقق المفهوم ، أو الصالح للمنع عنه ، ومع احتفاف الكلام بذلك لا ينبغي معاملة القطع بوجوده وجعله حاكماً على غيره.

فالمتحصل : أن إشكال مانعية عموم التعليل عن المفهوم لا يندفع بما ذكر.

الوجه الثاني من الإشكال على الاستدلال بالآية الشريفة على المفهوم : أنه لو أريد بالتبين العلم الوجداني كان هو الحجة عقلا دون خبر الفاسق ، والأمر بالتبين يكون إرشاداً إليه ، فلا مفهوم له ، لعدم دلالة الأمر الإرشادي عليه.

وان أريد به الوثوق وقع التهافت بين المنطوق والمفهوم بحيث لا يمكن العمل إلّا بأحدهما وهو المنطوق ، ولا بد من رفع اليد عن المفهوم لترتبه على المنطوق ، تقريبه : أن مقتضى المنطوق بناء على إرادة الوثوق من التبين اعتبار خبر الفاسق الموثوق به ، ومقتضى المفهوم حجية خبر العادل وان لم يحصل الوثوق به كالخبر الصحيح المعرض عنه عند الأصحاب ، مع أنهم بين من اعتبر العدالة في حجيته ولم يعمل بخبر الفاسق وان حصل الوثوق به ، وبين من اعتبر الوثوق في حجيته ولم يعمل بخبر العادل الّذي لا يوجب الوثوق كالرواية الصحيحة المعرض عنها ، فالجمع بين جواز العمل بالخبر الموثوق به وان كان راويه فاسقاً ـ كما هو مقتضى المنطوق ـ وجواز العمل بالخبر بمجرد كون راويه عادلا وان لم يحصل الوثوق به ـ كما هو مقتضى المفهوم ـ خرق لإجماعهم وإحداث لقول ثالث ، فلا بدّ من طرح المفهوم ، لتفرعه على المنطوق ، إذ لا معنى لبقاء المفهوم وسقوط المنطوق.

٤٣٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

فالمتحصل : أن عدم إمكان العمل بالمنطوق والمفهوم معاً ـ لاستلزامه خرق الإجماع ـ يوجب طرح المفهوم ، هذا.

ولكن قد ظهر مما تقدم من احتفاف المنطوق بالتعليل المزبور : أنه لا تصل النوبة إلى المفهوم حتى نلتزم بطرحه للتعارض.

مضافاً إلى : أنه لا إجماع في المسألة ، إذ مستند القولين أدلة حجية الخبر ، لا الإجماع التعبدي. وإلى : أن الإجماع الّذي لا يجوز خرقه هو الإجماع على نفي القول الثالث ، وذلك غير ثابت ، فلا مانع حينئذ من احداث القول الثالث ، كما لم يكن مانع من احداث القول الثاني ، إذ لم يحدث القولان في آن واحد ، بل حدثا في زمانين.

فالمتحصل : أن إشكال التعارض بين المنطوق والمفهوم لا يمنع عن المفهوم ، لإمكان العمل بهما معاً ، فيحكم بحجية خبر يوثق به وان كان مخبره فاسقاً ، وبحجية خبر يكون راويه عادلا وان لم يحصل الوثوق به لإعراض المشهور عنه ، هذا بناء على مذهب غير المشهور.

وأما بناءً على مذهبهم من كون إعراضهم عن رواية موجباً لوهنها ، فلإمكان تخصيص المفهوم بغير مورد إعراضهم ، فلا منافاة بين المنطوق والمفهوم في الأخذ بهما ، فالعمدة في الإشكال على المفهوم هو ما تقدم من احتفاف المنطوق بالتعليل. هذا كله لو أريد بالتبين الوثوق.

ولو أريد به العلم ، فلا يلزم منه انتفاء المفهوم ، إذ المراد به تحصيل العلم لا العمل به حتى يقال : ان العمل به واجب عقلا لا شرعاً ، فلا مفهوم له ، بل المقصود وجوب تحصيل العلم ، فينتفي عند انتفاء مجيء الفاسق بالنبإ ، فلا يجب

٤٣٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

تحصيل العلم عن نبأ العادل.

وبالجملة : فالتبين المأمور به سواء كان هو العلم أم الوثوق لا يمنع عن المفهوم ، بل المانع هو ما عرفت من احتفاف المنطوق بالتعليل.

الوجه الثالث من الإشكال على الاستدلال بالآية الشريفة على المفهوم : أنه ـ على تقدير دلالتها عليه ـ يلزم خروج المورد عنه ، بيان ذلك : أن موردها وهو الاخبار عن ارتداد جماعة وهم بنو المصطلق لا يثبت بخبر العدل الواحد ، وخروج المورد أمر مستهجن عند أبناء المحاورة ، فيكشف عن عدم المفهوم للآية المباركة.

وفيه : أنه ينافي إطلاق المفهوم لا أصله ، حيث انه يدل على حجية خبر العادل مطلقاً ، وقد قيد هذا الإطلاق في مورد الارتداد بل في سائر الموضوعات أيضا بضم عدل آخر وعدم الاكتفاء بعدل واحد ، وهذا لا ينافي حجية أصل المفهوم ، فلو دلت الآية الشريفة في نفسها عليه لم يكن تقييد إطلاقه بالنسبة إلى مورده مانعاً عن تحققه.

فالمتحصل من جميع ما ذكرنا : أن شيئاً من الإشكالات المذكورة لا يمنع عن المفهوم ، بل الإشكال فيه أولا من ناحية المقتضي ، وثانياً من جهة المانع وهو عموم التعليل ، وقد مر الكلام فيهما مفصلا.

بقي هنا شيء ينبغي التنبيه عليه ، وهو : أنه ـ بناء على تسليم المفهوم والإغماض عما فيه من الإشكالات ـ ليس المفهوم الا عدم وجوب التبين نفسياً أو شرطياً في العمل بخبر العادل سواء أفاد الظن أم لا ، بل وان قام الظن على

٤٣٩

أنه (١) من جهة مفهوم الشرط ،

______________________________________________________

(١) أي : أن الاستدلال من جهة مفهوم الشرط ، وهذا هو التقريب الخامس ، وأظهريته من سائر الوجوه انما هي لسلامته من الإشكالات الواردة على سائر الوجوه الستة المذكورة في حاشية الرسائل. وتوضيحه : أن الموضوع في الآية الشريفة هو طبيعة النبأ ، وقد علق وجوب التبين عنه على كون الجائي به فاسقاً ، فإذا انتفى الشرط ـ وهو مجيء الفاسق بطبيعة النبأ ـ لم يجب التبين عنه ، فكأنه قيل : «النبأ يجب التبين عنه ان جاء به الفاسق ، والنبأ لا يجب التبين عنه ان لم يجئ به الفاسق» وعلى هذا التقرير لا إشكال في استفادة حجية خبر العادل من الآية المباركة ، لصدق المفهوم على خبره ، يعني : يصدق على خبره «أنه نبأ لم يجئ به الفاسق». ولا يرد عليه ما أورده الشيخ الأعظم قدس‌سره من «أن القضية الشرطية في الآية الشريفة سيقت لبيان تحقق الموضوع ، فالمفهوم في الآية قضية سالبة بانتفاء الموضوع». وجه عدم الورود : أن الشيخ قدس‌سره جعل الموضوع في قضية المنطوق مجيء الفاسق بالنبإ ، فيرد عليه الإشكال الّذي ذكره. وأما نحن فقد جعلنا الموضوع فيها النبأ ، وهو باق في قضية المفهوم أيضا ، وسيأتي مزيد توضيح له.

والفرق بين هذه الوجوه الخمسة في تقرير الاستدلال : أن موضوع التبين في الأول هو وصف الفسق ، وفي الثاني هو وصف الفسق في خصوص المقام ، وفي الثالث هو عدم الاطمئنان العرفي في خبر الفاسق ، وفي الرابع هو خوف الوقوع في الندم ، وفي الخامس هو النبأ بما هو نبأ ، لكن بشرط كون الجائي به فاسقاً.

__________________

خلافه ، فخبر العادل حجة مطلقاً ، وهذا مناف لما ذهب إليه من يقول بجعل المحرزية والوسطية في الإثبات في الأمارات غير العلمية ، فان الاستدلال بالمفهوم على هذا القول لا يخلو من الغموض ، لما عرفت من ظهور المفهوم في خلافه.

٤٤٠