منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٤

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة دار الكتاب ( الجزائري ) للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٧١

بما إذا كان متعلقاً به على ما ستطلع عليه ، ولذلك (١) عدلنا عما في رسالة شيخنا العلامة أعلى الله مقامه من تثليث الأقسام.

وان أبيت إلّا عن ذلك (٢) فالأولى أن يقال : «ان المكلف اما أن يحصل له القطع أولا ، وعلى الثاني اما أن يقوم عنده طريق معتبر أولا» لئلا يتداخل الأقسام (٣) (*) فيما يذكر لها من الأحكام ، ومرجعه

______________________________________________________

(١) أي : ولأجل ما ذكر من تعميم متعلق القطع للحكم الواقعي والظاهري وتخصيصه بالفعلي عدلنا ... ، وحاصله : أن وجه العدول عن تثليث الشيخ الأعظم (قده) للاقسام إلى تثنيتها هو عموم أحكام القطع لما إذا تعلق بالحكم الواقعي والظاهري ، واختصاص أحكامه بما إذا تعلق بالحكم الفعلي.

(٢) أي : وان أبيت التقسيم إلّا عن كونه ثلاثياً اما بدعوى أن المراد بالحكم خصوص الحكم الواقعي ، فيكون هو مورداً للحالات الثلاث القطع والظن والشك ، فيتم تثليث الأقسام ، واما بدعوى أنه لو سلم تعميم الحكم للواقعي والظاهري فمقتضاه تثنية التقسيم ، لكن تقييده بالفعلي يقتضي كون التقسيم وحدانياً ، وذلك لأن المكلف حينئذ قاطع بالحكم الفعلي دائماً ، فليس هناك إلّا قسم واحد ، لكن لما لم يلتزم به أحد ـ مع ما فيه من الإشكال ـ فلا بد من تثليث الأقسام.

(٣) هذا هو الثالث من وجوه العدول عن تثليث الشيخ (قده) وقد ذكرنا أنه يبين أولوية تثليث آخر من تثليث الشيخ (قده). وحاصل هذه الأولوية :

__________________

(*) قد عرفت في التعليقة على قول المصنف (قده) : «أو ظاهري» تقريب عدم لزوم تداخل الأقسام.

٢١

على الأخير (١) إلى القواعد (٢) المقررة (٣) عقلا أو نقلا لغير القاطع ومن (٤)

______________________________________________________

أنه ـ بناء على تثليث الشيخ (قده) ـ يلزم تداخل موارد الأمارات والأصول ، وذلك لأنه (قده) جعل مدار الرجوع إلى الأمارات هو الظن ، ومدار الرجوع إلى الأصول هو الشك. مع أنه ليس كذلك ، بل المعيار في الرجوع إلى الأمارة هو الدليل المعتبر وان لم يفد الظن ، كما أن المعيار في الرجوع إلى الأصل العملي هو عدم الدليل المعتبر وان حصل الظن بالحكم الواقعي من أمارة غير معتبرة ، لا خصوص الشك المتساوي طرفاه.

وهذا بخلاف تثليث المتن ، فانه لا يلزم منه تداخل أصلا ، لما عرفت من أن المعيار في الرجوع إلى الأمارة ـ كخبر العادل ـ هو الدليل المعتبر على حجيتها لا افادتها للظن ، وفي الرجوع إلى الأصل عدم الدليل المعتبر في مورده لا الشك ، فلا يتداخل شيء من موارد الأمارات في شيء من موارد الأصول ، مثلا الظن الحاصل من الشهرة الفتوائية بحكم شرعي ـ مع عدم إحراز حجيتها بعلم أو علمي ـ يلحقه حكم الشك من الرجوع إلى الأصل العملي ، وبالعكس ، كالشك الّذي اعتبر في مورده الأمارات والطرق كالظنون النوعية التي تجتمع أحياناً مع الشك كأمارية اليد على الملكية ، فانه يرجع إليها لقيام الدليل المعتبر على حجيتها وان لم تفد الظن في بعض الموارد.

(١) أي : ومرجع المكلف عند عدم القطع وعدم قيام طريق معتبر إلى ...

(٢) أي : الأحكام الشرعية المتعلقة بالموضوعات العامة كالاستصحاب والبراءة الشرعيين.

(٣) أي : الثابتة تلك الأحكام بدليل عقلي كالبراءة بمناط قبح العقاب بلا بيان ، أو نقلي كالبراءة بمناط مثل حديث الرفع.

(٤) معطوف على «القاطع» يعني : أو غير من يقوم عنده الطريق المعتبر.

٢٢

يقوم [يقدم] عنده الطريق على تفصيل يأتي في محله إن شاء الله تعالى حسبما يقتضي دليلها (١).

وكيف كان (٢) فبيان أحكام القطع وأقسامه يستدعي رسم أمور :

الأول : لا شبهة (٣) في وجوب العمل على وفق القطع

______________________________________________________

(١) أي : دليل تلك القواعد ، فان دليل أصالة البراءة يقتضي الرجوع إليها في الشك في نفس الحكم ، ودليل أصالة الاشتغال يقتضي الرجوع إليها في الشك في الفراغ ، وهكذا.

(٢) أي : سواء كان التقسيم ثنائياً أو ثلاثياً على مذهب الشيخ أو المصنف قدس‌سرهما.

(٣) لا يخفى أن للقطع جهات عديدة : إحداها : كشفه عن الواقع بحيث لا يرى القاطع حجاباً بينه وبين الواقع ، بل لا يكون ملتفتاً إلى قطعه ، وانما يرى الواقع المنكشف فقط كانعكاس الصورة في المرآة ، وهذا الكشف الجزمي لا يكون بالجعل والإعطاء ، لأنه ذاتي له.

ثانيتها : حكم العقل بحسن المؤاخذة على مخالفة القطع وقبحها على موافقته ، لأنه بعد انكشاف الواقع تمام الانكشاف لا يراه العقل معذوراً في مخالفته لتمامية الحجة عليه ، وهذا الانكشاف الذاتي التام هو الموجب لتنجزه.

ثانيتها : حكم العقل بحسن المؤاخذة على مخالفة القطع وقبحها على موافقته ، لأنه بعد انكشاف الواقع تمام الانكشاف لا يراه العقل معذوراً في مخالفته لتمامية الحجة عليه ، وهذا الانكشاف الذاتي التام هو الموجب لتنجزه.

ثالثتها : انبعاث المكلف نحو العمل المقطوع به أو انزجاره عنه ، وهذا الأثر مترتب على الجهتين الأوليين ، لأنه بعد انكشاف الواقع وتنجزه يرى القاطع نفسه تحت خطر المخالفة ، فينبعث إلى الفعل أو ينزجر عنه. وقد عرفت أن الجهة الأولى ذاتية ، لتقوم القطع بالطريقية والكشف ، والثانية عقلية ، والثالثة فطرية بمناط دفع الضرر الّذي يكون الفرار عنه جبلياً لكل ذي مسكة وشعور ،

٢٣

عقلا (١) ولزوم (٢) الحركة على طبقه جزماً ، وكونه (٣) موجباً لتنجز التكليف الفعلي فيما أصاب باستحقاق (٤) (**) الذم والعقاب على مخالفته ،

______________________________________________________

ولا يختص بالإنسان ، بل الحيوان كذلك ، ولذا يفر مما يضره ، فيفر من السبع إذا أحس بوجوده في قربه. فإذا قطع المكلف بوجوب شيء أو حرمته ، وأدرك عقله حسن المؤاخذة على مخالفته جرى بحسب فطرته على طبق قطعه بالانبعاث إلى الفعل أو الانزجار عنه ، وهذا الأثر هو المسمى بالجري العملي ، وقد بين المصنف (قده) في المتن اثنتين من هذه الجهات الثلاث ، إحداهما : لزوم العمل عقلا ، وثانيتهما : كون القطع موجباً لتنجز الواقع.

(١) قيد لقوله : «وجوب» وهذا إشارة إلى الجهة الأولى من الجهتين المتقدمتين. وقد تعرض شيخنا الأعظم لبيانها بقوله : «لا إشكال في وجوب متابعة القطع والعمل عليه ما دام موجوداً ، لأنه بنفسه طريق إلى الواقع ... إلخ» (*).

(٢) معطوف على «وجوب العمل» والظاهر أنه تفسير له وليس أثراً آخر للقطع.

(٣) معطوف على «وجوب العمل» أي : ولا شبهة في كون القطع موجباً لتنجز ... إلخ ، وهو إشارة إلى الجهة الثانية من الجهتين المتقدمتين.

(٤) متعلق بـ «لتنجز» يعني : أن التنجز اعتبار ينتزع عن حكم العقل باستحقاق

__________________

(*) لا يخفى أن مقتضى قوله (قده) : «ما دام موجوداً» هو دوران وجوب العمل بالقطع مدار وجوده حدوثاً وبقاء ، ولازم ذلك ارتفاع تنجيز العلم الإجمالي بخروج بعض الأطراف عن مورد الابتلاء أو بالاضطرار إلى بعضها المعين أو غيره مطلقاً وان كان بعد العلم الإجمالي ، لانتفاء العلم في الجميع. وليكن هذا في ذكر منك.

(**) ظاهر العبارة أن تنجز التكليف معلول لاستحقاق الذم والعقاب ،

٢٤

وعذراً (١) فيما أخطأ قصوراً (٢) (*) وتأثيره في ذلك (٣) لازم ، وصريح الوجدان به (٤) شاهد وحاكم ،

______________________________________________________

الذم ... إلخ.

(١) معطوف على قوله : «موجباً» وهو مصدر بمعنى الفاعل ، أي : ومعذراً.

(٢) إشارة إلى ما يأتي في التعليقة من أن الحجية ثابتة لبعض أفراد القطع وهو الحاصل من مقدمات موجبة للقطع عند متعارف الناس.

(٣) أي : وتأثير القطع في وجوب العمل على طبقه لازم لا ينفك عنه.

(٤) أي : بهذا اللزوم ، وحاصله : أن صريح الوجدان والضرورة شاهدان على أن القطع بالوجوب أو الحرمة مثلا يحرك القاطع نحو الفعل أو الترك ، بحيث يرى نفسه مذموماً على مخالفة قطعه ، ومأموناً من الذم والعقوبة عند موافقته من غير فرق في ذلك بين أقسام القطع وأسبابه ، خلافاً لجمع من أصحابنا المحدثين ـ على ما نسب إليهم ـ من عدم اعتبار القطع الحاصل من المقدمات العقلية ، لكن هذا الخلاف على تقدير صحة النسبة إليهم في غاية الضعف والسقوط كما سيأتي في محله.

__________________

مع أنه ليس كذلك ، إذ استحقاقهما وكذا تنجز التكليف معلولان للتكليف الواصل بالحجة إلى المكلف ، فحق العبارة أن تكون هكذا : «وكونه موجباً لتنجز التكليف أي : وصوله إلى المكلف ، ولحكم العقل باستحقاق الذم ...».

(*) والنسبة بين لزوم العمل على طبق القطع وبين حجيته عموم مطلق لأعمية لزوم العمل من الحجية ، حيث انه ثابت لكل فرد من أفراد القطع ، بخلاف الحجية التي تترتب عليها المنجزية والمعذرية ، فانها ثابتة لبعض أفراده ، ضرورة أن التأمين من العقوبة في صورة الخطأ مختص بالقطع المخطئ عن قصور ، فإذا كان عن تقصير في مقدماته لا يكون ذلك القطع المخالف مؤمناً ومعذراً.

٢٥

فلا حاجة إلى مزيد بيان وإقامة (١) برهان.

ولا يخفى أن ذلك (٢) لا يكون بجعل جاعل ،

______________________________________________________

(١) معطوف على «مزيد بيان» توضيح وجه عدم الحاجة إلى البرهان هو : أن البرهان لا بد أن ينتهي إلى العلم ، وإذا انتهى إلى العلم فالبحث يقع في اعتبار هذا القطع ، لأنه مثل القطع الأول ، فإذا توقف على برهان آخر مفيد للقطع لزم التسلسل ، لأن حكم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز واحد ، وإلّا لزم الدور ، فإذا فرض أن الحجية من لوازم ذات القطع ومنتزعة عن ذاته كلوازم الماهية ، نظير دهنية الدهن ومشمشية المشمش وغير ذلك ، فلا حاجة إلى إقامة البرهان على ثبوت الحجية له ، هذا كله في مقام الإثبات.

(٢) أي : وجوب العمل على وفقه ، وغرضه من هذه العبارة : إثبات امتناع تناول يد الجعل لحجية القطع إثباتاً بمعنى جعلها له ، ونفياً بمعنى سلب الحجية عنه ، وقد استدل على ذلك بوجهين :

الأول : ما أشار إليه بقوله «لعدم جعل تأليفي» وتوضيحه : أن الجعل على قسمين : أحدهما : الجعل البسيط ، وهو الإيجاد بمفاد «كان» التامة ، كجعل زيد ـ أي : إيجاده ـ ولا ريب في أن القطع مجعول بهذا المعنى ، ضرورة كونه حادثاً لا قديماً ، ولكن ليس هذا الجعل مورداً للبحث.

ثانيهما : الجعل التأليفي ، وهو الإيجاد بمفاد «كان» الناقصة بمعنى جعل شيء لشيء ، ويتحقق ذلك في الأعراض المفارقة والمحمولات غير الضرورية ، كجعل زيد عالماً أو عادلاً ـ أي إثبات العلم أو العدالة له ـ وهذا الجعل لا يتصور في المحمولات البينة الثبوت للموضوعات بحيث تكون ذات الموضوع علة تامة لوجود المحمول ، كما لا يعقل في المحمولات الممتنعة الثبوت للموضوعات

٢٦

لعدم (١) جعل تأليفي حقيقة بين الشيء ولوازمه ، بل عرضاً (٢) بتبع [يتبع] جعله (٣) بسيطاً.

______________________________________________________

والجعل بهذا المعنى هو محل الكلام ، وقد منعه المصنف في القطع بوجهين سيأتي بيانهما.

وبالجملة : فمرجع البحث في الحقيقة إلى أن هذا المحمول ـ أعني وجوب العمل على وفق القطع ـ هل هو بيّن الثبوت لموضوعه ـ أعني نفس القطع ـ أم لا ، فعلى الأول يمتنع الجعل ، وعلى الثاني لا يمتنع.

(١) هذا هو الوجه الأول ، وحاصله : أن الجعل التأليفي يتصور في المحمولات المفارقة ليستند ثبوتها لموضوعاتها إلى الجعل كالعالم والعادل المحمولين على زيد مثلا.

وأما المحمولات التي هي من لوازم موضوعاتها ولا تنفك عنها ، بل هي ضرورية الثبوت لها ، فلا تقبل الجعل أصلا كالزوجية للأربعة ، حيث انها مجعولة بجعل نفس الأربعة ، ولا يعقل جعلها لها لا تكويناً ولا تشريعاً ، لا إثباتاً ولا نفياً ، لأن الغرض منه هو إيجاد محمول لموضوع بحيث يستند وجود المحمول له إلى الجعل ، وهذا الغرض حاصل بدونه ، فيصير لغواً ، لعدم تأثيره في وجود المحمول للموضوع لا حدوثاً ولا بقاء ويلزم الخلف أيضا ، إذ المفروض كون الحجية من اللوازم التي لا تنفك عن القطع ، ومن المعلوم أن مورد الجعل التأليفي هو المحمولات القابلة للانفكاك عن موضوعاتها ، فيلزم الخلف من جعل الحجية له.

(٢) معطوف على «حقيقة» يعني : أن جعل اللازم لا يكون بنحو الحقيقة بل يكون بالعرض والمجاز وبتبع جعل ملزومه ، لأن الجعل الحقيقي قائم بنفس الملزوم.

(٣) أي : جعل الشيء الملزوم بسيطاً أي إيجاده بمفاد «كان» التامة.

٢٧

وبذلك (١) [ولذلك] انقدح امتناع المنع عن تأثيره (٢) أيضا (٣). مع (٤) أنه يلزم منه اجتماع الضدين اعتقاداً مطلقاً (٥) وحقيقة (٦) في صورة الإصابة كما لا يخفى

______________________________________________________

(١) يعني : وبامتناع الجعل التأليفي بين الشيء ولوازمه ظهر امتناع سلب الحجية عن القطع كامتناع إثباتها له ، لأنه بعد فرض كون المحمول ـ أعني الحجية ـ من لوازم الموضوع ـ وهو القطع ـ فكما لا يمكن إثبات الحجية له بالجعل كذلك لا يمكن نفيها عنه ، وإلّا لزم أن لا تكون من لوازم ذات القطع ، وهذا خلاف الفرض.

(٢) يعني : عن تأثير القطع في وجوب العمل على وفقه.

(٣) يعني : كامتناع جعل تأثيره في وجوب العمل على وفقه ، وهذا إشارة إلى اشتراك امتناع سلب الحجية عنه مع امتناع جعلها له ، وقد مر توضيحه بقولنا : «وبامتناع الجعل التأليفي ... إلخ».

(٤) هذا ثاني الوجهين المستدل بهما على امتناع جعل الحجية للقطع وسلبها عنه ، وحاصله : أن نفي الحجية عنه مستلزم لاجتماع الضدين اعتقاداً ـ أي : بحسب اعتقاد القاطع ـ لا واقعاً ، وذلك لأنه إذا تعلق قطعه بحرمة شرب ماء الشعير مثلا مع فرض حليته واقعاً ، فمقتضى هذا القطع حرمة شربه ، وإذا ردع الشارع عن حجيته كان مقتضى ردعه جواز شربه ، ومن المعلوم أن الحرمة والجواز متضادان ، وكيف يمكن صدورهما من الشارع؟

(٥) إشارة إلى صورتي إصابة القطع وخطائه.

(٦) أي : واقعاً ، وهو معطوف على «اعتقاداً» يعني : ويلزم اجتماع الضدين حقيقة في صورة إصابة القطع ، كما إذا قطع بحرمة شرب الخمر مع فرض حرمته واقعاً ، فإذا نهى الشارع عن متابعة قطعه هذا لزم اجتماع الضدين واقعاً

٢٨

ثم لا يذهب عليك (١) أن التكليف ما لم يبلغ مرتبة البعث والزجر

______________________________________________________

واعتقاداً.

فالمتحصل : أن امتناع سلب الحجية عن القطع مستند إلى وجهين :

الأول : امتناع انفكاك اللازم عن ملزومه.

الثاني : لزوم اجتماع الضدين من نفي الحجية عنه اعتقاداً مطلقاً ، وحقيقة في صورة الإصابة.

وقد ظهر من مجموع كلمات المصنف (قده) أن القطع علة تامة للحجية لا مقتض لها ، وقد أثبت الأول بما أفاده من أن الحجية من لوازم ذات القطع ، وأبطل الثاني بما ذكره هنا من استحالة الردع عن حجيته حتى يكون اعتباره موقوفاً على عدم المانع وهو الردع.

(١) غرضه توضيح ما أفاده إجمالا في ثاني الوجهين من وجوه العدول عن تثليث الشيخ إلى تثنية التقسيم بقوله : «وخصصنا بالفعلي».

وحاصله : أن المصنف صرح في حاشية الرسائل في أول مباحث الظن وفي فوائده المطبوعة مع الحاشية بأن للحكم مراتب أربع : الأولى : الاقتضاء. الثانية : الإنشاء. الثالثة : الفعلية. الرابعة : التنجز. والمراد بالاقتضاء شأنية الحكم للوجود بمعنى وجود ملاك يقتضي إنشاء الحكم له ، كمعراج المؤمن ، فانه يقتضي إنشاء الشارع وجوب الصلاة لاستيفاء ذلك الملاك. والمراد بالإنشاء جعل الحكم مجرداً عن البعث والزجر ، بأن تجاوز عن مرتبة الاقتضاء وبلغ هذه المرتبة ، فالحكم موجود إنشاء وقانوناً من دون بعث للمولى أو زجر فعلا ، كأكثر أحكام الشرع مما لم يؤمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتبليغه ، لعدم استعداد المكلفين لها ، وكأحكام الدول وقوانينها الكلية التي ينشئها من بيده تأسيس القوانين من دون بعث ولا زجر إلّا بعد حين ، كما لا يخفى. والمراد

٢٩

لم يصر فعلياً ، وما لم يصر فعلياً لم يكد يبلغ مرتبة التنجز (*) واستحقاق (١)

______________________________________________________

بالفعلية بعث المولى وزجره ، بأن يقول : «افعل» أو «لا تفعل» مع عدم وصوله إلى المكلف بحجة معتبرة من علم أو علمي ، فلا توجب مخالفته حينئذ ذماً ولا عقاباً.

والمراد بالتنجز وصول هذا الحكم ـ البالغ مرتبة البعث أو الزجر ـ إلى العبد بالحجة الذاتيّة أو المجعولة ، فتكون مخالفته حينئذ موجبة لاستحقاق العقوبة.

إذا عرفت هذه المراتب الأربع ، فاعلم : أن وجوب العمل بالقطع عقلا ، وقضاء الضرورة والوجدان باستحقاق العقوبة على مخالفته ، والمثوبة على موافقته انما هو فيما إذا تعلق القطع بالمرتبة الثالثة وهي البعث والزجر ليكون الحكم منجزاً بسبب وصوله إلى العبد بالقطع به ، فلو لم يتعلق القطع بهذه المرتبة بل تعلق بما قبلها من الاقتضاء والإنشاء لم يكن هذا القطع موضوعاً للحجية في نظر العقل ، لعدم صدق الإطاعة والعصيان على موافقته ومخالفته. وعلى هذا ، فالقطع لا يكون موضوعاً للأثرين المذكورين في المتن ـ أعني وجوب العمل على طبقه وكونه موجباً للتنجز ـ إلّا إذا تعلق بمرتبته الفعلية. فقد ظهر من جميع ما ذكرنا : وجه تقييد المصنف الحكم بالفعلي في قوله : «إذا التفت إلى حكم فعلي واقعي أو ظاهري ...».

(١) معطوف على «التنجز».

__________________

(*) لا يخفى ما في جعل التنجز من مراتب الحكم من الغموض ، حيث ان الحكم هو المجعول التشريعي في قبال المجعول التكويني ، ومن المعلوم أن التنجز ـ وهو وصول ذلك المجعول الشرعي بحجة من علم أو علمي إلى المكلف ـ أجنبي عن هوية الحكم ، نظير العلم بسواد جسم. مضافاً إلى تأخر التنجز عنه ، لعروضه عليه ، فلا يكون من مراتب الحكم ، كعدم كون العلم بالسواد من مراتب السواد.

٣٠

العقوبة على المخالفة وان كان ربما يوجب موافقته استحقاق المثوبة (١) وذلك لأن (٢) الحكم ما لم يبلغ تلك المرتبة لم يكن حقيقة بأمر ولا نهي ، ولا مخالفته (٣) عن عمد بعصيان ، بل كان (٤) مما سكت الله عنه كما

______________________________________________________

(١) حيث ان هذه المثوبة مترتبة على مجرد الانقياد والتخضع للمولى ، لا على نفس الفعل حتى يكون من الإطاعة الحقيقية التي هي عبارة عن موافقة الحكم الفعلي ، فاستحقاق المثوبة يفترق عن استحقاق العقوبة في أن موافقة الحكم غير الفعلي توجب استحقاق المثوبة ، لكن مخالفته لا توجب استحقاق العقوبة.

وبعبارة أخرى : ينشأ استحقاق المثوبة من المرتبة الثالثة ، واستحقاق العقوبة من المرتبة الرابعة.

(٢) تعليل لاختصاص حجية القطع بما إذا تعلق بالحكم الفعلي كما مر بيانه ، والمراد بـ «تلك المرتبة» مرتبة الفعلية.

(٣) هذا الضمير والضمير المستتر في «يكن» راجعان إلى الحكم.

(٤) أي : بل كان الحكم غير الفعلي مما سكت الله عنه.

__________________

والحاصل : أن التنجز من عوارض الحكم الّذي هو فعل اختياري للشارع وليس من مراتبه ، كالسواد الضعيف الّذي هو من مراتب السواد.

وكذا الحال في الاقتضاء ، فانه ليس من مراتب المجعول التشريعي ، بل المقتضي للحكم ـ وهو الملاك ـ من الأمور الخارجية الأجنبية عن المجعولات الاعتبارية التشريعية.

وعليه فليس للحكم الا مرتبتان : الإنشاء والفعلية بمعنى البعث والزجر ، لأنهما من أفعال الشارع ، دون الاقتضاء والتنجز اللذين هما أجنبيان عن الفعل التشريعي للشارع.

٣١

في الخبر (١) ، فلاحظ وتدبر.

نعم (٢) في كونه بهذه المرتبة (٣) مورداً للوظائف المقررة شرعاً للجاهل إشكال لزوم اجتماع الضدين (٤)

______________________________________________________

(١) المروي عن مولانا أمير المؤمنين عليه أفضل صلوات المصلين : «ان الله حد حدوداً فلا تعتدوها ، وفرض فرائض فلا تعصوها فسكت عن أشياء لم يسكت عنها نسياناً ، فلا تتكلفوها رحمة من الله بكم» (١).

(٢) حاصل هذا الاستدراك : أنه لا مانع من اختصاص الحكم بالفعلي وعدم كون غيره من مرتبتي الاقتضاء والإنشاء أمراً ولا نهياً إلّا ما يلزم من جعله مورداً للأصول العملية من إشكال اجتماع المثلين أو الضدين. توضيحه : أن الحكم الواقعي في مواردها مع فعليته وعدم تنجزه ـ لعدم قيام حجة عليه ـ ان كان مطابقاً لما يقتضيه الأصل كما إذا فرض أن شرب التتن حلال واقعاً واقتضى الأصل العملي ـ وهو أصالة البراءة ـ حليته ظاهراً أيضا لزم اجتماع الحكمين الفعليين المثلين في موضوع واحد ، ومن المعلوم استحالة اجتماع المثلين كالضدين. وان كان مخالفاً لما يقتضيه الأصل كما إذا فرض حرمة اللقلق واقعاً وحليته ظاهراً بمقتضى أصالة الحل لزم اجتماع الضدين وهما الحرمة الواقعية والحلية الظاهرية ، وسيأتي التعرض لهذا الإشكال مع جوابه في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري إن شاء الله تعالى.

(٣) أي : المرتبة الفعلية ، وضمير «كونه» راجع إلى الحكم.

(٤) كما إذا اقتضى الأصل طهارة الكتابي وحلية ذبيحته مع فرض نجاسته وحرمة ذبيحته واقعاً.

__________________

(١) الوسائل ، كتاب القضاء ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٦.

٣٢

أو المثلين (١) على ما يأتي تفصيله إن شاء الله تعالى مع ما هو التحقيق في دفعه في التوفيق بين الحكم الواقعي والظاهري ، فانتظر.

الأمر الثاني (٢) (*) قد عرفت أنه لا شبهة في أن القطع يوجب

______________________________________________________

(١) كما إذا اقتضى أصالة الاشتغال وجوب السورة في الصلاة ـ بناء على مرجعيتها في الأقل والأكثر الارتباطيين ـ مع وجوبها واقعاً أيضا.

التجري

(٢) الغرض من عقد هذا الأمر التعرض لأمرين : الأول : حكم مخالفة القطع غير المصيب وأنها هل توجب استحقاق العقوبة أم لا؟ وهذا هو المسمى بالتجري. الثاني : حكم موافقة القطع غير المصيب ، وأنها هل توجب استحقاق المثوبة أم لا؟ وهو المسمى بالانقياد. ولعل وجه تسمية هذا البحث بالتجري لا الانقياد هو سهولة الأمر في ترتب الثواب على الانقياد ، دون استحقاق العقوبة على التجري ، حيث انه محل الكلام والنقض والإبرام.

ثم ان المصنف تعرض في البحث عن التجري لجهات ثلاث الأولى : كلامية والثانية : أصولية والثالثة : فقهية ، ولما كان أقرب هذه الجهات عنده الجهة الكلامية جعلها عنوان البحث ، وقال : «فهل يوجب استحقاق العقوبة في صورة عدم الإصابة» ، يعني : أنه إذا قطع بحرمة فعل أو بوجوبه ، فهل يوجب قطعه ـ في صورة عدم الإصابة ـ استحقاق العقوبة على التجري بمخالفته كما يستحقها عند إصابة قطعه للواقع ، وكذا هل يوجب قطعه استحقاق المثوبة على الانقياد بموافقته كما يستحقها عند موافقة القطع المصيب للواقع أم لا يوجب هنا شيئاً؟ وأما الجهتان الأخريان فسيأتي منه التعرض لهما.

__________________

(*) لا يخفى أن هذا البحث المسمى بالتجري وان ذكر في مباحث القطع لكنه لا يختص به بل يعم مخالفة كل ما يجب متابعته بنظر العبد سواء كان علماً

٣٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

بقسميه من التفصيليّ والإجمالي ، كما إذا علم إجمالا بخمرية أحد إناءين وخالف علمه وشرب أحدهما أو كليهما ثم انكشف عدم خمريتهما. أم أمارة غير علمية كالبينة ، أم أصلا عملياً ، فإذا قامت بينة على خمرية مائع ، أو جرى فيها الاستصحاب كما إذا علم بخمريته وشك في انقلابه خلا ، فلو خالف البينة أو الاستصحاب وشربه ثم تبين عدم خمريته كان متجرياً.

بل يجري التجري أيضا في مخالفة الاحتمال المنجز للتكليف كارتكاب الشبهات البدوية قبل الفحص عن الأدلة ، ضرورة أن مناط التجري ـ وهو مخالفة ما يراه حجة بلا عذر شرعي ـ موجود في الجميع بناء على ما هو الحق من حجية الأمارات والطرق الشرعية من باب الطريقية لا السببية ، إذ على هذا المبنى الصحيح لا يكون مؤدى الطريق حكماً في قبال الحكم الواقعي بل هو نفس الواقع مع الإصابة ومعذر في ترك الواقع مع الخطأ.

نعم بناء على حجيتها من باب السببية يكون المؤدى حكماً ، فمخالفة الأمارة المؤدية إليه عصيان حقيقة وخارج عن عنوان التجري ، وتخلف الأمارة حينئذ عن الواقع ليس من انكشاف الخلاف كما هو كذلك بناء على الطريقية بل من باب تبدل الموضوع كتبدل المسافر بالحاضر. وكذا الحال في الأصول العملية ، فانها وظائف مقررة للجاهل من حيث كونه جاهلا بالواقع ، والأصول قررت له ما دام جاهلا تسهيلا لوظيفته وعلاجاً لحيرته حتى ينكشف له الواقع ، فالأصول معذرة للشاك ، لا أنها أحكام مجعولة في قبال الواقع بحيث يكون الشاك والعالم موضوعين لحكمين كسائر الموضوعات نظير الفقير والغني. وسيأتي في الأصول العملية مزيد توضيح لذلك إن شاء الله تعالى.

٣٤

استحقاق العقوبة (١) على المخالفة والمثوبة (٢) على الموافقة في صورة الإصابة (٣) فهل يوجب استحقاقها (٤) في صورة عدم الإصابة على التجري (٥) بمخالفته واستحقاق المثوبة على الانقياد بموافقته أو لا يوجب شيئاً؟ الحق أنه (٦) يوجبه ،

______________________________________________________

(١) حيث قال في الأمر الأول : «... باستحقاق الذم والعقاب على مخالفته».

(٢) حيث قال : «وان كان ربما يوجب موافقته استحقاق المثوبة» فانه يفهم منه ترتب استحقاق الثواب على القطع بالحكم الفعلي بالأولوية القطعية من استحقاقه على القطع بالحكم الإنشائي.

(٣) أي : إصابة القطع للواقع.

(٤) أي : استحقاق العقوبة.

(٥) متعلق بـ «استحقاقها» يعني : فهل يوجب القطع غير المصيب استحقاق العقوبة على التجري بمخالفته أم لا؟ وضميرا «بمخالفته ، بموافقته» راجعان إلى القطع.

(٦) أي : أن القطع يوجب الاستحقاق. ومحصل ما أفاده المصنف : أنه لا فرق في استحقاق العقوبة عقلا على مخالفة القطع بين اصابته وخطائه ، وأن عصيان المولى والتجري الّذي هو قصد مخالفته يرتضعان من ثدي واحد ، لكون المناط فيهما ـ وهو هتك حرمة المولى والعزم على عصيانه والخروج عن رسوم عبوديته ـ واحداً ، ضرورة أن مجرد ترك الواقع لا يوجب ذماً ولا

__________________

ثم ان تعرضهم لمبحث التجري في أحكام القطع اما لأنه أجلى الحجج وأقواها ، واما لعدم تسلم حجية الأمارات غير العلمية من باب الطريقية ، للقول بكون حجيتها من باب السببية ، فمخالفتها حينئذ عصيان لا تجرّ.

٣٥

.................................................................................................

______________________________________________________

عقوبة ما لم يكن عن إرادة العصيان والطغيان على المولى ، ولذا لا عقاب قطعاً على ترك الواقع في الشبهات البدوية المستند إلى ترخيص الشارع.

ولأجل أن يتضح استحقاق المتجري للعقاب نقول : ان للفعل الخارجي نظير شرب الخمر عناوين ثلاثة ، ولا بد من ملاحظتها حتى يظهر أن استحقاق العقوبة مترتب على أي واحد منها.

الأول : عنوان الشرب من حيث هو شرب بلا إضافته إلى شيء.

الثاني : كون هذا الشرب مضافاً إلى الخمر بحيث يصح أن يحمل عليه بالحمل الشائع عنوان شرب الخمر الّذي هو مبغوض المولى.

الثالث : كونه مخالفة لما نهاه الشارع عنه بعد تنجزه عليه. ومن المعلوم أن مناط استحقاق العقاب ليس هو الأول ، ولا الثاني. أما الأول ، فلان استحقاقه لو كان لصدق عنوان الشرب ـ المجرد عن الإضافة إلى مائع خاص ـ للزم استحقاقه على شرب كل مائع ، لصدق عنوان الشرب بما هو شرب على تناول كل مائع ، وهو بديهي الفساد. وأما الثاني ، فلأنه لو كان الموجب لاستحقاق العقاب مجرد عنوان شرب الخمر للزم استحقاقه على شربه حالة الجهل به أو الغفلة عنه كاستحقاقه على الشرب حال العلم والالتفات ، لصدق عنوان شرب الخمر في الجميع ، مع أنه ليس كذلك قطعاً. فتعين أن يكون المناط في استحقاق العقاب هو العنوان الثالث ـ أي شرب الخمر المعلوم تعلق النهي به ـ إذ به يصير العبد خارجاً عن رسوم العبودية ويكون بصدد الطغيان على مولاه ، ومن المعلوم أن هذا المناط موجود في حق المتجري كوجوده في حق العاصي ، فان المتجري أيضا في مقام الطغيان على مولاه وهتك حرمته لفرض اعتقاده جزماً بأن ما يشربه هو الخمر المبغوض للمولى وان صادف كونه خلا أو ماء ، فلا بد من القول باستحقاقه للعقاب ، لاشتراكه مع العاصي فيما هو الملاك

٣٦

لشهادة الوجدان بصحة مؤاخذته (١) وذمه على تجريه وهتك حرمته لمولاه (*) وخروجه عن رسوم عبوديته ، وكونه بصدد الطغيان وعزمه على العصيان ، وصحة مثوبته (٢) ومدحه على إقامته بما هو قضية عبوديته من العزم (٣) على موافقته والبناء على إطاعته وان قلنا بأنه لا يستحق مؤاخذة [مؤاخذته] أو مثوبة [مثوبته] ما لم يعزم (٤) (**) ،

______________________________________________________

لاستحقاق العقوبة.

هذا بالنسبة إلى التجري ، ويجري الكلام بعينه في الانقياد ، فان المناط في استحقاق المثوبة في صورتي الإطاعة والانقياد ـ وهو العزم على موافقة المولى بامتثال أوامره ونواهيه ـ موجود في كليهما.

(١) الضمائر من هنا إلى قوله : «وان قلنا بأنه» راجعة إلى القاطع المستفاد من العبارة.

(٢) معطوف على «صحة مؤاخذته» يعني : أن الوجدان يشهد بوحدة مناط استحقاق العقوبة في المعصية الحقيقية والحكمية ، ووحدة مناط استحقاق المثوبة في الإطاعة الحقيقية والحكمية من دون تفاوت بينهما أصلا.

(٣) بيان للموصول في «بما هو قضية».

(٤) هذا تعريض بما أفاده شيخنا الأعظم (قده) حيث قال في الجواب

__________________

(*) الصواب أن تكون العبارة هكذا : «وهتكه لحرمة مولاه» أي : وهتك العبد لحرمة مولاه ، لأن الحرمة للمولى لا للعبد. كما أن الصواب أيضا في قوله : «على إقامته» أن يقال : «على قيامه بما هو قضية ...» أو «على إقامته على ما هو ...».

(**) بل لا يستحقهما ولو مع العزم على الجري على مقتضى سوء سريرته

٣٧

.................................................................................................

______________________________________________________

عن دليل المحقق السبزواري (قده) ما لفظه : «فالظاهر أن العقل انما يحكم بتساويهما في استحقاق المذمة من حيث شقاوة الفاعل وخبث سريرته مع المولى ، لا في استحقاق المذمة على الفعل المقطوع بكونه معصية».

__________________

لأن المناط في استحقاق العقوبة بنظر العقل هو الطغيان والتمرد والخروج عن زي العبودية ورسومها ، لكونها من مصاديق الظلم على المولى ، ومن المعلوم عدم صدقه على مجرد قصدهما. كما أن من المعلوم كون قبح التجري ذاتياً ، لأنه ظلم ، وليس بالوجوه والاعتبار كما عليه الفصول. كما أن من المعلوم أيضا وحدة مناط استحقاق العقوبة في العاصي والمتجري وهو هتك المولى والطغيان عليه ، فلا تعدد لمناطه في العاصي حتى يلتزم لأجله بتداخل العقابين كما عليه الفصول أيضا ، لأن الظلم الّذي هو قبيح عقلا ومناط لحكمه باستحقاق العقوبة قطعاً لا ينطبق إلّا على ما إذا تلبس بالفعل المتجري به. وبه يظهر غموض ما في المتن من ترتب الاستحقاق على مجرد القصد المزبور ، لعدم كونه ظلماً على المولى وتضييعاً لحقه وان كان مستحقاً للذم على ذلك القصد.

كما يظهر أيضا غموض ما أفاده بعض الأعاظم (قده) من قوله : «فعدم الاعتناء يكون عدم الاعتناء بالحجة لا بهما ، فيكون جرأة من العبد على مولاه فيكشف عن سوء سريرته وخبث طينته ، لا أنه خالف مولاه وعصاه ، إذ المفروض أنه ليس في البين شيء من قبل المولى كي يصدق عليها المخالفة» إذ لم يثبت كون المخالفة من حيث هي مناطاً لاستحقاق العقوبة ، بل سببية المخالفة له انما هي لكونها مصداقاً للتمرد على المولى ولهتك حرمته ، ولذا لو خالف الحكم غير المنجز عليه كما في الشبهات البدوية بعد الفحص لم يستحق العقوبة مع صدق

٣٨

.................................................................................................

______________________________________________________

وحاصله : أن المتجري الّذي يخالف قطعه لا يستحق إلّا المذمة واللوم على المنكشف وهو سوء السريرة وخبث الباطن ، وأما نفس الفعل فلا يترتب عليه شيء أصلا. وهذا بخلاف ما عليه المصنف ، فانه (قده) وان التزم باستحقاق المذمة على سوء السريرة ولكن ذلك منوط بعدم العزم عليه ، وأما إذا عزم على مخالفة قطعه فيترتب عليه استحقاق العقوبة ، لأنه عازم على الطغيان على مولاه وهو مما يستقل العقل بقبحه.

وقد أوضح ذلك في حاشيته على الرسائل ، فقال : «وبالجملة : صفتا التجري والانقياد ما دامتا كامنتين في العبد ولم يصِر بصدد إظهارهما وترتيب الأثر عليهما لم يستحق الا اللوم والمدح كسائر الصفات الذميمة والأخلاق الحسنة ، وإذا صار بصدد الإظهار استحق ـ مضافاً إلى ذلك ـ العقوبة والمثوبة على أول مقدمة اختيارية من المقدمات التي يفعلها القلب ويتوقف عليها صدور الأفعال بالاختيار ...».

والحاصل : أن في التجري مراحل ثلاث : الأولى : سوء السريرة. الثانية : العزم على الجري على مقتضاها. الثالثة : التلبس بالفعل ، ولا إشكال في استحقاق اللوم والمذمة على المرحلة الأولى ، انما الخلاف في المرحلتين الأخيرتين ، فان الشيخ الأعظم ينكر استحقاق المذمة على الفعل فضلا عن استحقاق العقوبة ،

__________________

المخالفة قطعاً ، وعليه ، فالمخالفة بنفسها لا تستلزم استحقاق العقوبة ما لم ينطبق عليها عنوان هتك حرمة المولى والتمرد عليه ، ولا ريب في كون عدم الاعتناء بالحجة طغياناً على المولى وخروجاً عن رسوم العبودية ، إذ لا موضوعية للحجة ، وانما هي طريق لإحراز مرامه ، فمخالفة الحجة مصداق الهتك والطغيان وان لم تكن عصياناً مصطلحاً.

٣٩

على المخالفة أو الموافقة بمجرد (١) سوء سريرته أو حسنها وان كان

______________________________________________________

وأما الماتن فقد التزم باستحقاق العقوبة على خصوص العزم على الفعل (*) كما تقدم في عبارته المنقولة من حاشية الرسائل من أن العزم أول مقدمة اختيارية من أفعال القلب والتي يتوقف عليها صدور الفعل الاختياري ، وأن إظهار المخالفة يتحقق بهذا العزم.

(١) متعلق بقوله : «لا يستحق مؤاخذة» يعني : أن مجرد سوء السريرة وحسنها لا يوجبان استحقاق الثواب والعقاب وان أوجبا اللوم والمدح بسبب الآثار المترتبة عليهما من العزم على المخالفة والموافقة ، بل الموجب لاستحقاق الثواب والعقاب هو العزم المزبور.

__________________

(*) وبهذا العزم يستحق المثوبة على الانقياد أيضا فهو والتجري يرتضعان من لبن واحد ، ولا بد من الالتزام باستحقاق الثواب عليه ، ولذا أورد في حاشية الرسائل على ما أفاده شيخنا الأعظم في رابع تنبيهات البراءة حيث فرق بين الانقياد والتجري بقوله : «ولا يلزم من تسليم استحقاق الثواب على الانقياد بفعل الاحتياط استحقاق العقاب بترك الاحتياط والتجري في الإقدام على ما يحتمل كونه مبغوضاً» قال المصنف معلقاً على ذلك ما لفظه : «لا يخفى أن الظاهر بل المقطوع أن التجري والانقياد كالإطاعة والعصيان توأمان يرتضعان بلبن واحد ، فان كان الانقياد موجباً لاستحقاق الثواب فليكن التجري موجباً لاستحقاق العقاب. نعم صحة التفضل بالثواب دون العقاب ربما يوجب تخيل التفاوت بينهما ، وهو فاسد ، لأن الكلام في الاستحقاق دون التفضل ، والتفاوت بينهما بحسب أحدهما لا يستلزم التفاوت بينهما بحسب الآخر».

٤٠